شعر الأطفال | د. الضوي محمد الضوي

د. الضوي محمد الضوي

شاعر وأكاديمي مصري

أول ما يتبادر إلى الأذهان في موضوع شعر الأطفال، هو الأغاني التي درجنا على غنائها للأطفال في مختلف بيئاتنا العربية (بِعَدِّ الأغنية ضربًا من الشعر) فيطربون لها ويأنسون بها، ويطلبونها وإن لم يعرفوا لها معنى، إنما يؤنسهم منها إيقاعها، وهكذا نجد كل ما يطربون له وطربنا له ونحن في أعمارهم، من الأغاني الشعبية، أو الأناشيد التي درسناها في المدارس، ظاهر الإيقاع، مُطرِبًا، حتى يكاد يتفق كل المعنيين بشعر الأطفال، تأليفًا وتنظيرًا، على أن شعر الأطفال لا بد فيه من الانتظام الإيقاعي الجليّ، لكن هل يكون الشعر شعرًا بالإيقاع الصوتي وحده؟ وهل قبول الأطفال في بيئاتنا العربية لتلك الأغاني والأناشيد التي يكون بعضها بلا معنى واضح لهم، يجعلنا نظن أنه يكفي في شعر الأطفال أن ننظم لهم نشيدًا أو مقطعًا مُوَقَّعًا فهموا معناه أو لم يفهموه؟
إجابةً عن هذا السؤال يجب أن نشير إلى أن الشعر يستمد ماهيته –وفقًا للبنيويّ الفرنسي جون كوين- من واقع مغايرته للكلام اليومي، على مستويين: الصوت والمعنى، فمن جهة الصوت يتضمن الشعر نظامًا إيقاعيًا معينًا (هو الأوزان الشعرية) لا يتوفر هذا النظام للمحاورات اليومية (التي تمثل المستوى الأوَّلي أو القياسي من اللغة)، ومن جهة المعنى أو الدلالة يقوم الشعر على الحضور الكثيف للتخييل، وما تعلق به من قيم بلاغية متنوعة، تحضر في الشعر الحضور ذاته. وهي أمور لا تتوفَّر أيضًا للكلام اليومي.
وهذا يجعل الوظيفة الأساسية للغة في الشعر وظيفة جمالية تركِّز أولًا على بنية النص نفسه، لا على مُؤَدَّاه المعرفي، ذلك المُؤَدَّى الذي هو هدف اللغة في مستواها الأولي (المحاورات اليومية).
فإذا انتقلنا إلى شكل خاص من أشكال الشعر، وهو الشعر المقدم للأطفال، فباختلاف المتلقي (الطفل) عن المتلقي (الإنسان البالغ) يجب أن نعيد تعريف ماهية الشعر ودوره.
فمن جهة الماهية: نجد أن الشعر الموجه للأطفال لا ييبقى مرتكزًا إلى رافديّ الصوت والمعنى على النحو نفسه، فلا اختلاف بين شعر الكبار وشعر الأطفال على مستوى الصوت، إذ حبَّذا النص الموزون إيقاعيًا المقفَّى تقفية جلية إذا كان مقدَّمًا للأطفال (مع تواتر استعمال شعراء شعر الأطفال لبعض الأوزان والأنماط الإيقاعية الخفيفة السريعة التي تناسب الأطفال، كالأوزان البسيطة التي تتألف من تفعيلة واحدة تتكرر مثل بحور الكامل والرجز والرمل والمتقارب والمتدارك، ومجزوءات هذه البحور ومشطوراتها خاصة) لما بين الإيقاع ونفسية الطفل من تواؤم فطري واتساق نفسي وجمالي، إذ للطفل بنية جسمية تُؤْثِرُ الحركة والنشاط واللعب وهذا يُعَزِّزُه الإيقاع وترديد النصوص الموقَّعة، لكن على مستوى المعنى: لا يبقى الشعر مستمدًا شعريته من الحضور الكثيف للتخييل والقيم البلاغية المتعلقة به، إذ يجب أن يقل فيه ذلك التكثيف التخييلي، وأن يُهذَّب ما يرد في هذه النصوص منه تهذيبًا يجعله مناسبًا لوعي الطفل، من حيث طبيعة بناء الجملة التخييلية، وتكوينات ما يرد فيها من خيال مُركَّب، بحيث يبقى بسيطًا، ملائمًا لطبيعة المرحلة السِّنيَّة المقدم لها النص.
ومن جهة دور الشعر: ففي الوقت الذي يؤدي فيه الشعر عمومٍا دورًا جماليًا، يكون على شعر الأطفال أن يؤدي دورًا مزدوجًا، جماليًا ومعرفيًا في آن. لأن الشعر الموجّه للكبار شعر موجّه لشخص لا يبتغي المعرفة في النصوص الشعرية، بقدر ما يبتغي منها بناءها الجمالي، لكن الطفل يُتوسّل إلى نقل المعرفة له بوسائط عدّة منها الأدب الذي يندرج الشعر تحت مظلته.
إذ يجب لشعر الأطفال علاوة على البناء الجمالي أن يتوجه من جهة مضمونه صوب غاية معرفية، بل قد يغلب المضمون المعرفي على المؤدَّى الجمالي، مع مراعاة ألا ينحدر الصوغ الشعري إلى المستوى الإخباري للغة الكلام اليومي، ولا يتجرد ليتماهى مع الوظيفة الجمالية تماهيًا كاملًا يغفل البعد المعرفي والتعليمي للشعر الموجَّه للأطفال.
وبذلك يكون المضمون المعرفي أو التعليمي أصلًا في شعر الأطفال، من ذلك التعريف بالعالم بمختلف شؤونه ومكوناته مما يجهله الطفل وتضيف إليه معرفته أبعادًا معلوماتية وإدراكية جديدة، كتعريفه بالطبيعة المحيطة به، والمشاعر، والآخرين، وبتفاصيل الحياة البسيطة والمدهشة، لكن يجب أن يكون كل هذا مصوغًا جماليًّا على نحو يحول كل هذه المضامين المعرفية إلى لوحات تزخر بالجمال محققًا قدرًا من التوازن بين المعرفي والجمالي (هادي نعمان الهيتي: أدب الأطفال- فلسفته، فنونه، وسائطه، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1986م، ص209).
والشاعر إذ يكتب شعرًا للأطفال يجب وفقًا لتلك الغاية المعرفية أن يستحضر مجموعة من الأهداف يرجو أن يحققها نصه –بعضها أو كلها- منها ما يعمق صلة الطفل بمادة تكوين الأدب وهي اللغة، كإثراء حصيلته اللغوية من المفردات والتراكيب وإكسابه مهارات لغوية جديدة، ومن تلك الأهداف ما يعمق قدراته الذهنية والنفسية العامة، كتنمية قدرته على التخيل وعلى الحفظ، بالإضافة إلى تحفيز عواطفه المختلفة، وتخفيف التوترات النفسية، وإمداده بالمعلومات المتنوعة، والقيم النافعة والمقبولة مجتمعيًا من خلال بثها عبر النصوص الشعرية المقدمة له، كذلك توطيد صلة الطفل بالأدب بوصفه منتجًا جماليًّا، مما يرغِّب الطفل نفسيًّا في الجمال وتذوُّقه، فيصبح هذا أصيلًا في تكوينه النفسي والمعرفي (كامل علي: مدى تحقيق أدب الأطفال المتضمن في كتب لغتنا العربية للصفوف الأساسية الثلاثة الأولى في الأردن لأهداف هذا الأدب، بحث منشور بمجلة بحوث التربية النوعية- جامعة المنصورة- مصر، عدد (31) يوليو 2013م، ص80).

وإذا جئنا إلى الحديث عن تاريخ شعر الأطفال في الأدب العربي، فشعر الأطفال حديث نسبيًا في أدبنا، استقاه الشعراء العرب في القرن التاسع عشر من مطالعتهم للآداب الأوروبية خاصة كتاب (حكايات لافوتين) الذي ألفه الشاعر الفرنسي جان دي لافونتين.
فمن الطلائع الأولى لشعراء الأطفال العرب في مصر محمد عثمان جلال (1828-1898) وإبراهيم العرب (1863-1927)، وأحمد شوقي (1868-1932) ومحمد الهراوي (1885 – 1939) وفي الأقطار العربية الأخرى الشاعر العراقي معروف الرصافي (1877– 1945) والشاعر اللبناني جبران النحاس (1882-1954) وغيرهم.
فقد صدر لمحمد عثمان جلال (وهو الأسبق تاريخيًا)(6) كتاب (العيون اليواقظ في الأمثال والمواعظ) وهو ترجمة لمقطوعات شعرية لحكايات لافونتين، وقد قررت نظارة المعارف المصرية كتاب (العيون اليواقظ) على الناشئة في المدارس عام 1894م، كما قررت نظارة المعارف لإبراهيم عرب كتابه (آداب العرب) عام 1911، وهو كتاب يضم مقطوعات وأقاصيص وحكايات ومواعظ من الشعر للأطفال، وقد أصدر شوقي عام 1898 الطبعة الأولى من ديوانه الشوقيات متضمنًا عددًا من المقطوعات الشعرية الموجهة للأطفال متأثرا أيضًا بحكايات لافونتين الشعرية على لسان الحيوانات (أحمد نجيب: من بحث بعنوان “ريادة شعر الأطفال بين شوقي والهراوي” منشور في كتاب لمجموعة من المؤلفين بعنوان “حول شعر الأطفال”، الهيئة المصرية للكتاب، القاهرة 1989م، ص83 وما بعدها).
كما صدر لمحمد الهراوي –وهو أجودهم وأنضجهم شعرًا للأطفال- سلسلة «سمير الطفل» للبنين والبنات من منشورات لجنة التأليف والترجمة والنشر بمصر. والتي منها سمير الطفل للبنين، في ثلاثة أجزاء، وسمير الطفل للبنات في ثلاثة أجزاء، عام 1923. كذلك له كتاب في أغاني الأطفال مزود بالعلامات الموسيقية والصور الملونة بعنوان: «شمس الضحى» – صدر بالقاهرة عام 1938. كما راحت جماعة أبولو الأدبية في مصر تنشر في مجلتها الأدبية (التي صدرت بين عامي 1932 و1934) تحت باب “شعر الأطفال” قصائد لشعراء منهم الصاوي محمد شعلان وبركة محمد وعلي عبد العظيم وكامل كيلاني (هادي نعمان الهيتي: السابق، ص212).
ومن الشعراء العرب الذين كتبوا شعرًا للأطفال الشاعر العراقي معروف الرصافي (1877– 1945) الذي صدر ديوانه عام 1910م متضمنًا عددًا من القصائد الموجَّهة للأطفال، والشاعر اللبناني جبران النحاس (1882 -1954) الذي أصدر ديوان (تطريب العندليب) عام (1940) عن دار البصير بالإسكندرية بمصر، وفيه مختارات من تعريب حكايات لافونتين وغيرها. ومنهم أيضًا الشاعر السوري سليمان العيسى (1921-2013) الذي كتب عددًا كبيرًا من الدواوين الشعرية والمسرحيات الشعرية المقدمة للأطفال منها: ديوان الأطفال، صدر في دمشق عام 1969، والمستقبل (مسرحية شعرية للأطفال) / دمشق عام 1969. والنهر (مسرحية شعرية للأطفال) / دمشق 1969. وأناشيد للصغار / دمشق 1970، والصيف والطلائع (شعر للأطفال) / دمشق 1970، وغيرها.
ومن واقع ما تتبَّعناه من محاولات الرواد، فإن حكايات لافونتين التي كانت عبارة عن مقطوعات من الشعر القصصي على لسان الحيوانات، كان لها أثر بالغ في نشأة شعر الأطفال في الأدب العربي الحديث، إذ بدأت معالجة الشعراء لهذا الشعر ترجمةً لحكايات لافونتين، ومنه انطلق من جاءوا بعدهم في كتابة هذا الشعر، لعلَّ هذا يُفَسِّر لنا غلبة الشعر القصصي على النصوص الشعرية المقدمة للأطفال في أدبنا العربي الحديث، يُضاف إلى هذا السبب ميل الطفل عادةً إلى الاستماع إلى الحكايات وتتبع تناميها وحبكاتها ومفاجآتها، بالإضافة إلى ما يوفره الصوغ الشعري من إيقاع مطرب، وخيال مدهش، كل هذا يجعل الشعر القصصي هو الأقرب إلى وعي الطفل وتفضيله الجمالي، ومن ثم الأكثر شيوعًا فيما يكتبه شعراء شعر الأطفال العرب.
يُضاف إلى هذا أنواع أخرى من الشعر المقدم للأطفال، فشعر الأطفال قد يكون أغنية أو نشيدًا أو أوبريت أو استعراض غنائي أو مسرحية شعرية أو قصة غنائية، وغير ذلك من الأشكال الشعرية المختلفة (أحمد نجيب: أدب الأطفال علم وفن، دار الفكر العربي، القاهرة، 1991م، ص، ص150).
ولم يتوقف شعر الأطفال في أدبنا العربي الحديث عند الرواد، بل تتابعت أجيال كثيرة في مختلف ربوع وطننا العربي من الشعراء الذين يكتبون هذا اللون الشعري، من أمثال أحمد سويلم وأحمد فضل شبلول وأحمد بخيت (مصر) وفاضل جمال علي (فلسطين) وفارق سلّوم (العراق)، وغيرهم، وقد حفَّز استمرار هذه الأجيال في كتابة شعر الأطفال وجود دوريات مخصصة للكتابة للأطفال، مثل “العربي الصغير” تصدر في دولة الكويت، و”قطر الندى” تصدر في مصر، وغيرها، بالإضافة إلى انتشار المسابقات الأدبية المخصصة لهذا اللون في مختلف الدول العربية.
ختامًا؛ يجب لشعر الأطفال أن يكون متَّسِمًا بسماتٍ أساسية، منها: أن يتلاءم شعر الأطفال شكلًا ومضمونًا مع مستويات نمو الأطفال الأدبي والعقلي والعاطفي والاجتماعي، لأن لكل مرحلة من مراحل الطفولة ما يناسبها من الشعر، كذلك أن تكون لغة الشعر لغة عربية فصيحة بسيطة، وأن تتوفر فيه الجاذبية التي تدعو الأطفال إلى التعاطف مع إيقاعاته وأفكاره وما ينطوي عليه من الانفعالات، من خلال الحيوية التي يضيفها الشاعر، والصور الحسيَّة والذهنية التي يرسمها، والصيغ الطلبية كالاستفهام والنداء التي يدخلها، فتجعل الطفل أكثر انجذابًا، وأن تكشف كل مقطوعة شعرية فكرة أو جانبًا من جوانب الجمال في الحياة والطبيعة، وأن يتجنب شعر الأطفال العواطف والانفعالات الحادة كالحزن والقلق واليأس وما إلى ذلك (هادي نعمان الهيتي: السابق، ص216).

موريتانيا.. بلد المليون شاعر | داود جاه

داود جاه

شاعر وكاتب موريتاني

«ونحن رَكْبٌ من الأشرافِ مُنْتَظِمٌ
أجَلُّ ذا العصْرِ قدرًا دونَ أدنانا
قدِ اتَّخَذْنا ظُهورَ العِيسِ مدرسةً
بها نُبَيِّنُ دينَ الله تبيانا».

هذا المدخل النظميُّ الوَثَّاب ليس مجرد استنطاق فرديٍّ للمكنونات الشاعرة، وتداعياتها العاطفية التي قد تتوارى أحيانًا خلفَ صيغة جماعية في محاولة ماكرة للاختباء والمخاتلة ولِبْس أقنعةٍ لغويةٍ شهباء والانخراط في الزحام، بقدر ما هو اصطفافٌ علنيٌّ مع رغبةِ الجماعة، وتمثُّلاتِها عن الذات؛ الذات الموريتانية المهمومة برأي الآخر ونظرتهِ، والمنشغلة دومًا بالتقاط الأصداء وتنقيَتِها من الشوائبِ.
الموريتانيُّ -بطبيعة الحال- لا يرضى أن يكون أقلَّ حيّزًا من صحرائه الهائمة على وجهها، تلك التي تمتدُّ أبعدَ كلما تحدَّثَ عنها راعٍ، أو استدعاها مغتربٌ في إحدى لياليه الشاتية. وهذا سرُّ “دراعتنا” ومقاسها الكهنوتيّ الفضفاض، إنَّها ليست مجرد قماشٍ لستر العورة وتورية الجسد عن الملأ، بل هيَ موقفٌ راديكاليٌ من العُريْ وأزمنته القاحلة، وملامحه المُنكَّسة الشبيهة بالدُّودْ.
حتى الموائد التي نقدمها للأضياف، لا بد أن تكون عامرة زاخرة بكلِّ ما هو لذيذ وفائض عن الحاجة، لا ليأكلوا فحسب، بل ليظل الطعام إلى الأبد. هكذا نتعامل مع الأشياء من حولنا، نخيطها على مقاس صحرائنا، ونوَشّيها من أعماقِنا عاطفةً جيّاشةً، ولغةً مصفَّحةً هائلةً عصيَّةً على الاختراق، ولنا طريقتنا أيضًا في السهر والبكاء، وعندنا ضاربٌ يشدو فيطربنا: «يا دارَ هندٍ بذاتِ الجزعِ حُيِّيتِ».
الشيء الوحيد الذي فشلنا في التعامل معه هو الزمن. علاقتنا به سيئة لدرجة أننا في المحكيّ نقول بكلِّ مجانيَّة: أنا ذاهبٌ لقتل الوقت مع أصدقائي!
هذا الأمر مُتَقَبَّلٌ جدًا. لقد خطر ببالي ذات مرة أن أقول لزوجة نيكوس كَزَنْتزاكيس حين صرَّحَتْ بلُغَةٍ موجعة -في تقريره إلى غريكو- عن رغبته في النزول إلى الشارع لتَسَوُّلِ نصف ساعة من العابرين، ليُكْمِلَ المؤجَّل من أعماله.. أن أقول لها: كُنَّا سنعطيه أنصاف أعمارنا ونقتل الباقي مع الأصدقاء. أو بالأحرى أن أقول ذلك لذائقتي، التي تنهنهتْ مرارًا وهي تتحسَّسُ مواجع أرملةِ كاتبِ رواية “زوربا” عبر مذكراته العجيبة.
فجأةً شعرتُ بمهمازٍ لغويٍّ وخَّازٍ يُنَبِّهُني إلى زمنٍ آخر استعضنا به عن البُعد الرابع، وهو الشعر. الشعر هو زمنُنا الاعتياديُّ والمُتَنَفَّسُ الوحيد في ذلك العالم المكشوف على غرائبيةٍ سادرةٍ في الشجنِ والحنين. حتى تلك المسكينة حين مات عشيقها قالت شعرًا من شطرين فقط:
“سَعْدَكْ يالقبِر
رايح لكْ أحمد معطَّر”.
يا لَحَظِّكَ أيها القبر، الليلةَ ينزلك أحمد بعطرهِ الأخَّاذ!
لم يكن مسموحًا لها بقول أكثر من ذلك، فالمرأة عندنا -خاصةً في ذلك الزمن- لا تملك الحق في أكثر من شطرين، وهذا النمط الشعريّ اسمه “التبراع”، وهو خاصٌ بالنساء فقط. ولم يكن لائقًا بها التصريح باسم معشوقِها، لكنَّها فعلتْ خروجًا على المعتاد، وانسلاخًا من الأعراف وما تُمليه الوصاية على النساء.
لكن متى بدأنا نقول الشعر؟!
هذا السؤال مباغت، فلا أحد يعرف متى وصل الشِعر إلى الدنيا، ولا أين ولِدَ أول شاعر، ولا كيف مات. كل ما نعرفه أننا في موريتانيا عرفنا الشعر منذ سنواتٍ بعيدة على يد ولد الرازكة المتوفَى عام 1731. وعرفنا لقب “المليون شاعر” عام 1967، وذلك حين زارت مجلة «العربي الكويتية» البلد لكتابة تقرير عن الحالة الوطنية الناشئة آنذاك، أي بعد مرور سبع سنوات على استقلالنا وتحوُّلنا من شنقيط إلى جمهورية إسلامية تضمُّ إثنيّاتٍ شتَّى وثقافات متنوعة، تمتد من النهر إلى الصحراء الفسيحة.
والدافع إلى إطلاق هذا اللقب التدليليِّ هو انبهار وفد المجلة، من هذا التدفق اللفظيِّ الموزون وهذا التلقي الجماعيّ للشعرِ، فحتى رُعاة الإبل يُفسِحون أرواحَهم قصائدَ لتزجية الوقتِ، وملامسة الأشجار في أصدائهم المبحوحة، ولياليهم المرتجلة الوحيدة، الغارقة المَهبَ، وهنا أقصد بالشعر (الكلام الموزون المُقَفَّى الدَّالّ على معنى)، فالموريتانيون ينظِمون كلَّ شيءٍ، حتى العلوم الشرعية والمتون الفقهية والنحو والصرف تجدها منظومة ومُقفَّاة. وهذه الذاكرة النظمية تتحكم في الذائقة الجماعية التي لم تتصالح بعدُ مع النصوص المفككة غير العمودية؛ نصوص التفعيلة والنثر.
لا زالت الذائقة الموريتانية تتعامل مع التفعيلة بسخريةٍ بالغةٍ، وتعتبرها مجردَ انفصامٍ ذهنيٍّ وتهريجٍ مبالغٍ فيه يستدعي الضحك والتنكيت. كلُّ نَصٍّ غير مجَعَّدٍ وشاحب الملامح وغير طلليٍّ هو فشلٌ فادحٌ وسرطانٌ يدبُّ في المجد العربيّ التليد.
«إذا الشِّعْرُ لم يَهْززكَ عند سماعِهِ
فليسَ حَريًّا أنْ يُقالَ لهُ: شِعْرُ».
وهذا لا يعني أنَّ استثناءاتٍ مباغتةً، لم تَطَلْ المشهد الشعريّ هناكَ، ففي بداية القرن التاسع عشر برز صوتٌ شعريٌ ناشزٌ عن السائد والعموميّ، مُحاوِلًا شَقَّ طريقٍ بعيدٍ عن المتناول والمكرور من تجارب الأسلاف، لكنَّهُ صوتٌ خديجٌ لم يستمر، صرخ مرةً واحدةً ثمَّ سكَتَ بعدها إلى الأبد، أيْ أنه لم يُضِفْ غير تلكَ الاستجدائية الشعرية، التي تعتبر الملمح الحداثيّ الأول في القصيدة الموريتانية:
«يا معشَرَ البُلَغَاءِ هل مِنْ لَوذعيْ
يُهْدِي حِجاهُ لمقصدٍ لم يُبدعِ
إنِّي هَمَمْتُ بأنْ أقولَ قصيدةً
بِكرًا فأعياني وجودُ المطلعِ».
هذا الصوت الكلاسيكيّ هو سيدي محمد بن الشيخ سيديا، الذي يعتبر الداعي الأول إلى خلع اللُبسِ اللغويّ المتقشف، والتزيّي بمطلع جديد ناعمٍ، لا يبكي طللًا، ولا يقتاتُ على جثثِ النصوصِ السالفة. بعده انقطع النداء الذي لم يستمرّ طويلًا، لأنَّه غير مبنيٍّ على موقف جذريٍّ من الكِلس، والمعلَّقات، بقدر ما هو صيحةٌ فطريَّةٌ ومزاجٌ مؤقت.
ثم استمر الحال على ما هو عليه، حتى برزت أصوات شعرية في القرن العشرين، بمزاج مختلف، وتأوُّهاتٍ حالمةٍ، ولغةٍ ملساء جديدة على الفضاء هناك. من ضمن هذه الأصوات الشاعر أحمد ولد عبد القادر، المولود عام 1941 والذي مخَرَت سفينته عباب ذلك البحر الشعريّ الهائج، مُعْلِنًا عن رحابةِ الفنِّ وسعَتِه المدهشة بنصِّه “السفين” المقرر في المنهج الدراسيّ للصف السابع:
“رحلنا كما كان آباؤنا يرحلون..
وها نحن نُبْحِر،‏
كما كان أجدادُنا يُبْحِرون..‏
تقول لنا ضاربة الرمل:‏
– واعجبا..‏
سفينتكم رفعت كل المراسي…”.
مع ذلك لم ينكشف على الشأن المَحليّ بعمق، بل ظلَّ طافيًا على السطح، منشغلًا بالقضايا القومية، والنزعة العروبية خارج الجغرافيا الموريتانية، وبمقدوري الجزم أنّ الصوت الشِعريّ الخلَّاق، الذي حلَّق بالقصيدة الموريتانية بعيدًا، وبيَّأها مع الواقع بما تقتضيه المرحلة آنذاك؛ هو الشاعر والناقد محمد ولد عبدي 1964-2014 الذي قضى نصف عمره في الإمارات العربية المتحدة، متنقلًا بينها. هذا الرجل لم يكتفِ بكتابة الشعر فحسب، بل ذهب أبعد من ذلك، لقد استعاد الشخوص التاريخية من ركامِ الماضي، واحتفى بالمفردات الشعبية، وانفَتَحَ على مناطق إبداعية في قصيدة التفعيلة غير مطروقة في الفضاء العربي عامةً والفضاء الموريتاني على وجه الخصوص. كان يقدم نفسه كرابع ثلاثة رموز شعبية استدعاها من التراث الموريتاني العتيق: محمد ولد الطلبة اليعقوبي، ومحمود مسومة، ومحمد ولد أمسيكه).
لم يقتصر التجريب عليه -يقينًا- رغم إسهاماته الجبّارة، فقد ظلتْ أصوات أخرى تتسلل إلى المشهد، وتراوغ الذائقة بنصوص تنتمي لليوميّ بتفاصيله المتناقضة، منها ما استمرَّ ومنها ما تلاشى وهم الأكثرية، فقد فرقتهم الحياة، ووزعتهم على أمزجتها المتقلبة. أقصدُ أنَّ أنديةً أدبيةً تفكَّكتْ رغم الضجة التي أحدثتها في السنوات الأخيرة، والقيمة الفنية التي أضافتها، والنص الحداثيّ الذي مكَّنَتْهُ من صعود المنابر، ومنها: نادي القصيد الموريتاني ونادي دهشة. هذان الناديان ضمَّا خلال السنوات العشر الماضية أبرز الأسماء الشعرية الشبابيّة التي انفردت عن الكورالْ الجماعيّ بقصائد ذات طابع محليّ، تُحاور العالم بسمتٍ موريتانيٍّ ولغةٍ عالمة، رغم ضآلة حظِّها من الإعلام.
والحق أن الناديينِ لم يعد لهما حضورٌ في المشهد، لكنَّ أفرادًا من المؤسِّسين لا زالوا متشبِّثين بذواتهم الشاعرة ومشروعاتهم الإبداعية الفذَّة، أذكر منهم: الشيخ نوح، مولاي علي الحسن، جكيتى الشيخ سك، محمد المأمون محمد، محمد ولد أدومو، عثمان بون عمر لي، والخليل محمد).
أما عن الأصوات النسائية، فليس ثمة الكثير لذِكْرِه، فلا زالت تتربع على العرش منذ تسعينيات القرن الماضي الدكتورة مباركة بنت البراء. ويمكن القول، إنَّ أصواتًا هامسةً ولجتْ النصَّ النسائيّ ثم اختفتْ لأسباب اجتماعية تمانع حضور المرأة في المنابر الثقافية، والشعر على وجه التحديد، لأنه في الذهنية المحليَّة ينقص من أنوثة المرأة ويدفعها إلى الاستفحال والخشونة: “الشعراء ماسخين” هكذا يقولون باللهجة الحسّانية، وينبغي استثناء السالكة بنت المخطار التي توارت عن المشهد برغبةٍ منها لتتفرغ لمشروعات حياتية أخرى، رغم سعة صدر محيطها.
أما عن النقد فلم يستطع مواكبة القصيدة الموريتانية لأسباب اجتماعية بحتة، ومخاوف سلالية تتهرب من استياء الحاضنة والجهة. كلُّ شاعر هناك يمثِّل جهته، أو حاضنته الاجتماعية، وكلُّ نقدٍ موجَّه لشاعر هو سهمٌ يخترق جسد الحاضنة؛ قبيلةً كانت أم جهةً.
وهذا هو سرُّ الاحتشاد والتصويت المكثف في المسابقات التلفزيونية -أمير الشعراء على سبيل المثال-
لأن اللقب ليس للشاعر، ولا لموريتانيا، بل لتاريخ الأسلاف وأمجادهم التليدة: “هي الأرضُ شعبٌ، هو الشعبُ أرضٌ، هما الشعر…!”.

جوائز الشعراء .. بين قُبَّة النابغة واستديوهات الفضائيات | عماد بابكر

عماد بابكر

شاعر وكاتب سوداني

نظّمت دارة الشعر العربي بالفجيرة جلسةً أدبيةً بعنوان “قيم وشيم في أشعار العرب”، في مقر بيت الفلسفة بالإمارة.

واستضافت الجلسة الدكتور فيصل الشهراني باحث وأكاديمي من المملكة العربية السعودية، والدكتورة مريم الهاشمي ناقدة وأكاديمية من دولة الإمارات، حيث سلطت الجلسة الضوء على القيم ومكارم الأخلاق التي عُرف بها العرب وتجسّدت في أجمل قصائد الشعراء عبر العصور.

واستعرضت الجلسة القصص التي وردت في التراث العربي ودواوين العرب عن القيم الأصيلة والأخلاق الكريمة التي شكّلت مظهرًا هامًّا من مظاهر الحياة الاجتماعية اليومية وارتبطت بقصائد الشعراء وحكايات العرب.

حضر الجلسة جمع من الشعراء والأدباء والمهتمين.

“لك مئة ألف درهم”.. لك أن تتصوَّر كم مجلسًا لأمير أو خليفة انفَضَّ بأُعطيات للشعراء، لكن هذا المشهد سبقته تجارب كثيرة عجمت عود الشاعر وصقلت موهبته، وقد يُخالطه عرضُ شِعْرِه على أهل اللغة والذائقة، ثم يُصلِح من شأن عباءته مثلما يُصْلِح الآن شاعرٌ ربطةَ عنقِهِ وبدلته في انتظار أن يدعوه المذيع لمسرح التتويج في ختام سباق طويل.

الجائزة

      شكَّلت الجوائز الأدبية ملمحًا لافتًا من ملامح هذا العصر، فما من مدينة من الحواضر المهتمة بالفعل الثقافي إلا ولها جائزة أو جوائز، تختلف آليات عملها وضروب اهتمامها، كما تختلف قيمها المالية والأدبية، وتستحوذ الجوائز الشعرية في العالم العربي على اهتمام ورعاية ومتابعة لأخبارها ولمجريات التسابق والمُتَوَّجين بها نهاية الأمر. وهذا أمرٌ مفهومٌ ومتوقعٌ للعارف بأثر هذه الجوائز على الشعر والشعراء، ولمكانة الشعر في الثقافة العربية.

      يقول ابن منظور في «لسان العرب» في باب الجيم:” الجائزة: العطية” مُورِدًا عددًا من الأقوال، ورادًّا الكلمة لأكثر من أصل، وهي في حاضرنا لا تبعد عن الأصل المعجمي وإنْ تطورت الدلالة تطورَ الحياة وتَغَيُّرَها. ويذهب الكثير من أهل الأدب إلى كون الجوائز تطورًا طبيعيًا اقتضته حركة الأيام للأعطيات التي يبذلها الممدوح للشاعر في الماضي، ولئن كان المشهد الختامي عطاءً تتحدث به الناس؛ فلقد جاز الشاعر المادح مراحل سابقة من منافسة بين الشعراء، ومحاولات متكررة لصناعة اسمه، ذلك الاسم الذي سيرفع اسمًا آخر بمدحه، فيبقى الاسمُ وصاحِبُه قد فارق. ومن مشهور ما يدلُّ على ذلك ما كان بين سيدنا عُمَر بن الخطاب وابنة هَرِم بن سِنان وقد وفدت عليه في خلافته، فقال لها: “ما الذي أعطى أبوكِ زهيرًا حتى قابلَهُ من المديح بما قد سار فيه؟”، فقالت: ما أعطى هرِمُ زهيرًا قد نُسي!”، فقال: “ولكنَّ ما أعطاكم زهير لا يُنْسَى”.

 

زهرات مختلفات

             أعلى سيدنا عمر في مقالته لابنة هرِم بن سِنان من دور الكلمة وقدر الشاعر، وكان رضي الله عنه مقدِّمًا لزهير في الشعراء، ولقد مدح زهير هرِمَ بن سنان فأجاد، وأعطى هَرِم لزهير فأغدق، وكان كل واحد منهما للآخر معينًا، وكان كلاهما بصاحبه جديرًا، ثم ها هو صاحب “البُرْدَة” الإمام شرف الدين البوصيري يجمعهما في شطرٍ واحدٍ:

وَلَمْ أُرِدْ زَهْرَةَ الدُّنْيَا الَّتيِ اقْتَطَفَتْ
يَدَا زُهَيْرٍ بِمَا أَثْنَى عَلَى هَرِمِ

    إن البوصيري يريد مثوبةَ قصيدته في آخرته، كما صرَّح في البيت ذاكرًا ما نالَهُ زهير من أعطيات هَرِم (زهرة الدنيا)، البوصيري يرى زهيرًا قد نال نظيرَ قصيدِه، وسيدنا عمر يقول: “ولكن ما أعطاكم زهير لا يُنسَى”، ولقد أخذ هذا وأخذ ذاك، وأعطى هذا وأعطى ذاك، في علاقةٍ تبادليةٍ الشاهدُ فيها هاهنا خبر معين، وفي أخبار العرب الكثير مما يصلح الاستشهاد به فيما كان من تبادل الفائدة بين المادحين والممدوحين، وهي كذلك سارية اليوم فيما تقوم به الجوائز.

      وليست زهرات الدنيا (الجوائز) مالًا يأخذه الحاصل عليها فحسب، وإنما فيها الإضافة الأدبية والقوة الدافعة للشاعر في سماء الشهرة والنجوميةـ فالفوز بجائزة ذات قيمة يسلط الضوء على الشاعر ويفتح الباب أمامه للمشاركة في كبير المهرجانات، وسرعان ما تجعله مطلوبًا في أمسيات الشعر، وتلفت نظر النقاد والمهتمين إليه، وجمهور الشعر ومحبيه في الوقت ذاته، وعلى الضفة الأخرى تمنح الجائزة مانحَها سمعةً حسنةً، وقوةً ناعمةً يُعْتَدُّ بها في موازين الدول الحديثة، خاصةً إنْ هو أخذ الأمرَ بحقِّه، وأحسن إدارته ولم يُفَرِّط فيما هو فنيّ، واستطاع أن يجمع بين القيمة المالية والثقل الفني.

 

صكُّ الدخول

         لعل من أهم شروط الثِّقَل الفني أن يكون الناظر في القصيدة (لجان التحكيم) من أهل المعرفة والتخصص والنظر الثاقب، ولا ترتفع قيمة الجائزة الفنية إلا بمثل هؤلاء، وحسب الشاعر في زمانٍ مضى أن يستحسن شِعرَه المُقَدَّمون في الشعر والمعتدُّ برأيهم فيه، مثلما كان الشعراء يأملون في الخروج من خيمة النابغة الذبياني بقولٍ منه يُعلي من شأنهم. ولقد كان إنشاد الشعر في مجالس العِليَة الممدوحة شهادةً في حدِّ ذاتِه على قدرة الشاعر وعلو مكانته، فالمورِد العَذْب كثيرُ الزحام، كما أن هؤلاء ذاتهم إن لم يكونوا شعراء فهم بالشعر عارفون، ومن ذلك خبرُ حسَّان بن ثابت  الذي يرويه عندما أتى جبلةَ بن الْأَيْهَم الغسّاني وجلس بَين يديْه، وعن يمينه رجلٌ لَهُ ضفيرتان وَعَن يسَاره رجلٌ لا يعرفه حسان، فقال جبلة: أتعرف هذَيْن؟ -وكانا النَّابغة الذبيانيّ وعلقمة بن عبدة- فإِن شِئْت استنشدتَهُما وسمعتَ منهما ثمَّ إن شِئت أن تُنْشِد بعدهمَا أنشدْتَ، وإِن شئْتَ أن تسكتَ سكتَّ!

فأنشد النَّابِغَة: 

كِليني لِهَمٍّ يا أُمَيْمَةُ ناصِبِ … وليلٍ أُقاسِيهِ بَطيء الْكَوَاكِبِ

قال حسان: فَذهب نصفي.

 ثمَّ قَالَ جبلة لعلقمة: أنْشِد.. فَأَنْشدَ

طحا بك قلبٌ فِي الحسان طروب … بُعَيْد الشّبابِ عَصْرَ حَانَ مشيبُ

فَيقول حسان فذهب نصفي الآخر، فَقَالَ لي: أَنْت أعلم الْآن إِنْ شِئْتَ سَكَتَّ وَإِنْ شِئْتَ أنشدتَ.

فتشدَّد حسانُ وأنشد، وأُعطيَ ثلاثمئة دينار، وكُسيَ… والخبرُ طويل.

ولكم كانت مجالس الأمراء والخلفاء مجالسًا لأهل اللغة والعلم والشعراء، لا يُنْشِدُ فيها إلا من اختُبِرَ، ولا يجلس فيها من الشعراء إلا مَنْ لانَ له الشِّعْرُ وأذْعَنَ.

 

بوصلة

      مع طبيعة المجالس المعمورة بالعلماء وأهل اللغة، بدأت تتحدَّد مسارات العبور لكسب الأعطيات (الجوائز) والتي تمرُّ عبر بوابة أهل اللغة والأدب وما صاغوه من ذائقة جمعية تشمل الممدوح فيمن تشمل، الأمر الذي شكَّل ضغطًا جديدًا على الشاعر، فإمَّا أن تكون متجاوِزًا كالمتنبي الذي يجعل الآخرين في ركابه، أو أن تكون قصيدتك موائِمَةً لصانعي هذه الذائقة. في كتابه «تاريخ الأدب العربي» يتحدث العلّامة شوقي ضيف عن العصر العباسي وما شكَّل من ذائقة: “أصبح اللغويون سدنةَ الشعر فى هذا العصر وحُرَّاسَه، فمن نوَّهوا به طار اسمه، ومن لوَّحوا فى وجهه خمل وغدا نسيًا منسيًّا. ويلقانا كثيرٌ من الشعراء يَعرضون عليهم أشعارهم قبل إنشادها فى المحافل العظام، فإنْ استحسنوها مضوا فأنشدوها، وإنْ لم يستحسِنوها ذهبوا يُعاودون الكَرَّة بصُنع قصائد جديدة آمِلين أن تظفر باستحسانهم”، ثم يُورِدُ شواهدَ وبعضَ أخبارِ مَنْ عرَضَ قصيدَهُ من الشعراء على أهل اللغة. وبذا تكون الأعطيات قد حدَّدَتْ ذائقةً معينةً، وقبلها أغراضًا بعينها من قبيل: (المدح، الهجاء، الرثاء) ويكون فَلَكُها الممدوح، وهذا ما جعل شاعرًا مثل ذي الرِّمَة لا يُؤبَهُ له رغم استحسان معاصريه لشِعْرِه، وقد سأل ذي الرِّمَة الفرزدق: “كيف تسمع يا أبا فراس؟!”، قال: “أسمع حسنًا”. قال: “فما لي لا أعَدُّ في الفحول من الشعراء؟!”. قال: “يمْنَعُكَ من ذلك ويُباعِدُكَ ذِكْرُكَ الأبعار وبكاؤك الديار”.

   ثم لما استعجم الأمراء وجهِلوا الشعر، بارت تجارة الشعراء، فترك الشعرَ بعضُهم، وانصرف بعضٌ إلى أغراض أخرى، يقول العلّامة عبد الله الطيب في كتابه البديع «المرشد» في حديثه عن قصيدة المدح “لما كسدت أخذ الشعراء في مسالك من النظم كالمقامات والألغاز والأوصاف البديعية الزخارف، حتى نهضت قصيدة المدح النبوي فكانت هي سيدة مجال الشعر”.

أخذٌ وعطاء

لئن تكن الجوائز حدَّدت بوصلة الاتجاه الغالب للشعر في غالب الأوقات، وجعلت من تياره مارًّا بقنوات معينة، المتماهون معها أكثر من المتمردين عليها، فلقد جعلت الشعر مطلوبًا، والشعراء وأخبارهم محلَّ اهتمام، حتى ارتبطت القيمة الفنية للشعر -بدرجة ملحوظة- بما يناله الشعراء، وكذا تفعل الجوائز الآن.

السباحة والغوص (في علاقة الشعر بالسينما) | عبيد عباس

عبيد عباس

شاعر وكاتب مصري

   يقول ألفريد هيتشكوك، المخرج والمنتِج البريطاني الشهير: “إن السينما هي الواقع بعد أن ننزع عنه المُمِلّ”، أي أنها المختلف المدهش من الواقع. ولأنني مؤمِنٌّ أنّ الشعر -مع اتفاقي مع لويس بورخيس في أنه (يُعْرَف ولا يُعرَّف)- هو الكلام الجميل المختلف، فكأنهما؛ أي السينما والشعر، بارتفاعهما عن العاديّ المُتوقَّع، يجتمعان في منطقة خاصة من الجمال المدهش المختلف يمكن أنْ نُسَمِّيها “سينما شعرية” أو “قصيدة سينمائية”.

غير أنني، وأنا أقول هذا الكلام، لا بد أن أضع بين قوسين ملاحظتين مهمتين؛ الأولى أنني لا أعتقد في القول بتداخُل الأجناس، لأن التداخل ذاته من طبيعة أيّ جنس أدبي أو فني، فلا وجود للقصيدة “الخام” التي تخلو تمامًا من السرد أو الصورة أو الدراما، كما لا توجد سينما “خام” خالية تمامًا مما يُمَيِّز القصة أو الشعر أو المسرح؛ وعليه فإن كلامنا عن علاقة الشعر بالسينما أو العكس سيكون في حدود أدوات هذا الفن، الشعر كشعر والسينما كسينما، فلا تخلو السينما من الشعرية ولا يخلو الشعر من الصورة، وكأن كلًّا منهما بالنسبة للآخر كالجبل بالنسبة للوادي، فلا نسمِّي الأرض المنبسطة واديًا من دون وجود جبل مجاور، أو كأن كلًّا منهما يمثل الروح للآخر، ولو جاز لنا أن نُشَبِّه السينما في سيْرِها السردي الطبيعي بالسباحة مع أو ضد الواقع الموضوعي، فإنَّ الشِّعر يُشبه الغَوْصَ فيه، ولذلك فإن السينما الشعرية تكون أعمق في سيرها من السينما في شكلها التقليدي كناقلٍ للواقع.

   الملاحظة الثانية هي أنني عندما أتحدَّثُ عن علاقة الشعر بالسينما، أو العكس، فلا أقصد القصيدة أو الجزء من القصيدة الذي يصْلُح أن يتحوَّلَ إلى سينما، ولا المشهد السينمائي الذي يمكن ترجمتُه شعرًا، ولكنني أقصد هذه المنطقة الجمالية التي تعلو على الكلام والصورة، تعلو لتجمعهما معًا في خلق الدهشة واللذة داخل المُتلقِّي. في هذه المنطقة يرتفع الشعر عن الكلام الخبري، وترتفع الصورة عن مجرد نقل الواقع، لإعطاء دلالات جديدة نابعةٍ من روح الفنان ومخاطبةٍ روح المتلقي، وأقول روحه لا عقله؛ لأنها غير مُتَعلِّقَة بالصواب والخطأ ولا بـ”يجب ولا يجب”، ولكن بالجمال المحض، لينتُجَ عنه -بعد إنتاج اللذة والدهشة وترقية الذوق وهذا هو الأساس- تفجيرُ الأسئلة التي تُحَرِّك الوعي أو تُغَيِّره.

   ونلاحظ أن السينما، من دون وجودها في هذه المنطقة الخاصة الناتجة عن هذا التلاقُح، لا تزيد عن أن تكون مُهَرِّجًا دوره محصور فقط في التسلية والترفيه، كذلك الشعر لا يزيد دوره عن دور  المطرب أو الخطيب، لنؤكِّد أنَّ الفن، أيَّ فن، كما يخلق الوعي ويُرَقِّي الذوق قد يُصْبِح أحد عوامل التغييب والهدم والتدمير.

   كشاعرٍ متذوِّق للسينما أجدُني، رغمًا عني، لا أقرأ الشعر إلا كمُشاهِد سينما، ولا أُشاهِد السينما إلا كقارئ شعر، فلا أستطيع وأنا أقرأ قوْلَ بشَّار بن بُرْد، مثلًا، وهو يصف صوت خروج السهم من القوس: “إذا رزَمَتْ أَنَّتْ وأَنَّ لها الصدى .. أنينَ مريضٍ للمريضِ يُجاوِبُهْ”، إلَّا أنْ أُغْمِضَ عينيَّ لأرى مشهدًا كاملًا لكائنٍ ما يُمَثِّل القوسَ المريضة التي تئِنُّ فيرُدّ عليها الصدى متجسدًا في كائنٍ آخر مريضٍ، بل وأكاد أسمع أنين القوس وأنين صداها.

   كذلك لا أستطيع أن أرى قبضة “قناوي” المُعَلَّقَة في الهواء، في فيلم “باب الحديد” في مشهد الختام بعد أن اختَطَفَ، هو ككائن من عالم الأحلام، “هَنُّومة”/حُلْمَهُ البعيد، بسكِّينه المرتعشة العاجزة عن الفعل، إلَّا أنْ أقرأ هذه الجملة الصامتة التي تصف محاولة هذا الكائن الحالم أو المريض النفسي الفاشلة للدفاع عن حلمه، وأقول «محاولة فاشلة» لأنها نابعة من عالم الحُلْم الهَشّ في مقابل الواقع الموضوعي القويّ الشَّرِس.

   وإذا كان الكلام في القصيدة يستطيع أن ينقل لنا مشهدًا سينمائيًّا كاملًا، فانظر، مثلًا، إلى تلك الصورة البديعة التي يصنعها المتنبي عندما يصف جيش سيف الدولة وهو يطارد جيش عدوِّه، فالجيشُ من فرْطِ سرعته سحابٌ يطير في السماء، غير أنه وهو يمرُّ بالبلاد يمتنع عن الإمطار عند مروره بـ”حِصْن الرَّان”، وهذا الامتناع ليس بُخلًا، ولكن لأنه يكتشف أن هذا الحصن من أملاك سيف الدولة، ولأنَّ مطر السحاب، في هذه الحالة فقط، ليس ماءً ولكنَّه نِقَمٌ، بعد ذلك نرى الأرض -أسفل السحاب- وكأنها انحازت إلى عدوِّه فأصبحت تعدو معه، ولأنها ليس لها نهاية فكذلك السحاب/الجيش ليس له نهاية، ليستمرَّ المتنبي في هذا المشهد السينمائي، مستغِلًّا الجناس التام للفظة “عَلَم”، بمعنى الراية وبمعنى الجبل، فيجعل الأرض وهي تجري أسفل السحاب: إذا مضى منها عَلَمٌ -أيْ جبل- جاء بعده عَلَمٌ آخر. والأمر نفسه مع هذا الجيش الطائر: إذا مضى عَلَمٌ -أيْ راية- منه جاء عَلَمٌ آخر.

يقول المتنبي:

سُحْبٌ تَمُرُّ بِحِصنِ الرَّانِ مُمسِكَةً

وَما بِها البُخْلُ لَوْلا أَنَّها نِقَمُ

جَيشٌ كَأَنَّكَ في أَرضٍ تُطاوِلُهُ

فَالأَرضُ لا أُمَمٌ وَالجَيشُ لا أَمَمُ

إِذا مَضى عَلَمٌ مِنها بَدا عَلَمٌ

وَإِن مَضى عَلَمٌ مِنهُ بَدا عَلَمُ

   أقول إذا كان الكلام، في القصيدة، يستطيع أن ينقل لنا مشهدًا سينمائيًّا كاملًا، فإن المشهد السينمائي كذلك يستطيع أن يقول جملةً شعريةً من دون كلام. انظر، مثلًا، إلى تلك الصورة التي يصنعها المخرج السويدي إنغمار برغمان في فيلمه العظيم “الختم السابع”، والذي يحكي عن فارس صليبي عائد من إحدى الحملات الصليبية، نذر كل حياته للبحث عن الله والحقيقة، يُصَوِّر المشهد مُهرِّجًا ينظر باندهاش وبلاهة إلى أبطال الفيلم فوق الجبل والموت يجرُّهم بحبل طويل كرمز لانشغالهم بتفسير الحياة، لا بإحيائها. فهذا المهرج هو الذي يعيش الحياة ولا يسأل، يندهش من هؤلاء المُعَذَّبين الذين أهدَروا الحياة في البحث عن معناها.

   في تلك المنطقة الخاصة، من اجتماع الشعر بالسينما لخلْق ذلك الكائن الجديد، نرى الجميل المختلف الذي يصنع الدهشة بإلقائه الضوء المفاجئ على “ما يجب” الذي نشعر أننا نفهمه ولا نستطيع التعبير عنه، ليغمسنا في شعورٍ طاغٍ بلذة الجمال والاكتشاف. في فيلم النمساوي مايكل هاينيكي “حب” أو “amour” يقفز المخرج بهذا المنطق الشعري على التعريف المألوف للحب، حيث كلنا يعرف أن كلمة “أحبك” لا تعني أكثر من “أنا أريدك”، “أريدك قريبةً”، “أفديكِ بنفسي” وغيرها، ليقول “أنا أقتلك”…! دون أن تكون دلالة القتل أو الموت مُحمَّلَةً بالكُرْه والغضب، ولكن بالرحمة والشفقة والحب الشديد الذي يجعل ذلك الكهل المُتقاعِد الذي يعيش مع زوجته المصابة بسكتة دماغية، والتي -بعد أن فقد كل السبل إلى تخفيف الألم عنها- لا يجد أمامه سوى أن يقتلها، نعم يقتلها ليرحمها من العذاب، عذاب الحياة، في هذا الفيلم الصورة وحدها هي التي تتكلَّم، بل لا توجد موسيقى تصويرية. الفيلم عبارة عن كاميرا موجودة في شقة العجوزين ترصد إيقاع حياتهما الثابت المُمِلّ، وكأن المخرج عامدًا أجلسنا داخل هذه الشقة لنحمل مشاعر البطل نفسها، حيث لا كلام ولا حلول، لا شيء سوى تلك الجملة المشهدية الطويلة الصامتة التي تنتهي بذلك الانحراف الفني غير المتوقع ليتحوَّل العاديّ إلى شِعريّ عندما نفهم -من غير كلام- أنَّ القتل يمكن أن يكون مرادفًا للحب؛ وأن البقاء حيًّا، للبطل، في هذه الحياة الخالية من الحبيب هي أكبر تضحية من أجل الآخر، وأن الموت، ما دام أصبح المرادف الوحيد للشفاء من الألم، فهو الهدية التي نقدمها لمن نحبهم.

   وختامًا .. ربما لأنني شاعر، لا أنظر إلى الشعر كنوع أدبيٍّ أو فنيِّ مجاوِرٍ للأنواع الأخرى، ولكن أنظر إليه -وكلامي عن الشعر في جوهره لا في صورته الكلامية، بمعنى الشعري الذي هو نقيض العلمي لا المنظوم الذي هو نقيض المنثور- على أنه أبو الفنون، أو هو غاية أعلى لكل الفنون، يتفرَّع، لا أقول في الفنون الرفيعة كلها، بل في كل شيء يُجَسِّد وعي الإنسان الجمالي بالعالم.

قَصائِدُ تُمَجِّدُ الوَطَنَ وتُجَسِّدُ الانتِمَاءَ والفَخرَ | أ.د إياد عبد المجيد إبراهيم

أ.د. إياد عبد المجيد إبراهيم

شاعر وأستاذ جشعر وأستاذ جامعي، جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية .

الثاني من ديسمبر اليوم الوطني الراسخ في ذاكرة شعب الإمارات، الذي نستحضر فيه هذا العام بكل فخر واعتزاز الذكرى الثالثة والخمسين ، كما نستحضر مآثر وتضحيات وجهود الآباء المؤسسين، الذين وضعوا دعائم اتحاد الدولة، مستذكرين القيم السامية التي بُنيت على التسامح والمحبة والتعاون والتعايش مع مختلف الثقافات والأديان، وكانت النهج الذي سارت عليه الدولة  منذ نشأتها، وحتى يومنا هذا الذي غدت فيه الإمارات دولة متقدمة تقوم على الإبداع والابتكار والاحتفاء بالإنسان، الذي كان وما يزال منذ قيام اتحاد الإمارات محور وهدف هذه الدولة، التي جعلت همها الأول والأخير تأمين الحياة الكريمة لأبنائها، ونقل مواطنيها إلى أعلى مستويات الرقي ورغد العيش.

يأتي الاحتفال باليوم الوطني في ذكراه ككل عام لتأسيس وقيام اتحاد دولة الإمارات، تتويجاً لمسيرة تنموية وحضارية حافلة بالإنجازات الواقعية في مختلف المجالات، جسدت الرؤية المستقبلية التي استشرفها المؤسسون الكبار بقيادة المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان «طيب الله ثراه» وقدمت أنموذجاً يحتذى به في التنمية والبناء. فالتوجهات الحديثة والأكثر تطوراً التي تمضي فيها الدولة، والإرادة التي تجمعت لدى الشعب  للوصول إلى الدولة الذكية وإلى الفضاء، وإلى صياغة خريطة جديدة للإبداع والابتكار في العالم ؛ هي الدليل الكبير على العزيمة والإصرار المتجدد بلوغا للمأمول والمرتجى ..

ففي الثاني من ديسمبر يستحضر الوطن والشعب على هذه الأرض الطيبة أرض التسامح والتعايش والأخوة الإنسانية، بالثناء والوفاء والعرفان يستحضر الكل  مسيرة النهضة والرقي والحضارة، ويعيشون هذه المناسبة العظيمة، مؤكدين ولاءهم للإمارات وقيادتها الرشيدة التي لا تألوا جهداً في تحقيق المزيد من الإنجازات للوطن والمواطنين والمقيمين على أرضه.

إن اليوم الوطني هو يوم يجسد فيه الشعب الإماراتي التلاحم الوطني بين أبنائه، ويجدد الشعب استذكار الماضي بكل صوره وقيمه وتراثه ، وهذا ما أكده الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم بقوله: “إنَّ روح الاتحاد تسري في أرجاء وطننا ونفوس مواطنينا، كما إنَّ تراث آبائنا خالد حيٌّ مادامت على الأرض حياة”([1])، وقد أكد الشيخ زايد -رحمه الله- على الحفاظ على التراث قائلًا: “لا بدَّ من الحفاظ على تراثنا القديم؛ لأنه الأصل والجذور، وعلينا أن نتمسك بأصولنا وجذورنا العميقة”([2])، فهي دعوة للسير قدمًا على هذا النهج، “فالتراث منجم طاقات إيحائية لا ينفذ له عطاء”([3])، والاحتفال به واجب وطني وأخلاقي، لما حققه الشعب الإماراتي من إنجازات عظيمة، فأصبح هذا اليوم يومًا مقدَّسًا، نحيي فيه هذه المناسبة؛ وهو “السبيل الوحيد لتحقيق الأمن والاستقرار لشعبنا، وحماية مقدراتنا، وتوفير الحياة الأفضل لمواطنينا”([4]).

إنَّها قصة حبٍّ أبدية كتب فصولها الآباء والأجداد المؤسسون؛ لأنَّ الاحتفال بيوم الوطن هو تجديد للعزم والعزيمة، وهو تجسيد للروح الوطنية من خلال شحذها بالإرادة الصلبة ،  وقد انبرى الشعراء يجسدون معاني الوطنية والقيم والحلم الجميل في استشراف المستقبل ، وعلى رأس هؤلاء الشعراء صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم مطلقًا زفرات الحبِّ نحو بلده الإمارات، ومبينًا لمجدها فيقول ([5]):

نَحْنُ القَصِيْدُ وَنَحْنُ الَّلحْنُ وَالوَتَرُ    وَالقَوْلُ وَالفِعْلُ وَالإِنْجَازُ وَالظَّفَـرُ
لنَا الصَّدَارَةُ في عِـــلْمٍ وَفِي عَمَلٍ    في كُــــلِّ يَــوْمٍ لنَا مَجْدٌ وَمُفْتَخَرُ
لِكُلِّ مَـــجْـــدٍ سَعَيْنَا لَا نُــفَــوِّتُـــهُ  إِذْ لَيْسَ في بَاعِنَا عَنْ نَيْلِهِ قِصَرُ
عَنَّا رَوَى الدَّهْرُ وَالأَيَّامُ شَاهِـــدَةٌ      مَآثِراً لم تُــغَـــيِّرْ صُبْحَهَا الغِيَر

القصيدة ضمن إطار الشعر الوجداني الذي يرتبط بمنظومة من القيم ، وتجربة الشاعر تجنح إلى الخطاب الرومانسي العامر بحب الوطن وروح العاطفة المتدفقة  ، حيث يرى في الإمارات جمال ولحن الوجود ، فالقصيدة تنمو نحو تقليد القصيدة الغنائية ، حيث اللحن والوتر ، يحفزه الفخر في المنجزات علما وعملا ، فالإمارات لها الأثر البالغ في روح الشاعر ، يشير إلى تاريخها ، معتمدا الإيقاع الشجي في قافية الراء ، وانتقاء الكلمات ، ليقدم لنا صورة شفافة متكاملة عن الوطن ، فيزاوج المتلقي بين الشعور والواقع ، ومن يتأمل القصيدة بأسرها يجد فيها لوحات تعبيرية عن ماهية الزمن واستغلاله في النهضة التي تمثلها تجليات مظاهر الحياة ، وحسبها أنها قدمت رؤية الشاعر تأريخا وعاطفة واعتزازا ..

جاءت جمالية التكرار في كلمة ” نحن” في الأبيات السابقة، كونها كشفت طبيعة الجهد الكبير المبذول الذي أوصلهم إلى تلك المكانة التي بلغوها، وذلك من خلال قرن القول بالعمل الجادِّ، الذي حقق الإنجاز، ووفَّر الإنتاج، ويرسم صورة الصدارة التي احتلها أبناء الإمارات  بما يملكون من علم، وما يقومون به من عملٍ، وقد جاءت الصورة البديعة في قوله: (عنَّا روى الدهر، الأيام شاهدة)، حيث قرن تلك الصورة بالجمالية النحوية والانزياح  من خلال التقديم والتأخير، فجاءت تلك الجمالية لوحة فنية من لوحات الجمال البديعي والإبداعي، فقد أصبحنا حديث الدهر، وهنا كناية عن الأفعال التي قاموا بها، والحضارات التي أرسوا دعائمها، لتكون شاهدة للأجيال القادمة.

أطلق الشاعر حنجرته لتصدح في سماء محبوبته الإمارات، تلك الدولة التي وضعت أبناءها في صدارة الزمن ، إذ قرنت قولها بفعلها، فاختصرت مسافات زمنية كبيرة، واعتلت عرش الحضارة، حتى أصبحت مضرب الأمثال، بما أنجزته من حضارة وبما كرسته من مآثر.

جاء اللون البديعيُّ الذي استخدمه الشاعر ليكشف طبيعة العلاقة المتينة، وأواصر المحبة التي تجمع الشاعر بوطنه، فرسم الإمارات بلون بديعي زاهٍ، حيث شبهها بالقصيد واللحن والقول والذي يتبعه الفعل والانجاز والظفر ، فجاء التشبيه بليغًا، من خلال الصورة البصرية التي نسجت خيوط الصورة البديعية، وبينت جمال هذا الوطن، لما تحمله من قيمة مادية، وما تتضمنه من قيم معنوية.

        وبرزت المكانة الكبيرة للإمارات في قلب الشاعر من خلال مطلع قصيدته، فلم يمهد لذكر اسم الدولة، إنَّما بدأ قصيدته بذكرها مباشرة، وهذا دليل سكون الدولة في جوارح الشاعر، وتعبير عمَّا تمثله من حبٍّ في قلبه، وعلى المكانة التي تحتلها في نفسه، وعلى مدى ولائه لها، ففيها الحياة السعيدة، والأمن والأمان. 

أمَّا الشاعر كريم معتوق، فيهدي بعضًا من أبياته إلى وطنه الغالي، وتحدث بلسان الشعب الإماراتي (والله لا نرضى لها من عثرةٍ ) ولو كلفنا ذلك حياتنا فداءً للوطن الغالي، حيث يقول([6]):

هي سيرة الأجداد نحفظ ذكرها     ونقولُ كان الشعبُ فيها المُعْدما
أتهون أو نرضى لها بنقيصةٍ         بعد الشقا والشعبُ صار مُنعما
والله لا نرضى لها من عثرةٍ          ولئن شربنا دون ذاك العلقما
قالت لنا ما قال (زايدُ) عصره      هذي بلاد العرب تُربتها سما

يعبر الشاعر عن عمق المحبة لهذا الوطن المعطاء، الذي نرخص له الغالي والثمين، ولا يرضى هذا الشعب الأبي أن يمس هذا الوطن أي أذى، وإن استدعى الأمر فلن يبخلوا عليه بدمائهم وأرواحهم ويذكر الشاعر الماضي معتزا وفخورا به ، فهو رمز التحدي والقوة ،  حيث جاء التشبيه ليبيِّن جمالية القوَّة التي يتمتَّع بها شعب الإمارات، فهم الحصن، والأمن والأمان لدولة الإمارات. فالشاعر يحاور الإمارات ثم يتحدث بلسانها، واقعا وتاريخا وفنأ ، فالشعب لا يرضى لها عثرة ، ويقدمها لنا بصياغة تعبيرية بعد أن يؤنسن الأرض لتقول على لسان باني مجدها الأول ( زايد ) ، فلو شرب الشعب العلقم لن يرضى للإمارات غير المجد ، ثم تحتشد المعاني بالانتماء العروبي للأمة فيتخيل الأرض سماء لعلو مكانتها ، فيبني من خلال ذلك علاقة جوهربة بين الأرض والسماء في استحضار على وجودها وشموخها ..

ويواصل الشعراء حبهم للوطن معبرين عن اعتزازهم وفخرهم، وهم يعيشون هذا الخير والنماء والأمان والرقي، يغذون الخطى نحو العلى، فليس ثمة مستحيل في طريقهم، يقول الشاعر شهاب غانم7:

  يا إماراتُ أنت في القلب حبٌ      مستفيضٌ وأنت ظلٌ ظليلُ
  نصفُ قرن ونيّف قد تقضَّى      في نماءٍ والخيرُ فيكِ جزيلُ
  خطوةٌ بعد خطوةٍ في ارتقاءٍ        وازدهارٍ حتى يتمَّ الوصولُ
  أنتِ أنـــــــــــــموذجٌ لكلِّ بلادٍ          تَعمرُ الأرضَ دأبها التجميلُ
  رفعةُ الشعبِ همُّها في أمانٍ        دونه السعي للعلا مستحيلُ
  في ارتقاء إلى الفضاء بجدٍ           وبعزمٍ ليبـــــــلغَ المأمولُ
  يا إماراتُ أنت حلم جميلُ          حققتـــه سواعـــــد وعقولُ

تظل الإمارات في قلوب أبنائها والمقيمين على أرضها ، وها هي اليوم قد أصبحت  في طليعة الدول العصرية المتقدمة وباتت علامة بارزة على تقدم الدول بما أنتجته من سياسة حكيمة بفضل القيادة الرشيدة ، التي جعلتها أنموذجا لكل بلدان العالم ،  وإن الرفعة والسمو و المسرة تتواصل يوما بعد يوم  للمضي قدماً في إكمال هذه التجربة الوحدوية الوطنية الرائدة ، فقد كانت بالأمس حلما جميلا ظل يتحقق ويتجدد كل عام بهمة القيادة المخلصة ، وبسواعد الأبناء البررة ، والعقول النيرة ، فالعزيمة متجددة ، والجد متواصل ، خطوة خطوة ، والوطن يبلغ الذرا ..حتى بات أبناؤه بجدهم يرتقون الفضاء بعزم واقتدار ليتحقق حلم القيادة التي تفخر بأبناء الوطن وهم يبدعون ويبتكرون ويحلقون في سماء العز  ..وبذا تكون ( الإمارات ) البؤرة التي تكشف استبطانات عاشها الشاعر ، بين جمال الأرض ورفعة الشعب ، والارتقاء نحو السمو ؛ لأنها عشقه المتجذر ، ولغة القصيدة تكتظ بالشفافية ، يقترب فيها الشاعر من التحولات الكبيرة في شجن يدغدغ الحواس .

وإذا كان الشعر الفصيح قد أخذ جانبا كبيرا، تغنى من خلاله الشعراء بحب الوطن وعيد الاتحاد فقد  احتفى الشعر النبطي هو الاخر  في يوم الإمارات  وشارك شعراؤه ببالغ الاحتفاء والتقدير هذه المناسبة الوطنية، فعبر الشاعر سمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم عن هذه المناسبة مشيرا  للاتحاد والمجد الراسخ كالجبال ، وبعبارات الفخر والاعتزاز، حيث يقول(8):

دام عزك دولتي بالاتحاد             دار زايد رافع بنيانها
مجدها دايم إلى يوم المعاد        راسخه مثل الجبال أركانها
في ثراها العلم مرفوع العماد       الكرامة والشرف عنوانها

وهكذا نرى طبيعة الوعي الشعري المشبعة بجمالية اللغة والإيحاء في نوعي الشعر الفصيح والنبطي ،  يفخر الشاعر ويعتز ببلاده وباللحمة الوطنية التي أثرت في بناء الدولة الحديثة والنهضة التي حدثت في شتى مجالات الحياة، لقد لجأ الشاعر إلى تحدي الزمان (يوم المعاد) ليؤكد بأن مجدها وعزتها دائمة وأبدية، وأن غبار الزمن لم ولن يؤثر على عزتها ونهضتها التي أرسى قواعدها الشيخ زايد –رحمه الله-، وكذلك نجد أن الشاعر استخدم الصور الفنية في قصيدته إذ صور الإمارات بالدار التي بناها زايد –رحمه الله- بثبات وإحكام، وكناية الدار هنا تدل على تلاحم الشعب والقيادة فهو ترابط كالأسرة الواحدة التي يجمعها بيت واحد، كذلك صوَّر الإمارات بالجبل الثابت الراسخ، وهي صورة تدل على قوتها وثباتها ومنعتها.

 تتحرك صور القصيدة بمهارة فتتدفق صورها تدفقا روحيا وشعوريا أمام القارئ ليعانق هذا العز والمجد والعلم المرفوع رمز الأمل والبقاء والشموخ..

ويتلألأ الوطن في عيون الشاعر سالم سيف الخالدي، فيقول(9):

حُبّ الوَطَن مَا هُو مُجَرَّد حِكَايَه    أَو كِلْمَة تِنْقَال في أَعْذَبْ أسلوبْ
حُبّ الوّطّنْ إِخْلَاص مَبْدَأ وغَايَة    تُبْصِر بِهِ عُيُون وتَنْبِض بِهِ قُلُوبْ
لَكَ يَا وَطَنَّا في سَمَا المَجْدِ رَايَه   واسْمَك عَلَيْهَا بِأَحْرُفِ العِزّ مَكْتُوبْ 

 

إنّ الوطن ليس مجرد كلمة ينطقها اللسان، وتبوح بها الحناجر، إنَّما الوطن حبٌّ وإخلاص وتضحية، “وحب الوطن شكل من أشكال القومية”([7])، والوطن هو الأمان والملاذ، وهو العزة والكرامة، الخير والعطاء، وهو “الإحساس الخفي الذي يحرِّكنا للتعلق به، والإحساس بالانتماء إليه”([8])، وقد جاءت الصورة البلاغية لتبين جمالية الوطن، فالوطن كتب اسمه بأحرف العزة والكرامة، حيث الصورة البصرية التي رسمت تلك المكانة الرفيعة للوطن في قلوب محبيه. إن تكرار ” حب الوطن ” يمد روابط النص الأسلوبية ربطا فنيا موحيا ، منطلقا من الجانب الشعوري ، ومجسدا حالة الانتماء التي يضع من خلالها الشاعر المتلقي في جو مماثل لما هو عليه ، كما يحقق التكرار إيقاعا موسيقيا جميلا ، يجعل العبارة قابلة للنمو والتطبيق ، وبهذا يحقق التكرار وظيفنه كإحدى الأدوات الجمالية التي تساعد الشاعر على تشكيل موقفه وتصويره ، لأن الصورة الشعرية في البيت الأخير على أهميتها ليست العامل الوحيد في هذا التشكيل ، فقد تعانق التكرار مع الصورة فضلا عن العمق الصوتي ودلالاته ، فساهم كل ذلك في نقل المعنى ونقل الفكرة إلى الفعل ..

إن المستقبل يحمل الكثير للإمارات؛ لأن رؤيتها متجددة، وطموحها أكبر في التحدي، ورسالتها إنسانية تبتغى خير البشرية، وتحقيق الاستقرار والازدهار، وتعزيز التنمية، وتعظيم أوجه الشراكة والتعاون بين دول العالم التي تشاركها يومها الوطني الخمسين، وتقف شاهداً على إنجازاتها، وتنخرط معها في مهمتها لاستشراف التحديات والحلول المستدامة وتوحيد الجهود من أجل مستقبل أفضل للأجيال المقبلة.

وهكذا يستحضر الشعراء الوطن بكل أبعاده، بأرضه وسمائه وأبنائه وتراثه وكل قيمه ، بماضيه وحاضره ومستقبله ، فالوطن الغالي لا يليق به  إلا الفخر والاعتزاز ، وقد أجاد الشعراء الإماراتيون هذا المحور في قصائدهم فارتبطت بالحالة الشعورية التي استطاعت بسط مساحة من الانزياح بين المعنى ، ومعنى المعنى ، فقد بدت الصور في النصوص من خلال بنيتها و علاقتها بالكلمة الموحية فضلا عن علاقاتها التقليدية في نسج علاقات جديدة من خلال  النمطين الشعريين فانعكس ذلك على التأطير الخاص بالوطن ،  وكشف التفاعل الخلاق بين الدال والمدلول .

([1]) آل مكتوم محمد بن راشد، اليوم الوطني التاسع والأربعون، مجلة منار الإسلام، الهيئة العامة للشؤون الإسلامية والأوقاف، 1998، العدد 1، ص 16.

([2])الطنيجي سالم زايد، التراث الشعبي الإماراتي: الفعاليات التراثية، ط 5، 2018، معهد الشارقة للتراث، الشارقة- الإمارات العربية المتحدة، ص 9.

([3]) مزياني فادية، ورد مدور، توظيف التراث في شعر محمود غنيم، 2022، رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة محمد خيضر بسكرة، الجزائر، ص 9.

([4]) آل نهيان الشيخ زايد، اليوم الوطني التاسع والأربعون، مجلة منار الإسلام، الهيئة العامة للشؤون الإسلامية والأوقاف، 1998، العدد 1، ص 47.

([5]) آل مكتوم محمد بن راشد، قصيدة مجد الإمارات، اليوم الوطني للإمارات، مجلة آفاق دبي، 2014، العدد 54، ص 6.

([6]) معتوق كريم، ديوان كريم معتوق، الجزء الثاني، هيئة ابوظبي للثقافة والتراث، أكاديمية الشعر، ابوظبي، 2011، ص19.   

(7)جريدة الخليج السبت 16نوفمبر 2023

(8) فوتري سهباني سيليان، القيم الوطنية في نشيد هذي الإمارات للشاعر مانع سعيد العتيبة (دراسة سيميائية)، مرجع سابق، ص 7.

(9) راتب نضال، إمارة الشارقة: تاريخ وحضارة، 2023، دار الرنيم للنشر والتوزيع، عمان- الأردن، ص 65-66.

بين قصيدتين إنجليزيتين: محاذير عن الحب | د. شهاب غانم

د. شهاب غانم

شاعر وكاتب ومترجم.

موضوع الحب هو من أكثر الموضوعات تناولا لدى الشعراء إن لم يكن أكثرها. وحديث الشعراء عن الحب في العربية شديد التنوع فعنترة على سبيل المثال يقول لحبيبته في معلقته: ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني وبيض الهند تقطر من دمي فوددت تقبيل السيوف لأنها لمعت كبارق ثغرك المتبسم بينما يقول المنخل اليشكري: وأحبها وتحبني ويحب ناقتها بعيري أما مجنون ليلى قيس بن الملوح فيقول: فيا ربّ إذ صيرت ليلى هي المنى فزني بعينها كما زنتها ليا وإلا فبغضها إلىّ وأهلها فإني بليلى قد لقيت الدواهيا ويقول شاعر آخر: أحبك بل أهوى التمنع في الهوى فإنك يحلو في هواك التمنع تثيرين بالشوق الملح عواطفي فأنسج أنغام الغرام فأبدع أما أبو الطيب المتنبي فيقول محذراً من العشق: وَلِلخَودِ مِنّي ساعَةٌ ثُمَّ بَينَنا فَلاةٌ إِلى غَيرِ اللِقاءِ تُجابُ وَما العِشقُ إِلّا غِرَّةٌ وَطَماعَةٌ يُعَرِّضُ قَلبٌ نَفسَهُ فَيُصابُ ونود في هذا المقال أن نتوقف عند قصيدتين تحذران من إعلان الحب للحبيب أو إعطاء قلبك كله لمن تهوى، لشاعرين من أبرز شعراء اللغة الإنجليزية والقصيدتان من ترجمتي. القصيدة الأولى لوليم بليك (1757-1827 ( من إنجلترا، بريطانيا ويعد من أوائل الرومانسيين في الشعر الإنجليزي. يحذر الشاعر من إعلان حبك لمن تهوى قائلاً في قصيدته سر الحب: لا تسعى أبدا لتعرب عن حبك، فالحب المعلن لا يمكن أن يحيا أبدا. فالريح الرخاء تتحرك بهدوء ودون أن ترى. أعربت عن حبي، أعربت عن حبي، أخبرتها بكل ما في قلبي، وكنت مرتعشا، وأشعر بالبرد والقلق الشديد .. وأواه، فقد تركتني! وبعد أن رحلت عني بزمن قصير مرَّ مسافر بنا، وبصمتٍ وبشكلٍ غير محسوس أخذها، مع آهة! أما القصيدة الثانية فللشاعر الأيرلندي وليم بتلر ييتس (1865-1939) الذي كان من أشهر شعراء اللغة الإنجليزية في القرن العشرين وقد نال جائزة نوبل للأدب عام 1923 وهو في هذه القصيدة يحذر المرء من أن يعطي كل قلبه لمن يهوى. وأذكر أنني أنشدت قصيدة في حفل جائزة راشد للتفوق العلمي عام 1996 أمام صاحب السمو الشيخ الشاعر محمد بن راشد جاء فيها: وهل ترتضي ليلى بنصف متيم وقد ذاب قيس في الهوى وتحرقا؟ يقول ييتس في قصيدته وعنوانها “لا تعطِ كل قلبك”: لا تعط كل قلبك أبدا، لأن الحب لدى النساء العاطفيات، إذا ما كان مضمونا، لا يرينه جديرا باهتمامهن، فهن لا يخطر ببالهن أن الحب يمكن أن يتلاشى قبلةً إثر قبلة؛ لأن كل شيء رائع هو مجرد نوع من المتعة القصيرة الحالمة. ولا تقدم قلبك دفعة واحدة أبدا، لأنهن، على الرغم مما تقوله كل الشفاه الناعمة، قد أعطين قلوبهن للعبة الحب؛ وكيف يستطيع أن يجيد تلك اللعبة من كان أعمى وأصم وأخرس بسبب الحب؟ والذي نظم هذه الأبيات يعرف الثمن، فقد وهب كل قلبه وخسر.

المكان في شعر ميسون صقر | مريم الزرعوني

مريم الزرعوني

كاتبة وشاعرة من الإمارات

رافق الأدب الحراك الثقافي الطليعي في دولة الإمارات منذ بدايته، وتميّز بالتنوع داخل الجنس ذاته، ومنه الشعر. فإلى جانب القصيدة العمودية ظهر الشعر الحر وقصيدة النثر، التي كتبها مجموعة من المثقفين الإماراتيين، شكّلوا الديباجة الأولى للشعر الحداثي الإماراتي، ونَحَوا حينها المنحى الأصعب، وهو التغيير والتجدد، ورغم التحدّيات التي واجهها هذا الفنّ خاصة من الكلاسيكيين، ومحبي الشعر العربي في صورته العمودية الموزونة، إلّا أن الأصوات الشابة حينها، استطاعت أن ترسم مسارها المختلف، لا سيما النسائية منها، وصار لها خصوصيتها في التجربة الشعرية العربية، والإماراتية على وجه الخصوص.

الشاعرة الإماراتية ميسون صقر، كتبت السرد كما كتب الشعر، وهي ذات تجربة متقدمة، في مجتمع مدني حديث نسبيًّا، لم يتجاوز النصف قرن، تغيرت ملامحه بسرعة، مع قيام الاتحاد ونهضة الدولة في مختلف الأصعدة، ما جعل الشاعرة هي وجيلها، رغم ريادتهم، لكن إبداعهم لم ينل حظّه الوافي من الدراسة والتقصي. فدراسات الشعر الإماراتي الحديث والمعاصر مازالت في بدايتها، ونعلم صعوبة أن تلج ساحة البحث، وهي تعاني من عجز أو قلة في المصادر.

 قدّمت الشاعرة في دواوينها كلّها قصيدة النثر، وشكّلت على مدى مسيرتها الأدبية التي جاوزت الأربعة عقود، نموذجًا خالصًا لهذا الجنس الأدبي، ساورته لغتها الحداثية بالسلاسة والجزالة في آن، ولتجربتها خصوصية وفرادة، كونها شاعرة إماراتية اختارت أن تستقرّ في القاهرة، وقد رافقت عائلتها للعيش فيها منذ طفولتها.

ما نتحدث عنه في هذا المقام، الشعر عند ميسون صقر، فقد أظهرت قصيدة النثر لديها، نموذجا جيدًا للتجريد والتخلي عن منظومة الأحمال التقليدية في الشعر، مقتربة من التجريد في معناه التشكيلي، ولا أدلّ على هذا المعنى من شروط سوزان برنار لقصيدة النثر، وهي الكثافة والتخلي عن الحشو والإطالة، وإشراق المفردة، بحيث ينطفئ المعنى باستبدالها، وانطلاقها من الذات في التجربة الخاصة.

إنّ التجريد الشعري ممثلًا في قصيدة النثر، يتطلب آليات مختلفة في تعاطي النقد مع النص، خارج إطار المجاز والعروض، فلم تعد القصيدة النثر مجموعة صور بيانية، في قالب شكلاني معروف، إنها في شكلها ومقاطعها أقرب ما تكون إلى الرؤية الإخراجية، القائمة على القطع والحذف، ثم إعادة التركيب واللصق، أو ما يعرف بالمونتاج في المشاهد السينمائية، لذا تتطلب بحثا و تجديدا في تعاطي النقد مع النص، بعيدا عن محدودية المعالجة، خاصة وأنّ أيلولة الشعر إلى قصيدة النثر، باتت الاحتمال الأكبر في ضوء تسارعات العصر، والحاجة إلى وعي مستدام يحفظه التفكير الناقد، والتعرض المستمر لكسر الوتائر.

للشاعرة بالإضافة إلى الدواوين الفصحى، أخرى بالعامية المصرية، لقد شكلت مصر محطّة مهمة في حياة الشاعرة، ولا شكّ أنّها أثرت في وجدانها، وجاء عملها الأخير “ريش عين على مصر” تجسيدًا لذلك الأثر، فقد أرخت للمقهى الثقافي القاهري الأشهر، وكتبت سيرته بعين الإماراتية، المحبّة لمصر، وفازت عن الإصدار بجائزة الشيخ زايد للكتاب 2022 فرع الآداب، وكان للمكان أثر عميق في وجدانها، نلحظ ذلك في تصريحها بعد حصولها على الجائزة الأكبر في تاريخها الأدبي، عندما أهدت الجائزة إلى الأماكن: “أهدت الشاعرة والروائية والفنانة التشكيلية الإماراتية ميسون صقر جائزة الشيخ زايد للكتاب فرع الآداب المتوجة بها عن كتابها “مقهى ريش”، الصادر عن دار نهضة مصر، إلى الإمارات الوطن الأم ولمصر أم الدنيا حبيبة القلب، وللشارقة الذاكرة الأولى ولأبوظبي الاكتشاف والوعي والتعلم”

المكان، ذلك الماديّ بأبعاده الفيزيائية المعروفة، يحمل تأويلاتٍ شتى في الذهن، تجعل من الحيّز فضاءً معنويًا أرحب، لا يتقيّد بتلك المساحة المحدودة مهما اتسعت. ألا نقول ” لك مكانٌ في القلب”؟ والآية الكريمة “وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَٰرِغًا”، ذلك الفراغ المجازي في قلب الأم، قد حلّ محلّ المكان المجازي الذي كان يشغله حضور ولدها المادي. المكان ذلك الشيء الذي يشغلنا، في حين أننا نشغله، ونحمله معنا، على هيئة أفكار، تثار لها مشاعر تتشكل تجاهه، وتشغل الوجدان.

 

نستل للشاعرة قصيدة من ديوانها “رغوة القلب الفائضة” بقصيدة شقوق الجدار:

هذه الشروخ في الجدار، تهمني// تزحزح الضيق// تتسرب منها الغرف والأجساد والأحلام. // هذه الفضاءات ثقوب في الأوهام // أو ربما خدش في قميصي الليلي الذي// أخبئ فيه حبيبي // وأنام

تستخدم الشاعرة المفردات المكانية الدالة على البيت بالضرورة: (الشروخ – الجدار – الغرف – الفضاءات -ثقوب – خدش- أنام) ثمة علاقة قديمة ووطيدة بين الشاعرة والمكان، هذا البيت الذي مضى عليه ردحٌ من الزمن بالتأكيد، حتى أنّ الشروخ بدت في جدرانه، و رغم ذلك العطب -وإن كان بسيطًا- إلا إنّه ملحوظ لدى الشاعرة على الأقل، والملاحظة قد تجاوزت الرؤية إلى الأثر الخاص في النفس، هذا الأثر دليل صلة وثيقة بالمكان، صلة إيجابية، تحتفي الشاعرة به، رغم غلالة غلالة الحزن الذي تلفّه، ممثلة بعبارة (تزحزح الضيق) و(تتسرب منها).

لا تصرح الشاعرة بمفردة البيت، لكنها تذكر العديد من مكوناته، فيظهر بشكل جزئي صريح، ثم تكتمل الصورة في مخيلة المتلقي، ما هو ذلك المكان الذي يتألف من جدران وغرف، ويصلح للنوم، المكان الذي ترتدي فيه سيدته قميصها الليلي، وتهتم للشروخ في جدرانه. إنه البيت – الملاذ، والذي يكاد يتكافأ مع العمر، بسبب العشرة الطويلة له من جهة، وقد ظهر في مفردات سبقت في النص، ومن جهة ثانية حين تتسرب من الغرف الأجساد والأحلام، كمن يفقد في حياته ومع مرور العمر، أشخاصًا يغادرون، وأحلامًا تتبدّد. ومن جهة أخيرة حين يصير كالعمر المنذور للحبيب، هذا البيت مخبأٌ آمنٌ له.

الشعر والمعرفة | أ. د. صلوح السريحي

 أ.د. صلوح السريحي

أستاذ الأدب والنقد بجامعة الملك عبد العزيز 

عضو مؤسس مجلس أمناء أكاديمية الشعر العربي

         الشعر فن وعلم وصناعة وإعلام وإعلان.  كما أنه وعاء المعرفة والحكمة والفلسفة على الرغم ما بينهما من جدلية واختلاف، فهو فن غنائي يتسامر عليه العرب يجمع بين المتعة والفائدة، ينشدونه في أفراحهم واتراحهم، وهو ديوانهم الذي يحمل لغتهم، ويسجل أيامهم ووقائعهم حتى صار سجلًا معرفيًا لهم فهو كما قال أبو عمرو بن العلاء في حديثه عن العرب والشعر:” يقيد مآثرهم، ويُفخّم شأنهم، ويُهوّل على عدوهم ومن غزاهم، ويُهيِّب من فرسانهم، ويُخوّف من كثرة عددهم، ويهابهم شاعر غيرهم” وهو مصدرٌ من مصادر التاريخ عند مؤرخي العرب، وشاهدٌ عند النحاة وأهل اللغة والمفسرين للقرآن الكريم. هو علمٌ كما قال ابن الخطاب ” كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه” وهو ديوان العرب كما قال ابن عباس “الشعر ديوان العرب فإذا خفي علينا الحرف في القرآن الذي أنزله الله بلغة العرب رجعنا إلى ديوانها فالتمسنا معرفة ذلك”. كما أن للشعر دور أخلاقي تربوي فهو الذي يسن المكارم ويدل على المحامد؛ لذا قال أبو بكر “علموا أولادكم الشعر فإنه يُعلمهم مكارم الأخلاق” لذا أوصى به عمر فقال: ” تحفظوا الأشعار، وطالعوا الأخبار فإن الشعر يدعوا إلى مكارم الأخلاق ويُعلّم محاسن الأعمال ويبعث على جليل الفعال ويفتق الفطنة ويشحذ القريحة وينهي عن الأخلاق الدنيئة ويزجر عن مواقعة الريب ويحضّ على معالي الرتب”وبهذا كان للشعر سلطان وسطوة على النفوس تربيةً وتهذيبًا واصلاحًا وتقويمًا،

          وعلى الرغم من ارتباط الشعر بالعاطفة إلا أنه أرتبط أيضًا بالكون وأسالته وقضاياه فكان وعاءً للحكمة والفلسفة والمنطق على رغم ما بينهما من جدلية واختلاف لاستناد الأول منهما -الشعر- على العاطفة، واستناد الثاني- الفلسفة- على العقل إلا أن كلا منهما استوعب الأخر فَوجِد شعراء فلاسفة حكماء، كما وجد فلاسفة شعراء، وبذلك التحم الشعر بالحكمة والفلسفة وأرتبط بالكون وأسالته كما أرتبط بالإنسان وحضوره وبالإنسان وعواطفه أي  أرتبط بالعاطفة والعقل معًا، فكان لنا شعر الفارابي وابن سينا وابن رشد وزهير والمتنبي والمعري الذي كتبوا فلسفتهم عن الحياة والكون في قوالب شعرية تحكي نظرة من الدهشة والشعور بالغربة والحيرة أمام التساؤلات التي تغيب عنها الإجابة حتى تمثلت لنا من خلال إبداعهم فلسفة شعرية مدهشة

         ولأهمية الشعر وقيمته فقد بقي خالدًا في ذاته ومخلدًا للمحامد والمآثر فهو الحامل لقافية مثل حد السنان:

فَإِنِّي لذُو مرّة مرّة              إِذا ركبت حَالَة حَالهَا

أقدم بالزجر قبل الْوَعيد        لتنهى الْقَبَائِل جهالها

وقافية مثل حد السنان         تبقى وَيذْهب من قَالَهَا

تجودت فِي مجْلِس وَاحِد      قراها وَتِسْعين أَمْثَالهَا

         ولكن من قالها لم يذهب وإنما خلده شعره وإنشاده وتغنيه، وخلدته قافيته فكان لسانها الحامل لتراثنا والحافظ لهويتنا ولغتنا وثقافتنا وتاريخنا، نجد هذا اللسان عند أمرئ القيس وطرفة والأعشى والمتنبي وأبي تمام والبحتري، كما نجده في عصرنا الحاضر عند حافظ إبراهيم وأحمد شوقي ونزار قباني وبدر شاكر السياب وغازي القصيبي والثبيتي والقرطوبي وسيف الرحبي.

      وهكذا غدى الشعر وعاء للمعرفة وركيزة تبنى عليها المعرفة، ووسيلة لصناعة المعرفة والوعي بها والتعريف بقيمتها. وبذلك فإن الشعر بحثا عن المعرفة وفي المعرفة، أرتبط بالإنسان وحضوره وحافظ على قيمه وإرثه وهويته.

 

البيان والتبيين، الجاحظ عثمان بن عمرو، تحقيق وشرح عبد السلام هارون، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الرابعة، ص 76

 طبقات فحول الشعراء، لابن سلام الجمحي، قرأه وشرحه محمود محمد شاكر، دار المدني بجدة، 1/24.

الموافقات، الشاطبي: أبو إسحاق إبراهيم بن موسى، تحقيق أبو عبيدة مشهور بن حسن، دار بن عفان، الطبعة الأولى، ت 1417هـ، ج2 ص 88

 بتصرّف عن كتاب المظفر العلوي، نضرة الإغريض في نصرة القريض، تحقيق د. فهمي عارف، مجمع اللغة العربية بدمشق 1976م، ص 375.

 السابق

 شرح ديوان الحماسة لأبي تمام، الخطيب التبريزي: أبو زكريا يحي بن علي، منشورات محمد علي بيضون، دار الكتب العلمية، بيروت، ج1، ص 39

أفكار حول تجربة الحداثة الشعرية في الإمارات | عادل خزام

WhatsApp Image 2024-10-17 at 12.34.48 PM

عادل خزام

شاعر/ الإمارات العربية المتحدة

لا يُمكن على وجه الدِّقَّةِ الوقوف على توثيقِ تجربةِ الحداثةِ الشِّعريةِ في الإمارات، وتحديدًا إرهاصاتِ ظهورِ قصيدةِ النثرِ أو مَن بدأ بها أولًا. لكننا نملكُ مجموعةً من المعطياتِ التي أسَّستْ لظهورِ هذه التجربةِ الشِّعرية، والتي تصاعدتْ بشكلٍ كبيرٍ منذ مطالعِ الثمانينيات لتصبحَ إحدى التجاربِ المهمةِ في منطقةِ الخليج، كونها ضمَّت مجموعةً رائعةً من الأصواتِ الشِّعريةِ الشابةِ التي أنجزتْ نصًّا شعريًّا متجاوزًا يرتقي إلى مستوى التجربةِ العربيةِ التي سبقته في بلدانِ الشامِ والعراقِ ومصرَ والمغربِ العربي.

الإرهاصات الأولى

من وجهةِ نظري كشاهدٍ على هذه التجربة، فإنَّ التمهيدَ لظهورِ قصيدةِ النثرِ بدأ مع تجربةِ الشاعرِ د. أحمد أمين المدني، الذي درسَ في العراقِ وعادَ منها في أوائلِ الستينياتِ متأثرًا بموجةِ التجديدِ وشعرِ التفعيلةِ الذي ظهرَ في العراقِ على يدِ نازك الملائكة، ثم تطوَّرَ بعمقٍ في تجاربِ بدر شاكر السيَّاب وعبد الوهاب البياتي وآخرين. كتبَ المدني شعرَ التفعيلةِ مقدِّمًا لأولِ مرةٍ تجربةَ كسرِ البيتِ الشِّعريِّ الكلاسيكيِّ، وكان ينبغي لتجربتهِ هذه أن تتطورَ بعدَ أن درسَ في جامعةِ كامبريدج ببريطانيا ثم السوربون في فرنسا، حيثُ الحداثةُ وقصيدةُ النثرِ هناك عمرها أكثرُ من مئتي عام. لكن مع ذلك، حافظَ المدني على كلاسيكيتهِ العربيةِ وقدمَ شعرهُ العموديَّ وقصائدَ التفعيلةِ معًا في ثلاثِ مجموعاتٍ هي: حصاد السنين 1968، أشرعة وأمواج 1973، عاشق لأنفاس الرياحين 1990. وربما أشارت بعضُ الدراساتِ إلى أنَّ هناكَ بعضَ الأسماءِ التي ربما سبقتِ المدني في تجريبِ شعرِ التفعيلة، لكنها لم تكتملْ ولم تتأسسْ على نضجٍ كافٍ لترسيخها في سياقِ دراسةِ الأدبِ الإماراتيِّ وتحولاتهِ الفنيةِ والموضوعيةِ والفكرية. لكن يمكن الرجوعُ إليها في البحوثِ والدراساتِ التي قدمها الأستاذُ بلال البدور، وجمع فيها قصاصاتٍ وقصائدَ مفردةً ومحاولاتٍ أولى لشعراءَ من الإمارات لم تكتملْ تجاربُهم لاحقًا. حيث الى جانب الأسماء الراسخة، ذهب البدور عميقاً للبحث عن الذين حاولوا كتابة الشعر ولم يكملوا الطريق. وفي كتابه النوعي (موسوعة شعراء الإمارات – الجزء الأول) قدم لنا تراجم لـ 101 من شعراء الفصحى الذين كتبوا الشعر العمودي.

التحولات الاجتماعية السريعة

كانتِ الساحةُ الشِّعريةُ في الإماراتِ تقومُ على القصائدِ الكلاسيكيةِ بالطبع، وكان المجتمعُ التقليديُّ لا يستسيغُ هذه النقلةَ في كسرِ البيتِ الخليليِّ، لكن مع قيامِ دولةِ الإماراتِ الثاني من ديسمبر من العام 1971، أصبحَ التحولُ نحو الحداثةِ سريعًا جدًا وشملَ جميعَ القطاعاتِ وتحديدًا التعليمَ، حيثُ دخلتْ في وجدانِ الإنسانِ الإماراتيِّ روحٌ جديدةٌ وارتفعَ في داخلهِ الشغفُ والطموحُ للارتقاءِ في كلِّ شيءٍ بما فيها الفنونُ والآداب. وبمجردِ وصولِنا إلى أوائلِ الثمانينيات، انتظمتِ الصحفُ اليوميةُ في الصدورِ (بعدَ أن كان صدورُها متقطعًا) لتخصصَ صفحاتِها الثقافيةِ لتجاربِ التجديدِ في الوطنِ العربي. وصرنا نقرأُ ونسمعُ بأسماءِ محمود درويش والماغوط وأدونيس ونزار قباني وغيرهم من روادِ موجةِ التجديد بشكل يومي، ونتأثر بفكرهم.

ازدهار الحياة الثقافية

مع أوائلِ الثمانينياتِ أيضًا انتظمتْ معارضُ الكتبِ لدينا في الشارقةِ وأبوظبي، وجاءتْ كتبُ الشِّعرِ الجديدِ وأيضًا الشِّعرِ العالميِّ (المترجم) لتقعَ بين أيدينا نحنُ الشباب، حيث كنّا لا نزالُ طلبةً في جامعةِ الإمارات أو مبتعثينَ للدراسةِ في الخارج، وصار لزامًا أن نتأثرَ بهذه التياراتِ التي نظَّرتْ وانحازتْ أيضًا إلى قصيدةِ النثرِ، فانقسمتِ الساحةُ الشِّعريةُ إلى ثلاثِ فئاتٍ هي: روادُ القصيدةِ الكلاسيكيةِ الكبارُ من الجيلِ الأول، ثم روادُ وشبابُ قصيدةِ التفعيلةِ، ومنهم د. أحمد أمين المدني، وحبيب الصايغ، وعارف الشيخ، وعارف الخاجة، وإبراهيم الهاشمي، وكريم معتوق، وصالحة غابش، وظاعن شاهين، وأمينة ذيبان، وأسماءٌ أخرى كثيرةٌ قدمتْ نفسها لكنها لم تكملْ الطريق. ثم في هذه الفترةِ (نهاية السبعينيات حتى منتصف الثمانينيات) بدأتْ تبرزُ أصواتُ المجربينَ الخائضينَ في مغامرةِ قصيدةِ النثر، بدايةً من ظبية خميس، نجوم الغانم، أحمد راشد ثاني، ميسون صقر، خالد البدور، خالد الراشد، علي العندل، عبدالعزيز جاسم، ثاني السويدي، خلود المعلا، سالم بوجمهور، محمد المزروعي، وآخرين، وكنتُ أنا معهم نشهدُ هذه التحولاتِ السريعة. وكان معنا أيضًا كتابٌ وأدباءُ خليجيونَ وعربٌ منهم قاسم حداد وأمين صالح من منبرِ جريدةِ الخليج التي كانت تصدرُ في الإماراتِ والبحرين في نفسِ الوقت، والشاعرُ سيف الرحبي من عُمان الذي أقامَ لفترةٍ في الإماراتِ وعملَ في مجلةِ أوراق التي يصدرها حبيب الصايغ من أبوظبي. وأيضًا كان معنا الشعراءُ والمثقفونَ العرب، ومنهم محمد الماغوط الذي أشرفَ على صفحاتِ جريدةِ الخليج الثقافية واستقطبَ نصوصَنا وقدمها، والكاتبُ السودانيُّ محمود مدني، ود. يوسف عيدابي، وبعضُ الأسماءِ العربيةِ الأخرى.

وقفات لا بد منها:

أولًا: أحبُّ هنا أن أتوقفَ عند بروزِ اسمِ المرأةِ الإماراتيةِ في تجربةِ الحداثةِ منذ بدايةِ انطلاقتها نتيجةً لقوةِ التعليم، ولا زلتُ أذكرُ العشراتِ من الأسماءِ النسائيةِ التي أسَّستْ لصوتِ الحداثةِ، ليس فقط على مستوى قصيدةِ النثرِ، وإنما في القصةِ القصيرةِ والفنِّ التشكيلي، حيث امتدتْ (روحُ الحداثة) إلى الفنونِ البصريةِ، وكما نادى الشعراءُ مبكرًا بكسرِ الوزنِ الخليلي، ظهرَ من بعدِهم من ينادي بكسرِ الإطارِ التقليديِّ للوحةِ الفنيةِ مثل الفنانِ حسن شريف في بدايةِ الثمانينيات الذي راحَ يعرضُ أعمالَه على الأرض. أيضًا نادى المسرحيونَ بكسرِ العلبةِ الإيطاليةِ في المسرح مثل ناجي الحاي وجمال مطر اللذان قدَّما تجربةَ عرضِ أعمالِهما في الهواء الطلق على الرملِ وقرب البحرِ من دون خشبة. وكانتِ القراءاتُ الصحفيةُ والنقديةُ التي ترافقُ هذه التغطياتِ تُشيدُ بفكرةِ التمردِ على الأنماطِ الكلاسيكيةِ وتمجّدُ التجريبَ الفنيَّ الذي شملَ كلَّ تياراتِ الفنونِ والآداب.

ثانيًا: أقفُ هنا أيضًا عند ملاحظةٍ جديرةٍ بالنظر، وهي أنَّ الحداثةَ في الإماراتِ واجهتْ بالفعلِ تحدياتٍ كبيرةٍ أثناءَ ظهورِها في مجتمعٍ تقليدي، ورغمَ بعضِ الرفضِ من المؤسسةِ الثقافيةِ أو أفرادِ المجتمعِ لهذه الأصواتِ الجديدةِ والأفكارِ غير المألوفة، إلا أنَّ المناخَ الثقافيَّ المنفتحَ في الإماراتِ جعلها تتطورُ بشكلٍ طبيعيٍّ وصحيٍّ من غيرِ قسوةٍ أو مبالغة. حيث صارتِ الفنونُ التجريبيةُ تتسيدُ اليومَ الساحةَ الفنيةَ، واستطاع شعراءُ قصيدةِ النثرِ أن يطوّروا تجاربَهم ويراكموها. على عكسِ بعضِ البلدانِ العربيةِ والخليجيةِ التي وصلَ فيها الأمرُ في فترةِ الثمانينيات إلى منعِ الكتبِ وإتلافها بل وإحراقها فقط لكونِها تنادي بالتجديدِ الفنيِّ على صعيدِ الشكل.

ثالثًا: في العام 1984 تأسسَ اتحادُ كُتابٍ وأدباء الإمارات، وفي 1987 أصدرَ أولَ أنطولوجيا شعريةٍ لأبناءِ الإماراتِ بعنوان قصائد من الإمارات، وكان صوتُ الحداثةِ متمثلًا في قصائدِ التفعيلةِ والنثرِ حاضرًا بقوةٍ في هذا الكتاب، بل إنه يمثلُ نحو 50% من محتواه، وهذا مؤشرٌ مهمٌّ على قوةِ حضورِ شعرِ الحداثةِ في ذلك الوقت. وقد تشرفتُ بالمشاركةِ في هذا الكتابِ بقصيدةِ نثر مع مجموعة من شعراء البدايات الأولى لتجارب القصيدة الجديدة في الامارات. وكم أتمنى أن تُعاد تلك التجربة الغنية بإصدار موسوعة جديدة تضم قصائد شعراء الإمارات منذ البدايات حتى اليوم.

رابعًا: أسهمَ اتحادُ كُتابٍ وأدباء الإمارات في نشرِ المجموعاتِ الشعريةِ الجديدةِ لشعراءِ قصيدةِ التفعيلةِ والنثر، بل انحازَ أيضًا لنشرِ كتبِ الشعراءِ الخليجيينَ والعربِ المقيمينَ في الإمارات ومن خارجها. ولعبتْ مجلةُ شؤون أدبية التي تصدرُ عن الاتحادِ دورًا حيويًا في ترسيخِ حضورِ صوتِ الحداثةِ الإماراتيةِ على المستوى العربي، قبل أن تتراجعَ لاحقًا عن هذا الدور. أيضا بدأ صوت القصيدة الجديدة يصل الى الخارج حيث فازت مجموعة (ليل) لخالد البدور بجائزة يوسف الخال في العام 1992، كذلك صارت دور النشر العربية المعروفة في لبنان ومصر تنشر مجموعاتنا الشعرية الجديدة من ضمن سلسلة تضم أبرز التجارب الشعرية العربية الشابة.

خامسًا: يُلاحظُ أننا عند منتصفِ الثمانينياتِ صرنا نستوعبُ أصواتَ الحداثةِ الشِّعريةِ الجديدةِ بزخمٍ أعلى من تجاربِ التفعيلةِ والعمود. حيث ظهرتْ أسماءٌ كثيرةٌ تكتبُ قصيدةَ النثرِ وتنشرُ إنتاجَها في الصحفِ والمجلاتِ، ومن بينها إبراهيم الملا، وعبدالله السبب، والهنوف محمد، ومسعود أمر الله، وعبدالله عبدالوهاب، وأحمد العسم ومها خالد وآخرين. كما ظهرتْ أيضًا تجاربُ إصدارِ النشراتِ الأدبيةِ الحرة مثل (أشلاء الأرانب القزحية) التي شارك فيها مرعي الحليان وعلي العندل، ونشرة (رماد) مع مسعود أمر الله التي تحولتْ لاحقًا إلى نشرة (رؤى)، حيثُ استقطبتْ في عددٍ منها الشاعرَ البحرينيَّ الكبيرَ قاسم حداد. وكان يتمُّ طبعُ هذه النشراتِ وتوزيعُها يدويًّا بين الأصدقاءِ من غيرِ ترخيصٍ رسمي.

سادسًا: شهدتِ الإماراتُ منذ الثمانينياتِ ظاهرةَ الكتابةِ باسمٍ مستعار، وبالأخصِّ الأسماءُ النسائيةُ من العائلاتِ المحافظةِ أو تلك التي تخشى مواجهةَ المجتمع. ورغمَ وجودِ هذه الظاهرةِ في الشِّعرِ الشعبيِّ مثل بنت البادية – قطوف – ريم البوادي وغيرها، إلا أنها في ظاهرةِ الحداثةِ تبدو غيرَ مألوفة. وأتمنى لو تكونَ هناكَ دراسةٌ مستفيضةٌ حولَ هذه الأسماءِ التي كانتْ تنشرُ القصصَ القصيرةَ والقصائدَ بأسماءٍ مستعارةٍ في الصفحاتِ الثقافيةِ لجرائدِ الاتحاد – الخليج – البيان وبعض المجلات، وربما كانتْ أسماءُ بعضِ الرجالِ أيضًا مستعارة.

سابعًا: ظلَّ النقدُ الأدبيُّ الموازي لتجربةِ الحداثةِ الشِّعريةِ متأخرًا عنها. حيثُ لم تكنْ هناك قراءاتٌ في التجربةِ الجديدةِ حتى منتصفِ الثمانينياتِ إلا فيما ندر، ثم من بعد ذلك بدأتْ مجلةُ شؤون أدبية تقدمُ بعضَ القراءاتِ الانطباعيةِ والتحليلية. ثم في بدايةِ التسعينياتِ صار بعضُ النقادِ العرب يقدمونَ قراءاتٍ صحفيةً للتجربة، إلى أنْ تطورَ الأمرُ لاحقًا إلى إصدارِ كتبٍ تقرأُ التجربةَ الشِّعريةَ ككل أو بعضها. لكنها في الأغلب تميلُ إلى الجانبِ الأكاديميِّ لغرضِ الدراسةِ الجامعية. أما ما اشتهرَ من هذه الدراساتِ فهو قليل، ولا يتجاوزُ 15 كتابًا كما أظن، كلها حاولتْ في مجلدٍ واحدٍ أنْ تقرأَ التجربةَ الشِّعريةَ في الإماراتِ على العمومِ ولم تخصصْ أو تركّزْ النظرَ في عمقِ علاماتِ التجديدِ على مستوى اللغةِ والصياغةِ وتكوينِ البنيةِ المعماريةِ للنصِّ الشِّعريِّ الجديد. وتحولاته الفكرية والفلسفية.

ملاحظة: ربما لم تتسع المقالة لاستيعاب جميع الأسماء الواردة في تلك المراحل الأولى، لكن الغرض هنا ليس تدوين وتوثيق التجارب كلها، بقدر ما هو سعيٌ لتقديم صورة مقربة لتجربة مهمة في تاريخ النهضة الثقافية على مستوى الشعر في دولة الإمارات العربية المتحدة.

ملامح الحداثة في شعر ابن سهل الأندلسي

WhatsApp Image 2024-10-17 at 12.34.48 PM (1)

حسين السلطان

شاعر/ العراق

يبدو أنَّ فهم العربي الفطري لفكرة الزمن كان متفوقًا متقدمًا على فهم غيرهم ، فقد ارتبط الزمن عند العرب بالفعل ارتباطًا حتميًا فلا يتحقق أحدهما بغير تحقق الآخر .

لذا فإنَّ الكلام عن الحداثة بوصفها زمنًا مجردًا لا يعبر عن الواقع بالدقة المطلوبة ، فالحداثة وعاء لفعل خاضع لظروف فنية واجتماعية تقدم بعض الاشتغالات الإبداعية على اشتغالات أخرى .

لا يمكن إنكار أنَّ مصطلح الحداثة مصطلح مرن لا يمكن تحديده بتعريف جامع مانع ، لكن المبدأ العام يشير إلى أنَّ الحداثة في الشعر هي إيجاد زوايا جديدة لم تطلها عين لينظر الشاعر إليها ويعبر عنها ويسقطها أحيانًا على فكرة أسمى أو ينظر إليها مستقلة فتكون رسالته اكتشاف أو ابتكار جمال جديد .

ولأنّ ما قدمناه يسير محفوفًا بظروف ثقافية وفنية متغيرة مع الزمن متطورة أو متدهورة ، فقد تبلورت صورة الحديث بشكل محدد يمثل التصوير الشعري الممتزج مع الرؤى الفنية للفنون المختلفة كالرسم والنحت فضلًا عن السرد ، ثم يتحقق التحديث بالتكثيف وإصابة التعبير قلبَ المعنى الذي يريده الشاعر مرة والقارئ مرة أخرى .

ولا يخفى تأثر الشعر الموزون ذي الشطرين بقواعد الأشكال الشعرية المستحدثة مثل قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر وقد أخذ منهما وأعطى فأُنتج شكلٌ مختلف في أغراضه وتعبيره وصياغته عن الشكل الموروث .

 وهنا يسأل السائل: إذا سلمنا بأن الحداثة تقدم شكلًا شعريًا ينتمي لعصره ويتأثر بالظروف الفنية والثقافية المحيطة به ، فما لابن سهل الأندلسي -وهو الذي عاش في القرن الثالث عشر الميلادي- وعصرنا وحداثتنا ؟

فيكون الجواب بالإشارة إلى ارتباط الزمن بالفعل فإذا قدم الفعل ملامح صورة تنتمي إلى غير زمنه فقد اخترق زمنه وعبر إلى زمن غيره ، وما أسهل أن يقال أن للجواهري قصائد جاهلية ، وفي مثالنا هذا نريد أن نقول أن لابن سهل قصائد أو أبياتًا على الأقل تنتمي إلى العصر الحديث .

 تحنُّ وتصبو كل عينٍ لحسنهِ                كأنَّ عيون الناسِ فيهِ قلوبُ

انظر معي إلى أثر هم من آثار الحداثة في الشطر الأول وهو تحريك الجمادات، إذ جعل العين فاعلًا حقًا لا فاعلا ينوب عن فاعل أو يشري إليه كما في التراث الأدبي كأن يقال رأت عيني أي رأيتُ .

ثم انظر إلى التشبيه في الشطر الثاني تجده تشبيهًا مبتكرًا يشبه به العين بالقلب الذي يحن ويصبو وهو بذلك عاد ليجعل القلب فاعلًا حقًا لا نائبًا عن صاحبه، وما الحداثة غير الابتكار ؟

خدٌّ جرى ماءُ النسيم بجَمْرِه           فاسودَّ مجرى الماء في الجَمَراتِ

كتَبَتْ حروفُ الشعرِ في وَجَناتِه      ما قد جَنَتْ عيناهُ في المُهُجاتِ

فترى ذنوبَ جُفونِه في خدِّه           يَبْدُو عليها رَونقُ الحَسناتِ

  من ملامح الحداثة بناء الوصف على الوصف ومزج المحسوس بالملموس وهو ما نسميه التركيب ، ونرى التراكيب المبتكرة فالوصف في أبياته التائية يصور للقارئ أثر الجهد على الموصوف إذ يسمي عرق الجهد ماءَ النسيم ويشير إلى كثرته وقد جرى على خده الأحمر المتوهج كالجمر فأطفأ من جمره ما أطفأ حتى صار بعض خده أسودًا ، وهو يفتخر بتعب الموصوف واسوداد وجناته ويزينه بشِعره ، ولا يكتفي بعد هذا بل يعود إلى نسبة الجمال لسواد جفونه ووجنتيه فيحمد سوادهما كما يُحمَد سواد الحسنة أو الخال.

دعوهُ يُذِبْ نفسي، ويهجر، ويجتهد           تَرَوْا كيف يعتزُّ الجمالُ ويَعْتَدِي

إذا ما رنا شَزرًا فمِن لحظِ أَحْوَر               وإن يَلْوِ إعراضًا فصفحةُ أَغْيَدِ

وعذَّبَ بالي نعَّمَ الله بالَه                         وسهَّدَنِي  لا ذاقَ بَلْوَى التَّسهُّدِ

يجد القارئ في هذه الأبيات وزنًا سرديًا يقربها إلى الحكاية فنرى ابن سهل يحركنا معه في دورة زمنية مبنية على مقدمة تكون علة نتعلق بها ثم حبكة من أحداث متتالية كلها في البيت الأول إلى أن يخلص إلى ناتج علة وغاية عرضها  ولا ينسى أن يغرس في قلب حكايته بيتًا من الشعر مبني على الشرط والنتيجة أيضًا برسم صورة صدود المحبوب الذي يرى صدوده صورة من صورة الجمال ، ثم يعود بنا إلى حكايته التي يسردها ويقف وقفة المفعول به الذي عُذب وسُهِّد وهو يرى عذابه وسهده نعيم وفضل من المحبوب الذي يدعو له بأن يسلم من العلل التى أصيب بها من فعله.

قد أكتفي بعرض هذه الأبيات التي احتوت ملامح مختلفة تظهر لنا الحداثة في غير عصرها وغير وعائها عند شاعر سبق عصر ونظر بأعين أحفاده وسبق إلى صور قد يكتبها شاعر اليوم ويظن أن لم يُسبق إليها فلا يلام ، ولا بدّض من الإشارة إلى أن ما وجدناه في شعر ابن سهل ليس حكرًا عليه بل قد نجده عند كثير من الشعراء في عصور مختلفة من عصور الأدب وبيئات متنوعة كذلك غير أني اخترت ابن سهل المنسي لنتجول معًا في تجربته الشعرية الفريدة التي استطاع بها اختراق الزمن قبل أن يعلم أنشتاين أن ذلك ممكن.