السباحة والغوص (في علاقة الشعر بالسينما) | عبيد عباس

عبيد عباس

شاعر وكاتب مصري

   يقول ألفريد هيتشكوك، المخرج والمنتِج البريطاني الشهير: “إن السينما هي الواقع بعد أن ننزع عنه المُمِلّ”، أي أنها المختلف المدهش من الواقع. ولأنني مؤمِنٌّ أنّ الشعر -مع اتفاقي مع لويس بورخيس في أنه (يُعْرَف ولا يُعرَّف)- هو الكلام الجميل المختلف، فكأنهما؛ أي السينما والشعر، بارتفاعهما عن العاديّ المُتوقَّع، يجتمعان في منطقة خاصة من الجمال المدهش المختلف يمكن أنْ نُسَمِّيها “سينما شعرية” أو “قصيدة سينمائية”.

غير أنني، وأنا أقول هذا الكلام، لا بد أن أضع بين قوسين ملاحظتين مهمتين؛ الأولى أنني لا أعتقد في القول بتداخُل الأجناس، لأن التداخل ذاته من طبيعة أيّ جنس أدبي أو فني، فلا وجود للقصيدة “الخام” التي تخلو تمامًا من السرد أو الصورة أو الدراما، كما لا توجد سينما “خام” خالية تمامًا مما يُمَيِّز القصة أو الشعر أو المسرح؛ وعليه فإن كلامنا عن علاقة الشعر بالسينما أو العكس سيكون في حدود أدوات هذا الفن، الشعر كشعر والسينما كسينما، فلا تخلو السينما من الشعرية ولا يخلو الشعر من الصورة، وكأن كلًّا منهما بالنسبة للآخر كالجبل بالنسبة للوادي، فلا نسمِّي الأرض المنبسطة واديًا من دون وجود جبل مجاور، أو كأن كلًّا منهما يمثل الروح للآخر، ولو جاز لنا أن نُشَبِّه السينما في سيْرِها السردي الطبيعي بالسباحة مع أو ضد الواقع الموضوعي، فإنَّ الشِّعر يُشبه الغَوْصَ فيه، ولذلك فإن السينما الشعرية تكون أعمق في سيرها من السينما في شكلها التقليدي كناقلٍ للواقع.

   الملاحظة الثانية هي أنني عندما أتحدَّثُ عن علاقة الشعر بالسينما، أو العكس، فلا أقصد القصيدة أو الجزء من القصيدة الذي يصْلُح أن يتحوَّلَ إلى سينما، ولا المشهد السينمائي الذي يمكن ترجمتُه شعرًا، ولكنني أقصد هذه المنطقة الجمالية التي تعلو على الكلام والصورة، تعلو لتجمعهما معًا في خلق الدهشة واللذة داخل المُتلقِّي. في هذه المنطقة يرتفع الشعر عن الكلام الخبري، وترتفع الصورة عن مجرد نقل الواقع، لإعطاء دلالات جديدة نابعةٍ من روح الفنان ومخاطبةٍ روح المتلقي، وأقول روحه لا عقله؛ لأنها غير مُتَعلِّقَة بالصواب والخطأ ولا بـ”يجب ولا يجب”، ولكن بالجمال المحض، لينتُجَ عنه -بعد إنتاج اللذة والدهشة وترقية الذوق وهذا هو الأساس- تفجيرُ الأسئلة التي تُحَرِّك الوعي أو تُغَيِّره.

   ونلاحظ أن السينما، من دون وجودها في هذه المنطقة الخاصة الناتجة عن هذا التلاقُح، لا تزيد عن أن تكون مُهَرِّجًا دوره محصور فقط في التسلية والترفيه، كذلك الشعر لا يزيد دوره عن دور  المطرب أو الخطيب، لنؤكِّد أنَّ الفن، أيَّ فن، كما يخلق الوعي ويُرَقِّي الذوق قد يُصْبِح أحد عوامل التغييب والهدم والتدمير.

   كشاعرٍ متذوِّق للسينما أجدُني، رغمًا عني، لا أقرأ الشعر إلا كمُشاهِد سينما، ولا أُشاهِد السينما إلا كقارئ شعر، فلا أستطيع وأنا أقرأ قوْلَ بشَّار بن بُرْد، مثلًا، وهو يصف صوت خروج السهم من القوس: “إذا رزَمَتْ أَنَّتْ وأَنَّ لها الصدى .. أنينَ مريضٍ للمريضِ يُجاوِبُهْ”، إلَّا أنْ أُغْمِضَ عينيَّ لأرى مشهدًا كاملًا لكائنٍ ما يُمَثِّل القوسَ المريضة التي تئِنُّ فيرُدّ عليها الصدى متجسدًا في كائنٍ آخر مريضٍ، بل وأكاد أسمع أنين القوس وأنين صداها.

   كذلك لا أستطيع أن أرى قبضة “قناوي” المُعَلَّقَة في الهواء، في فيلم “باب الحديد” في مشهد الختام بعد أن اختَطَفَ، هو ككائن من عالم الأحلام، “هَنُّومة”/حُلْمَهُ البعيد، بسكِّينه المرتعشة العاجزة عن الفعل، إلَّا أنْ أقرأ هذه الجملة الصامتة التي تصف محاولة هذا الكائن الحالم أو المريض النفسي الفاشلة للدفاع عن حلمه، وأقول «محاولة فاشلة» لأنها نابعة من عالم الحُلْم الهَشّ في مقابل الواقع الموضوعي القويّ الشَّرِس.

   وإذا كان الكلام في القصيدة يستطيع أن ينقل لنا مشهدًا سينمائيًّا كاملًا، فانظر، مثلًا، إلى تلك الصورة البديعة التي يصنعها المتنبي عندما يصف جيش سيف الدولة وهو يطارد جيش عدوِّه، فالجيشُ من فرْطِ سرعته سحابٌ يطير في السماء، غير أنه وهو يمرُّ بالبلاد يمتنع عن الإمطار عند مروره بـ”حِصْن الرَّان”، وهذا الامتناع ليس بُخلًا، ولكن لأنه يكتشف أن هذا الحصن من أملاك سيف الدولة، ولأنَّ مطر السحاب، في هذه الحالة فقط، ليس ماءً ولكنَّه نِقَمٌ، بعد ذلك نرى الأرض -أسفل السحاب- وكأنها انحازت إلى عدوِّه فأصبحت تعدو معه، ولأنها ليس لها نهاية فكذلك السحاب/الجيش ليس له نهاية، ليستمرَّ المتنبي في هذا المشهد السينمائي، مستغِلًّا الجناس التام للفظة “عَلَم”، بمعنى الراية وبمعنى الجبل، فيجعل الأرض وهي تجري أسفل السحاب: إذا مضى منها عَلَمٌ -أيْ جبل- جاء بعده عَلَمٌ آخر. والأمر نفسه مع هذا الجيش الطائر: إذا مضى عَلَمٌ -أيْ راية- منه جاء عَلَمٌ آخر.

يقول المتنبي:

سُحْبٌ تَمُرُّ بِحِصنِ الرَّانِ مُمسِكَةً

وَما بِها البُخْلُ لَوْلا أَنَّها نِقَمُ

جَيشٌ كَأَنَّكَ في أَرضٍ تُطاوِلُهُ

فَالأَرضُ لا أُمَمٌ وَالجَيشُ لا أَمَمُ

إِذا مَضى عَلَمٌ مِنها بَدا عَلَمٌ

وَإِن مَضى عَلَمٌ مِنهُ بَدا عَلَمُ

   أقول إذا كان الكلام، في القصيدة، يستطيع أن ينقل لنا مشهدًا سينمائيًّا كاملًا، فإن المشهد السينمائي كذلك يستطيع أن يقول جملةً شعريةً من دون كلام. انظر، مثلًا، إلى تلك الصورة التي يصنعها المخرج السويدي إنغمار برغمان في فيلمه العظيم “الختم السابع”، والذي يحكي عن فارس صليبي عائد من إحدى الحملات الصليبية، نذر كل حياته للبحث عن الله والحقيقة، يُصَوِّر المشهد مُهرِّجًا ينظر باندهاش وبلاهة إلى أبطال الفيلم فوق الجبل والموت يجرُّهم بحبل طويل كرمز لانشغالهم بتفسير الحياة، لا بإحيائها. فهذا المهرج هو الذي يعيش الحياة ولا يسأل، يندهش من هؤلاء المُعَذَّبين الذين أهدَروا الحياة في البحث عن معناها.

   في تلك المنطقة الخاصة، من اجتماع الشعر بالسينما لخلْق ذلك الكائن الجديد، نرى الجميل المختلف الذي يصنع الدهشة بإلقائه الضوء المفاجئ على “ما يجب” الذي نشعر أننا نفهمه ولا نستطيع التعبير عنه، ليغمسنا في شعورٍ طاغٍ بلذة الجمال والاكتشاف. في فيلم النمساوي مايكل هاينيكي “حب” أو “amour” يقفز المخرج بهذا المنطق الشعري على التعريف المألوف للحب، حيث كلنا يعرف أن كلمة “أحبك” لا تعني أكثر من “أنا أريدك”، “أريدك قريبةً”، “أفديكِ بنفسي” وغيرها، ليقول “أنا أقتلك”…! دون أن تكون دلالة القتل أو الموت مُحمَّلَةً بالكُرْه والغضب، ولكن بالرحمة والشفقة والحب الشديد الذي يجعل ذلك الكهل المُتقاعِد الذي يعيش مع زوجته المصابة بسكتة دماغية، والتي -بعد أن فقد كل السبل إلى تخفيف الألم عنها- لا يجد أمامه سوى أن يقتلها، نعم يقتلها ليرحمها من العذاب، عذاب الحياة، في هذا الفيلم الصورة وحدها هي التي تتكلَّم، بل لا توجد موسيقى تصويرية. الفيلم عبارة عن كاميرا موجودة في شقة العجوزين ترصد إيقاع حياتهما الثابت المُمِلّ، وكأن المخرج عامدًا أجلسنا داخل هذه الشقة لنحمل مشاعر البطل نفسها، حيث لا كلام ولا حلول، لا شيء سوى تلك الجملة المشهدية الطويلة الصامتة التي تنتهي بذلك الانحراف الفني غير المتوقع ليتحوَّل العاديّ إلى شِعريّ عندما نفهم -من غير كلام- أنَّ القتل يمكن أن يكون مرادفًا للحب؛ وأن البقاء حيًّا، للبطل، في هذه الحياة الخالية من الحبيب هي أكبر تضحية من أجل الآخر، وأن الموت، ما دام أصبح المرادف الوحيد للشفاء من الألم، فهو الهدية التي نقدمها لمن نحبهم.

   وختامًا .. ربما لأنني شاعر، لا أنظر إلى الشعر كنوع أدبيٍّ أو فنيِّ مجاوِرٍ للأنواع الأخرى، ولكن أنظر إليه -وكلامي عن الشعر في جوهره لا في صورته الكلامية، بمعنى الشعري الذي هو نقيض العلمي لا المنظوم الذي هو نقيض المنثور- على أنه أبو الفنون، أو هو غاية أعلى لكل الفنون، يتفرَّع، لا أقول في الفنون الرفيعة كلها، بل في كل شيء يُجَسِّد وعي الإنسان الجمالي بالعالم.

قَصائِدُ تُمَجِّدُ الوَطَنَ وتُجَسِّدُ الانتِمَاءَ والفَخرَ | أ.د إياد عبد المجيد إبراهيم

أ.د. إياد عبد المجيد إبراهيم

شاعر وأستاذ جشعر وأستاذ جامعي، جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية .

الثاني من ديسمبر اليوم الوطني الراسخ في ذاكرة شعب الإمارات، الذي نستحضر فيه هذا العام بكل فخر واعتزاز الذكرى الثالثة والخمسين ، كما نستحضر مآثر وتضحيات وجهود الآباء المؤسسين، الذين وضعوا دعائم اتحاد الدولة، مستذكرين القيم السامية التي بُنيت على التسامح والمحبة والتعاون والتعايش مع مختلف الثقافات والأديان، وكانت النهج الذي سارت عليه الدولة  منذ نشأتها، وحتى يومنا هذا الذي غدت فيه الإمارات دولة متقدمة تقوم على الإبداع والابتكار والاحتفاء بالإنسان، الذي كان وما يزال منذ قيام اتحاد الإمارات محور وهدف هذه الدولة، التي جعلت همها الأول والأخير تأمين الحياة الكريمة لأبنائها، ونقل مواطنيها إلى أعلى مستويات الرقي ورغد العيش.

يأتي الاحتفال باليوم الوطني في ذكراه ككل عام لتأسيس وقيام اتحاد دولة الإمارات، تتويجاً لمسيرة تنموية وحضارية حافلة بالإنجازات الواقعية في مختلف المجالات، جسدت الرؤية المستقبلية التي استشرفها المؤسسون الكبار بقيادة المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان «طيب الله ثراه» وقدمت أنموذجاً يحتذى به في التنمية والبناء. فالتوجهات الحديثة والأكثر تطوراً التي تمضي فيها الدولة، والإرادة التي تجمعت لدى الشعب  للوصول إلى الدولة الذكية وإلى الفضاء، وإلى صياغة خريطة جديدة للإبداع والابتكار في العالم ؛ هي الدليل الكبير على العزيمة والإصرار المتجدد بلوغا للمأمول والمرتجى ..

ففي الثاني من ديسمبر يستحضر الوطن والشعب على هذه الأرض الطيبة أرض التسامح والتعايش والأخوة الإنسانية، بالثناء والوفاء والعرفان يستحضر الكل  مسيرة النهضة والرقي والحضارة، ويعيشون هذه المناسبة العظيمة، مؤكدين ولاءهم للإمارات وقيادتها الرشيدة التي لا تألوا جهداً في تحقيق المزيد من الإنجازات للوطن والمواطنين والمقيمين على أرضه.

إن اليوم الوطني هو يوم يجسد فيه الشعب الإماراتي التلاحم الوطني بين أبنائه، ويجدد الشعب استذكار الماضي بكل صوره وقيمه وتراثه ، وهذا ما أكده الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم بقوله: “إنَّ روح الاتحاد تسري في أرجاء وطننا ونفوس مواطنينا، كما إنَّ تراث آبائنا خالد حيٌّ مادامت على الأرض حياة”([1])، وقد أكد الشيخ زايد -رحمه الله- على الحفاظ على التراث قائلًا: “لا بدَّ من الحفاظ على تراثنا القديم؛ لأنه الأصل والجذور، وعلينا أن نتمسك بأصولنا وجذورنا العميقة”([2])، فهي دعوة للسير قدمًا على هذا النهج، “فالتراث منجم طاقات إيحائية لا ينفذ له عطاء”([3])، والاحتفال به واجب وطني وأخلاقي، لما حققه الشعب الإماراتي من إنجازات عظيمة، فأصبح هذا اليوم يومًا مقدَّسًا، نحيي فيه هذه المناسبة؛ وهو “السبيل الوحيد لتحقيق الأمن والاستقرار لشعبنا، وحماية مقدراتنا، وتوفير الحياة الأفضل لمواطنينا”([4]).

إنَّها قصة حبٍّ أبدية كتب فصولها الآباء والأجداد المؤسسون؛ لأنَّ الاحتفال بيوم الوطن هو تجديد للعزم والعزيمة، وهو تجسيد للروح الوطنية من خلال شحذها بالإرادة الصلبة ،  وقد انبرى الشعراء يجسدون معاني الوطنية والقيم والحلم الجميل في استشراف المستقبل ، وعلى رأس هؤلاء الشعراء صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم مطلقًا زفرات الحبِّ نحو بلده الإمارات، ومبينًا لمجدها فيقول ([5]):

نَحْنُ القَصِيْدُ وَنَحْنُ الَّلحْنُ وَالوَتَرُ    وَالقَوْلُ وَالفِعْلُ وَالإِنْجَازُ وَالظَّفَـرُ
لنَا الصَّدَارَةُ في عِـــلْمٍ وَفِي عَمَلٍ    في كُــــلِّ يَــوْمٍ لنَا مَجْدٌ وَمُفْتَخَرُ
لِكُلِّ مَـــجْـــدٍ سَعَيْنَا لَا نُــفَــوِّتُـــهُ  إِذْ لَيْسَ في بَاعِنَا عَنْ نَيْلِهِ قِصَرُ
عَنَّا رَوَى الدَّهْرُ وَالأَيَّامُ شَاهِـــدَةٌ      مَآثِراً لم تُــغَـــيِّرْ صُبْحَهَا الغِيَر

القصيدة ضمن إطار الشعر الوجداني الذي يرتبط بمنظومة من القيم ، وتجربة الشاعر تجنح إلى الخطاب الرومانسي العامر بحب الوطن وروح العاطفة المتدفقة  ، حيث يرى في الإمارات جمال ولحن الوجود ، فالقصيدة تنمو نحو تقليد القصيدة الغنائية ، حيث اللحن والوتر ، يحفزه الفخر في المنجزات علما وعملا ، فالإمارات لها الأثر البالغ في روح الشاعر ، يشير إلى تاريخها ، معتمدا الإيقاع الشجي في قافية الراء ، وانتقاء الكلمات ، ليقدم لنا صورة شفافة متكاملة عن الوطن ، فيزاوج المتلقي بين الشعور والواقع ، ومن يتأمل القصيدة بأسرها يجد فيها لوحات تعبيرية عن ماهية الزمن واستغلاله في النهضة التي تمثلها تجليات مظاهر الحياة ، وحسبها أنها قدمت رؤية الشاعر تأريخا وعاطفة واعتزازا ..

جاءت جمالية التكرار في كلمة ” نحن” في الأبيات السابقة، كونها كشفت طبيعة الجهد الكبير المبذول الذي أوصلهم إلى تلك المكانة التي بلغوها، وذلك من خلال قرن القول بالعمل الجادِّ، الذي حقق الإنجاز، ووفَّر الإنتاج، ويرسم صورة الصدارة التي احتلها أبناء الإمارات  بما يملكون من علم، وما يقومون به من عملٍ، وقد جاءت الصورة البديعة في قوله: (عنَّا روى الدهر، الأيام شاهدة)، حيث قرن تلك الصورة بالجمالية النحوية والانزياح  من خلال التقديم والتأخير، فجاءت تلك الجمالية لوحة فنية من لوحات الجمال البديعي والإبداعي، فقد أصبحنا حديث الدهر، وهنا كناية عن الأفعال التي قاموا بها، والحضارات التي أرسوا دعائمها، لتكون شاهدة للأجيال القادمة.

أطلق الشاعر حنجرته لتصدح في سماء محبوبته الإمارات، تلك الدولة التي وضعت أبناءها في صدارة الزمن ، إذ قرنت قولها بفعلها، فاختصرت مسافات زمنية كبيرة، واعتلت عرش الحضارة، حتى أصبحت مضرب الأمثال، بما أنجزته من حضارة وبما كرسته من مآثر.

جاء اللون البديعيُّ الذي استخدمه الشاعر ليكشف طبيعة العلاقة المتينة، وأواصر المحبة التي تجمع الشاعر بوطنه، فرسم الإمارات بلون بديعي زاهٍ، حيث شبهها بالقصيد واللحن والقول والذي يتبعه الفعل والانجاز والظفر ، فجاء التشبيه بليغًا، من خلال الصورة البصرية التي نسجت خيوط الصورة البديعية، وبينت جمال هذا الوطن، لما تحمله من قيمة مادية، وما تتضمنه من قيم معنوية.

        وبرزت المكانة الكبيرة للإمارات في قلب الشاعر من خلال مطلع قصيدته، فلم يمهد لذكر اسم الدولة، إنَّما بدأ قصيدته بذكرها مباشرة، وهذا دليل سكون الدولة في جوارح الشاعر، وتعبير عمَّا تمثله من حبٍّ في قلبه، وعلى المكانة التي تحتلها في نفسه، وعلى مدى ولائه لها، ففيها الحياة السعيدة، والأمن والأمان. 

أمَّا الشاعر كريم معتوق، فيهدي بعضًا من أبياته إلى وطنه الغالي، وتحدث بلسان الشعب الإماراتي (والله لا نرضى لها من عثرةٍ ) ولو كلفنا ذلك حياتنا فداءً للوطن الغالي، حيث يقول([6]):

هي سيرة الأجداد نحفظ ذكرها     ونقولُ كان الشعبُ فيها المُعْدما
أتهون أو نرضى لها بنقيصةٍ         بعد الشقا والشعبُ صار مُنعما
والله لا نرضى لها من عثرةٍ          ولئن شربنا دون ذاك العلقما
قالت لنا ما قال (زايدُ) عصره      هذي بلاد العرب تُربتها سما

يعبر الشاعر عن عمق المحبة لهذا الوطن المعطاء، الذي نرخص له الغالي والثمين، ولا يرضى هذا الشعب الأبي أن يمس هذا الوطن أي أذى، وإن استدعى الأمر فلن يبخلوا عليه بدمائهم وأرواحهم ويذكر الشاعر الماضي معتزا وفخورا به ، فهو رمز التحدي والقوة ،  حيث جاء التشبيه ليبيِّن جمالية القوَّة التي يتمتَّع بها شعب الإمارات، فهم الحصن، والأمن والأمان لدولة الإمارات. فالشاعر يحاور الإمارات ثم يتحدث بلسانها، واقعا وتاريخا وفنأ ، فالشعب لا يرضى لها عثرة ، ويقدمها لنا بصياغة تعبيرية بعد أن يؤنسن الأرض لتقول على لسان باني مجدها الأول ( زايد ) ، فلو شرب الشعب العلقم لن يرضى للإمارات غير المجد ، ثم تحتشد المعاني بالانتماء العروبي للأمة فيتخيل الأرض سماء لعلو مكانتها ، فيبني من خلال ذلك علاقة جوهربة بين الأرض والسماء في استحضار على وجودها وشموخها ..

ويواصل الشعراء حبهم للوطن معبرين عن اعتزازهم وفخرهم، وهم يعيشون هذا الخير والنماء والأمان والرقي، يغذون الخطى نحو العلى، فليس ثمة مستحيل في طريقهم، يقول الشاعر شهاب غانم7:

  يا إماراتُ أنت في القلب حبٌ      مستفيضٌ وأنت ظلٌ ظليلُ
  نصفُ قرن ونيّف قد تقضَّى      في نماءٍ والخيرُ فيكِ جزيلُ
  خطوةٌ بعد خطوةٍ في ارتقاءٍ        وازدهارٍ حتى يتمَّ الوصولُ
  أنتِ أنـــــــــــــموذجٌ لكلِّ بلادٍ          تَعمرُ الأرضَ دأبها التجميلُ
  رفعةُ الشعبِ همُّها في أمانٍ        دونه السعي للعلا مستحيلُ
  في ارتقاء إلى الفضاء بجدٍ           وبعزمٍ ليبـــــــلغَ المأمولُ
  يا إماراتُ أنت حلم جميلُ          حققتـــه سواعـــــد وعقولُ

تظل الإمارات في قلوب أبنائها والمقيمين على أرضها ، وها هي اليوم قد أصبحت  في طليعة الدول العصرية المتقدمة وباتت علامة بارزة على تقدم الدول بما أنتجته من سياسة حكيمة بفضل القيادة الرشيدة ، التي جعلتها أنموذجا لكل بلدان العالم ،  وإن الرفعة والسمو و المسرة تتواصل يوما بعد يوم  للمضي قدماً في إكمال هذه التجربة الوحدوية الوطنية الرائدة ، فقد كانت بالأمس حلما جميلا ظل يتحقق ويتجدد كل عام بهمة القيادة المخلصة ، وبسواعد الأبناء البررة ، والعقول النيرة ، فالعزيمة متجددة ، والجد متواصل ، خطوة خطوة ، والوطن يبلغ الذرا ..حتى بات أبناؤه بجدهم يرتقون الفضاء بعزم واقتدار ليتحقق حلم القيادة التي تفخر بأبناء الوطن وهم يبدعون ويبتكرون ويحلقون في سماء العز  ..وبذا تكون ( الإمارات ) البؤرة التي تكشف استبطانات عاشها الشاعر ، بين جمال الأرض ورفعة الشعب ، والارتقاء نحو السمو ؛ لأنها عشقه المتجذر ، ولغة القصيدة تكتظ بالشفافية ، يقترب فيها الشاعر من التحولات الكبيرة في شجن يدغدغ الحواس .

وإذا كان الشعر الفصيح قد أخذ جانبا كبيرا، تغنى من خلاله الشعراء بحب الوطن وعيد الاتحاد فقد  احتفى الشعر النبطي هو الاخر  في يوم الإمارات  وشارك شعراؤه ببالغ الاحتفاء والتقدير هذه المناسبة الوطنية، فعبر الشاعر سمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم عن هذه المناسبة مشيرا  للاتحاد والمجد الراسخ كالجبال ، وبعبارات الفخر والاعتزاز، حيث يقول(8):

دام عزك دولتي بالاتحاد             دار زايد رافع بنيانها
مجدها دايم إلى يوم المعاد        راسخه مثل الجبال أركانها
في ثراها العلم مرفوع العماد       الكرامة والشرف عنوانها

وهكذا نرى طبيعة الوعي الشعري المشبعة بجمالية اللغة والإيحاء في نوعي الشعر الفصيح والنبطي ،  يفخر الشاعر ويعتز ببلاده وباللحمة الوطنية التي أثرت في بناء الدولة الحديثة والنهضة التي حدثت في شتى مجالات الحياة، لقد لجأ الشاعر إلى تحدي الزمان (يوم المعاد) ليؤكد بأن مجدها وعزتها دائمة وأبدية، وأن غبار الزمن لم ولن يؤثر على عزتها ونهضتها التي أرسى قواعدها الشيخ زايد –رحمه الله-، وكذلك نجد أن الشاعر استخدم الصور الفنية في قصيدته إذ صور الإمارات بالدار التي بناها زايد –رحمه الله- بثبات وإحكام، وكناية الدار هنا تدل على تلاحم الشعب والقيادة فهو ترابط كالأسرة الواحدة التي يجمعها بيت واحد، كذلك صوَّر الإمارات بالجبل الثابت الراسخ، وهي صورة تدل على قوتها وثباتها ومنعتها.

 تتحرك صور القصيدة بمهارة فتتدفق صورها تدفقا روحيا وشعوريا أمام القارئ ليعانق هذا العز والمجد والعلم المرفوع رمز الأمل والبقاء والشموخ..

ويتلألأ الوطن في عيون الشاعر سالم سيف الخالدي، فيقول(9):

حُبّ الوَطَن مَا هُو مُجَرَّد حِكَايَه    أَو كِلْمَة تِنْقَال في أَعْذَبْ أسلوبْ
حُبّ الوّطّنْ إِخْلَاص مَبْدَأ وغَايَة    تُبْصِر بِهِ عُيُون وتَنْبِض بِهِ قُلُوبْ
لَكَ يَا وَطَنَّا في سَمَا المَجْدِ رَايَه   واسْمَك عَلَيْهَا بِأَحْرُفِ العِزّ مَكْتُوبْ 

 

إنّ الوطن ليس مجرد كلمة ينطقها اللسان، وتبوح بها الحناجر، إنَّما الوطن حبٌّ وإخلاص وتضحية، “وحب الوطن شكل من أشكال القومية”([7])، والوطن هو الأمان والملاذ، وهو العزة والكرامة، الخير والعطاء، وهو “الإحساس الخفي الذي يحرِّكنا للتعلق به، والإحساس بالانتماء إليه”([8])، وقد جاءت الصورة البلاغية لتبين جمالية الوطن، فالوطن كتب اسمه بأحرف العزة والكرامة، حيث الصورة البصرية التي رسمت تلك المكانة الرفيعة للوطن في قلوب محبيه. إن تكرار ” حب الوطن ” يمد روابط النص الأسلوبية ربطا فنيا موحيا ، منطلقا من الجانب الشعوري ، ومجسدا حالة الانتماء التي يضع من خلالها الشاعر المتلقي في جو مماثل لما هو عليه ، كما يحقق التكرار إيقاعا موسيقيا جميلا ، يجعل العبارة قابلة للنمو والتطبيق ، وبهذا يحقق التكرار وظيفنه كإحدى الأدوات الجمالية التي تساعد الشاعر على تشكيل موقفه وتصويره ، لأن الصورة الشعرية في البيت الأخير على أهميتها ليست العامل الوحيد في هذا التشكيل ، فقد تعانق التكرار مع الصورة فضلا عن العمق الصوتي ودلالاته ، فساهم كل ذلك في نقل المعنى ونقل الفكرة إلى الفعل ..

إن المستقبل يحمل الكثير للإمارات؛ لأن رؤيتها متجددة، وطموحها أكبر في التحدي، ورسالتها إنسانية تبتغى خير البشرية، وتحقيق الاستقرار والازدهار، وتعزيز التنمية، وتعظيم أوجه الشراكة والتعاون بين دول العالم التي تشاركها يومها الوطني الخمسين، وتقف شاهداً على إنجازاتها، وتنخرط معها في مهمتها لاستشراف التحديات والحلول المستدامة وتوحيد الجهود من أجل مستقبل أفضل للأجيال المقبلة.

وهكذا يستحضر الشعراء الوطن بكل أبعاده، بأرضه وسمائه وأبنائه وتراثه وكل قيمه ، بماضيه وحاضره ومستقبله ، فالوطن الغالي لا يليق به  إلا الفخر والاعتزاز ، وقد أجاد الشعراء الإماراتيون هذا المحور في قصائدهم فارتبطت بالحالة الشعورية التي استطاعت بسط مساحة من الانزياح بين المعنى ، ومعنى المعنى ، فقد بدت الصور في النصوص من خلال بنيتها و علاقتها بالكلمة الموحية فضلا عن علاقاتها التقليدية في نسج علاقات جديدة من خلال  النمطين الشعريين فانعكس ذلك على التأطير الخاص بالوطن ،  وكشف التفاعل الخلاق بين الدال والمدلول .

([1]) آل مكتوم محمد بن راشد، اليوم الوطني التاسع والأربعون، مجلة منار الإسلام، الهيئة العامة للشؤون الإسلامية والأوقاف، 1998، العدد 1، ص 16.

([2])الطنيجي سالم زايد، التراث الشعبي الإماراتي: الفعاليات التراثية، ط 5، 2018، معهد الشارقة للتراث، الشارقة- الإمارات العربية المتحدة، ص 9.

([3]) مزياني فادية، ورد مدور، توظيف التراث في شعر محمود غنيم، 2022، رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة محمد خيضر بسكرة، الجزائر، ص 9.

([4]) آل نهيان الشيخ زايد، اليوم الوطني التاسع والأربعون، مجلة منار الإسلام، الهيئة العامة للشؤون الإسلامية والأوقاف، 1998، العدد 1، ص 47.

([5]) آل مكتوم محمد بن راشد، قصيدة مجد الإمارات، اليوم الوطني للإمارات، مجلة آفاق دبي، 2014، العدد 54، ص 6.

([6]) معتوق كريم، ديوان كريم معتوق، الجزء الثاني، هيئة ابوظبي للثقافة والتراث، أكاديمية الشعر، ابوظبي، 2011، ص19.   

(7)جريدة الخليج السبت 16نوفمبر 2023

(8) فوتري سهباني سيليان، القيم الوطنية في نشيد هذي الإمارات للشاعر مانع سعيد العتيبة (دراسة سيميائية)، مرجع سابق، ص 7.

(9) راتب نضال، إمارة الشارقة: تاريخ وحضارة، 2023، دار الرنيم للنشر والتوزيع، عمان- الأردن، ص 65-66.

بين قصيدتين إنجليزيتين: محاذير عن الحب | د. شهاب غانم

د. شهاب غانم

شاعر وكاتب ومترجم.

موضوع الحب هو من أكثر الموضوعات تناولا لدى الشعراء إن لم يكن أكثرها. وحديث الشعراء عن الحب في العربية شديد التنوع فعنترة على سبيل المثال يقول لحبيبته في معلقته: ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني وبيض الهند تقطر من دمي فوددت تقبيل السيوف لأنها لمعت كبارق ثغرك المتبسم بينما يقول المنخل اليشكري: وأحبها وتحبني ويحب ناقتها بعيري أما مجنون ليلى قيس بن الملوح فيقول: فيا ربّ إذ صيرت ليلى هي المنى فزني بعينها كما زنتها ليا وإلا فبغضها إلىّ وأهلها فإني بليلى قد لقيت الدواهيا ويقول شاعر آخر: أحبك بل أهوى التمنع في الهوى فإنك يحلو في هواك التمنع تثيرين بالشوق الملح عواطفي فأنسج أنغام الغرام فأبدع أما أبو الطيب المتنبي فيقول محذراً من العشق: وَلِلخَودِ مِنّي ساعَةٌ ثُمَّ بَينَنا فَلاةٌ إِلى غَيرِ اللِقاءِ تُجابُ وَما العِشقُ إِلّا غِرَّةٌ وَطَماعَةٌ يُعَرِّضُ قَلبٌ نَفسَهُ فَيُصابُ ونود في هذا المقال أن نتوقف عند قصيدتين تحذران من إعلان الحب للحبيب أو إعطاء قلبك كله لمن تهوى، لشاعرين من أبرز شعراء اللغة الإنجليزية والقصيدتان من ترجمتي. القصيدة الأولى لوليم بليك (1757-1827 ( من إنجلترا، بريطانيا ويعد من أوائل الرومانسيين في الشعر الإنجليزي. يحذر الشاعر من إعلان حبك لمن تهوى قائلاً في قصيدته سر الحب: لا تسعى أبدا لتعرب عن حبك، فالحب المعلن لا يمكن أن يحيا أبدا. فالريح الرخاء تتحرك بهدوء ودون أن ترى. أعربت عن حبي، أعربت عن حبي، أخبرتها بكل ما في قلبي، وكنت مرتعشا، وأشعر بالبرد والقلق الشديد .. وأواه، فقد تركتني! وبعد أن رحلت عني بزمن قصير مرَّ مسافر بنا، وبصمتٍ وبشكلٍ غير محسوس أخذها، مع آهة! أما القصيدة الثانية فللشاعر الأيرلندي وليم بتلر ييتس (1865-1939) الذي كان من أشهر شعراء اللغة الإنجليزية في القرن العشرين وقد نال جائزة نوبل للأدب عام 1923 وهو في هذه القصيدة يحذر المرء من أن يعطي كل قلبه لمن يهوى. وأذكر أنني أنشدت قصيدة في حفل جائزة راشد للتفوق العلمي عام 1996 أمام صاحب السمو الشيخ الشاعر محمد بن راشد جاء فيها: وهل ترتضي ليلى بنصف متيم وقد ذاب قيس في الهوى وتحرقا؟ يقول ييتس في قصيدته وعنوانها “لا تعطِ كل قلبك”: لا تعط كل قلبك أبدا، لأن الحب لدى النساء العاطفيات، إذا ما كان مضمونا، لا يرينه جديرا باهتمامهن، فهن لا يخطر ببالهن أن الحب يمكن أن يتلاشى قبلةً إثر قبلة؛ لأن كل شيء رائع هو مجرد نوع من المتعة القصيرة الحالمة. ولا تقدم قلبك دفعة واحدة أبدا، لأنهن، على الرغم مما تقوله كل الشفاه الناعمة، قد أعطين قلوبهن للعبة الحب؛ وكيف يستطيع أن يجيد تلك اللعبة من كان أعمى وأصم وأخرس بسبب الحب؟ والذي نظم هذه الأبيات يعرف الثمن، فقد وهب كل قلبه وخسر.

المكان في شعر ميسون صقر | مريم الزرعوني

مريم الزرعوني

كاتبة وشاعرة من الإمارات

رافق الأدب الحراك الثقافي الطليعي في دولة الإمارات منذ بدايته، وتميّز بالتنوع داخل الجنس ذاته، ومنه الشعر. فإلى جانب القصيدة العمودية ظهر الشعر الحر وقصيدة النثر، التي كتبها مجموعة من المثقفين الإماراتيين، شكّلوا الديباجة الأولى للشعر الحداثي الإماراتي، ونَحَوا حينها المنحى الأصعب، وهو التغيير والتجدد، ورغم التحدّيات التي واجهها هذا الفنّ خاصة من الكلاسيكيين، ومحبي الشعر العربي في صورته العمودية الموزونة، إلّا أن الأصوات الشابة حينها، استطاعت أن ترسم مسارها المختلف، لا سيما النسائية منها، وصار لها خصوصيتها في التجربة الشعرية العربية، والإماراتية على وجه الخصوص.

الشاعرة الإماراتية ميسون صقر، كتبت السرد كما كتب الشعر، وهي ذات تجربة متقدمة، في مجتمع مدني حديث نسبيًّا، لم يتجاوز النصف قرن، تغيرت ملامحه بسرعة، مع قيام الاتحاد ونهضة الدولة في مختلف الأصعدة، ما جعل الشاعرة هي وجيلها، رغم ريادتهم، لكن إبداعهم لم ينل حظّه الوافي من الدراسة والتقصي. فدراسات الشعر الإماراتي الحديث والمعاصر مازالت في بدايتها، ونعلم صعوبة أن تلج ساحة البحث، وهي تعاني من عجز أو قلة في المصادر.

 قدّمت الشاعرة في دواوينها كلّها قصيدة النثر، وشكّلت على مدى مسيرتها الأدبية التي جاوزت الأربعة عقود، نموذجًا خالصًا لهذا الجنس الأدبي، ساورته لغتها الحداثية بالسلاسة والجزالة في آن، ولتجربتها خصوصية وفرادة، كونها شاعرة إماراتية اختارت أن تستقرّ في القاهرة، وقد رافقت عائلتها للعيش فيها منذ طفولتها.

ما نتحدث عنه في هذا المقام، الشعر عند ميسون صقر، فقد أظهرت قصيدة النثر لديها، نموذجا جيدًا للتجريد والتخلي عن منظومة الأحمال التقليدية في الشعر، مقتربة من التجريد في معناه التشكيلي، ولا أدلّ على هذا المعنى من شروط سوزان برنار لقصيدة النثر، وهي الكثافة والتخلي عن الحشو والإطالة، وإشراق المفردة، بحيث ينطفئ المعنى باستبدالها، وانطلاقها من الذات في التجربة الخاصة.

إنّ التجريد الشعري ممثلًا في قصيدة النثر، يتطلب آليات مختلفة في تعاطي النقد مع النص، خارج إطار المجاز والعروض، فلم تعد القصيدة النثر مجموعة صور بيانية، في قالب شكلاني معروف، إنها في شكلها ومقاطعها أقرب ما تكون إلى الرؤية الإخراجية، القائمة على القطع والحذف، ثم إعادة التركيب واللصق، أو ما يعرف بالمونتاج في المشاهد السينمائية، لذا تتطلب بحثا و تجديدا في تعاطي النقد مع النص، بعيدا عن محدودية المعالجة، خاصة وأنّ أيلولة الشعر إلى قصيدة النثر، باتت الاحتمال الأكبر في ضوء تسارعات العصر، والحاجة إلى وعي مستدام يحفظه التفكير الناقد، والتعرض المستمر لكسر الوتائر.

للشاعرة بالإضافة إلى الدواوين الفصحى، أخرى بالعامية المصرية، لقد شكلت مصر محطّة مهمة في حياة الشاعرة، ولا شكّ أنّها أثرت في وجدانها، وجاء عملها الأخير “ريش عين على مصر” تجسيدًا لذلك الأثر، فقد أرخت للمقهى الثقافي القاهري الأشهر، وكتبت سيرته بعين الإماراتية، المحبّة لمصر، وفازت عن الإصدار بجائزة الشيخ زايد للكتاب 2022 فرع الآداب، وكان للمكان أثر عميق في وجدانها، نلحظ ذلك في تصريحها بعد حصولها على الجائزة الأكبر في تاريخها الأدبي، عندما أهدت الجائزة إلى الأماكن: “أهدت الشاعرة والروائية والفنانة التشكيلية الإماراتية ميسون صقر جائزة الشيخ زايد للكتاب فرع الآداب المتوجة بها عن كتابها “مقهى ريش”، الصادر عن دار نهضة مصر، إلى الإمارات الوطن الأم ولمصر أم الدنيا حبيبة القلب، وللشارقة الذاكرة الأولى ولأبوظبي الاكتشاف والوعي والتعلم”

المكان، ذلك الماديّ بأبعاده الفيزيائية المعروفة، يحمل تأويلاتٍ شتى في الذهن، تجعل من الحيّز فضاءً معنويًا أرحب، لا يتقيّد بتلك المساحة المحدودة مهما اتسعت. ألا نقول ” لك مكانٌ في القلب”؟ والآية الكريمة “وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَٰرِغًا”، ذلك الفراغ المجازي في قلب الأم، قد حلّ محلّ المكان المجازي الذي كان يشغله حضور ولدها المادي. المكان ذلك الشيء الذي يشغلنا، في حين أننا نشغله، ونحمله معنا، على هيئة أفكار، تثار لها مشاعر تتشكل تجاهه، وتشغل الوجدان.

 

نستل للشاعرة قصيدة من ديوانها “رغوة القلب الفائضة” بقصيدة شقوق الجدار:

هذه الشروخ في الجدار، تهمني// تزحزح الضيق// تتسرب منها الغرف والأجساد والأحلام. // هذه الفضاءات ثقوب في الأوهام // أو ربما خدش في قميصي الليلي الذي// أخبئ فيه حبيبي // وأنام

تستخدم الشاعرة المفردات المكانية الدالة على البيت بالضرورة: (الشروخ – الجدار – الغرف – الفضاءات -ثقوب – خدش- أنام) ثمة علاقة قديمة ووطيدة بين الشاعرة والمكان، هذا البيت الذي مضى عليه ردحٌ من الزمن بالتأكيد، حتى أنّ الشروخ بدت في جدرانه، و رغم ذلك العطب -وإن كان بسيطًا- إلا إنّه ملحوظ لدى الشاعرة على الأقل، والملاحظة قد تجاوزت الرؤية إلى الأثر الخاص في النفس، هذا الأثر دليل صلة وثيقة بالمكان، صلة إيجابية، تحتفي الشاعرة به، رغم غلالة غلالة الحزن الذي تلفّه، ممثلة بعبارة (تزحزح الضيق) و(تتسرب منها).

لا تصرح الشاعرة بمفردة البيت، لكنها تذكر العديد من مكوناته، فيظهر بشكل جزئي صريح، ثم تكتمل الصورة في مخيلة المتلقي، ما هو ذلك المكان الذي يتألف من جدران وغرف، ويصلح للنوم، المكان الذي ترتدي فيه سيدته قميصها الليلي، وتهتم للشروخ في جدرانه. إنه البيت – الملاذ، والذي يكاد يتكافأ مع العمر، بسبب العشرة الطويلة له من جهة، وقد ظهر في مفردات سبقت في النص، ومن جهة ثانية حين تتسرب من الغرف الأجساد والأحلام، كمن يفقد في حياته ومع مرور العمر، أشخاصًا يغادرون، وأحلامًا تتبدّد. ومن جهة أخيرة حين يصير كالعمر المنذور للحبيب، هذا البيت مخبأٌ آمنٌ له.

الشعر والمعرفة | أ. د. صلوح السريحي

 أ.د. صلوح السريحي

أستاذ الأدب والنقد بجامعة الملك عبد العزيز 

عضو مؤسس مجلس أمناء أكاديمية الشعر العربي

         الشعر فن وعلم وصناعة وإعلام وإعلان.  كما أنه وعاء المعرفة والحكمة والفلسفة على الرغم ما بينهما من جدلية واختلاف، فهو فن غنائي يتسامر عليه العرب يجمع بين المتعة والفائدة، ينشدونه في أفراحهم واتراحهم، وهو ديوانهم الذي يحمل لغتهم، ويسجل أيامهم ووقائعهم حتى صار سجلًا معرفيًا لهم فهو كما قال أبو عمرو بن العلاء في حديثه عن العرب والشعر:” يقيد مآثرهم، ويُفخّم شأنهم، ويُهوّل على عدوهم ومن غزاهم، ويُهيِّب من فرسانهم، ويُخوّف من كثرة عددهم، ويهابهم شاعر غيرهم” وهو مصدرٌ من مصادر التاريخ عند مؤرخي العرب، وشاهدٌ عند النحاة وأهل اللغة والمفسرين للقرآن الكريم. هو علمٌ كما قال ابن الخطاب ” كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه” وهو ديوان العرب كما قال ابن عباس “الشعر ديوان العرب فإذا خفي علينا الحرف في القرآن الذي أنزله الله بلغة العرب رجعنا إلى ديوانها فالتمسنا معرفة ذلك”. كما أن للشعر دور أخلاقي تربوي فهو الذي يسن المكارم ويدل على المحامد؛ لذا قال أبو بكر “علموا أولادكم الشعر فإنه يُعلمهم مكارم الأخلاق” لذا أوصى به عمر فقال: ” تحفظوا الأشعار، وطالعوا الأخبار فإن الشعر يدعوا إلى مكارم الأخلاق ويُعلّم محاسن الأعمال ويبعث على جليل الفعال ويفتق الفطنة ويشحذ القريحة وينهي عن الأخلاق الدنيئة ويزجر عن مواقعة الريب ويحضّ على معالي الرتب”وبهذا كان للشعر سلطان وسطوة على النفوس تربيةً وتهذيبًا واصلاحًا وتقويمًا،

          وعلى الرغم من ارتباط الشعر بالعاطفة إلا أنه أرتبط أيضًا بالكون وأسالته وقضاياه فكان وعاءً للحكمة والفلسفة والمنطق على رغم ما بينهما من جدلية واختلاف لاستناد الأول منهما -الشعر- على العاطفة، واستناد الثاني- الفلسفة- على العقل إلا أن كلا منهما استوعب الأخر فَوجِد شعراء فلاسفة حكماء، كما وجد فلاسفة شعراء، وبذلك التحم الشعر بالحكمة والفلسفة وأرتبط بالكون وأسالته كما أرتبط بالإنسان وحضوره وبالإنسان وعواطفه أي  أرتبط بالعاطفة والعقل معًا، فكان لنا شعر الفارابي وابن سينا وابن رشد وزهير والمتنبي والمعري الذي كتبوا فلسفتهم عن الحياة والكون في قوالب شعرية تحكي نظرة من الدهشة والشعور بالغربة والحيرة أمام التساؤلات التي تغيب عنها الإجابة حتى تمثلت لنا من خلال إبداعهم فلسفة شعرية مدهشة

         ولأهمية الشعر وقيمته فقد بقي خالدًا في ذاته ومخلدًا للمحامد والمآثر فهو الحامل لقافية مثل حد السنان:

فَإِنِّي لذُو مرّة مرّة              إِذا ركبت حَالَة حَالهَا

أقدم بالزجر قبل الْوَعيد        لتنهى الْقَبَائِل جهالها

وقافية مثل حد السنان         تبقى وَيذْهب من قَالَهَا

تجودت فِي مجْلِس وَاحِد      قراها وَتِسْعين أَمْثَالهَا

         ولكن من قالها لم يذهب وإنما خلده شعره وإنشاده وتغنيه، وخلدته قافيته فكان لسانها الحامل لتراثنا والحافظ لهويتنا ولغتنا وثقافتنا وتاريخنا، نجد هذا اللسان عند أمرئ القيس وطرفة والأعشى والمتنبي وأبي تمام والبحتري، كما نجده في عصرنا الحاضر عند حافظ إبراهيم وأحمد شوقي ونزار قباني وبدر شاكر السياب وغازي القصيبي والثبيتي والقرطوبي وسيف الرحبي.

      وهكذا غدى الشعر وعاء للمعرفة وركيزة تبنى عليها المعرفة، ووسيلة لصناعة المعرفة والوعي بها والتعريف بقيمتها. وبذلك فإن الشعر بحثا عن المعرفة وفي المعرفة، أرتبط بالإنسان وحضوره وحافظ على قيمه وإرثه وهويته.

 

البيان والتبيين، الجاحظ عثمان بن عمرو، تحقيق وشرح عبد السلام هارون، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الرابعة، ص 76

 طبقات فحول الشعراء، لابن سلام الجمحي، قرأه وشرحه محمود محمد شاكر، دار المدني بجدة، 1/24.

الموافقات، الشاطبي: أبو إسحاق إبراهيم بن موسى، تحقيق أبو عبيدة مشهور بن حسن، دار بن عفان، الطبعة الأولى، ت 1417هـ، ج2 ص 88

 بتصرّف عن كتاب المظفر العلوي، نضرة الإغريض في نصرة القريض، تحقيق د. فهمي عارف، مجمع اللغة العربية بدمشق 1976م، ص 375.

 السابق

 شرح ديوان الحماسة لأبي تمام، الخطيب التبريزي: أبو زكريا يحي بن علي، منشورات محمد علي بيضون، دار الكتب العلمية، بيروت، ج1، ص 39

أفكار حول تجربة الحداثة الشعرية في الإمارات | عادل خزام

عادل خزام

شاعر/ الإمارات العربية المتحدة

لا يُمكن على وجه الدِّقَّةِ الوقوف على توثيقِ تجربةِ الحداثةِ الشِّعريةِ في الإمارات، وتحديدًا إرهاصاتِ ظهورِ قصيدةِ النثرِ أو مَن بدأ بها أولًا. لكننا نملكُ مجموعةً من المعطياتِ التي أسَّستْ لظهورِ هذه التجربةِ الشِّعرية، والتي تصاعدتْ بشكلٍ كبيرٍ منذ مطالعِ الثمانينيات لتصبحَ إحدى التجاربِ المهمةِ في منطقةِ الخليج، كونها ضمَّت مجموعةً رائعةً من الأصواتِ الشِّعريةِ الشابةِ التي أنجزتْ نصًّا شعريًّا متجاوزًا يرتقي إلى مستوى التجربةِ العربيةِ التي سبقته في بلدانِ الشامِ والعراقِ ومصرَ والمغربِ العربي.

الإرهاصات الأولى

من وجهةِ نظري كشاهدٍ على هذه التجربة، فإنَّ التمهيدَ لظهورِ قصيدةِ النثرِ بدأ مع تجربةِ الشاعرِ د. أحمد أمين المدني، الذي درسَ في العراقِ وعادَ منها في أوائلِ الستينياتِ متأثرًا بموجةِ التجديدِ وشعرِ التفعيلةِ الذي ظهرَ في العراقِ على يدِ نازك الملائكة، ثم تطوَّرَ بعمقٍ في تجاربِ بدر شاكر السيَّاب وعبد الوهاب البياتي وآخرين. كتبَ المدني شعرَ التفعيلةِ مقدِّمًا لأولِ مرةٍ تجربةَ كسرِ البيتِ الشِّعريِّ الكلاسيكيِّ، وكان ينبغي لتجربتهِ هذه أن تتطورَ بعدَ أن درسَ في جامعةِ كامبريدج ببريطانيا ثم السوربون في فرنسا، حيثُ الحداثةُ وقصيدةُ النثرِ هناك عمرها أكثرُ من مئتي عام. لكن مع ذلك، حافظَ المدني على كلاسيكيتهِ العربيةِ وقدمَ شعرهُ العموديَّ وقصائدَ التفعيلةِ معًا في ثلاثِ مجموعاتٍ هي: حصاد السنين 1968، أشرعة وأمواج 1973، عاشق لأنفاس الرياحين 1990. وربما أشارت بعضُ الدراساتِ إلى أنَّ هناكَ بعضَ الأسماءِ التي ربما سبقتِ المدني في تجريبِ شعرِ التفعيلة، لكنها لم تكتملْ ولم تتأسسْ على نضجٍ كافٍ لترسيخها في سياقِ دراسةِ الأدبِ الإماراتيِّ وتحولاتهِ الفنيةِ والموضوعيةِ والفكرية. لكن يمكن الرجوعُ إليها في البحوثِ والدراساتِ التي قدمها الأستاذُ بلال البدور، وجمع فيها قصاصاتٍ وقصائدَ مفردةً ومحاولاتٍ أولى لشعراءَ من الإمارات لم تكتملْ تجاربُهم لاحقًا. حيث الى جانب الأسماء الراسخة، ذهب البدور عميقاً للبحث عن الذين حاولوا كتابة الشعر ولم يكملوا الطريق. وفي كتابه النوعي (موسوعة شعراء الإمارات – الجزء الأول) قدم لنا تراجم لـ 101 من شعراء الفصحى الذين كتبوا الشعر العمودي.

التحولات الاجتماعية السريعة

كانتِ الساحةُ الشِّعريةُ في الإماراتِ تقومُ على القصائدِ الكلاسيكيةِ بالطبع، وكان المجتمعُ التقليديُّ لا يستسيغُ هذه النقلةَ في كسرِ البيتِ الخليليِّ، لكن مع قيامِ دولةِ الإماراتِ الثاني من ديسمبر من العام 1971، أصبحَ التحولُ نحو الحداثةِ سريعًا جدًا وشملَ جميعَ القطاعاتِ وتحديدًا التعليمَ، حيثُ دخلتْ في وجدانِ الإنسانِ الإماراتيِّ روحٌ جديدةٌ وارتفعَ في داخلهِ الشغفُ والطموحُ للارتقاءِ في كلِّ شيءٍ بما فيها الفنونُ والآداب. وبمجردِ وصولِنا إلى أوائلِ الثمانينيات، انتظمتِ الصحفُ اليوميةُ في الصدورِ (بعدَ أن كان صدورُها متقطعًا) لتخصصَ صفحاتِها الثقافيةِ لتجاربِ التجديدِ في الوطنِ العربي. وصرنا نقرأُ ونسمعُ بأسماءِ محمود درويش والماغوط وأدونيس ونزار قباني وغيرهم من روادِ موجةِ التجديد بشكل يومي، ونتأثر بفكرهم.

ازدهار الحياة الثقافية

مع أوائلِ الثمانينياتِ أيضًا انتظمتْ معارضُ الكتبِ لدينا في الشارقةِ وأبوظبي، وجاءتْ كتبُ الشِّعرِ الجديدِ وأيضًا الشِّعرِ العالميِّ (المترجم) لتقعَ بين أيدينا نحنُ الشباب، حيث كنّا لا نزالُ طلبةً في جامعةِ الإمارات أو مبتعثينَ للدراسةِ في الخارج، وصار لزامًا أن نتأثرَ بهذه التياراتِ التي نظَّرتْ وانحازتْ أيضًا إلى قصيدةِ النثرِ، فانقسمتِ الساحةُ الشِّعريةُ إلى ثلاثِ فئاتٍ هي: روادُ القصيدةِ الكلاسيكيةِ الكبارُ من الجيلِ الأول، ثم روادُ وشبابُ قصيدةِ التفعيلةِ، ومنهم د. أحمد أمين المدني، وحبيب الصايغ، وعارف الشيخ، وعارف الخاجة، وإبراهيم الهاشمي، وكريم معتوق، وصالحة غابش، وظاعن شاهين، وأمينة ذيبان، وأسماءٌ أخرى كثيرةٌ قدمتْ نفسها لكنها لم تكملْ الطريق. ثم في هذه الفترةِ (نهاية السبعينيات حتى منتصف الثمانينيات) بدأتْ تبرزُ أصواتُ المجربينَ الخائضينَ في مغامرةِ قصيدةِ النثر، بدايةً من ظبية خميس، نجوم الغانم، أحمد راشد ثاني، ميسون صقر، خالد البدور، خالد الراشد، علي العندل، عبدالعزيز جاسم، ثاني السويدي، خلود المعلا، سالم بوجمهور، محمد المزروعي، وآخرين، وكنتُ أنا معهم نشهدُ هذه التحولاتِ السريعة. وكان معنا أيضًا كتابٌ وأدباءُ خليجيونَ وعربٌ منهم قاسم حداد وأمين صالح من منبرِ جريدةِ الخليج التي كانت تصدرُ في الإماراتِ والبحرين في نفسِ الوقت، والشاعرُ سيف الرحبي من عُمان الذي أقامَ لفترةٍ في الإماراتِ وعملَ في مجلةِ أوراق التي يصدرها حبيب الصايغ من أبوظبي. وأيضًا كان معنا الشعراءُ والمثقفونَ العرب، ومنهم محمد الماغوط الذي أشرفَ على صفحاتِ جريدةِ الخليج الثقافية واستقطبَ نصوصَنا وقدمها، والكاتبُ السودانيُّ محمود مدني، ود. يوسف عيدابي، وبعضُ الأسماءِ العربيةِ الأخرى.

وقفات لا بد منها:

أولًا: أحبُّ هنا أن أتوقفَ عند بروزِ اسمِ المرأةِ الإماراتيةِ في تجربةِ الحداثةِ منذ بدايةِ انطلاقتها نتيجةً لقوةِ التعليم، ولا زلتُ أذكرُ العشراتِ من الأسماءِ النسائيةِ التي أسَّستْ لصوتِ الحداثةِ، ليس فقط على مستوى قصيدةِ النثرِ، وإنما في القصةِ القصيرةِ والفنِّ التشكيلي، حيث امتدتْ (روحُ الحداثة) إلى الفنونِ البصريةِ، وكما نادى الشعراءُ مبكرًا بكسرِ الوزنِ الخليلي، ظهرَ من بعدِهم من ينادي بكسرِ الإطارِ التقليديِّ للوحةِ الفنيةِ مثل الفنانِ حسن شريف في بدايةِ الثمانينيات الذي راحَ يعرضُ أعمالَه على الأرض. أيضًا نادى المسرحيونَ بكسرِ العلبةِ الإيطاليةِ في المسرح مثل ناجي الحاي وجمال مطر اللذان قدَّما تجربةَ عرضِ أعمالِهما في الهواء الطلق على الرملِ وقرب البحرِ من دون خشبة. وكانتِ القراءاتُ الصحفيةُ والنقديةُ التي ترافقُ هذه التغطياتِ تُشيدُ بفكرةِ التمردِ على الأنماطِ الكلاسيكيةِ وتمجّدُ التجريبَ الفنيَّ الذي شملَ كلَّ تياراتِ الفنونِ والآداب.

ثانيًا: أقفُ هنا أيضًا عند ملاحظةٍ جديرةٍ بالنظر، وهي أنَّ الحداثةَ في الإماراتِ واجهتْ بالفعلِ تحدياتٍ كبيرةٍ أثناءَ ظهورِها في مجتمعٍ تقليدي، ورغمَ بعضِ الرفضِ من المؤسسةِ الثقافيةِ أو أفرادِ المجتمعِ لهذه الأصواتِ الجديدةِ والأفكارِ غير المألوفة، إلا أنَّ المناخَ الثقافيَّ المنفتحَ في الإماراتِ جعلها تتطورُ بشكلٍ طبيعيٍّ وصحيٍّ من غيرِ قسوةٍ أو مبالغة. حيث صارتِ الفنونُ التجريبيةُ تتسيدُ اليومَ الساحةَ الفنيةَ، واستطاع شعراءُ قصيدةِ النثرِ أن يطوّروا تجاربَهم ويراكموها. على عكسِ بعضِ البلدانِ العربيةِ والخليجيةِ التي وصلَ فيها الأمرُ في فترةِ الثمانينيات إلى منعِ الكتبِ وإتلافها بل وإحراقها فقط لكونِها تنادي بالتجديدِ الفنيِّ على صعيدِ الشكل.

ثالثًا: في العام 1984 تأسسَ اتحادُ كُتابٍ وأدباء الإمارات، وفي 1987 أصدرَ أولَ أنطولوجيا شعريةٍ لأبناءِ الإماراتِ بعنوان قصائد من الإمارات، وكان صوتُ الحداثةِ متمثلًا في قصائدِ التفعيلةِ والنثرِ حاضرًا بقوةٍ في هذا الكتاب، بل إنه يمثلُ نحو 50% من محتواه، وهذا مؤشرٌ مهمٌّ على قوةِ حضورِ شعرِ الحداثةِ في ذلك الوقت. وقد تشرفتُ بالمشاركةِ في هذا الكتابِ بقصيدةِ نثر مع مجموعة من شعراء البدايات الأولى لتجارب القصيدة الجديدة في الامارات. وكم أتمنى أن تُعاد تلك التجربة الغنية بإصدار موسوعة جديدة تضم قصائد شعراء الإمارات منذ البدايات حتى اليوم.

رابعًا: أسهمَ اتحادُ كُتابٍ وأدباء الإمارات في نشرِ المجموعاتِ الشعريةِ الجديدةِ لشعراءِ قصيدةِ التفعيلةِ والنثر، بل انحازَ أيضًا لنشرِ كتبِ الشعراءِ الخليجيينَ والعربِ المقيمينَ في الإمارات ومن خارجها. ولعبتْ مجلةُ شؤون أدبية التي تصدرُ عن الاتحادِ دورًا حيويًا في ترسيخِ حضورِ صوتِ الحداثةِ الإماراتيةِ على المستوى العربي، قبل أن تتراجعَ لاحقًا عن هذا الدور. أيضا بدأ صوت القصيدة الجديدة يصل الى الخارج حيث فازت مجموعة (ليل) لخالد البدور بجائزة يوسف الخال في العام 1992، كذلك صارت دور النشر العربية المعروفة في لبنان ومصر تنشر مجموعاتنا الشعرية الجديدة من ضمن سلسلة تضم أبرز التجارب الشعرية العربية الشابة.

خامسًا: يُلاحظُ أننا عند منتصفِ الثمانينياتِ صرنا نستوعبُ أصواتَ الحداثةِ الشِّعريةِ الجديدةِ بزخمٍ أعلى من تجاربِ التفعيلةِ والعمود. حيث ظهرتْ أسماءٌ كثيرةٌ تكتبُ قصيدةَ النثرِ وتنشرُ إنتاجَها في الصحفِ والمجلاتِ، ومن بينها إبراهيم الملا، وعبدالله السبب، والهنوف محمد، ومسعود أمر الله، وعبدالله عبدالوهاب، وأحمد العسم ومها خالد وآخرين. كما ظهرتْ أيضًا تجاربُ إصدارِ النشراتِ الأدبيةِ الحرة مثل (أشلاء الأرانب القزحية) التي شارك فيها مرعي الحليان وعلي العندل، ونشرة (رماد) مع مسعود أمر الله التي تحولتْ لاحقًا إلى نشرة (رؤى)، حيثُ استقطبتْ في عددٍ منها الشاعرَ البحرينيَّ الكبيرَ قاسم حداد. وكان يتمُّ طبعُ هذه النشراتِ وتوزيعُها يدويًّا بين الأصدقاءِ من غيرِ ترخيصٍ رسمي.

سادسًا: شهدتِ الإماراتُ منذ الثمانينياتِ ظاهرةَ الكتابةِ باسمٍ مستعار، وبالأخصِّ الأسماءُ النسائيةُ من العائلاتِ المحافظةِ أو تلك التي تخشى مواجهةَ المجتمع. ورغمَ وجودِ هذه الظاهرةِ في الشِّعرِ الشعبيِّ مثل بنت البادية – قطوف – ريم البوادي وغيرها، إلا أنها في ظاهرةِ الحداثةِ تبدو غيرَ مألوفة. وأتمنى لو تكونَ هناكَ دراسةٌ مستفيضةٌ حولَ هذه الأسماءِ التي كانتْ تنشرُ القصصَ القصيرةَ والقصائدَ بأسماءٍ مستعارةٍ في الصفحاتِ الثقافيةِ لجرائدِ الاتحاد – الخليج – البيان وبعض المجلات، وربما كانتْ أسماءُ بعضِ الرجالِ أيضًا مستعارة.

سابعًا: ظلَّ النقدُ الأدبيُّ الموازي لتجربةِ الحداثةِ الشِّعريةِ متأخرًا عنها. حيثُ لم تكنْ هناك قراءاتٌ في التجربةِ الجديدةِ حتى منتصفِ الثمانينياتِ إلا فيما ندر، ثم من بعد ذلك بدأتْ مجلةُ شؤون أدبية تقدمُ بعضَ القراءاتِ الانطباعيةِ والتحليلية. ثم في بدايةِ التسعينياتِ صار بعضُ النقادِ العرب يقدمونَ قراءاتٍ صحفيةً للتجربة، إلى أنْ تطورَ الأمرُ لاحقًا إلى إصدارِ كتبٍ تقرأُ التجربةَ الشِّعريةَ ككل أو بعضها. لكنها في الأغلب تميلُ إلى الجانبِ الأكاديميِّ لغرضِ الدراسةِ الجامعية. أما ما اشتهرَ من هذه الدراساتِ فهو قليل، ولا يتجاوزُ 15 كتابًا كما أظن، كلها حاولتْ في مجلدٍ واحدٍ أنْ تقرأَ التجربةَ الشِّعريةَ في الإماراتِ على العمومِ ولم تخصصْ أو تركّزْ النظرَ في عمقِ علاماتِ التجديدِ على مستوى اللغةِ والصياغةِ وتكوينِ البنيةِ المعماريةِ للنصِّ الشِّعريِّ الجديد. وتحولاته الفكرية والفلسفية.

ملاحظة: ربما لم تتسع المقالة لاستيعاب جميع الأسماء الواردة في تلك المراحل الأولى، لكن الغرض هنا ليس تدوين وتوثيق التجارب كلها، بقدر ما هو سعيٌ لتقديم صورة مقربة لتجربة مهمة في تاريخ النهضة الثقافية على مستوى الشعر في دولة الإمارات العربية المتحدة.

ملامح الحداثة في شعر ابن سهل الأندلسي

حسين السلطان

شاعر/ العراق

يبدو أنَّ فهم العربي الفطري لفكرة الزمن كان متفوقًا متقدمًا على فهم غيرهم ، فقد ارتبط الزمن عند العرب بالفعل ارتباطًا حتميًا فلا يتحقق أحدهما بغير تحقق الآخر .

لذا فإنَّ الكلام عن الحداثة بوصفها زمنًا مجردًا لا يعبر عن الواقع بالدقة المطلوبة ، فالحداثة وعاء لفعل خاضع لظروف فنية واجتماعية تقدم بعض الاشتغالات الإبداعية على اشتغالات أخرى .

لا يمكن إنكار أنَّ مصطلح الحداثة مصطلح مرن لا يمكن تحديده بتعريف جامع مانع ، لكن المبدأ العام يشير إلى أنَّ الحداثة في الشعر هي إيجاد زوايا جديدة لم تطلها عين لينظر الشاعر إليها ويعبر عنها ويسقطها أحيانًا على فكرة أسمى أو ينظر إليها مستقلة فتكون رسالته اكتشاف أو ابتكار جمال جديد .

ولأنّ ما قدمناه يسير محفوفًا بظروف ثقافية وفنية متغيرة مع الزمن متطورة أو متدهورة ، فقد تبلورت صورة الحديث بشكل محدد يمثل التصوير الشعري الممتزج مع الرؤى الفنية للفنون المختلفة كالرسم والنحت فضلًا عن السرد ، ثم يتحقق التحديث بالتكثيف وإصابة التعبير قلبَ المعنى الذي يريده الشاعر مرة والقارئ مرة أخرى .

ولا يخفى تأثر الشعر الموزون ذي الشطرين بقواعد الأشكال الشعرية المستحدثة مثل قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر وقد أخذ منهما وأعطى فأُنتج شكلٌ مختلف في أغراضه وتعبيره وصياغته عن الشكل الموروث .

 وهنا يسأل السائل: إذا سلمنا بأن الحداثة تقدم شكلًا شعريًا ينتمي لعصره ويتأثر بالظروف الفنية والثقافية المحيطة به ، فما لابن سهل الأندلسي -وهو الذي عاش في القرن الثالث عشر الميلادي- وعصرنا وحداثتنا ؟

فيكون الجواب بالإشارة إلى ارتباط الزمن بالفعل فإذا قدم الفعل ملامح صورة تنتمي إلى غير زمنه فقد اخترق زمنه وعبر إلى زمن غيره ، وما أسهل أن يقال أن للجواهري قصائد جاهلية ، وفي مثالنا هذا نريد أن نقول أن لابن سهل قصائد أو أبياتًا على الأقل تنتمي إلى العصر الحديث .

 تحنُّ وتصبو كل عينٍ لحسنهِ                كأنَّ عيون الناسِ فيهِ قلوبُ

انظر معي إلى أثر هم من آثار الحداثة في الشطر الأول وهو تحريك الجمادات، إذ جعل العين فاعلًا حقًا لا فاعلا ينوب عن فاعل أو يشري إليه كما في التراث الأدبي كأن يقال رأت عيني أي رأيتُ .

ثم انظر إلى التشبيه في الشطر الثاني تجده تشبيهًا مبتكرًا يشبه به العين بالقلب الذي يحن ويصبو وهو بذلك عاد ليجعل القلب فاعلًا حقًا لا نائبًا عن صاحبه، وما الحداثة غير الابتكار ؟

خدٌّ جرى ماءُ النسيم بجَمْرِه           فاسودَّ مجرى الماء في الجَمَراتِ

كتَبَتْ حروفُ الشعرِ في وَجَناتِه      ما قد جَنَتْ عيناهُ في المُهُجاتِ

فترى ذنوبَ جُفونِه في خدِّه           يَبْدُو عليها رَونقُ الحَسناتِ

  من ملامح الحداثة بناء الوصف على الوصف ومزج المحسوس بالملموس وهو ما نسميه التركيب ، ونرى التراكيب المبتكرة فالوصف في أبياته التائية يصور للقارئ أثر الجهد على الموصوف إذ يسمي عرق الجهد ماءَ النسيم ويشير إلى كثرته وقد جرى على خده الأحمر المتوهج كالجمر فأطفأ من جمره ما أطفأ حتى صار بعض خده أسودًا ، وهو يفتخر بتعب الموصوف واسوداد وجناته ويزينه بشِعره ، ولا يكتفي بعد هذا بل يعود إلى نسبة الجمال لسواد جفونه ووجنتيه فيحمد سوادهما كما يُحمَد سواد الحسنة أو الخال.

دعوهُ يُذِبْ نفسي، ويهجر، ويجتهد           تَرَوْا كيف يعتزُّ الجمالُ ويَعْتَدِي

إذا ما رنا شَزرًا فمِن لحظِ أَحْوَر               وإن يَلْوِ إعراضًا فصفحةُ أَغْيَدِ

وعذَّبَ بالي نعَّمَ الله بالَه                         وسهَّدَنِي  لا ذاقَ بَلْوَى التَّسهُّدِ

يجد القارئ في هذه الأبيات وزنًا سرديًا يقربها إلى الحكاية فنرى ابن سهل يحركنا معه في دورة زمنية مبنية على مقدمة تكون علة نتعلق بها ثم حبكة من أحداث متتالية كلها في البيت الأول إلى أن يخلص إلى ناتج علة وغاية عرضها  ولا ينسى أن يغرس في قلب حكايته بيتًا من الشعر مبني على الشرط والنتيجة أيضًا برسم صورة صدود المحبوب الذي يرى صدوده صورة من صورة الجمال ، ثم يعود بنا إلى حكايته التي يسردها ويقف وقفة المفعول به الذي عُذب وسُهِّد وهو يرى عذابه وسهده نعيم وفضل من المحبوب الذي يدعو له بأن يسلم من العلل التى أصيب بها من فعله.

قد أكتفي بعرض هذه الأبيات التي احتوت ملامح مختلفة تظهر لنا الحداثة في غير عصرها وغير وعائها عند شاعر سبق عصر ونظر بأعين أحفاده وسبق إلى صور قد يكتبها شاعر اليوم ويظن أن لم يُسبق إليها فلا يلام ، ولا بدّض من الإشارة إلى أن ما وجدناه في شعر ابن سهل ليس حكرًا عليه بل قد نجده عند كثير من الشعراء في عصور مختلفة من عصور الأدب وبيئات متنوعة كذلك غير أني اخترت ابن سهل المنسي لنتجول معًا في تجربته الشعرية الفريدة التي استطاع بها اختراق الزمن قبل أن يعلم أنشتاين أن ذلك ممكن.

الشُّعراء الرُّحل | د. مراد القادري

د. مراد القادري

شاعر وباحث، رئيس بيت الشعر في المغرب.

مُنذُ فترةٍ غير قصيرة، شهِد الوسطُ الثقافي والأدبي العربي حَركةً لافتةً للنّظر، حتى لَيُمْكنُ أنْ نطلقَ عليها صِفة “الظاهِرة”، لأنها لم تَصْدُر عن فردٍ واحد، بل اقتفَى أثرَها عَددٌ من الأفراد، الذين اعتبرُوها سلوكًا عاديًا وضروريًا لبناءِ وضعِهم الأدبي وترتيبِ علاقتهم بذواتهم وبالآخر. أقصدُ بذلك ظاهرة ترحال الشُّعراء وهجرتهم الفرديّة والجماعيّة نحو الرواية.

تفاوتَتِ الرّدُود حول هذه الظاهرة، على أنَّ أغلبيتها نَحَت نحو استِـهجانـها، حيثُ اعتبرَتـها دليلاً وشهادةً تصدُرُ عن الشّعراء أنفسهم بانعِدام اليقين بالشّعروفُقْدانـهم الثّقة في ضرُورته وجَدْواه. 

ما سببُ هذه الهجرة؟ أهو ضِيقُ الشّعراء بالبيت الأوّل؛ البيت الذي خوَّل للعرب صِفة أمّة الشعر، البيت الذي ألِفَوا داخلَه ترتيبَ أبياتِ القصيد، ليصير ضاجًّا بالشّدْوِ والصّمت؟ أم أنّ الأمر لا يعدُو أنْ يكون رغبةً من الشّعراء في ارتياد أراضٍ جديدة، وانتحالِ هويّة نصّيّة مُغايرة، ومُصافحة ممارسةٍ إبداعية مختلفة قد تكونُ أقْدرَ على التّعبير عمّا فشل فيه الشّعر؟

 كيفما كان الجواب، فنحنُ أمام ظاهرةٍ لا يمكنُ نُكرانُها أو تجاهُلها، تعكسُ تراتبيةً يتخيّلُها البعضُ بين الشِّعر والرّواية، كأنّ بين الاثكة الشّعر، مُولِّين وجُوهَهم نحو الرّواية ومباهِـجِها الماديّة. 

يُديمُ هذا الصّنفُ من الشُّعراء التفكير في كيف يـُمكنُه أنْ يوظّفَ مُكتسباتِه الشِّعرية في صوْغٍ روائيٍّ وحِكائيٍّ، سواءٌ بالاغْـتـرافِ من سيرتِه الذاتية، أو بِاسترجاعِ يومياتِه ومُشاهداته الحياتيّة أو عبر توْظيفِ عناصر مقرُوئه المختلفة. المهمّ أنْ ينتسبَ إلى مملكة الرّواية، سيِّدة المقامات الأدبية. والأهمُّ هو أنْ تنجحَ روايتُه في بلُوغ اللائحة الطويلة أو القصيرة أو “المتوسّطة” لأيّ جائزة عربية أو عالمية، لتتوالى عقِب ذلك الحِوارات الصحفيّة، والكِتابات النّقدية والدّعوات لمعارض الكُتب شرقا وغربا.

من جهة أخرى، ثمّة شعراء عبروا من الشعر نحو الرواية دُون قرارٍ مُسبق، وبلا ترتيب سالف. عبورٌ لا واعٍ ومُنفلتٌ من التّصنيف، ومتملِّصٌ حتى من صفة الترحال، لأنّ هذا العبور يكفّ عن أن يكون هجرةً، مادام إقامةً في الشِّعر بصيغةٍ مُغايرة. بمـُوجِب هذا العبور، “انتقل” أصحابُه من الحالة الشّعرية إلى الحالة الرّوائية استجابةً لدعوةِ الكتابة ولا شيء غير الكـتابة، من دون أن يُغادروا مناطقهم الشعريّة. شُعراء غيرُ عابئين بالأسْلاك الشّائكة التي يتصوّرُها البعضُ قائمةً بين الأجناس الأدبية، فالكِتابة عندهم نـهـرٌ واحد، تتفرّعُ مجاريه وسواقيه، فيما يظلُّ منبعُه ومصبُّه واحدًا: إنّه الإبداعُ في اللحظة التي ينتصرُ فيها الأدبُ خارجَ منطقَ الأجناس. ضِمن هذه الخانة، يندرجُ عددٌ من الشُّعراء الذين استمرُّوا في ارتباطٍ عميقٍ بالشِّعر في كتابتهم السردية، مُحتفِظين برُوح الشّاعر داخلهم، مُلتصِقين في سردهم بالشّعْر، ورُوح الشّعْر، مُؤمنين بوحدة الكتابة، مُدركين، في ذات الوقت، للحدود الفاصلة بين الأجناس الأدبية، مُستفيدين من خِبرتهم في كِـتابة الشّعر في تقديم نصٍّ روائيّ له خصوصية جمالية وفنيّة. فالكتابة، عِند هذا الفريق، واحدةٌ، فيما التّعبيرات الفنيّة مُتنوّعة ومتباينة.

بهذا المعنى، تكونُ ظاهرة “تِرحال الشّعراء” متعدّدةَ الأسباب، ولا يمكنُ فهمُها إلا في ظلّ السياقات الثقافية والتدافُع الاجتماعي الذي يؤطّر المناخَ الأدبي في منطقتنا العربية، وباستحضار تبايُن النوايا التي تقف وراءها: نوايا بنفَسٍ جماليّ، وأخرى بنفَسٍ برغماتي. ولأنه لا يمكنُ لنا أنْ نُحاسبَ النوايا أو نُحاكمها، فإنّ مُحصّلة الكلام هو أنّ الحقل الأدبي العربي استفاد كثيرا من ظاهرنين خصومةً أو حربا، مالت كفّتـُها لصالح الرّواية. والحال أنّ نظرةً عابرة إلى حياتِنا الثقافية العربية تكفي لنكتشفَ أنَّ جَذْوَة الشعر ما زالت مُلتهبة، يصْعُبُ إخمادُها أو النَّيْلُ من شُعلتها. فعِلاوةً على وَفْرة الإنتاج الشّعري الذي تطالعُنا به يوميًّا دُور النّشر والمواقع الإليكترونية، ثمة ديناميّة ملحوظة نشهدُها، هنا وهناك، تتجسّدُ في انتظامِ مهرجانات الشّعر، وتواتُرِ الأماسي الشعرية بمختلف لغاتِ الكِتابة من فصيح ونبطي وشعبي، فضلًا عن ظهُورِ أصواتٍ شِعرية جديدة تتلمّسُ الانتسابَ إلى عالم القوْل المدهِش، لتُجدّدَ للشّعر رُوحَه وأنفاسَه وتُواصِلَ معه رحلة الحياة والإبداع. 

يبدُو لي أنّ ظاهرة “الشُّعراء الرُّحل” يجبُ أنْ ننظُر إليها تبعًا للخلفيات والنّوايا التي تُحركّ أصحابَها نحو خَوْضِ مُغامرة التِّرحال. فمن جهة، ثمة شُعراء هاجَروا من الشّعر إلى الرّواية عن سبْقِ إصرارٍ وترصّدٍ، بعد أنْ أغرتهم المكاسبُ التي باتت تحفُّ بالرّواية: لوائح طويلة، لوائح قصيرة، جوائز عريضة، مُواكبة نقدية وإعلامية، حقوق تأليف، عقود ترجمة، طلبيات معارض الكتُب، ارتفاع المبيعات…. كلّ ذلك حَفّز هؤلاء الشُّعراء على التّرحال من مملة عبور الشعراء نحو الكتابة السرديّة. عبورٌ يظلُّ حالة صحيّةً ومرغوبًا فيها، لأنها حقّقت التفاعل بين الأجناس الأدبية، وخاصّة بين الجنسين الأدبيين الأكثر استقطابا للكتابة: الشّعر والرواية، وهو ما يمكن رصدُه من خلال وجودِ روح الشّعر وصنعة الشاعر في عدد من الروايات العربية، حتى لتبدو كأنها مولودةٌ من رحم الشعر. 

* شاعر وباحث.

 رئيس بيت الشعر في المغرب.

الإِصغَاءُ للمُمكِنِ في الوَتَرِ المَقطُوعِ | موزة عبدالله العبدولي

موزة عبدالله العبدولي

 ناقدة من الإمارات

تطمحُ هذه المقالة الوقوف على صَدى الأصواتِ في نصِّ شاعرٍ أصم، حيثُ فَقدَ الشاعر السوريّ «رياض الصالح الحسين» (1954 – 1982) حاستي السمع والنطق وهو في الثالثة عشر من عمره إثر مرضٍ مفاجئ يُرجح أنه قصور كلويّ[1]، وظلَّ الشاعرُ يُواري مرضه عن الجَمع، مُرتاحاً في ظلاله الباردة، وناكراً علّته أمام العالم، يقول عنه الشاعر «منذر المصري»: “كان رياض يريد أن يكون صحيحاً، لا ينقصه شيء كالجميع، كامل أو شبه كامل كالجميع، وقابلاً لكل شيء، وأكثر من كل شيء”[2]، فاحتفظ الشاعرُ بذاكرة الصوت أو أشباحها، وظلَّ يستعيد الأغنيات بوصفها النغم المُستحيل.

       وأمام هذه الخزينة الصوتيَّة واللغويَّة، يتبينُ لأيّ قارئ في تجربة الشاعر: بساطة الألفاظ والصور والتراكيب ومحدوديَّة المُفردات، إذ تقوم قصائده على معجمهِ المُحاط بمهمومه، كنداءات الوَطن في ثوراته وحريَّاته، أو بكائهِ على هجرِ الحبيبة، ووحشة الوحدة، أو سخطه على قُبح العالم، ونستدلُّ بذلك أنّ الصُّم يمتازون بذخيرةٍ لغويَّة محدودة، وتتمركزُ ألفاظهم حول الملموس، وتظهر جملهم بشكلٍ أقصر وأقلّ تعقيداً[3]، وهذا الذي يتضح في تجربةِ الصالح، لكن معجمه يُعدُّ مُعجماً مُتطوراً ومُتشرّباً من التجربة الشعريَّة العربيَّة، وهو معجمٌ له حدوده اللغويَّة التي تعكس عالمه الشعريّ المسوَّر. في حين لا بُدَّ من آثارٍ تنعكس على تكوّن قصيدته بفعل الصمت الجبريّ الذي تعيشه ذاته الشاعرة، إذ يُفسر العالم الأنثروبولوجيّ «ديفيد لوبروتون» فجوة الصَّمت في قوله:”إنَّ عشيرة المعنى في شقها الأكبر عشيرة صوتيّة، وانفتاحٌ على صخب الحياة اليومية (..) الصممُ يُعدمُ بُعداً مُمكناً للواقع.”[4]

       يعبرُ الصوتُ جسورَ التواصلِ مع الذاتِ والعالمِ والذاكرة،  فتتمحورُ الأغنية في القصائد بوصفها الجوهر المفقود بعدَ جُرحِ الصَّمم، والحنين للصوتِ الجميلِ وطربهِ، لتجيء الأُغنيات في القصائد مؤسسةً جسرَ التواصلِ إلى عالم الأمس، أو حُلم الغد البعيد، وتظهر بوصفها الأمل والعلاج والسلام للحاضر البائس، يقول في ذلك:

“كنتُ أوزع الحب في القلوب
كما يوزعون الرصاص
كنتُ أنثر الأغاني في الطرق الجبلية
كما ينثرون الأنغام”[5]

       فالأغنيات هي مفردات الحب واللحظات السعيدة أمام بؤس الحروب ودمويتها، إذ يتضح أن أضداد الأغنية في معجم الشاعر هي الحروب وأسلحتها، وتتأكد هذه الثنائية في قوله للشاعر نزيه أبو عفش: “وإنك لكذلك / قريب كالحروب / وبعيد كالأغاني”[6]. لتخلق بذلك هذه المفردات هالتها الدلاليَّة كالسلب والإبادة والفناء (الحروب) والعطاء والنمو والديمومة (الأغاني). وقد ظلَّت مُفردة الأغنيات تظهر في القصائد محمّلةً بمعاني النور والأمل، وهي بكل أصدائها تُصارع القسوة والموت: 
“هل تذهبين إلى العشب؟
أم تذهبين إلى الحرب؟
كنا نسير وتثقبنا الطلقات
وكنا نسير نسير بدائرة قطرها ألف حزن
يداً بيد ونغني
يداً بيد ونموت”[7]

       إنَّ مشهد النهاية في الذهاب إلى الموتِ غناءً؛ يعكس صورةً من صور المُقاومةِ بسلاح الصوت الطروب، إذ تتحد في هذه النهاية المثاليَّة قوتان: قوة الموت وقوة الغناء. وتكمن الغرابة المُستمرَّة في استمساك الشاعر بسلاح الأغاني، السلاح الصوتيّ الذي لا يملك ذخائره، وهو يستمر بتوكيداته لهذا الحرمان من خلال تشبيه نفسه بقاعدة تُطلق الأغاني، يقول مخاطباً الحبيبة:

“ألا أبدو لكِ كقاعدة أرضية لإطلاق الأغاني على البشر فلماذا تنظرين إلي ببلاهة؟”[8]

       إن افترضنا أن أغنية الشاعر قصيدته، فهي قصيدة الأمل والحب التي تُضيء، ليكون هو الصوت الذي لا يستطيع قوله، لكنه يصل للبشرية جمعاء، وفي هذا التصوّر المثاليّ لما تخلقهُ الأغنياتُ من أثرٍ مُشرقٍ؛ تظهرُ في العديد من المشاهد بوصفها المهدئ والمُعالج، كقوله: “من سيغني لي أغنيةً في المساء لأنام / إذا وضعوا بين جفني صخرة مدبّبة؟”[9]، فتهويدات الطفولة – أو الحنين إلى تلك المرحلة الصوتيَّة – هي أقصى ما يرجوه المؤرَّق لإخماد أرقِهِ، لكنَّها أغنيات لا تصل، وسلوى يستحيل تحقيقها. في حين تلحُّ الأغنيات في معجمهِ، لتؤكّد معاني الأمان والحب والخير، فها هي يد الحبيبة التي تنطلق منها الأغنيات:

“لا تفتحي يدَكِ..لا تفتحي يدَكِ
فكلُّ أغاني العالم ستنطلقُ منها
لا تغلقي يدَكِ.. لا تغلقي يدَكِ
فكلُّ أغاني العالم ستلتجئ إليها”[10]

       إذ طالما ما ارتبطت اليد بالعطاء والاستقبال، وهي هنا في كلتا الحالتين تستقبلُ الأغنيات وتُطلِقها، تحتويها وفي الآن نفسهِ تمنحها الخَلاص، فقد صارت الأغنياتُ قرينة المُعجِزة، بكلِّ هذه المُستحيلات التي تنبثقُ من خلالها. وتصطفُّ الأغنيةُ بجانبِ النهر وصفائه، والنهار وبهائه، لتكون مكوّناً طبيعياً يُحسِّن من جودة الحياة، ويرتقي بالمرء إلى سَلامِه المأمول، يقول:
 “أمامي الكثير لأعطيه
وخلفي الكثير للمقابر
أمامي النهر ورائحة الصباح والأغاني”[11]
لكن هذه الأغنيات التي أصبحت رمزاً للجمال، يحلُّ بغيابها قَسوَة الوَحشة:
“فتحتُ النوافذ
لم يدخلها أحد
لا نهر، لا فراشة، لا أغنية تائهة”[12]

أو في قوله:
“لقد بدأنا نعرف ما معنى الزمن
عندما نعود إلى البيت وحيدين
متشابكي القلوب والأصابع
بدأنا نعرف ما تعني الصخور النائمة في البحر
الشمس النائمة في السماء
والأغاني النائمة في المقبرة”[13]
       وأمام سوداويَّة المعنى الذي يتحقق بغياب الأغنيات، نستجلي قيمة حضورها. فنوم الشمسِ يعني غياب الضوء، ونوم الأغنيات يعني غياب الأُنس والأَمان، وعلى الرغم من بساطةِ التشبيهات؛ إلا أنّ النصوص تصدحُ بمعاني فسيحة في وصفِ الحالة الوجوديَّة والإدراكيَّة للعالم ومكوناته، إذ أصبحت الأغنياتُ مادةً ملموسةً يتحققُ بها الوجود والمعنى.

       وعند فجوةِ الصَّمتِ الكبير، وافتقاد الشاعر لنغمة الأغنيات، تجيء قصائدهُ بِتكراراتٍ لافِتةٍ تولِّد إيقاعاً موسيقياً، يقول:
“السفر.. السفر.. السفر
هو ما أريد
الحرية.. الحرية.. الحرية
هي ما أطلب”[14]

       يجيء التكرارُ مُحمَّلاً بمدولاته الدلاليَّة، والصوتيَّة، فهو يُطالب، ويُشاكس ويَثور في سياقات مُختلفة، يقول: “بين يديك أيها العالم / أدور أدور أدور/ كدواليب الحظ”[15] وقوله: “أن أرقص وأرقص وأرقص / حتى تتعب الموسيقى”[16] ويجيء التكرارُ بوصفه إلحاحاً طفولياً: “ولكن قُل لي: هل تحبني؟ هل تحبني؟ هل تحبني؟”[17] أو كقوله مُخاطباً العالم: “وأقول تعال/ قبّلني قبّلني قبّلني/ قبّلني قبّلني قبّلني”[18]، ليخلق الشاعر بكلِّ هذه التكرارات الانفعاليَّة أغنيته التي يحلم بسماعها.

       وإن أعدنا التنقيب في بُعدِ الأغنياتِ في التجربةِ؛ سنجدها ممثلةً الحُلم المُستَحيل، الذي لشدَّةِ استحالتهِ تستمسكُ به النَّفسُ، وتعقِدُ عليه آمالها في السَّلام والحبِّ والشفاء والأُنس، إذ صارت الأغنياتُ – أو القصائد – هي مُعجِزة الشَّاعر الأصم، الذي يُبددُ كينونته الشعريَّة في نغمتها المُمكنة.

[1] إينانة الصالح، رياض الصالح الحسين وشِعريّة التفاصيل، مجلة العربي، الكويت، ع 699: https://alarabi.nccal.gov.kw/Home/Article/18971

[2] رياض الصالح الحسين، الأعمال الكاملة (1954 – 1982)، دار منشورات المتوسط، إيطاليا، ط2، 2021م، ص:8 (مقدمة الأعمال بقلم منذر المصري).

[3] يُنظر: تعليم الصم وضعاف السمع، جمال الخطيب، الشروق، الأردن، ط1، 2021م، ص:81

[4] دافيد لوبروطون، أنثروبولوجيا الحواس: العالم بمذاقات حسيّة، ترجمة: فريد الزاهي، المركز الثقافي للكتاب، الدار  البيضاء، المغرب، ط، 2020م، ص: 180

[5] الحسين، الأعمال الكاملة، ص: 87

[6] الأعمال الكاملة، ص: 125

[7] الأعمال الكاملة، ص:83

[8] الأعمال الكاملة، ص: 106

[9] الأعمال الكاملة، ص: 144

[10] الأعمال الكاملة، ص: 244

[11] الأعمال الكاملة، ص: 205

[12] الأعمال الكاملة، ص: 224

[13] الأعمال الكاملة، ص: 165

[14] الأعمال الكاملة، ص: 173

[15] الأعمال الكاملة، ص: 176

[16] الأعمال الكاملة، ص: 173

[17] الأعمال الكاملة، ص: 32

[18] الأعمال الكاملة، ص: 175

تاريخ الشعر الفصيح في الإمارات | إبراهيم الهاشمي

د. إبراهيم الهاشمي

 كاتب وشاعر من الإمارات

تعارف أغلب الباحثين والدارسين لتاريخ الشعر في الإمارات على أن أقدم ما وصلنا إلينا من الشعر الشعبي هو شعر الماجدي بن ظاهر، هذا بالنسبة للشعر الشعبي الذي حظي بالعديد من الدراسات والأبحاث التي تناولته وتناولت تاريخه وحقبه وفنياته وأنواعه، أما الشعر العربي الفصيح فحتى الآن لا زال الأمر غير واضح بشكل جلي، والدراسات أو الأبحاث في هذا الجانب لا تشفي الغليل، وتظهر مدى ما تعانيi المكتبة الإماراتية والعربية من شح وقصور فيما يتعلق بالدراسات المتخصصة في تاريخ الشعر العربي في الإمارات والذي لا يمكننا من تحديد دقيق وواضح وموثوق لأقدم النصوص التي يمكن الوصول إليها من الشعر الفصيح في الإمارات.

الدكتور أحمد أمين المدني يرحمه الله لم يذكر أي شيء يمكن أن يعتمد عليه في كتابه ” الشعر الشعبي في الإمارات العربية المتحدة نشأته وتطوره ” إذ خصصه بشكل كامل حول الشعر الشعبي بالرغم من تناوله في المقدمة بعض الملامح العامة حول الشعر والعوامل الجغرافية والاقتصادية والثقافية والسياسية والاجتماعية، إذ ركز على العوامل المؤثرة في الثقافة دون تفصيل للحياة الثقافية والشعرية، أما الباحث الشاعر أحمد راشد ثاني رحمه الله فتناول بتفصيل كبير ومتميز في دراسته ” الغير منشورة ” و التي كانت بعنوان ”  الشعر الفصيح في الإمارات من القرن 17 حتى العقود الأولى من القرن 20 ”  محاولاً  الوصول إلى أقدم ما قد يمكن الوصول إليه من خلال الوثائق والمخطوطات التي أستطاع الاطلاع على محتوها من قصائد فصيحة لشعراء الإمارات متناولاً بالدراسة  والعرض بعض المنظومات لشعراء قدامى من الامارات تعود للقرن السابع عشر حتى القرن العشرين، ذكر بعض الشعراء منهم محمد بن صالح المنتفقي ومحمد بن حسن المرزوقي وعلي بن محمد الشحي ومحمد بن حمود الشحي ويوسف بن رويسم ويعقوب الحاتمي وحماد بن سعيد و سالم بن عبدالله الكراني وغيرها من الأسماء التي اوردها لشعراء تلك الفترة الزمنية محاولاً في تلك الدراسة التي قد تكون الأكثر عمقاً في محاولة الوصول إلى اقدم ما يمكن الوصول إليه حول الشعر الفصيح في الإمارات، والشعراء الذين كتبوا باللغة العربية الفصحى، والجدير بالذكر أن الباحثة عائشة المهيري نشرت في مجلة الظفرة العدد السابع منها سنة 2007 قصيدة تحت عنوان تائية البستكي للشاعر عبدالرحيم البستكي نظمت سنة 1901 عثرت عليها في مخطوطة شعرية قديمة مؤرخة بتاريخ سنة 1921، وقد كشف الباحث ثاني بن عبدالله بن صقر المهيري في دراسة بحثية له أن الشيخ أبو فلاح محمد بن محمد بن علي الياسي مؤسس إمارة بني ياس في القرن العاشر الهجري الذي يوافق القرن السادس عشر للميلاد له قصائد بالفصحى كتبت بالشعر الهلالي القريب من الفصيح ويعتبر بذلك أقدم ما قد تم الوصول إليه من الشعر الفصيح في الإمارات.

الدراسات التي تناولت الشعر الفصيح في الإمارات قليلة بالرغم من مرور ما يزيد على 50 عاماً على تأسيس الدولة، ولا نجد حينما نبحث إلا بعض المقالات أو الدراسات القصيرة حول نتاج بعض الشعراء خصوصاً شعراء جماعة الحيرة الأدبية ، لا نستطيع أنكار دور مجموعة من الباحثين الذين اثروا الساحة بما كتبوه من أبحاث ومقالات ودراسات مثل عبدالغفار حسين وبلال البدور الذي بذل جهداً مميزاً في إصدار موسوعة شعراء الإمارات  التي صدر منها الجزء الأول حتى الآن والذي يتناول الشعر العامودي، ويوسف حطيني في كتابه ” الشعر الإماراتي ” والدكتور يوسف نوفل في كتابه ” شعراء دولة الإمارات العربية المتحدة دراسة وببليوجرافيا ” والدكتورة مريم الهاشمي في كتابها ” تطور الحركة الشعرية – جماعة الحيرة ” وأحمد محمد عبيد في كتابه ” الشعر الإماراتي   المعاصر ” والدكتور نزار أباظة في كتابه ” الاتجاهات الأساسية للشعر الحديث في دولة الإمارات والدكتور هيثم الخواجة في كتابه ” مدخل إلى قراءة القصيدة المعاصرة في الإمارات” وشاهين ذياب في كتابه ” الشعر الإماراتي الحديث – قراءة سيميائية ظاهراتية تأويلية في شعرية النص ” وغيرهم من الباحثين والدارسين، لكن هل يشفي ذلك الغليل، فيصل بنا إلى صورة واضحة لتاريخ الشعر الفصيح في الإمارات وبدايات القصيدة العامودية ومتى كانت انطلاقة شعر التفعيلة وعلى يد من من الشعراء؟ هل هو الدكتور أحمد أمين المدني أم الشيخ صقر بن سلطان القاسمي؟ وإرهاصات بدايات ظهور قصيدة النثر في الإمارات، وهل هناك ما يمكن تسميته وتقسيمه إلى أجيال شعرية، أم أن هناك تداخل يصعب معه وضع صورة واضحة للأجيال المتعاقبة من الشعراء سواءً ما قبل الإتحاد أو بعده.

الدراسات التي صدرت جهد مشكور لكنها لا تكفي لإعطاء صورة واقعية وحقيقية للشعر في الإمارات سواءً من ناحية المراحل الزمنية او المدارس الشعرية أو فنيات النص الشعري، إذ يدور جلها في فلك عام لم يصل لصلب وقالب وواقع الشعر المكتوب باللغة العربية الفصحى في الإمارات، قد يكون ذلك لندرة المخطوطات والوثائق وعدم الاهتمام بذلك التوثيق من جهة أخرى، وهنا لابد من دعوة كليات الآداب بالجامعات المختلفة في الإمارات إلى توجيه طلاب الدراسات العليا إلى تقديم دراسات تتناول كل ما يتعلق بالشعر الإماراتي الفصيح والاجتهاد في البحث بين سطور الوثائق والمخطوطات عن ما يمكن أن يشكل إضافة جديدة وحقيقية لتاريخ الشعر والثقافة في الإمارات.