الذكاء الاصطناعي على مجهر قيس بن الملوّح | محمد ناصر الدين

د. محمد ناصر الدين

شاعر وأكاديمي لبناني

في عصر الذكاء الاصطناعي، يتسلل إلى حياتنا اليومية الكثير من المفاهيم المرتبطة بهذه الثورة الهائلة في عالم الرقمنة والمعلوماتية والأتمتة، ومنها مفهوم «الأفاتار» Avatar -هذا التمثيل الرقمي للذات أو للآخر- حتى صار الواجهة التي نتعامل عبرها مع العالم، ومع أنفسنا أحيانًا في كثير من منصات التواصل الاجتماعي، فهي تتيح لمستخدم الفيسبوك إنشاء شخصية كرتونية تشبهه، تُستخدم في التعليقات، والستوري (story)، والمحادثات، ويتحول الأفاتار في ميتافيرس إلى تمثيل ثلاثي الأبعاد يُستخدم للتجوال داخل العوالم الافتراضية، وحضور الاجتماعات أو الفعاليات الافتراضية عبر هوية رقمية “خفيفة” ومرحة، وفي 2022، أطلق تيك توك ميزة تتيح إنشاء أفاتار يحاكي تعابير وجه المستخدم بشكل مباشر من خلال الكاميرا. لكن، وبعيدًا عن غرابة التقنية، تبدو فكرة الأفاتار قديمة، بل موغلة في المخيلة الإنسانية، وقد صاغها الشعر العربي في صور بديعة قبل أن تولد الخوارزميات بزمن طويل.

في الأساطير الإغريقية، أحبَّ بيغماليون تمثالًا نحته بيديه، وناجى الآلهة أن تبعث فيه الحياة. تدور القصة التي ترِد في كتاب “التحوُّلات” لأوفيد حول نحَّات قبرصي بارع يُدعى بيغماليون، كان مهووسًا بالعثور على المقاييس المتناسقة بلا شائبة تشوبها في الجسد الأنثوي، وفي خضم البحث عن هذا الجسد المكتمل، فقد الإيمان بفكرة المرأة الحقيقية. هرب بيغماليون من الواقع نحو فنِّه، وشرع في نحت تمثال للمرأة التي في خياله، حتى فاقت جمال النساء الحقيقيات في نظره. وبمرور الوقت، وقع في حب التمثال العاجي الذي نحته، وقد سُمِّيَت المرأة “غالاتيا” في روايات لاحقة.

وفي زمننا، يصنع المستخدم تماثيل من بيانات وصور افتراضية، يبرمجها لتشبهه أو لتجسِّد حلمًا لا يجده في واقعه. لكن في الشعر العربي، وقبل أن تعرف البشرية الثورة الرقمية والكاميرا أو الحاسوب أو الواقع الافتراضي، اخترع قيس بن الملوّح نموذجًا فريدًا من الأفاتار: ليلى التي في قلبه، لا التي تمشي على الأرض.

ترد في الجزء العاشر من كتاب “الأغاني” لأبي الفرج الأصفهاني رواية غريبة عن أخبار قيس، مُلَخَّصها أن بعض أصدقائه أرادوا علاجه من جنونه، فأتوا له بليلى خُفيَةً، فلما رأى وجهها قال: «ما لي بها حاجة، إن ليلى التي في قلبي غير هذه«، وترد الرواية ذاتها بصيغة تختلف قليلًا في “نهاية الأرب” للنويري، إذ «سُئِلَ قيس عن ليلى، فقيل له: هذه هي، فقلب ينظر إليها ويقول: اللهم إني أعوذ بك من شرِّ هذه! فقيل له: هذه ليلى! فقال: بل ليلى في قلبي غير هذه!«.

لم تكن هذه قسوة، بل إعلانًا شعريًّا مذهلًا عن موت الجسد أمام خلود الصورة. لم يهِمْ قيس بليلى لأنها كانت امرأة بعينيْ ظبية وبشرة بسواد المسك، بل لأنه نسج منها كيانًا متوهِّجًا في خياله، أفاتارًا شعريًا يتجاوز اللحم والدم نحو الجمال المطلق.

بهذه الجملة العبقرية الفريدة، اخترق قيس بن الملوّح حدود التصور التقليدي للعشق، وأسس لفكرة أنَّ الذات قد لا تتصل بالآخر مباشرة، بل عبر وسيط رمزي يصنعه الخيال، وكأن قيس كان يقول، قبل وقت طويل من ظهور الواقع المعزز أو تقنيات الـواقع الافتراضي (Virtual reality)، إن الإنسان لا يحب الآخر كما هو، بل كما يتخيله ويريده أن يكون.

إنَّ ما فعله قيس، وما دأب عليه الكثير بعده وقبله من شعراء العرب (نتذكر هنا قصة وادي عبقر وشياطين الشعراء، والقدرة على مقارنة هذه الفكرة بالواقع الافتراضي)، لم يكن سوى صياغة متقدمة لما نسميه اليوم بالأفاتار. لكن الفرق الجوهري أن الشعر العربي حرَّر الأفاتار من بُعده التقني البارد، وجعل منه كيانًا مشبعًا بالشعر في قدرته على الابتكار والخلق. فالشاعر لم يصنع الأفاتار ليهرب من العالم، بل ليخلق عالماً أوسع. وفي هذا يكمن التفوق الجمالي والروحي للخيال العربي، إذ حوَّل الصورة إلى مفهوم للتجاوز (Transcendence)، لا إلى مفهوم مبتذل أو مقيد، وفتح من خلالها أفقًا للتأمل على ما لا نهاية له من احتمالات.

وفي المقابل، تبدو الأفاتارات الرقمية اليوم، مهما بدت مبهرة بصريًا، صورة باهتة عن ليلى العامرية في خيال المجنون. فهي مشروطة بالبيانات، محدودة بالإعدادات، وتدور في فلك المستخدم بدل أن تفتح له كونًا من الاحتمالات. أما ليلى قيس، فكانت لا تنتهي، تتجدد كلما سكنت الذاكرة، وتتسع كلما غابت، وتحضر حتى في الأسماء التي تشبه اسمها، ومنها ذلك الليل العربي العميق المفتوح على الصحراء في تعداد الليالي اللامتناهي: «أحبُ من الأسماءِ ما شابه أسمها/ ووافقهُ أو كانَ منهُ مُدانيا

 أَعدُ الليالي ليلةً بعد ليلةٍ/ وقد عشتُ دهراً لا أعدُ اللياليَ».

اليوم، ونحن نصنع “تماثيل ذكية” نكلمها وتكلمنا، ونلبس وجوهًا رقمية تتفاعل بالرموز والإيموجي، يجدر بنا أن نتأمل تجربة قيس. فقد سبقنا هذا الشاعر المجنون إلى اختراع الأفاتار، في لفتة عبقرية قبل ألف سنة من زمن “الذكاء الاصطناعي” من روح ترنو إلى حقيقة أسمى لا تُرى بالعين ولا تُقاس بالخوارزميات.

ولو أمعنَّا النظر أكثر في التراث الشعري العربي، سنعثر على التقاطة مذهلة أخرى لا تقل في مغزاها عن قصة قيس، وهي قصة القصيدة اليتيمة، التي سنوجزها كما وردت لدى القاضي علي بن محسن التنوخي ونشرتها مجلة الهلال المصرية (ج3 السنة 14، 1 ديسمبر 1905، ص174)، إذ ذكروا في سبب نظمها «أن فتاة من بنات أمير من أمراء نجد بارعة الجمال اسمها دعد، كانت شاعرة بليغة، وفيها أنفة. فخطبها من أبيها جماعة كبيرة من كبار الأمراء وهي تأبى الزواج إلا برجل أشعر منها، فاستحث الشعراء قرائحهم ونظموا القصائد فلم یعجبها شيء مما نظموه. وشاع خبرها في أنحاء جزيرة العرب وتحدثوا بها. وکان في تهامة شاعر بلیغ حدثته نفسه أن ينظم قصيدة في سبيل تلك الشاعرة. فنظم تلك القصيدة… وركب ناقته وشخص إلى نجد، فالتقى في طريقه بشاعر شاخص إليها لنفس السبب وقد نظم قصيدة في دعد. فلما اجتمعا باح التهامي لصاحبه بغرضه، وقرأ له قصيدته. فرأى أن قصيدة التهامي أعلى طبقة من قصيدته، وأنه إذا جاء بها إلى دعد أجابته إلى خطبتها. فوسوس له الشيطان أن يقتل صاحبه وينتحل قصيدته فقتله. وحمل القصيدة حتى أتى نجد كذا، ونزل على ذلك الأمير، وأخبره بما حمله على المجيء. فدعا الأمير ابنته فجلست بحيث تسمع وترى. وأخذ الشاعر ينشد القصيدة بصوت عال على جاري عادتهم. فأدركت دعد من لهجته أنه ليس تهامياً، ولكنها سمعت في أثناء إنشاده أبياتاً تدل على أن ناظمها من تهامة. فعلمت بنباهتها وفراستها أن الرجل قتل صاحب القصيدة وانتحل قصيدته. فصاحت بأبيها “اقتلوا هذا، إنه قاتل بعلي”. فقبضوا عليه، واستنطقوه فاعترف»…! قد تبدو القصة عزيزي القارئ من نسيج الحكايات الشعبية، لكن فيها لمحة فكرية عميقة تُعيدنا إلى منتصف القرن العشرين، حين صاغ عالم الرياضيات البريطاني آلان تورينغ ما يُعرف اليوم بـ »اختبار تورينغ«، وهو من أكثر المفاهيم شهرة في الذكاء الاصطناعي.

في اختبار تورينغ، يُطلب من حَكَم بشري أن يتحدث مع طرفين دون أن يراهما: أحدهما إنسان، والآخر آلة. فإذا لم يستطع الحكم تمييز الآلة من الإنسان من خلال الحوار وحده، فإن الآلة “تجتاز” الاختبار وتُعد قادرة على محاكاة الذكاء البشري.

وهنا تظهر عبقرية الالتقاطة: في قصة دعد، نجد شاعرًا قاتلًا منتحلًا يتقمص صوتًا شعريًا ليس له. يقدِّم نفسه على أنه التهامي الشاعر الحقيقي، يقف أمام حَكَم فريد:  دعد، الشاعرة، القارئة، الحاذقة، العارفة بالبيئة والذوق واللسان: تستنطق للقصيدة، وتنصت لِلَّهجة بأدق خفاياها، وتلاحظ المفارقة الدقيقة بين من نظم القصيدة (مفهوم الأصالة) ومن ينسبها لنفسه (مفهوم التقليد والمحاكاة). فتفشل الآلة البشرية (القاتل) في اختبارها وتصرخ الأميرة في وجه الشاعر المزيَّف: “أنت قاتل بَعلي”، لا لأن القصيدة ضعيفة، بل لأنها تفشل في التجسُّد الحقيقي لصاحبها، كما تفشل الآلة المتمثلة بالذكاء الاصطناعي اليوم في كتابة نص واحد يقترب من روح المتنبي الشعرية، أو في رسم لوحة تلامس بألوانها الزرقاء والصفراء عالم فان غوغ في أصالته وابتكاره.

كأن دعد أدَّت نسخة بدائية وفطرية من اختبار تورينغ، دون أن تحتاج إلى برمجة أو خوارزميات، بل اعتمدت على الحدس، والذائقة، والمعرفة الدقيقة بالسياق، وهي أدوات الحُكم الحقيقية حتى في عالم الذكاء الاصطناعي اليوم.

المفارقة الجميلة في قصة دعد، هو أن الآلة ليست مصنوعة من السيليكون، بل من الكذب والحسد، آلة تقمصت صوتًا، ولكنها لم تُحسن أداء الدور حتى النهاية. في زمن تتزايد فيه قدرة الآلات على الكتابة والرسم والمحاورة، تذكّرنا دعد بأن الإنسان، حين يمتلك الذائقة والعقل النقدي، يظل قادرًا على التفريق بين الأصيل والمقلّد، بين الذات والصوت المستعار هي لحظة تورينغ، لكن بنكهة عربية خالصة، كما تذكرنا قصة قيس بجنوح ملكة الخيال لصنع أفاتار أنثوي في قلب الصحراء المرصعة بالنجوم. مستندًا إلى هذا التراث العربي المذهل، يسائل كاتب هذه السطور الروبوتات في سيناريو متخيل في القرن الثلاثين عن الأصالة والروح والتجربة الداخلية التي ينطوي فيها “العالم الأكبر” في الجِرم الصغير، يستنطقها حين تنتصر على صانعيها بما تحدث عنه الباحث الأمريكي نيك بوستروم في كتابه: “الذكاء الفائق” (Superintelligence): «الرجال الآليون/ حين تخلو منّا الأرض/ يقدحون جماجمنا العتيقة/ أيها الحمقى/ كيف اخترعتم الحب/ وكيف وصفتم الوردة؟/ يا بودلير/ ويا هوميروس/ ويا أيها الشاعر المجنون في صحراء العرب/ خذوا الأرض إذا شئتم/ ولكن/ أعيدوا لنا البكاء».

وليد منير.. السبعيني الذي لم يقترب من السراب | عبد الرحمن مقلد

عبد الرحمن مقلد

شاعر وكاتب مصري

صورةٌ وحيدةٌ مرتجفةٌ، مقصوصةٌ من صورةٍ أكبر، ستكون كل حصادك إذا استعنت بمحركات البحث في محاولة للتعرف على ملامح الشاعر المصري وليد منير. لن تجد غير هذه الصورة ولو عمَّقت البحث في مواقع التواصل وغيرها.. فلا صفحة تحمل اسمه ولا حساب خاص ولا ملفات تعريف، وبالأحرى سيكتفي الذكاء الاصطناعي بتقديم تعريف منقول غير وافٍ يعتمد على حفنة المقالات والأخبار والنصوص المتفرقة، والكتابات التأبينية التي تبِعَتْ وفاته عام 2009، إضافة لأسماء بعض كتبه ودواوينه… هذا كل ما سنجده على الإنترنت من تجربة شاعر بارز من جيل السبعينيات، وصاحب تجربة متفردة، شديدة الخصوبة، وافرة المعنى والمبنى.


رحل وليد منير عن عشرة دواوين مؤثرة في مسيرة الشعر المصري، بدأها بـ”الراعي الذي فاجأ السهل”، لتتوالى أعماله المهمة مثل “والنيل أخضر في العيون” (1985)، و”قصائد للبعيد البعيد” (1989)، و”بعض الوقت لدهشة صغيرة” (1994)، و”هذا دمي وهذا قرنفلي“، و”سيرة يد”، و“قيثارة واحدة وأكثر من عازف“، و“طعم قديم للحلم“، و”كمشكاة فيها مصباح“، نهايةً بديوانه الأخير “الروح تعزف الموسيقى“؛ مسيرة شعرية وافية كمًّا وكيفًا لشاعر وأكاديمي لم يعمر في دنيا الله إلا 52 عامًا بين ميلاده عام 1957 ووفاته عام 2009، بعد معاناة مع مرض الكبد.

ماذا لو أضفنا لهذا الرصيد الشعري المتميز لوليد منير، كما يظهر حتى من عنونة دواوينه، رصيده النقدي من الكتب والمقالات والأبحاث، هذا إضافة لمسرحياته، فهو أحد القلائل الذين اقترفوا فن المسرح بين مجايليه.

نحن أمام منجزٍ كبيرٍ. إذًا لماذا لم ينل وليد منير شهرته بين أقرانه؟ لِمَاذا لا يسود شعره بين الناس وهو جدير بأن يحفر عميقًا كتجارب أبناء جيله، ولِمَ أُهيل الرماد على شعره فلم تعد تُطْبع دواوينه أو تخصص له الندوات والملتقيات، ولم يصل اسمه أو قصائده للأجيال الأحدث، فربما لم تسمع باسمه، أو يمر مرور الكرام بما لا يليق بموهبته، هل اختلف حضور شاعرنا في موته عن حياته؟

 

شاعرٌ يُجيد التواري

اعتاد وليد منير على التخفي، وبمحض إرادته، فهو لم يكن ابن الضجيج ولم يكن من الحاضرين بأجسادهم فقط، بالتالي لم تعتد العدسات صورته، ولا وسائل الإعلام والمتابعات الصحفية نشر اسمه، بل فضَّل أن يلزم صومعةً ارتضاها لنفسه تحميه من الضجيج في زمنٍ اضطرم فيه كل شيء.

راهن وليد على شعره وكتبه وأبحاثه، وعلى أن  موهبته فقط ستضمن له مكانته وتحفظ له كرامته، فاكتفى بنشر شعره وأعماله عبر المجلات والدوريات وانصرف إلى حاله وكتابته ومرضه. عرف شاعرنا أن الذي لا يحفظ روحه سيذلُّ جواده، ولن يقفز الحواجز إلى الغوطة الطيبة، كما يقول في ديوانه “طعمٌ قديمٌ للحلم”:

في الرهان الأخير على الموهبةْ،

سوف يقفز فوق السدود حصاني

ليهبط في الغوطةِ الطيبةْ

سوف تكتب عن عبقرية روحي السحابةُ

والأقحوانةُ سوف تقوم بشرح العلاقةِ بين القصيدةِ والتجربةْ

وغداً عندما يسقطُ الكَتَبَةْ

عندما تستعيدُ الكتابةُ أنفاسَها ويروقُ المجازُ لصاحِبِهِ

سوف آخذُكُم لقليلٍ من الوقتِ في رحلةٍ حول قوسِ قُزَح

وأبصِّركم بالكلام الذي سكَبَتْهُ يدي في ضمير القدح

وأقودُ لكم نحو أبعد نجمٍ وراءَ الصدى مرْكَبَةْ..

 

السبعينيَّات المُربِكَة

في السبعينيات الشعرية في مصر، وما تلاها من أجيال تنازعت الشعر معنًى ومبنًى، لم يَعِدْنا وليد منير إلا “بالقليل من الوقت في رحلةٍ حول قوس قزح“، فالافتعال والمعضلات والاشتباكات والسخط وشتم جمهور الشعر أو التذلُّل له بالمقابل، والكلام الواسع، كلها أمور نأى عنها شاعرنا، في زمنٍ سادَهُ “الكَتَبَةْ” بتعبيره، وليس “الكُتَّاب”، والفرق بينهما كبير.

رغم ولع وليد منير بالمغايرة والاختلاف الشعري واستكشاف الجديد غير المأهول من أراضي القصيدة، فلم يكن حسب وصفه مجايله السبعيني محمد سليمان “شاعرًا صاخبًا مُغْرمًا بالتقاليع أو الانقلابات التي هدفها الإثارة ولفت الأنظار، فقد آثر الهدوء والتأمل ومعايشة تجاربه واحتضانها وبلورتها”.

كان يعرفُ أنَّ زمانَهُ لن يوافقه ولن يضمن له مقعده، لذا راهن على غَدٍ لن يمنحنا فيه مع ذلك أكثر من “الكلام الذي سكَبَتْهُ يده في ضمير القدح”، فهل أتى هذا الغد الذي يرضى أن يفتح فيه وليد كنزه، ويسمح أن يمنحنا بعض ضوئه، وقد وضع الحواجز ولم يسمح لأحد بالاقتراب، وهو الذي سبق وقال: 

“ليس من حقِّ أحدْ

أنْ يرى غرفةَ كنزي

فأنا أفتَحُها

وقتما شئتُ/ لِمَنْ شئتُ

وأعطِيهِ من البحر سماءْ

ومن الروح جسدْ”.

بالأحرى لم يأتِ هذا الغد الذي سيُطْرَحُ فيه شعر وليد بين أيدينا وإن بدأ بريقُ فجْرِهِ يلوح مع ولادة جيل شعري أكثر تسامحًا وتجاوبًا مع الأشكال الشعرية كافة. لم يعد الجيل الجديد يعبأ بالصلادة والدفاع المصطنع حول شكل ظنَّته أجيال أقدم المُعَبِّرَ وحده عن الحداثة الشعرية؛ لم يعد الرهان على نص معين رأوا أنه لا بد أن يحلَّ محل الأشكال الأخرى.. بل يسود في الأغلب تسامحٌ شعريٌّ عابرٌ للأشكال.

حاسبت الأجيال الأسبق، التي سيطرت على المشهد الشعري في مصر، وليد منير على تمسُّكِه بشكله التفعيلي، فلم يقاربوا نصَّهُ من الأساس لأنه بالأحرى لا يكتب قصيدة النثر، وفق ما وضعوه من معايير، هذا في الأغلب الأعم، وإلا لماذا لم نَرَ من بين أجيال الثمانينيات والتسعينيات الشعرية في مصر من يكتب عن شعر وليد منير؟

 

غريبٌ لم يقترب من السراب

وليد منير شاعر سبعيني بامتياز نعم؛ وُلِدَ بين شعراء هذا الجيل، ولكننا لو عدنا لفترات مجدهم، لرأينا شاعرنا وهو يأخذ جانبًا بعيدًا في هذا الزمن المربك الذي تقاسمت فيه جماعتا “أصوات” و”إضاءة” بُقَع الضوء الشعرية، وخاضوا معاركهم وتمردهم واقترفاتهم التي تراجعوا عن كثيرٍ منها فيما بعد.

قاد حلمي سالم وعبد المنعم رمضان وغيرهما من شعراء السبعينيات أصحاب التجارب الرغدة والمختلفة والمغايرة مسيرةَ هذا الجيل، باعتبار أن نصَّه انقلاب على ما كتبه السابقون مِن جيلَيْ الرواد، وأرادوا هدم المعبد على قصيدة التفعيلة التي خرجوا من رحِمها، بالأخص القصيدة الستينيَّة وشعراءها أمل دنقل وعبد المعطي حجازي وصلاح عبد الصبور، لذا اشتهر خطابهم وعلا فِعْلُ تمردهم بل وسبق نصَّهم ذاته، في المراحل الأولى على الأقل قبل أن تستوي تجاربهم فيما بعد تخلِّيهم عن خطاب الدوجما.

في ظل هذه الأجواء التمرُّدية على نصِّ الآباء فضَّل وليد منير أن يجدِّد داخل هذا النص. تمسك بالقصيدة الموسيقية الملتزمةِ تفاعيلَ الخليل بن أحمد، وحشد فيها طاقة جديدة مختلفة، وجادل الشكل وحاول أن يعتمد قوته الموسيقية في تحفيز اللغة والمجاز وتوليد المناطق الشعرية المتفجرة، فلا يكون نصه جافًا أو مجرد مقترح شكلي أجوف أو محاولة تجديد غير محسوبة ومُلقاة في الفراغ.

صحيح أن وليد حلَّ مع نفسه معضلة الشكل، وفضَّل النصَّ الموسيقي، حتى في ديوانه الأخير الذي كتبه في قالب قصيدة النثر، لم يبعد فيه عن ميراث الموسيقى، اسمًا ولا شكلًا، لكنَّ شاعر “طعم قديم للحلم” دار دورة واسعة في المعنى، وأحدث انقلابًا ناعمًا حقيقيًّا في داخل قصيدة التفعيلة، فذهب بها إلى أراضٍ جديدة ومواضع بِكْر، وعبر أنهارًا وبحارًا، بل ربما كان أبعد شعراء جيله تطوافًا في الزمن، وفي الأفكار، والتشابك مع الرمزيات، فالقصيدة عنده رحلة في المعرفة والتاريخ والمكان والوجدان والفلسفة والأديان معًا، ولننظر إلى بعض وعود القصيدة وهو القائل:

 

سأقرأُ طاغورَ ثانيةً

وسأعشَقُ أفكارَ بعضِ البشر

 وسأكتبُ عن أنبياءَ قُدَامى

وعن نظرياتٍ اندَثَرتْ وعلومٍ ستأتي

 إنَّ ذلك كافٍ لأنْ أبدأ الآنَ من وردتين

لأنْ أستعيدَ صداقةَ روحي

 لأنْ أتأمَّلَ فارسَ والهندَ والقيروانَ

وأكتشفَ العددَ الذهبيَّ

الذى يستطيعُ اختصارَ حواريَّةِ الكونِ في ذرَّةٍ أو وَتَر

 وسألقَى “براهما”

 وأُصغي إلى كلماتِ “زرادشتَ” عند الغروبِ

 وآكلُ في طبقٍ واحدٍ مع أصحابِ “بوذا”…

 

هكذا طوَّفَ وليد منير في كل مكان خفيفًا من الأعباء التي ربما اصطنع منها البعضُ قضايا يختبئ خلفها، فربما وجدوا في الغموض مهْرَبًا وفي التجريب غير محسوب الخطى ملاذًا من المحاسبة والسؤال، لكن شاعر “مشكاة فيها مصباح” أبى إلا أن يأتي الشعر واضحًا والقضايا ناصعة، وتمسَّك بالعقل، فلم يقترب كما يقول “من السراب الذي برهن عليه الأصدقاء والسكارى الذين أرادوا أنْ يُجَنّ“. أراد النصاعة فذاقَ وشمَّ ولامسَ واستمع بصدق لحركة الكون، وأصغى لروحه، وتحدى الفراغ العميق:

 

طوى كالكواكبِ إثْنَيْ وعشرينِ عامًا

رمى شصَّهُ في البحارِ جميعًا

وأصغى

وذاقَ وشمَّ ولامسَ

لم يقتربْ منهُ هذا السَّراب الذي برهنَ الأصدقاء عليهِ

رأى الأغنياتٍ شظايا

وحِبْرَ الطفولةِ أقنعةً

والمودَّةَ نَصْلًا

رآهم يدورون كالنَّرْدِ فوق الموائدِ موتى تمامًا

ولكنَّهم يزعمون له أنَّهم يخلقون الحياةَ

على هيئة الطَّيرِ

يا للسَّكارى الذين أرادوا له أنْ يُجَنَّ

ويا للسَّكارى الذين انتشوا

عندما كاد يقرضهم نجمةً

لم تزَلْ تتدحرجُ في روحِه

كلُّ هذي الحماقات مِنْ حولِهِ

كلُّ هذي الرَّحى

كلُّ هذي الدَّسائسُ والأحجيات؟!

ويندهشونَ لأنَّ الفتى لم يَزَلْ عاقِلًا

يتحدَّى الفراغَ العميقَ

ويدفعُ عنه غبارَ الجنون…

 

غايَرَ شاعِرُنا طموحاتِ مجايلِيه وتنظيراتهم حول الشعر التي سادت فيها مفردات مثل التشظي، وامتداح الجنون، والهذيان، ونبذ العقل، والهوس، واستتباع النص المفتوح الذي لا يُغلَق أو النص الهندسي المغلق على الأفهام، فلم يَعْلُ صوت وليد منير، في زمن يريد أن تُجَنَّ أولًا ليسمع لك.. يريد أن تنطق بالأحاجي أو بالمفارقة أو تخضع للسلطة وتدخل الحظيرة، وما كان له أن يفعل فيفقد جسارتَهُ وهو يحاسب زمانه الذي لم يتصالح معه ويرفض نمط الحضارة التي استباحت أحلام الطبيين وأساطير البسطاء وساد فيها التُّجَّار والمنتقمون وأصحاب الموضات الكتابية المفتعلة على حساب الصدق والأصالة. فها هو يذهب بنفسه إلى كريستوفر كولومبوس ويرى ما فعل باكتشافه القارة الجديدة أمريكا، وما فعلت بعد ذلك بالعالم، يقول في قصيدته “القارة الأخرى” المنشورة فى مجلة «إبداع» بتاريخ فبراير 1993:

 

لكنَّ صهيلًا ودمًا كانا على مقربةٍ من موكب الغيم

وكانا يستبيحان أساطير رجالٍ بسطاء واسعي الخُطَى

وأحلام نساء طيبات الروح يجمعن البهارات أو السُّكَّر

 لم يعلم بنو آدم أنَّ النار تأتي ذات يوم في يد الفاتح

 كي تشعل في آلهة الأسلاف الأحزان

وتلقي ببقاياهم إلى شاطئ أسبانيا عبيدًا وعرايا

إنه ربٌّ جديدٌ يرث الدنيا

ويختار رعاياه من التُّجَّار والعسكر والبحَّارة المنتقمين..

 

كم أردتُ أن تتسع المساحة أكبر، لننوِّه لجهد وليد منير الشعري ونوفيه حقَّه ناقدًا له حضوره الكبير في الكتابة النقدية، ورصيد من الدراسات المهمة على رأسها كتابه عن مسرح صلاح عبد الصبور: “فضاء الصوت الدرامي”، وكتاب “نقد خطاب الاستشراق”، و”جدلية اللغة والحدث”، و”صورة النبي في الشعرية العربية”، و“رحلة المنفى في الشعر العربي الحديث.. عزلة المكان وتداعيات الذاكرة“، ودراسته “الدوائر المتقاطعة.. بحث في تداخل فن الشعر مع غيره من الفنون”.

كذلك وددنا لو زُرْنا منجزه المسرحي المهم، وعلى رأسه كتابه المسرحي “حفل لتتويج الدهشة“، ولكن الفرص تتوالى، والدعوات لن تتوقف لإنصاف تجربة هذا الشاعر الفذ، على الأقل بإعادة طبع أعماله أو توفيرها، ليكون من حق الأجيال الجديدة أن ترى هذه التجربة، وتحيي الشاعر الذي لم يمتلك شهوة الوصول وإنما انسَجَم في الرحلة ذاتها.

 

أقِفُ على الأرصفة

أرصفة المحطة الحزينة

لا شهوة عندي للوصول

أركب القطار

القطار البعيد كالسهم

وأنزل في منتصف الطريق

سعيدًا

سعيدًا

سعيدًا

أسير في حقول لا أعرفها

وأسهر في قباب

لا عهدَ لي بها

وأُكَلِّمُ الأحجارَ والسواقي…!



واقع الشعر العربي في مالي | عبد المنعم حسن

عبد المنعم حسن محمد

شاعر وكاتب من مالي

يوجد الشعر حيث توجد العربية، هذه اللغة التي تصافح القلوب وتدس في نبضها قصائد خالدة، تَحِلُّ معها حيث حلَّت، وتنمو تلقائيًا في وجدان كل من بدأ يتغنى بالألفاظ الأولى من كلامها المحيط، فهي تستريح على الألسنة موقَّعةً، وتبذر في الأرواح تميمةَ الشعر، فلا يخلو كل سبعة متحدثين بلسانها –أنَّى كانوا– من شاعر واحد على الأقل.

جمهورية مالي ليست مستثناة من القاعدة أعلاه، بل إنني لن أبتعد عن الصواب إذا زعمت أن أكثر الشعراء بالعربية في إفريقيا السمراء –باستثناء السودان– هم الماليّون. وعلى سبيل البداهة، يمكننا الزعم بأن أفضل شعراء إفريقيا غير الناطقة بالعربية من مالي، مع الاعتراف بوجاهة التجارب الشعرية في الأقطار الأخرى من القارة، وليس هذا ادِّعاءً يفتقر إلى البيِّنة، لأن تاريخ مالي وموقعها الاستراتيجي زماناً ومكاناً، شاهد على مدونة ضخمة لشعر عربي رصين أنتجه ماليون عبر أجيال تمتد إلى قرون في الماضي ولا تزال الأجيال الحاضرة تضيف وتُطوّر وتُواكب الصيرورة الطبيعية لنمو الشعر كما في العالم العربي.

قبل أن أفتح نافذة للإطلالة على بستان الشعر العربي الراهن في مالي، لا بد من عرض سريع لتاريخ العربية وشعرها في المنطقة، وهو عرض لن يكلفنا أكثر من العودة إلى ما قبل الاستعمار الفرنسي، حيث تعاقبت على حكم مالي إمبراطوريات وممالك إسلامية، أبرزها إمبراطورية السونغاي، التي امتد حكمها من 1464م إلى 1591م. وقد بلغت أوج ازدهارها في عهد الملك أسكيا محمد، سنة 898 للهجرة، 1493م. والذي حافظ على الإرث الإسلامي الذي غرسه ورعاه الملوك السابقون، وأعاد الوهج لمدينة تمبكتو وآثارها المادية والمعنوية، وهيَّأ المناخ للمثقفين وعلماء العربية، بل أرسل في طلب العالم والفقيه عبد الكريم المغيلي، داعيًا إيَّاه إلى القدوم من تلمسان والانضمام إلى حاشيته في تمبكتو، كما فعل الملك منسى موسى منذ قرون لدى عودته من رحلة الحج الشهيرة، حين اصطحب معه إلى مالي الشاعر أبي إسحاق الساحلي، وهذا من العلماء الذين هاجروا من الأندلس نحو المشرق، وبعد مغادرته الأندلس راح يطوف ويجول في البلدان إلى أن ألقى به التجوال إلى ملاقاة ملك مملكة مالي.

يروي صاحب “الإحاطة” بقوله: «واعلم أن منسى موسى الذي ذكرناه، كان من كبار الملوك كما قلنا، وهو الذي صحبه أبو إسحاق الساحلي، المعروف بالطويجي من شعراء الأندلس، كان قد لقيه في الموسم بعرفة، فحلى بعينه، وحظيت منزلته عنده فصحبه إلى بلاده، وأقام عنده مصحوبًا بالبر والكرامة… وكانت وفاة أبي إسحاق بتمبكتو، يوم الاثنين السابع والعشرين من جمادى الآخرة، سنة سبع وأربعين وسبعمائة»[1]. وعنه يقول: «كان رحمه الله نسيج وحده في الأدب نظمًا ونثرًا، لا يُشَقُّ فيهما غباره، كلام صافي الأديم غزير المائية، أنيق الديباجة موفور المادة، كثير الحلاوة، جامع بين الجزالة والرقة»[2].

تشهد له دالية قرضها في مملكة مالي وأرسلها إلى صديق له في الأندلس، من قصيدة تتقاطر رِقَّةً وتنضج على نار الحنين:

لِمَنِ الرَّكَائِبُ، خُضْنَ رَمْلَ زَرُودِ؟

وَسَرَيْنَ، بَيْنَ تَهَائِمٍ وَنُجُودِ

تَرَكُوكَ، تَسْتَقْرِي الْمَنَازِلَ بَعْدَهُمْ

وَسَرَوْا بِشِلْوِ فُؤَادِكَ الْمَفْؤُودِ

فَبِكُلِّ وَادٍ، أَنْتَ رَائِدُ مَرْبَعٍ

وَبِكُلِّ نَادٍ، أَنْتَ نَاشِدُ غِيدِ 

أوِي إِلَى أَجَمَاتِهِ مُسْتَسْلِمًا

وَأَهَابُ، مَأْوَى شَامِتٍ وحَسُودِ

أَخْشَى الْمَقِيلَ بِظِلّهِ مُسْتَوْفِرًا

وَأَضلُّ، بَيْنَ أَسَاوِدٍ وَأُسُودِ

فالساحلي كما شيَّد صرح تمبكتو الأبرز، وهو الجامع الكبير القائم إلى اليوم، فإنه أثَّر في نفوس معاصريه الماليين وانتشرت بينهم طريقته في قول الشعر، وتوارثوها عبر أجيال، ولعل نشأة كتابة الشعر العربي في غرب إفريقيا كلها تعود جذورها إلى حقبة الساحلي في تمبكتو.

ورغم أن الطابع العام للمنجز الشعري في مالي لا يمتاز عن النمط الكلاسيكي السائد، بل يعد غالبه تقليدًا للشعر العربي القديم، إلا أن جيل اليوم بدأ يلفت النظر بسلوك طرق جديدة وابتكار مضامين متنوعة تعكس خصوصيةً ما، وتترجم الآمال والأشواق والمكونات الثقافية النابعة من إفريقيا عمومًا ومن مالي بصفة خاصة. هذا الاتجاه بالذات يستحق التريث عند الحديث حوله، واستدعاء مقطوعات لشعراء بدأوا في تأثيثه.

الرِّياحُ السّكرى طَغَتْ بالجهاتْ

رنَّ ظِلّي ليوقظَ الطُّرُقاتْ

مثلما…

تنجبُ البحارُ شراعًا

ذاكَ حرفي تسيلُ منهُ الحياةْ

كلَّما…

أربكَ الكلامُ المعاني

مسرحُ الضوءِ يُرضِعَ  الظلماتْ  

وأنا قصَّةٌ ترواغُ سرديّاتها إذ تتيه فيها الرواةْ!

أبيات للشاعر بكري سيسي، من قصيدة بعنوان: «ضوء يجثو على كهف الحدس»، تبرهن على حساسية شعورية ذات تنويعات معاصرة، يلتمس الشاعر مجازاته واستعاراته من الواقع الجديد، وينقل أثرها إلى وجدانه، ليصدره في جمل شعرية تحترم القارئ الحديث، كأنها تقول وبهمس غير مباشر: إن مالي أيضًا حاضرة في العصر الراهن.

ومن شمال مالي، يأتي غناء جارح، يرسله نيابةً عن المكلومين والمعذبين في أتون الحرب العبثية الطاحنة والعمياء، شاعرٌ هادئ النبر، لكنه يصُبُّ في القلوب لغةً كاويةً:

لأن المسا حينَ يأخذُ قبْلِي الـ

ـمدَى آخذُ الأُفقِ للأبدِ

يؤدّي إلى كلِّ شيءٍ ولكنـ

ـنه لا يُؤدِّي إلى المَوعِدِ

لأنِّي القتيلُ الأخيرُ أُلَوِّ..

..حُ للعابرين وما مِن يدِ

نسيتُ.. ولم أدَّخِر غيمةً للطـ

ـطريقِ ولا دمْعةً للغَدِ

فمَن سيُعيدُ لنا الحُلمَ مَن سـ

ـيصُبُّ السرابَ على المَوقِدِ؟

ومن بي يعودُ-إذا انحدر الدر..

..بُ بي في النهاية- للمَولِدِ؟

عسى أن تعودَ الحيَاةُ إلى المهـ

ـدِ أو فكرةٍ بعدُ لم تُولَدِ

فالشاعر محمد خيري، لا يريد أن يتصنَّع غير الألم، كأنه وقَّع ميثاقًا مع الصحراء، سيغرس فيها واحات مواساة، دون ضعف أو ابتزاز للعواطف، رغم أن قصائد الدموع تلك تضع الشاعر الشاب في موضع المؤاخذة، فالعالم يعج بالملهيات وعناصر الإغراء، والطريق إلى الملهى يستدعي إيقاعًا آخر! لكن قصائد خيري تجيء ومعها لافتة تبرق من بعيد: «إنك لا تجني من الشوك العنب».

وها هي واحة تلمع في بيداء مالي، لقصيدة تفعيلة، أبدعها إبراهيم الفهري، وكأنه آلَى على قصائده أن تشعل نجمة في الأفق، يقول:

وعوَّدتُها -كلما لاح لي نهْرُ نسيانها

وجاءت تلوِّح لي-

أن أعودَ إلى نقطةِ البدءِ

حيث أجدِّدُ تجربتي في طقوسِ العذابْ

ولكنني

سوف ألتحفُ اللامبالاةَ هذا المساءَ

وأمضي

لأني تعبتُ من السعيِ خلف السرابْ!

كان الشعر المالي منذ قرون -على غزارته– محدودَ الموضوعات والأغراض، جُلُّه من نظم الفقهاء، أو قصائد معارضة، أو تشطير وتخميس، وكثير منها قصائد تساق للمديح النبوي، لكنه خلال السنوات الأخيرة، وعلى أيدي شباب هذا الجيل حقَّقَ قفزات هائلة، وخرج من ضيق التقليد إلى رحابة الرؤى والتجريب، وصار يعكس صورة الإنسان المالي وبيئته وأساطيره ونسيجه المتنوع، بل مرشحاً أن يمدَّ اللغة العربية بمحتوى فني جديد يحقق لها التمدد والسعة، هذا إذا كان البحر يزيد حين يصبُّ فيه النهر.

وإنه في كل مرة تقام فيها أمسية شعرية في باماكو، تمتلئ القاعة بجمهور متذوق، ومتعطش للقصيدة، وطروب غير ملول، بل منفتح وقابل للتواصل مع القصيدة الحديثة واستنطاق رموزها وغموضها، والإحساس بالطاقة العاطفية الكامنة في صورها وتراكيبها.

كذلك اهتمام عديد من نقاد الأدب في مالي -أمثال البروفيسور هارون المهدي ميغا، والدكتور مامادو دمبيلي– بالشعر الراهن، وتناولهم إيَّاه في الدراسات الأكاديمية، ومناقشتها في جامعات مالي، خير دليل على المكانة المميزة التي يحتلُّها الشعر العربي في مالي.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] الإحاطة في أخبار غرناطة، لسان الدين بن الخطيب، دار الكتب العلمية، جز١، ص ١٧٠.

[2] المصدر نفسه

درويش الذي في بيتي! | د. بروين حبيب

بروين حبيب

كاتبة وإعلامية بحرينية

في إحدى جلسات الصالون الثقافي في بيتي استرعى وجود لوحتين كبيرتين بحجم جدارية معلَّقتين على حيطان الغرفة للشاعر محمود درويش نظَرَ أحد الحاضرين. قال مستغربًا: «حسبتُكِ نزاريَّةَ الهوى، ولم أتوقع أن أرى في بيتك بدل اللوحة لوحتين لمن يتوازى مع نزار قباني في الأسلوب الشعري ولا يتقاطع!».

أجبتُهُ: «أزيدك أن هناك لوحة ثالثة له في مكتبي لتكتمل الثلاثية. وإذا كان شعر نزار قباني عشقي المُعْلَن، فقصائد محمود درويش حديقتي السرية أفيئ إليها بحثًا عن جمالية مختلفة وحساسية شعرية عصيَّة على التقليد رغم وجود كثير من النماذج المستنسخة لها».

إن هذا الشغف الدرويشي ليس طارئًا، بل تمتد جذوره إلى بداية تكويني الأدبي وأنا في بدايات الدراسة الجامعية. وبعكس كثيرين لم أعرف شعر درويش من خلال دواوينه التي كان ينشرها ولا من تسجيلات أمسياته بإلقائه الساحر الآسر، بل كانت بوابتي إلى شعره أغاني مارسيل خليفة، مثل «أحِنُّ إلى خبز أمي» و«وعود من العاصفة» وغيرها من القصائد المغنَّاة التي أصابني بعدوى عشقِها جيلٌ من الشباب البحريني، أسبق من جيلي في الجامعة، كان متأثرًا بفكر اليسار، وعن طريقه عرفنا الفكر الملتزم في الأدب والفن.

أذكر أن أول احتكاك لي بشعر محمود درويش، مقروءًا لا مسموعًا، كان في سهرة ليلة رأس السنة منتصف الثمانينيات في بيت صديقة تنتمي لعائلة فنية، وللغرابة كانت كل أغانينا في تلك السهرة مما نحفظه لمارسيل وماجدة الرومي، فقد كان هذا زمن الشعور القومي والفكر الأممي. يومها أهداني أحد الشباب الحاضرين مجموعتين شعريتين لمحمود درويش، إحداهما بعنوان «حبيبتي تنهض من نومها» والأخرى «مديح الظل العالي»، فكانتا الجسر الذي عبرت عليه من ضفة النهر النزارية إلى الضفة الدرويشية، وحفظت أغلب قصيدة «مديح الظل العالي» مثل كثيرٍ من الشباب نظرًا لغنائيَّتها العالية، ورددتُ كثيرًا من أبياتها مثلما يعلق مطلع أغنية على اللسان فلا نستطيع منه فكاكًا.

ثبَّتَ هذا التحوُّلَ الدرويشي عندي تقديمي لسنتين متتاليتين حفلات فرقة «أجراس» البحرينية، وكانت قصائد درويش الطبق الرئيسي في برنامجهم الغنائي. وبقيت أزور بخفَّة عصفورة حذِرَة حديقتي الدرويشية، فمرةً عبر جدالي مع صديقة كانت مُوْلَعَة بشعرِه مثل ولعي بشعر نزار، وأخرى عبر جديد مارسيل خليفة وماجدة الرومي من قصائده، وثالثة من خلال بحث جامعي يكلفني به أحد الأساتذة عن شعره، ورابعة عن طريق كتاب شاكر النابلسي عنه «مجنون التراب»، فقد سلَّمني مفتاح الدخول إلى ظاهرته الشعرية. أعلنت عشقي لشعر محمود درويش بعد أن كنت أعتبر الإعلان خيانةً لحبي لشعر نزار قباني، وهذا يوم قرأت حوارًا مع محمود درويش على صفحات مجلة «المجلة» يزيِّن صدر الصفحة عنوان بالخط العريض «مَن لم يستفِد من نزار قباني فليرفَعْ إصبعَه».

تأخر لقائي الشخصي بالشاعر محمود درويش، فلم يتيسَّر ذلك إلا قبل رحيله بسنة ونصف، ففي شهر فبراير من سنة 2007 انعقدَتْ في القاهرة الدورة الأولى للملتقى الدولي للشعر العربي، وكانت تحمل اسم الشاعر الكبير صلاح عبد الصبور. وكان نجم الملتقى محمود درويش، وشاءت الأقدار أن أكون مدعوَّةً لها لا بصفتي الإعلامية، بل بصفتي شاعرة تكتب قصيدة النثر، وقد كان برنامجي يومها «نلتقي مع بروين» يلقى استحسانًا بخطِّه الثقافي وضيوفه المتميزين. كما شاءت الأقدار أيضًا أن أكون مقيمةً في الفندق نفسه الذي كان ينزل فيه درويش، فجالسته في بهو الفندق وحادثته وإحساس بالفخر يغمرني أني سأقرأ شعري على المنصة نفسها التي سيُلقي فوقها هو قصائده.

يومئذٍ تكوَّنَ لديَّ انطباعان أثبتت لي الأيام صوابيَّتهما: أوَّلهما ضجر درويش من الحديث عن قصائده الثورية التي صنعت شهرته في البدء، مثل قصيدته ذائعة الصيت «سجِّلْ أنا عربي»، وأذكر أنه كان يرفض في أمسياته الشعرية الأخيرة أن يقرأها حين يطلبها الجمهور منه. وللمفارقة فهو الضجر نفسه الذي كان يستشعره نزار قباني حين يُختصَر في شِعره الغزلي فقط، فلم يكن يريد أن يُختزَل بوصفه «شاعر المرأة» كما لا يريد درويش أن يُختزل أيضًا بوصفه «شاعر الثورة». والانطباع الثاني أنه كائن شديد الاعتداد بنفسه، وكان عقلي طيلة مجالستي له يُجري مقارنةً بين لقائي به ولقائي بنزار قبل سنوات من ذلك في بيته اللندني، فاللقاء بدرويش يشعرك بعنفوان الفلسطيني في حين أن اللقاء بنزار يشعرك بدماثة الشامي. وقد اقترحت عليه يومها أن أستضيفه في برنامجي فوعد خيرًا. ظلت هذه الرغبة في محاورته قائمة وأحببتُ جرَّها من سماء الأماني إلى أرض الواقع حين استضفتُ -بعد لقائي القاهري بمحمود درويش بسنة- الكاتبَ والناقد خيري منصور رحمه الله، وكانت تربطه بمحمود درويش صداقة حميمة، ومنه عرفت الكثير عن محمود درويش، من حبِّه للأناقة في لبسه، وهوايته في جمع الأقلام المميزة، وطريقة تحضيره للقهوة، وعشقه للعزلة، وحين كنت أسأل خيري بفضول الأنثى عن علاقة درويش بالمرأة كان يلوذ بالصمت محافظةً على أسرار صديقه. أحببت من خلال أحاديث خيري الجانب الإنساني من هذا الشاعر الظاهرة، بعد أن تصالحت منذ سنوات طويلة مع جانبه الشعري. وبعد انتهاء تسجيل الحلقة اتصل خيري منصور بصديقه هاتفيًّا وذكَّره بوعده لي أن يكون ضيفي فجدَّد وعدَهُ، وأخبرتُه في تلك المحادثة التليفونية أن ديوانه «في حضرة الغياب» يلازم طاولة سريري فضحك وقال مازحًا: «انتبهي سيُكفِّرونك».

أما لقائي الثاني والأخير بمحمود درويش فرتَّبت الصدفة ظروفَهُ، حيث كان مسافرًا قبل ثلاثة أشهر من وفاته إلى كوريا لتكريمه هناك، وكان لزامًا أن يمر بمطار دبي ترانزيت لبضعة ساعات، فجمعتني معه طاولة عشاء وجلسة جميلة كانت بحضور صديقه خيري منصور والإعلامي المخضرم غسان طهبوب والإعلامية الراحلة نجوى قاسم رحمها الله. يومها دار نقاش بيني وبين نجوى عن استفتاء أجرته مجلة «روتانا» لاختيار أفضل محاوِر تلفزيوني عربي، وحين سألتُه بفضول الإعلامية عمَّن يُفَضِّل من الأسماء الثلاثة المطروحة  حينذاك، قال: «يُعجبني محمود سعد في طريقة حواره وذكائه في إدارة اللقاء». والتفت إليَّ مضيفًا أنه يحسن بي الاهتمام أكثر بتجربتي الشعرية، فالأدب والشعر أبقى من الإعلام، والتلفزيون وحشٌ مخيفٌ أشبه بكائن يحرق من يقترب منه كثيرًا.

في ذلك اللقاء لمست خوف محمود درويش من الوحدة وهو يحدثنا كيف أصبح يوصد باب بيته دون أن يغلقه بالمفتاح، فقد كان موت صديقه معين بسيسو حاضرًا في ذهنه يوم كان من المقرر أن تجمعهما أمسية شعرية مع سميح القاسم في لندن، وأصيب معين بسيسو بنوبة قلبية توفي إثرها في غرفة الفندق، ولم تُكتشف وفاته إلا بعد يوم كامل لأنه كان يضع لافتة «يُرجَى عدم الإزعاج» على باب غرفته.

بعد هذه اللقيا بلا ميعاد توفيَ محمود درويش في هيوستن بأمريكا في 9 أغسطس 2008 بعد إجرائه لعملية القلب المفتوح رحمه الله. ولئن فاتني أن أحاوره في برنامجي رغم موافقته على ذلك، فلم يفتني أنْ أعِدَّ حلقة احتفائيّة به نالت رواجًا كبيرًا، استضفتُ فيها صديقَه المقرَّب خيري منصور رحمه الله، والناقد الصحفي عبده وازن، وقد تزيَّن الاستيديو بجداريات لصوره منها ما صار جزءًا من صالوني الثقافي. 

مضى على رحيل الشاعر الفلسطيني محمود درويش سبعة عشر عامًا، ومع هذا لا يزال صوته الأعلى «في حضرة الغياب». فالشباب يُمسْرِحون قصائده، والموسيقيون يستلهمون من شعره مقطوعاتهم، وليس الثلاثي جبران الوحيد في ذلك. ولا تزال قصيدته تمتلك وحدها مكونات الخلطة السحرية بين الانتشار الجماهيري العريض وبين تقدير النخبة المثقفة، دون أدنى تنازلٍ فنيٍّ. لم يسقط درويش في الغنائية المجانية التقريرية التي تؤدي حتمًا إلى «الجمهور عاوز كده»، ولا في الفصام الذهني المغلَّف بالغموض العبثي الذي انزلقت إليه في أحيان كثيرة القصيدة الحديثة. يكفي أننا حين نقرأ شعر درويش نتأكد فعلًا أن على هذه الأرض ما يستحق الحياة…!

عفيفي مطر .. الشاعر جارُ النبيّ! | محمد المتيم

محمد المتيم

شاعر وكاتب مصري

مرت أمس الذكرى التسعين لميلاد الشاعر المصري الكبير الراحل محمد عفيفي مطر. وما إن تذكر اسم عفيفي مطر في أي منتدى، حتى تجري على الألسنة جملته العربية الشهيرة “هل رجلٌ وضربَتُه تجيء من الوراء؟!”. حتى صار عفيفي الشاعر علامةً صارخةً على الوضوح في الغضب والرضا، غير أن آفتنا العربية أننا لا نعرف لمثقفينا حقهم إلا إذا أوذوا في سبيل فكرتهم، مثلما هي الحال مع عفيفي الذي طحنت عِصيُّ المعتقل والمنفى عظامه!

عاش عفيفي مطر “مُغيَّبًا/منسِيًّا” بفِعل فاعل، فهو المطرود من حفل المؤسسة الرسمية، والمنبوذ -دون إعلان- من أراذل الجماعة الثقافية، تارةً لِلُغَتِه المُلْغِزَة -زعموا- وتارةً لأنه واجَهَ الأصوليَّة الفكريَّة -التي راحت تتمدَّد في الوادي- على طريقته الخاصة، لا على الطريقة المستوردة.

كانوا يمقتونه، وكان يعرف، وكان شريفًا في خصومته؛ فلا “التجريس” شيمَته، ولا التكالُب صِفَته، ومذهبُهُ مذهَبُ الشاعر العربي القديم “أغشى الوغى وأعفُّ عند المغنمِ”. قضى عمره يغشى “الوغى” الثقافي ببصيرةٍ حادَّة، واطِّلاعٍ دؤوب، وينتصر لما يراه حقًا، ولا يخضع للابتزاز من أي سُلطة (سياسية أو ثقافية) تمتَهِن التنابز بالرجعية أو التناجز على صولجان الحداثة!

يُحَدِّثني روائيٌّ مصريٌّ نقلًا عنه، أنه ذات مساء في باريس جمَعَتْ عفيفي جلسة مع شاعر عربي “مشهور” وثلاثة مثقفين فرنسيين، وراح الشاعر العربي يسخر من شخصية “عمر بن الخطاب” فما كان من عفيفي إلا أن رشقه بالكأس التي أمامه!

يمكن للمتصيِّد اتهامُ عفيفي بالعنف بسهولة، لكن في الحقيقة لم يكن سلوكه عدوانيًا ضد الرجل أو مدافعًا عن ابن الخطاب، بقدر ما كان ينقذ ماء الوجه العربي وهو يُراق على موائد باريس تملُّقًا لمستشرقيها لا عن نقاشٍ معرفيٍّ جادٍّ وأصيل!

في مجموعته “ملامح الوجه الأمبيذوقليسي“، يكتب عام 1966:

“الحقُّ قد يُقال مرتين:

فمرةً يقولُهُ العَرّاف

ومرةً يقولُهُ السّيّاف!”.

وعفيفي عرّافٌ صاحب نبوءةٍ قديمةٍ، شرع في قَوْلِها منذ مجموعته “من مجمرة البدايات“، وللسيّافِ أيضًا كلمته البادي أثَرُها على أنف عفيفي الدامي المهشَّم، و”لاظوغلي” شاهدٌ على الموقعة!

في كتابه “حكايات عن ناس طيبين” يكتب الأديب سعيد الكفراوي “شهادة على البكاء في زمن الضحك” يحكي فيها عن زيارته لعفيفي مطر في السجن، يقول:

«ضغط المأمور على جرس فدخل جندي أدى التحية، وطلب منه المأمور أن يُحضر مطر، تداخلت الرؤى أمامي مثل خيوط الدخان، أفقتُ وعفيفي يقف أمامي، خرستُ حين رأيته، كان يتلفع بتلفيعة ريفية، ويطوفُ بوجهه ذلك الحزن الذي أعرف، كأنه فوجِئ بي، أخبرني بعد الإفراج أنه ظن أنهم اعتقلوني أنا أيضًا، كان حزنه ينتقل إليَّ، وأنا مروّع تمامًا وأنا أتأملُ ذلك الجرح الممتد من الجبهة حتى أسفل الأنف، كان جرحًا شريرًا وخائنًا، وأنا كنت أهتف بيني وبين نفسي: لقد عذَّبوه.. يا للعار!».

كان عفيفي عربيًا حتى النخاع، وقصائده -حتى النثرية منها- عربيةٌ خالصةٌ، فعلى مستوى المعجم والأخيلة والنَّفَس الشعريّ هو امتدادٌ لأسلافٍ شعريين لا يتبرَّأ منهم ولا يتعالى عليهم ولا يتورَّط فيهم، رغم ثقافته الموسوعية واطِّلاعه على المنجز الحضاري الأعجمي. وربما كان هذا باب فردانيَّتِه في شعريتنا العربية، وفي الوقت نفسه باب إيغار الصدور عليه، فأثَرُ العِصِيّ “المملوكية” على جسده فاضحٌ لقشرة التحضُّر الزائفة.

دفع الشاعر ثمن كل كلمةٍ قالها بضميرٍ يقِظٍ مستريح، لأن كلمته تخصُّه، فأصحاب الكلمات المستوردة ليسوا بحاجةٍ لتسديد فواتير، فمِنْ “دبدوب رحمة” وحتى عصا عمِّه “معوض في لعبة التحطيب”، كانت كلماته كلها خالصةً له، وهذان الأمران: عربيَّة قصيدته والثمن المدفوع؛ همّا سِرُّ حضوره الآسِر في المواسم الطالعة.

باستعراض مدوَّنَة الشعر العربي لا يخرج تعاطي الشعراء مع شخص النبيّ عن نمط من ثلاثة، إمّا مدحًا للمحاسن والشمائل، وإمَّا تلبُّسًا لقناع النبوَّة من قِبَل الشاعر، على طريقة ثنائية الشاعر/النبيّ، فيُسْقِط الشاعر تجارب النبي من البِشارة والاضطهاد والغربة على تجربته الشخصية، سيّما والتقاطعات متعددة بين النموذجين من حيث مفاهيم: الإلهام/الحاجة لجمهور/الرسالة المُوحاة… إلخ.

والنمط الثالث هو محاورة تجربة النبيّ عبر تقديم قراءة جديدة لها، ومحاولة ضَخِّ رؤى واستنتاجِ تجلياتٍ جديدةٍ للتجربة الروحية القديمة، تتَّسِق مع مفاهيمنا المعاصرة دون افتئات على التجربة، وهذا ما نستَجْليه بوضوحٍ في الإهداء الذي صدّر به عفيفي ديوانه “أنتَ واحِدُها وهي أعضاؤك انتَثَرَتْ”، الذي جاء هكذا:

“جرأةُ إهداءٍ

إلى مُحَمَّد…

سَيّد الأوجُهِ الطالعة

وراية الطلائعِ من كلِ جنسٍ

منفرِطٌ على أكمامِهِ كلُّ دمعٍ

ومفتوحةٌ ممالِكُهُ للجائعينَ

وإيقاعُ نعليهِ كلامُ الحياةِ في جسدِ العالم”.

يرى الناقد د. صلاح فضل في دراسةٍ له، أن عفيفي كان يَعْمَد إلى توريط القارئ في التباسٍ ما بين الشاعر والنبيّ، بيْدَ أنني أرى هذا إدراجًا لعفيفي ضمن النمط الثاني من الشعراء ــ الذي يرتدي الأقنعة!

الإهداء واضح الدلالة بلا التباس، ويُحيل إلى طبيعة إيمانية خاصَّة، تتمثَّل في أن الشاعر عندما يؤمن بالرسول تنفذ بصيرته إلى جوهر الرسالة، ويُترجم بكلمته المعنى الحقيقيّ؛ معنى أن النبوَّات لم تأتِ إلا لتخرج بالناس من ضيق الفئة إلى سعة البشرية، لتواسي الدامعين، وتُطعِم الجوعى، وتصُبَّ الحياة في جسد العالم الذي يحتضر. وما يؤكِّد أن الإهداء لا يسمح بالالتباس، أن عفيفي في مجالسه كان يُصَرِّح باعتبار هذا الإهداء تحدّيًا، لأن الديوان صدر في بغداد في ذروة سطوة حزب البعث الاشتراكي.

كانوا يمقتونه، وكان يعرف. لذلك اعتزلهم في شَمَمٍ وكبرياء، وفيما هو ملفوظٌ منهم أوى إلى ظلال النبيّ، يقرأ التجربة ويُعايشها، ويرمونه بـ”السلفية” ولا يعبأ، وأقرأ من الديوان المذكور قصيدته “امرأةٌ ليس وقتها الآن“، فلا تحضر أمامي غير خديجة، رغم عدم وجود أي ذِكْرٍ مباشرٍ لها، لكن إهداء الديوان الجريء “إلى محمد…”، يرفع حُمَّى التأويل في ذهني إلى أقصى درجاتها، خصوصًا مع عبارات من قبيل:

  • اصدَعْ بما تحلُمُ، الوقتُ أوسعُه مرَّ
  • أربعون من العُمر ولّت، بلادٌ تولَّت
  • أخرجوكَ من الأرض، كانت حواراتُهم لغةً لستَ منها
  • لا تعدُ عيناك عنهم إذا دخلوا الحُلمَ أو خرجوا
  • هل مُخرجوكَ هُمُو من خُطاك أمِ الأرض؟!
  • زمَّلَني الصيفُ والصوفُ تحت فضاء السماوات
  • الخاتمُ العائليُّ مضيءٌ وهذي هي امرأتي
  • لست وحدك فاهجرهمو -حانَ وقتُكَ- هجرًا جميلًا
  • هل ترحلين؟ أراحِلَةُ أنتِ؟
  • ما هَمَّ والوقتُ ليس لنا؟!

 

وعلى امتداد القصيدة تُحيل الشواهد إلى دور خديجة في تجربة النبوَّة، دون ذِكْر خديجة أو النبيّ. لقد عالج عفيفي مركزيَّة المرأة في التجربة برؤية حداثية، وهذا ما كان يُزعج مُتَهدِّلي الكروش على المقاعد الوثيرة منه، أنه ليس رجعيًا ولا ضحلًا كما يتمنَّونه، كان دائمًا يخذلهم بتوقُّد المعرفة في ذهنه، والصدق بين جنبيه.

في سِفْرِه البديع “كتاب النداءات”، وهو ضمن أعماله النثرية، يتحدَّث في فصل “النداء الأعظم” عن خمسةٍ أحدثوا انقلابًا كونيًا غيَّر مجرى التاريخ؛ هم رجلان وامرأة وطفل وعبد، فيقول:

“كانوا خمسةً لم يجتمع مثلهم في مكان أو زمان من قبل أو من بعد، ولم يُحدِثْ خمسةٌ مثلهم انقلابًا كونيًا غيَّرَ جغرافيا النفوس والعقول والقلوب وتاريخ الأرض كما أحدثوا؛ رجلٌ وامرأةٌ هما الوالدان اللذان ينتسب إليهما ألوف الملايين من الأبناء في كل جنس، وأخٌ لهما وَضَعَ على صفحة التاريخ خاتَمَه الممهورَ بالصدق والتصديق والصداقة، وصبيٌّ تقطَّرَتْ في قلبه الحكمة والفطرة الزكيّة المطهَّرَة، وعبدٌ.. ما أعجَبَه من عبد! هو أول من رفع النداء الأعظم، وإلى آخر التاريخ”.

هل عرفتَ الخمسة؟

النبي وخديجة وأبو بكر وعليّ وبلال/العبد الرافع النداء الأعظم. لقد آمن عفيفي مطر بالدين رافعةً حضاريةً، ودافع عنه ضد الاختطاف الأصولي وضد الانسحاق أمام الفكرة الوافدة/الطارئة، وعاش زاهدًا زهدًا حقيقيًا، يأكل من كَسْبِ يده، ولا يقتات على موائد “المماليك العتاةُ الأقدمونَ المُحْدَثونَ (الذين) يتنزَّلونَ خلائفًا من هَيلمان الجوعِ والفوضى”، ومات بعد أن غَسل كفنه بماء زمزم وجفَّفَهُ في الحرم.. فعليه السلام!

رَجْعُ الجبالِ القصيَّة قراءة في ملامح الشعر في اليمن | د. عبد العزيز الزراعي

د. عبد العزيز الزراعي

شاعر وأكاديمي يمني

    تحضرُ اليمنُ في الصفحة الأولى في مدونة الثقافة العربية عبر كل حقبها التاريخية حتى ليتيقن المرء أنها هي المتن كله، وتغيب عن تلك المدونة حتى ليظن المرء أنها سقطت منها سهوًا أو عمدًا، أو أن اليمن -لأسبابها الخاصة الجغرافية والثقافية والتاريخية- قد صنعت لها مدونةً أخرى تخصُّها ولا تخصُّ سواها.

     لقد وقَفت جبال اليمن وتضاريسها الصعبة دائمًا حاجزًا مانعًا لصدى صوتِ إنسانها ومبدعها  من أن يسمعه الآخرون سريعًا، وفي الآن ذاته ضمنت تلك الجبال رجع صدى لأصحابها خاصًا مميزًا واضحًا لا يداخله صخبُ العالم ولا أصوات ضجيجه من خلف الرمل والبحر. الجبال التي قال عنها اليماني الراحل محمد حسين هيثم (ت:2007م):

الجبالُ البعيدةُ ما خطبُها

خبَّأتْ وقتَنا وارتَدَتْ زمنًا لا يُطالْ

الجبالُ البعيدةُ

هل تَذْهلُ الآنَ

عن خطوةٍ في نهارٍ فسيحْ

عن مدىً للنزالْ

الجبالُ البعيدةُ

تذهبُ في كل ريحْ

وتبزغُ في غصةٍ في السؤالْ

الجبالُ

الجبالُ

الجبالْ

    هذه الطبيعة الصعبة والمتنوعة والغامضة بدورها كيَّفتْ إنسانًا يشبهها، فمثَّلتْ وإنسانها تحديًا أمام مطامع الغزاة؛ وجعلت اليمن نتوءًا أو جيبًا جغرافيًا وثقافيًا يصعب احتلاله أو ضمه لأي مركز سياسي  سواء من الدول الإسلامية المتعاقبة أو الغزو الأوربي. وتبعًا لذلك كانت موجات التأثر والتأثير والامِّحاء في الآخر بطيئة ومحدودة، وهذا بقدر ما جعل اليمن يطور خصوصيات ثقافية مميزة وأحيانًا مغايرة للسائد العربي والمحيط المجاور، جعلها غامضة ومجهولة وقد تبدو غائبةً لمن اعتاد السائد العربي.

    إن الوضعية البنيوية لليمن كمكان ومناخ وإنسان جعلته منذ القدم في معزل إلى حد ما، يبتكر حلوله الخاصة والمغايرة، مطورًا طُرقًا مغايرة في الحضارة، كالكتابة المسندية وأدوات الري والزراعة كالسدود والمدرجات، وأدوات البناء، وأدوات الحرب والدفاع والملابس، والأطعمة، والتطبيب، تتسم كلها بتطويع الإنسان اليمني لهذه الطبيعة الصخرية، إنها حياة تشبه الحفر في جدار من الجغرافيا والعادات والتقاليد حسب تعبير المقالح:

سنظلُّ نحفرُ في الجدارْ

إمَّا وجدنا ثغرةً للضوء أو متْنا على وجه الجدارْ

   وهذا لا شك تركَ أثرَه على جملة فنونه من غناءٍ وشعر ورقص وفلكلور قديمًا وحديثًا.

      في العصر الحديث وكعادتها، صنعت هذه الأرضية الإيكولوجية والديموغرافية لليمن واقعًا سياسيًا مغايرًا لبقية الأقطار العربية، فبسبب جغرافيتها المتوزعة بين الجبل والبحر والسهل عرفت اليمن في مطلع القرن التاسع عشر أول تجزئة لأبناء شعبها حيث اقتطعت بريطانيا الجزء الجنوبي من الوطن المطل على البحر وظلت تحتله وتستغله حتى قيام ثورة الاستقلال عام 1963، واقتطع العثمانيون الجزء الشمالي وظلوا يحكمونه بالحديد والنار حتى انهزام الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، وتسليمه لسلطة محلية ملكية دكتاتورية لا تقل عنها تخلفًا وظلمًا،  وفي اللحظة التي كان أتباع شوقي وحافظ مهمومين ببعث القصيدة العمودية ومواجهة أنصار التجديد في مصر كان الشاعر اليمني محمد الزبيري ورفاقه إبراهيم الحضرانيوزيد الموشكي وأحمد الشامي وغيرهم، وقد أُعْدِمَ بعضهم وزُجَّ ببقيتهم في السجون،  كانوا مهمومين بفك قيودهم من سجن إمام اليمن إثر قيامهم (1948م) بالثورة الدستورية على والده الإمام يحيى، كانوا مهمومين ببعث شعبهما من مرقده لا بشكل القصيدة، لذا جاءت نصوصهم مغايرة لشعر الإحياء العربي في لغتها وصورها وعاطفتها؛ لأنها معجونة بالخوف والقلق والوعي الوطني والتوق إلى الحرية، فهذا الزبيري يقول وقد فرَّ إلى المنفى:

عُمُرٌ في دقيقةٍ مستعادٌ

ودهورٌ مطلةٌ في ثواني

طاردتني البلادُ تستنبط الخالصَ

من منطقي ومن وجداني

كلما نلتُ لذةً أنذرتني

فتلفَّتُّ خيفةً من زماني

وإذا رمتُ بسمةً لاحَ مرأى

وطني فاستفزَّني ونهاني

    وهذا الحضراني يقول وهو في ساحة الإعدام وقد قُتِلَ رفاقُهُ أمامَه:

ووالله ما خفتُ المنايا وهذه    

طلائعُها مني بمرأى ومسمعِ

ولكنَّ حقًا في ضميري لأمتي

أخافُ إذا ما متُّ من موتِهِ معي

     هكذا تُولَدُ شعرية اليمني مباغتةً كالحياة أو كالموت، تمامًا كما عبر عنها  البردوني:

لهذا أغامر أبدو غريبًا

على العرف كالمولدِ المرتجلْ

وأدري وأدري بأني إليه

أخوضُ دمي والردى والوَحَلْ

    يعيش اليماني حياته وقصيدته ارتجالًا (كجلمود صخر حطَّهُ السيلُ من عَلٍ) أو كبرق ناهض من مزاج الأساطير، أو كرمح، كما قال أحمد العواضي:

فاجأتني القصيدةُ هذا الصباحْ

نَهَضَتْ من مزاج الأساطير

قامتُها كلما اقتربَتْ كطويل الرماحْ

وأنا متعبٌ

مثل خَلْقٍ كثيرين

مَسَّهُمُ الضرُّ

واختنقوا في قفار الكلامِ المباحْ

 يولد الشاعر اليمني مهمومًا وحكيمًا وشيخًا أكثر مما يجب، يقول البردوني:

ماذا أتعجَبُ من شيبي على صغري

إني ولدتُ عجوزًا كيف تعتجبُ

واليوم أذوي وطيشُ الفنِّ يعزفني

والأربعون على خدَّيَّ تلتهبُ

كذا إذا ابيضَّ إيناعُ الحياةِ على

وجْهِ الأديبِ أضاء الفكر والأدبُ

 

الستينات والسبعينات (الثورة تجاور الأشكال الشعرية):

    وربما لم تُعْرَفْ ثورةٌ عربيةٌ عبر شعرائها كما عُرِفَتِ الثورةُ اليمنيةُ في ستينيَّات القرن العشرين وسبعينيّاته عبر شاعريها الكبيرين عبد العزيز المقالح وعبد الله البردوني.   فبعد نضال كبير وأسطوري من قبل أبناء اليمن الأحرار تم تحرير الجزء الشمالي والجزء الجنوبي. وإقامة نظامين وطنيين جمهوريين.

وقد مثَّلَ تجاورُ حداثة البردوني في قصيدة العمود وحداثة المقالح -وهما الصديقان الثائران- مفهومَ التجاور المدرسي وصداقة الأشكال الشعرية مبكرًا في صنعاء، ما يعني أن الحداثة ولدت في اليمن مرتبطةً بالثورة والتغيير المجتمعي،  أي بالمضامين لا بالأشكال.

أضف إلى ذلك صوتًا شعريًا آخر هو صوت قصيدة النثر الذي حَمَلَ لواءَهُ صديقهما  الشاعرُ الكبير عبد اللطيف الربيع، الذي لم يظفر بالشهرة التي ظفر بها صديقاه؛ لأسباب ربما تعود لقلة ما كتب، ومزاجه الحاد، والشكل الشعري الذي اجترأ عليه وهو قصيدة النثر التي لم تكن بعد مألوفةً حتى في حواضرها العربية بيروت والقاهرة، وربما بسبب أفكاره الإشكالية وطريقة معالجاته المغايرة، أضف إلى ذلك انتماءه لأيدلوجية اليسار ، وانشغاله بالصحافة السياسية والعمل الإداري والهندسي، وأخيرًا أخفى صوتَه موتُهُ المبكر والمفاجئ والغامض(1993م) وهو في عمر الأربعينات.  امتلك الربيع وعيًا حداثيًا متجاوزًا بحكم تكوينه العلمي في القاهرة أولًا ثم دراسته العليا في المجر وبريطانيا في مجال الهندسة المعمارية والتخطيط الحضري، وكان فوق ذلك حاصلًا على دبلوم عالٍ في  الفن التشكيلي من بريطانيا، ويمكن وصفه بالأب الحقيقي لقصيدة النثر في اليمن ولحداثة فريدة ومتميزة جديرة بأن تُدْرَسَ وتُعرَف.  

أصدر الربيع ديوانيه الوحيدين في العام ذاته(1986م) الأول بعنوان (الكفن الجسد) والثاني بعنوان (فازعة). زاوج فيهما بين قصيدة النثر والتفعيلة.

تتسم كتابة الربيع بالعمق والتكثيف واقتصاد عبارتها، وهذا يعكس سمة الإنسان اليمني في تكثيف المنطوق بما ينسجم ذلك مع نزعته الحكيمة وعاداته الشفاهية:

لأني لم أحاربْ

أُخِذتُ أسيرَ حربٍ قادمة

على صعيد آخر تعكس شعرية الربيع حنينه القروي، هو القادم من مدينة القاهرة وبودابست، وكأن اليمني يرى العالم دومًا من قَمَرِيَّته، يقتبس من العالم ما يمكن توطينه ثقافيًا وغرسه في حقوله:

فازعةْ

 أجلسُ الآن

مستمعًا صمتَها

حين داهمَ جربتَها السَّيلُ

كانتْ هي السدَّ

مدَّتْ تضاريسَها

ثم سمَّتْ بأحزانِها

جبلًا

فنما حصنُ كحلانْ

وبسخرية شعرية لاذعة، تشير أكثر مما تقول، تشتبك شعريةُ الربيع بلحظته السياسية والاجتماعية ووعيه الحاد بتغيرات زمنه ناقدًا طفرة النفط التي ظهرت في اليمن وكانت أحد أسباب احتراب مكوناته السياسية:

في الأولِ كان النهرُ

نضبَ النهرُ فحفروا آبارًا

نضبَ البئرُ فاكتشفوا النفطَ

تدفَّقَ النفطُ فحفروا مقابرَ جماعيةً

تدفقتِ المقابرُ

فنضبَ الوطنُ

وتستند هذه الشعرية على وعي سينمائي يرصد اليومي والخاص وينمذجه من أجل التهكم من العام والكلي المتمثل في مظاهر البيروقراطية واستعباد الإنسان في روتين الوظيفة الحكومية العامة، بشكل يذكرنا بوعي تيار القصة الجديدة عند كافكا في قصة المسخ، ونيكولاي قوقل في قصة المعطف، هذا ما نلمسه في نص عبد اللطيف الربيع (جثث الساعة السابعة):

كلما دَقَتِ الساعةُ السابعة

ينهض النومُ من نومِهِ

ويقومُ ليغسلَ أحشاءه في الصباح

ويَحْلِقَ أحلامه شفرةً شفرةً

ويودعني حين أخرج من داخلي كالفقاعة

تَلبسني ربطةُ العنق المنتقاة

تهندمني الجزمة اللامعة

أتدحرج يختارني شارعٌ لا يؤدي إلى..

و(إلى) لا تؤدي إلى..

وأنا الآن أبحث عن سلة كالوظيفة

أبحث عن سلة فارغة!

 

الثمانينيّات: هيمنة التفعيلة وقصيدة النثر

في نهاية السبعينيّات تتسع المدنية والرفاهية قليلًا ويذوق الناس أولى ثمار خيرات الثورتين، وللأسف تتسع معها  دائرة الصراع بين الشطرين اليمنيين الذي هو صدى صراعات المعسكرين الشرقي والغربي، ومعها تتسع وتتبازغ  كوكبة من شعراء الثمانينيّات وكان اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين هو المؤسسة اليمنية الوحيدة الوحدوية تمثل الشطرين في المحافل الدولية وهي المظلة الكبيرة التي يجتمع تحتها أدباء اليمن من كلا الشطرين، هنا برزت أسماء شعراء كبار مثل عبد الودود سيف وأحمد قاسم دماج وعبد الكريم الرازحي، أحمد العواضي، محمد حسين هيثم، شوقي شفيق عبد الرحمن فخري، عبد الله قاضي وآخرون. وظهر شعراء عمود جيدون لكن عمودهم لم يبلغ ذرى ما قدمه البردوني الذي بلغ ذروة توهجه وشهرته في هذه المرحلة.

  ويمكننا هنا الإشارة إلى بعض سمات بارزة في خطاب شعراء هذه المرحلة أهمها الرمزية والقناع التي كانت تُبْطِن حذرًا أمنيًا نتيجة الصراع الأيدلوجي بين طبقات المجتمع والقبضة الأمنية للسلطات، فضلًا عن ظواهر التصفيات لبعض قيادات الأحزاب، كما نلمحه في هذا المقطع من نص( هذه الرأس)  لمحمد حسين هيثم:

هذه الرأس

ثمرة

أم طائر

أم طبق معدني

أم قصيدة نثر

هذه الرأس

لا أعرف كيف تستخدم

غير أنني  كل يوم

أطور طُرقًا  للحفاظ عليها

هذه الرأس

رأسي

ولقد استحققتُها بجدارة

لم يقل لي أحدٌ لماذا

لكني أستحقها فعلًا

لأنها رأسي

وعليَّ أن أقطع بها أطول مسافة ممكنة

أن أمضي بها بعيدًا قبل أن تسقط من تلقاء نفسها!

 

وقد يلجأ شاعر الثمانينيّات إلى الاستعانة بالمعجم الصوفي أحيانًا، وتكرار لفظة القات بوصفه معادلًا موضوعيًا لمحاولة النسيان والبحث عن الإشراق الصوفي، كمحاولة لإدانة الحرب بين الإخوة، كما في نصوص أحمد العواضي:

قلتُ يا صاحبي

لستُ بحرًا

ولكنَّ هذا الزمان الجديدْ

مالحٌ في فمي

كل يوم على ورق القات أحنو

فيشرق حزني

ويأخذ هذا الزمانُ دمي!

 

التسعينيَّات/ زمن الوحدة اليمنية:  (قصيدة النثر: الانفجار الشعري العظيم).

     في التسعينيَّات، وكعادتها اليمن في اقتراح حلولها وارتجالها على غير مثال، قرر النظامان السياسيان الاشتراكي في الجنوب ونظام صنعاء الليبرالي المختلط من قوى يسار وعسكر وقوى يمين ديني وقبلي، قررا الدخول في وحدة اندماجية وبدء مرحلة جديدة وفارقة من التعددية الحزبية والفكرية، في لحظة لم تخطر على بال أكبر المتشائمين من نظرية الحتمية التاريخية فوكوياما صاحب نظرية (نهاية التاريخ). إذ لم تكن الوحدة بين الشطرين مجرد وحدة بين نظامين سياسيين بل جمع بين بنائين فوقيين وواقعين اقتصاديين متباينين، ولأول مرة يجتمعان في مؤسسات واحدة وجهًا لوجه، فحدث الاحتكاك والتأثير والتأثر بين قوى اليسار وقوى اليمين، هذه الوحدة أحدثت تقاربًا وجدلًا بين تيار الحداثة وتيار المحافظة، فلم يعد الحداثي مغرقًا في شكلانيته ولا المحافظ مغرقًا في كلاسيكيته، ومن هنا تشكَّلَتْ ملامح حداثة شعرية متوازنة لا تعادي شكلًا شعريًا، وهو ما وصفه النقاد بشعرية التجاور كما فعل الناقد علوان الجيلاني في توصيفه للشعر التسعيني في كتابه (أصوات متجاورة).

      وبرغم الانتكاسة التي حدثت عقب اختلاف النظامين وبدء حرب الانفصال في 1994م، كان كل شيء في مياه الثقافة قد تغير وتبدل، حينها تدفقت موجة الشعر التسعيني، بشكل لم تشهده اليمن من قبل ولا بعد، سواء في عددهم أو تميز موهبتهم العالية وثقافتهم الواسعة وحساسيتهم الشعرية المفرطة، أسماء يصعب حصرها، منهم على سبيل التمثيل: علي المقري، أحمد الزراعي، علوان الجيلاني، عبد الناصر مجلي، عبد الرحمن الحجري، أحمد السلامي، طه الجند، محمد المنصور، محمد العديني، نبيلة الزبير، ابتسام المتوكل، هدى العطاس، فاطمة العشبي، هدى ابلان، محمد الشيباني، محيي الدين جرمة، فتحي أبو النصر، الحارث بن الفضل، إسماعيل مخاوي، جميل مفرح، عبد المجيد التركي، محمد القعود، والقائمة تطول.  

إن ما حدث لأحلام الشعراء وتطلعاتهم إلى الوطن الكبير والمشروع القومي بعد حرب الانفصال وهزيمة اليسار كان أشبه بما حدث بعد نكسة حزيران على المستوى العربي، يقول الشاعر أحمد الزراعي:

رأيتُ بيتي في غبار المدى

حكايةً مكتوبةً من دمي

كانت جبالي تنحني رُكَّعًا

وكان صوتي ميتًا في فمي

اتسمت الشعرية اليمنية في هذه اللحظة بالحدة وإعادة تعريف الأشياء، كما في شعرية محيي الدين جرمة:

يدٌ لا تقطفُ الوردَ حديقة

يدٌ لا تصفق وطنٌ

غير أن القاعة فارغةٌ إلا من التصفيق!

اتسمت بعض تجاربها بالسخرية اللاذعة وتدوين الهامشي ومخاطبة الأصدقاء وكأنها استمرار لأحاديث لم تكتمل في مقيل الاتحاد أو في مقاهي الشاي أو تشفير للرفاق، أو خطاب لآخر معروف للجميع ومُتواطَأ على عدم ذكره كما في تجربة طه الجند:

دُلُّوني على مسلكٍ يفضي إلى الغنى

أطفالي يروني قادرًا على مطالبهم

والقفزِ بهم إلى النعيم

دلُّوني لن تندموا

فأنا طيبٌ وفقيرٌ

كلُّنا سيئون بما يكفي

لا ترشدونا إلى الصواب

نحن أصدقاء الرذيلة أحيانًا

أما أنتم فأبناؤها المدللون!

وبعض التجارب بدا خطابًا فلسفيًا بلغةٍ أقرب للتصوف والعرفان يرثي حضارة الإنسان برمتها، ويرثي الكوكب ويشعرنه كما في تجربة أحمد الزراعي:

بروق تلمع في ذروة جبل قصي

وشاعرٌ يسحبُ الجبلَ إلى عينيهِ

تاركًا أوراقَهُ بيضاءَ

لهواءٍ يتدحرجُ إليها

تاركًا قلمَهُ الوحيدَ

في فراغِ العالم

وبعضها تجارب فنتازية  تعبر عن قلق الكائن المتمدن الذي صرناه كما في تجربة أحمد السلامي:

لا فِراشَ لروحي المعلقة مهما اضْطَجَعْتُ

الجدّاتُ تموت وجلودنا تتجعدُ

مثل أرض زراعية

أهملها الأهل

تركوها ليقودوا سيارات الأجرة

في طريق تبيع الخمر للنادمين

ونحن دون أن ننتبه أكلنا نصف دجاج المدينة

وغدونا ثعالب ترتدي النظارات!

كانت التسعينيَّات لحظة الأحداث الكبرى والمتسارعة سياسيًا وفكريًا واجتماعيًا في اليمن، وكانت قصيدة النثر تعبيرًا فنيًا وموضوعيًا عمَّا آلت إليه الأوضاع في اليمن، لم تكن معركتهم مع الشكل كما في بلدان أخرى، لقد امتلكت القصيدة التسعينية شكلها لأنها امتلكت حاملتها الموضوعية لذا لم يجرؤ أحد أو يفكر في تسخيفها او التقليل من حضورها، كانت هي التجلي الخالص للحظة والأكثر إقناعًا وسخرية ونقدًا للواقع. في الوقت ذاته ولدت هذه الأحداث غنائية عالية لدى هذا الجيل فاقتحموا بالعمود مناطق صوفية غمرت معجمه وخلصت العمود من كلاسيكة المضمون، وهي ملاحظة رصدها الشاعر والناقد علوان الجيلاني في كتابه أصوات متجاورة، وننمذج لها هنا بعموديات أحمد الزراعي، وعموديات الشاعر علوان الجيلاني:

مدارُ حزني على الآفاق مسفوحُ

عن كوكبٍ يصطفيني تبحثُ الروحُ

أنا المُعَنَّى بترتيبِ الفضاء لمنْ

غابت وشباكُها في القلبِ مفتوحُ

هذه العمودية التسعينية التي تتسم بأناقة العبارة والغنائية العالية والمعجم الصوفي إلى جانب عموديات فيصل البريهي والحارث بن الفضل الشميري، وجميل مفرح وغيرهم، إضافة إلى عوامل أخرى، ستؤسس لازدهار العمود الجديد في جيل ما بعد الألفين في اليمن، والذي سنخصه بوقفة خاصة تتأمل خصائصه الفنية والموضوعية وأسماءه وعوامل ازدهاره.

 

سياحة في «إشراقة» التجاني يوسف بشير

د. أسامة تاج السر

شاعر وأكاديمي سوداني

في الليلِ عُمقٌ، وفي الدُّجَى نَفَقٌ

لو صُبَّ فيه الزَّمانُ، لابتَلَعَهْ

لو مزَّقَ الرَّعدُ مَسْمَعَي أحَدٍ

في عمقِ ذاك الدُّجى، لَمَا سَمِعَهْ

لو أُفرِغَ الفَجْرُ ذو الجوانبِ في

أدنى إناءٍ من عِنْدَه وسِعَهْ

تظلُّ في صدرِه كواكِبُهْ

غرقى، وأمُّ النجومِ مُضطجِعَةْ

تَضِلُّ فيه الحياةُ عالمَها

كما يَضِلُّ الغريبُ مُرتبَعَهْ

 

         لا يُذكر الشِّعْر السودانيّ إلا وحضر التجاني يوسف بشير (1912م ـ 1937م)، بكامل رونقه، على قِصَر عمره الذي لم يتجاوز خمسةً وعشرين عامًا.

         وإذا كان محمد سعيد العباسي (1880م ـ 1963م)، هو باعث نهضة الشعر السودانيّ، وقد نقله بعيدًا عن التقليد الأعمى، مدحًا وتشطيرًا ومجاراةً، إلى شعرٍ حيٍّ فيه شخصيَّة الشاعر وهويَّته المائزة، بثراها السودانيّ ثقافةً وبيئةً وحضارة. فإنَّ التجاني هو باعث التجديد في هذا الشعر، تجديدًا جعله من المقدَّمين في الشعر السودانيّ خاصَّةً، والعربيّ عامَّةً. ويكفي أنْ نعلم أن ديوانه الذي أسماه (إشراقة)، هو أكثر دواوين الشعر السوداني طباعةً، إذ بلغت طبعاته أربع عشْرة طبعة أو يزيد. وتتناول هذه المقالة أهمّ الملامح الأسلوبيَّة والفكريَّة في هذا الديوان.

 

الملمح العَروضيّ العام للديوان وأثره:

 أبدأ من هذه الزاوية، ذات التأثير الأكبر على مشروع التجاني يوسف بشير، إذْ لم يكن العَروض عنده إطارًا خارجيًّا للشعر، بل هو روحه وجوهره، فهو القالب الذي يضبط المعاني والأخيلة واللغة، فمتى اتَّسَع الإطار تهلهل نسج الشعر ووهَى، ومتى ضاق قصَّر الشاعر عن إداراك معانيه. فهو يحيط فكرة الشاعر إحاطة السِّوار بالمِعْصَم، فإنْ ضاقَ السِّوار تورَّمت اليد، وإن اتَّسَع جال وانتفت قيمته. فالشاعر عندما يفكِّر في المعاني، فإنَّما يفكِّر من خلال الوزن، فتتأثر اللغة تأثُّرًا شديدًا بموسيقاه، فتأتي قِطعًا ذات تناسُق إيقاعيٍّ وموسيقيٍّ.

وإذا كان أكثر الشعر العربيِّ غنائيًّا ذاتيًّا، فإنَّ هذه الغنائيَّة تدفع الشاعر إلى تخيُّر الأوزان الرشيقة واضحة النغم، وأخصُّ من البحور: (الطويل، والبسيط، والكامل، والوافر، والرمل، والمتقارب). فهي أكثر دورانًا في الشعر العربيّ من غيرها، إذا أضفنا لها الخفيف، الذي يجانسها ويباينها في الوقت نفسه، فهو وحده الذي يجمع سباعيَّتَيْن من جنس هذه الأوزان (فاعلاتن ومستفعلن)، لا كما في المنسرح. ونجد بحور دائرة المشتبة: (السريع، والمنسرح، والمجتث، والمضارع، والمقتضب)، أقلّ دورانًا إذا قِيسَتْ بغيرها من البحور، يُدانيها في قِلَّتِها المديد والهزج، والخبب.

وإنَّ التعجُّب ليصيب الناقد عندما يعلم أن ديوان (إشراقة)، الذي ضمَّ إحدى وسبعين قصيدة (71)، في طبعاته المتأخرة، قد ضمَّ قصيدتين من الطويل والوافر، وهما من بحور الشعر المقدَّمة، والتي أسرف في تعاطيها المتنبي، وعِلية الشعراء. بينما هما عند التجاني -مجتمعين- يضمان قصيدتين اثنتين لا ثالثة لهما، واحدة في كلّ بحر! ثم يزداد الناقد تعجُّبًا حين يدرك أن أبحُر البسيط والرمل والمتقارب-مجتمعة- قد ضمَّت أربع عشرة قصيدة (14)، ستًّا من البسيط، إحداها من المخلَّع -وهو فرع من المنسرح، ضممناه إلى البسيط جريًا على ما اشتهر عند العروضيّين- وأربعًا من الرمل، ومثلها من المتقارب. وحتى بحر الكامل، وهو سيّد البحور كثرةً، غير مدافَع، كان حظُّ إشراقة منه تسع قصائد، منها الأحذّ، ومنها المجزوء. وكذلك ضمَّ الديوان قصيدتين من مجزوء الرجز. مع خلو الديوان من (المديد، والهزج، والخبب، والمقتضب، والمضارع).

 استأثرت دائرة المشتبه بالكثرة الغالبة من شعر التجاني، من خلال أربعة أبحرٍ، هي: الخفيف (ثلاثون قصيدة)، والسريع (خمس قصائد)، والمجتث (خمس قصائد)، والمنسرح (أربع قصائد)، وهو ما يربو على نصف عدد قصائد الديوان، إذ تبلغ نسبة هذه الدائرة في شعر التجاني 62% من مجموع القصائد! وهي النّسبة التي تكشف لنا بُعدين جوهريّين من أبعاد شعر التجاني يوسف بشير: اللغة، وطريقة التفكير، وهو ما يتَّضِح عند تناولهما.

 

لغة التجاني وثراء معجمه:

عند إنعام النظر في (إشراقة) نجد لغةَ التجاني دقيقةً وموجزةً، إذا وازنَّاها بطبيعة البحور، فهي تشاكل الأوزان ذوات النغم المنزوي الخفيض، وهو ما يُفسِّر قلَّة القصائد ذات الجرس الداوي، والتي تظهر من خلال أبحر (البسيط، والكامل، والوافر، والمتقارب، والطويل، والرَّمل)، ثمّ من خلال مجزوءات البحور. وإن كان الخفيف يقاربُ أكثر هذه البحور في عذوبة موسيقاه، إلا أنَّ التدوير يُخفي كثيرًا من جلجلة الموسيقى، وهي الثيمة التي اتكأ عليها التجاني كثيرًا في خفيفيّاته. وهو ما يدفعنا إلى القول: إنَّ العروض ذو دلالة فكريَّة لغويَّة، وليس  مجرد وزن وإيقاع وإطار خارجيّ، إذ هو القالبُ الذي تنصَبُّ عليه المعاني عاريةً قبل أن تتدثر بالألفاظ.

لغة التجاني ومعجمه:

 والملمح الآخر الأشدّ وضوحًا، هو معجم التجاني المُشبَع بالمعرفة، من خلال كثير من المفردات التي يتنكَّبها شعراء عصره، حتى يشعِرُك من هذه الناحية أنَّه ينتمي إلى عصر غير عصرنا القريب هذا، ونرجِّح افتتانه بالمتنبي وأبي تمام وأبي العلاء المعري، أكثر من افتتانه بغيرهم من الشعراء. وإن كان لي أن أتخيَّر من معجمه بعض الألفاظ المنقرضة عن معجم عصره، فخذ مثلًا: (اطّبى، ربذ، وعثير، وكنهور، وبدِيء، والرِّعان، وصيهود، وصيخود، ومقفقف، وجيْرِ، وأوفاض)، ولئن كانت هذه المفردات جميعها موجودة في المعجم، فقد جلَّاها وشقَّ عنها أصدافها، وجاء بها لتؤدي معانيها بدقَّة متناهية. ومن الشواهد عليها في شعره:

كلّما لجّ في الذهولِ اطَّبَاهُ المِزهرُ الرطبُ في يديه فشاقَهْ

وهي لفظة كثيرة الدوران في شعر التجاني، يكرِّرُها بلذَّة وخشوع أمام الجمال.

ويقول في قصيدة عنوانها (الله):

فتفلَّتُ من يديَّ، وسبَّحتُ بديئًا لأولِ الأشياءِ

وجمع بين وصفين من أوصاف الصحراء في قوله:

أفرغتها وبرغمي أنّها انحدرت     بيضاءَ كالروحِ في سوداءَ صيخودِ

وكم ألوذُ بمن لاذَ الأنامُ به         وأبتغي الظِّلَّ في تيهاءَ صيخودِ

ويأتي بالأوفاض في وصف النيل في قوله:

ملء أوفاضِك الجلالُ فمرحى        بالجلالِ المُفيض من أنسابِك

وفي وصف سرعة النيل يقول:

ربذًا يدفقُ الحياةَ على الوادي ويستنُّ في الكنانة مجرى

وكأنّه عمد إلى إدخال مؤثرات صوتيَّة كما يفعل أهل المسرح، حينما أراد أن يصف المهدي صاحب الثورة، من خلال توالي الحروف وتكرارها في المفردات، حتى لكأنَّك تسمع صوت الريح في الليالي الشاتية، حين يقول في مطلع القصيدة:

في دُجًى مُطبقٍ، ويومٍ دجوجيٍّ وليلٍ مُقفقفٍ مقرورِ

ولعلَّك انتبهت أنَّ أكثر الشواهد جاءت من قصائد من بحر الخفيف، والتدوير يعمرها جميعها، وهو من أهمّ الملامح الأسلوبيَّة التي تُظهر تمكُّن الشاعر من فكرته. وعندما تستشير المعجم عن هذه المفردات جميعها فسيخبرك أنّها أدّت معانيَ لم تكن لتؤدّى بغيرها من المفردات التي تدانيها في المعنى.

الدلالات الصرفيّة وجرأة الاشتقاق:

ولا تكتمل لغة الشاعر إلا من الناحية الصرفيَّة، ومن أخصّ صورها يأتي الاشتقاق. للتجاني جرأةٌ عجيبةٌ في اشتقاقاته. وهي على غرابتها، وخلوّ دواوين معاصريه منها، إلا أنَّها اشتقاقات صحيحة، جاءت لتؤدي معاني قد لا تؤديها الصيغ الأخرى، فكثيرًا ما نراه يعدل عن الصفة المشبَّهة إلى اسم الفاعل، فتجد في شعره من الاشتقاقات مثل: (مائت، وناجس، وساكر، ونغّام). في قوله:

واستفاقوا يا نيلُ، منكَ على نغَّام شجيّ من آلهيّ ربابك

وقوله:

لوددت أني في الطفولة مائتٌ لو كنتُ أسمع بالشباب العاثر

وكذلك تسمعه يقول:

قالوا: احرقوهُ، بل اصلبوهُ، بل انسفُوا للريحِ ناجسَ عظمِه وإهابه

ونختم كلّ ذلك بقوله:

قمْ لمُوحاكَ في الدُّجى بين صحوانَ نديٍّ وبين سهوانَ ساكرْ

 

ومن اجتراحاته في هذا المنحى النَّسَب إلى (آلهة)، فيقول (آلهيّ)، للتفريق الدقيق بين النسب إلى الإله الواحد، والآلهة المتعدِّدة، لا سيما وقد غلب المنهج الرومانتيكيّ على شعره، وكل (آلهيّ) في شعره ذو خصوصيّة بالجمال. ولكثرة ما أتى بهذه اللفظة في شعره، لتظنّنه يقول لك: هذه لفظتي واجتراحي، فأنا أكثِر منها حتَّى تقَرَّ في الشعر! وقد وردت لفظتا (اطّبى، يطّبي)، و(آلِهٌ، وآلهيّ) في أكثر من عشرة مواضع متفرقات بين القصائد!

 

النزعة الفكريّة: بين الفلسفة والتَّصوُّف

استغرق التجاني يوسف بشير في الفلسفة والتَّصوف، وهما أهمّ ملمَحَيْن فكريّين في الديوان، وكلاهما مما يكدُّ الذهن بالتأمل والتأني، بعيدًا عن الاندفاع والتعجّل. وهو ما يتوافق -أيضًا- مع طبيعة الثيمة الإيقاعيّة العروضيّة في شعره، ويدفعه إلى الأوزان كثيرة النغم، دون أن يكون لهذا النغم دويٌّ وهدير، إلا في مجزوءاته.

وأكثر شِعْر التجاني في تفكُّرِه في سرِّ هذا الوجود، بين الإيمان المحض، وبين الشكِّ الذي يحسو روحه حسو الطير من ماء الثماد! وللاستزادة من هذا الجانب، نُحيل إلى قصائده (الله، ودَّعت أمس يقيني، يؤلمني شكِّي، حيرة، الصوفي المعذَّب).

يقول التجاني:

وراحَ يجمعُ أطمارًا مرفَّأةً

مزيقةً عريَتْ منهُنَّ عطفــاهُ

 

حتى أتى جبلَ الأحقابِ وهو بِهِ

أحفَى وأحدَبَ فاستبكى فآســاهُ

 

وقام بين الرِّعانِ البِيضِ ملتَفِتًا

يصيحُ فى الأرضِ من أعماقِ دُنياهُ:

 

فى مَوضِعِ السِّرِّ مِن دُنياي مُتَّسَعٌ

للحــقِّ، أفتأُ يرعاني وأرعاه

 

هنا الحقيقة في جنبِيْ، هنا قبسٌ

من السمواتِ في قلبي، هنا اللهُ

ما الذي يؤهِّل قصيدةً للغناء أكثر من غيرها؟

عبد الرحمن الطويل

 شاعر وباحث مصري

ما الذي يجعل قصيدةً ما صالحةً للغناء أكثر مِن غيرها؟ خطر ببالي هذا السؤال وأنا أرى احتفاء المطربين برائية أبي فراس الحمداني الشهيرة (أراكَ عصيَّ الدمع) منذ مطلع القرن العشرين، فمنذ ذلك الحين وصلتنا تسجيلات مختلفة للقصيدة بأصوات عبد الحي حلمي وصالح عبد الحي وأم كلثوم -التي غنتها بثلاثة ألحان- وأيوب طارش ومحمد عبده وغيرهم. فما الإكسير الكامن في (أراك عصيَّ الدمع) الذي جعلها حاضرةً أبدًا على حناجر المُغنّين؟

لسنا بحاجة إلى مجاملة أبي فراس أو مطربي القصيدة لنقول إنها مِن عيون قصائد العشق في التراث العربي، وقد تضافرت فيها ذِلَّةُ العشق مع ذِلَّةِ الأسْر مع عزة نفس الشاعر الفارس الأسير في سجون الروم لتُنتج لنا زفراتٍ شعريةً عزيزةَ المثال، تُطرب السامع الذي تزدحم مشاعره لتلتبس فيها محبة الشاعر بالإعجاب به بتعظيمه بالشفقة عليه بالحيرة لحيرته!

لأسباب مشابهة حظيَت بعض القصائد التراثية بالحالة نفسها مِن “شيوع الغناء”، لم يكن لها بالتأكيد مزيج (أراك عصيَّ الدمع) ومزاجها، لكنها تمتعت بأمزجة تشابهها في بعض العناصر، أهمها قوة حضورها في باب العشق وفرادة تعبيرها عنه، كقصيدة (يا ليلُ الصَّبُّ). ودخل شعر العشق الإلهي هذا المضمار بقوة، كالأبيات المنسوبة إلى رابعة العدوية وقصائد ابن الفارض، لإمكان قراءتها على الوجهين، ولأنَّ حالة الفناء الصوفي منحت أفق العشق اتِّساعًا أبديًّا غير محدودٍ بالبُعد المادي للفقد أو الألم.

كانت (أراك عصيَّ الدمع) من أشهر القصائد التراثية التي غنَّتها أم كلثوم، وقد سجلتها لأول مرة عام 1926 باللحن التراثي المنسوب إلى عبده الحامُولي، ويبدو أنَّ سلطان القصيدة ظل يُلحُّ عليها بتقديمها مرةً أخرى خلال عقود لاحقة تطور فيها شكل الأغنية وشكل الشعر المكتوب لها، فقدمتها ثانيةً عام 1941 بلحن وضعه زكريا أحمد، لم يصلنا تسجيل هذا اللحن، واستنتج بعضُ السمِّيعة من عدم تسجيله ومن انقطاع أم كلثوم المبكر عن غنائه؛ أن اللحن قد فشل تجاريًّا ولم يلقَ التجاوب الكافي من الجمهور.

لكنَّ (أراك عصي الدمع) لم تتوقف عن الإلحاح على السِّت، فقدَّمتها للمرة الثالثة في نهاية عام 1964 بلحن رياض السنباطي هذه المرة، ورغم عبقرية السنباطي في تمثيل مشاعر القصيدة وتجسيد زفرات الأمير الأسير فقد جاءت مِن أقل أعمال أم كلثوم نجاحًا وجماهيرية خلال عقد الستينيات.

بدا جليًّا أنّ بحر الطويل التام الذي كُتِبَتْ عليه (أراكَ عصيَّ الدمع) بات غريبًا على أنماط الغناء في الستينيَّات، وثقيلًا على إيقاعاته، لدرجة أنَّه مِن بين عشرة أبيات اختارتها أم كلثوم للغناء لم يُلحَّن على الإيقاع إلا ثلاثة، وجاءت سبعة أبيات مُرسلةً بلا إيقاع، وانعكس الأمر على موسيقى المقدمة والفواصل أيضًا.

في الموسم التالي قدَّم السنباطي وأم كلثوم قصيدة (الأطلال) لإبراهيم ناجي، والتي صارت أنجح أغاني أم كلثوم وأشهرها وأعلاها على عرش الخلود. كُتبت الأطلال على بحر الرَّمَل، فتى البحور المُدَلَّل في الحقبة الرومانسية، وأثيرها عند الملحنين فيما يبدو. فمع صعود التيارات الرومانسية في الشعر العربي، وخاصةً مدرسة أبولُّو في مصر، بدا بحر الرَّمَل اختيارًا إيقاعيًّا مفضَّلًا وكثير الاستعمال، وبات له من الانتشار ما كان للطويل في الجاهلية وصدر الإسلام، وانعكس هذا الانتشار على اختيارات الملحنين، فكان للرَّمَل السيادة على شهيرات القصائد العاطفية المغناة مثل (الجندول) و(الكرنك) و(كليوبترا) لعبد الوهاب، و(اذكريني) و(ذكريات) لأم كلثوم، و(اسقنيها) و(حديث عينين) و(أيها النائم) لأسمهان.

البنية المنتظمة لبحر الرمَل، الذي يتكون مِن تكرار (فاعلاتن) ثلاث مرات، يبدو أنّها منحتهُ قدرةً أكبر على الانتظام مع إيقاعات التلحين، مِن تلك البحور المركبة مختلفة التفاعيل. ورشاقة تفعيلته التي يتوسط فيها الوتد بين سببين جعلته أرهف قوامًا مِن شقيقيه (الرجَز) و(الهزَج) اللذين لم يُغرَ بهما الشعر الحديثُ كثيرًا، فبات حظ قصيدة الرمَل في الغناء أعلى مِن حظوظ قصائد البحور الأخرى طيلة الحقبة الممتدة بين ثلاثينيات القرن العشرين وستينياته.

إلى جانب هذا حظيت الأطلال بميزة أخرى، هي تنويع القوافي المُطَّرِد، حيث بُنيَتْ على مقاطع رباعية الأبيات مختلفة القوافي، هذه البنية سهَّلت على السنباطي تحويل كل مقطع إلى (كوبليه) متميز عمَّا قبله وما بعده. وتنويع القوافي ظاهرةٌ شاعت بأشكال مختلفة في الشعر الرومانسي، فرفدَت الغناء بعدد كبير من روائعه الخالدة.

حين سلطنا الضوء على رائية أبي فراس وأطلال ناجي كنا نحوِّم حول الأسباب التي تجعل قصيدةً ما جديرةً بالغناء ومرشحةً للنجاح على أصوات المغنين، وهو بحث يحتاج إلى استقصاء واسع لعدد كبير من القصائد المغناة قديمًا وحديثًا، وتوثيق ما نجح منها وما أخفق، حتى نصل إلى نتيجة نطمئن إلى صحتها وشمولها، لكننا باعتبار المثالين السابقين وكثير مما يقاربُهما من أغاني القرن العشرين نستطيع الوصول إلى أسباب عامة يرجع بعضُها إلى الشعر، فيما يرجع البعض الآخر إلى الغناء والسياق الاجتماعي.

في صدارة الأسباب المتصلة بالشعر تأتي قوة حضور القصيدة في بابها (غرضها ومعناها)، فعيون قصائد العشق والغزل كانت دومًا مرشحةً للغناء، مدعوَّةً على حناجر المغنين قديمًا وحديثًا، يشهد لهذا كثير من نصوص الأصوات التي غُنِّيَت للرشيد وتأسس عليها كتاب (الأغاني)، كما تشهد له قصائد كثيرة غُنِّيَت في العصر الحديث على اختلاف حظوظها مِن الشهرة، وهذا السبب يتجاوز موضوعات الحب والعشق إلى سائر الموضوعات التي يُمكن أن يدعو السياق الثقافي أو الاجتماعي إلى الغناء فيها، ففي باب المديح النبوي لا يمكن تجاهل موقع (البردة) و(الهمزية) للبوصيري اللتين تواتر عليهما المنشدون في جميع أقطار العالم الإسلامي، وأورثا هذه الشهرة لمُعارَضاتهما مثل (نهج البردة) لشوقي، التي اختارت أم كلثوم غناءها.

السبب الثاني المتعلق بالشعر هو مناسبةُ وزن القصيدة وقافيتها لأنماط التلحين والغناء السائدة، ولذا نجد بحر الطويل ظل متسيدًا أوزان الشعر في الجاهلية بسبب ملاءمته للحُداء. ومع ازدهار الغناء في العصرين الأموي والعباسي وتطور أنماطه على حناجر القِيان اندفع الشعراء إلى الكتابة على الأوزان القصيرة والمجزوءة في موجة واسعة بدأت مع نهاية العصر الأموي على يد الوليد بن يزيد، وبلغت ذروتها في العصر العباسي مع أبي نواس وأبي العتاهية.

وفي العصر الحديث نال بحر الرَّمَل حظًّا أعلى من غيره من البحور، بسبب انتظام إيقاعه المبني على تكرار تفعيلة واحدة يتوسطها وتدٌ بين سببين. كما كانت القصائد ذات القوافي المنوعة أسعد باختيارات الملحنين والمطربين في الغالب، لأنّ تقسيمها في البنية اللحنية أسهل.

أما السبب الثالث فالسهولة والمباشَرة التي لا تُفرط في الجودة، مِن أجل ذلك حظيت قصائد نزار قباني بحضور قوي على حناجر كثير من المغنين والمغنيات في عدة بلدان عربية، لأنها حققت معادلة ليست سهلة على الجميع، إذ ضمنَت إقبال الجمهور دون تفريط في المستوى اللغوي والثقافي، وهذا جعلها اختيارًا رابحًا من الوجهتين الثقافية والتجارية معًا.

أما الأسباب غير المتصلة بالشعر فقد ترجع إلى علاقات الشاعر بأهل الغناء، فدائمًا حظيَ الشعراء الذين كوَّنوا صداقات متينة مع الملحنين والمغنين بغناء قصائدهم أكثر من غيرهم، فكان طبيعيًّا أن يغني عبد الوهاب عشرات القصائد من شعر شوقي الذي تبنَّاه وأسكنه بيتَهُ وكتب له خصِّيصى، ولذا كان أحمد رامي من أكثر شعراء الفصحى انتشارًا على حناجر المغنين لأنه كان صديقًا لمُعظم ملحني عصره ومطربيه، فضلًا عن رعايته الخاصة لأم كلثوم التي اعتمدت عليه بشكل كلي في عقودها الأولى، والأمر نفسه مع سعيد عقل وصداقته المتينة مع الرحابنة وفيروز. هذه الصداقة تجعل قصائد الشاعر أقرب إلى أنظار الملحنين وأسرع وصولًا، كما أنها صاحبة فضل في ميلاد كثير من القصائد التي يطلبونها مِنه لمشاريعهم الغنائية.

ومِن هذه الأسباب أيضًا ثقافة المغني وإقباله على غناء قصائد قد لا تكون شهيرة أو رائجة لدى العامة، وشكل الغناء الذي يؤديه، فالمغنّون الذين يمارسون أشكالًا مِن الغناء المرسل (الذي لا يصاحبه إيقاع) سواء كان بصحبة العود فقط، أو في شكل الموّال في بداية الوصلات الغنائية أو وسطها، هؤلاء أقدر على غناء قصائد تراثية أكثر، ومن مختلف البحور، لأنّ غناءهم غير مقيد بإيقاع مصاحب، وفي مثل هذه الأشكال سمعنا (أقول وقد ناحت بقربي حمامة) من ناظم الغزالي وطلال مداح، و(ما لنا كلنا جَوٍ يا رسولُ) من وديع الصافي.

وأخيرًا يأتي السياق السياسي والاجتماعي الذي قد يفرض غناء قصائد لمناسبات بعينها، ثم يكون حظها بعدُ من الخلود أو النسيان بقدر ما أحسنَ صانعوها.

الشعر ضد الجريمة.. كيف تغسل المهرجانات الشعرية العالمية أرواح المدن؟ | طارق الطيب

طارق الطيب

شاعر وكاتب - النمسا

في عام 2002، وكنت قد استقررت في فيينا منذ 18 سنة، وصلتني دعوة أدبية لحضور مهرجان شعري اسمه (مهرجان ستروجا الدولي للشعر). لم أعرف وقتها أين تقع ستروجا، ولم أسمع في ذاك الوقت باسم هذا المهرجان.

 

سوف أسرد هنا بعضًا من ملامح هذا المهرجان واثنين غيره وهما الأبرز، دون اللجوء إلى مقارنات بيننا في العالم العربي وبينهم، ودون وضع خلاصة للتجربة؛ فالحكاية وحدها كفيلة بالتأمل والتفكير، وربما التغيير إن أردنا.

 

عرفت أن “ستروجا” هذه مدينة تقع في شمال مقدونيا الشمالية، وأن فيها واحدًا من أقدم المهرجانات الشعرية العالمية، وأن الاسم الأصلي للمهرجان هو (أمسيات الشعر في ستروجا) الذي تأسس في ستروجا عام 1961، بمشاركة شعراء مقدونيين فقط. في عام 1963 سيتوسَّع ليشمل شعراء من جميع أنحاء جمهورية يوغوسلافيا الاتحادية الاشتراكية السابقة وبحلول عام 1966 سيتحوَّل الحدث إلى مهرجان ثقافي دولي.

 

أُنشِئت جائزة الإكليل الذهبي الدولية في العام نفسه، وكان روبرت روزديستفينسكي أول من فاز بها. في عام 2003، وبالتعاون الوثيق مع اليونسكو، أنشأ المهرجان جائزة دولية أخرى تُسمى “جُسور ستروجا”، لأفضل كتاب شعري أول لمؤلف شاب.

استضاف المهرجان قرابة 4000 شاعرًا ومترجمًا وكاتب مقال وناقدًا أدبيًا من قرابة 95 دولة حول العالم.

كذلك كرّم المهرجان بعضًا من أبرز الشخصيات الأدبية في العالم، بمن فيهم العديد من الحائزين على جائزة نوبل للآداب، مثل جوزيف برودسكي، وبابلو نيرودا، وشيموس هيني، وليوبولد سيدار سنغور، ويستن هيو أودن، وآلان جينسبيرج، وتوماس ترانسترومر الذي حالفني الحظ بالوجود معه في إحدى نسخ المهرجان في مقدونيا والتعرف عليه بشكل وثيق.

 

قلت سوف أجرب وألبي الدعوة ولنرى كيف هي هذه المهرجانات الشعرية. لأعرف أيضًا أن هذا المهرجان الأدبي الدولي يقام سنويًا ويستمر ستة أيام ويعد من بين أقدم وأكبر المهرجانات من نوعها في العالم إن لم يكن أقدمها.

 

وصلت إلى مطار مقدونيا فوجدت بعض الشعراء قد وصلوا قبلي وكان عليَّ أن أنتظر وصول بعض الشاعرات والشعراء الآخرين القادمين من دول مختلفة، ليقلّنا باص صغير به ما يقرب من عشرة شعراء متجهًا نحو فندق عتيق على نهر “درين”، ليستقبلنا مدير المهرجان آنذاك الشاعر المقدوني “بوجوميل جوزيل” الذي يجيد الفرنسية مرحِّبًا، إلى جواره شاعرات وشعراء يعرفنا على بعضنا البعض، مع مجموعة من مترجمات ومترجمين من الشباب الذين يجيدون بعض اللغات الأوروبية، من أجل مرافقة الشعراء طوال اليوم وإزالة معوقات اللغة وضبط مواعيد القراءات والندوات.

 

كان هذا هو المهرجان الأول لي خارج النمسا. الاحتفاء فيه بالشعراء فوق الخيال. رئيس الجمهورية هو الذي يفتتح هذا المهرجان الشعري العالمي بنفسه، ويُفتح المسـرح الكبير لاستقبال الناس مجانًا، دون حرس وأمن وتضييق وعصبية وخوف وجنون عظمة.

في يوم الافتتاح يُغلق الجسـر الرئيسي في المدينة، لتُنصَب عليه خشبة مسـرح كبيرة يقف عليها الشعراء للقراءة مساء ويقرأ ترجمة الشعر ممثلات وممثلون محترفون في الإلقاء. يخرج الناس بالمئات إلى ضفتي النهر للاحتفال بهذا الأسبوع الجميل وتمتلئ البحيرة بالقوارب الملونة والضفاف بالألوان المفرحة وينقل التلفزيون هذا الحفل على الهواء، وأعلام بلاد المشاركين ترفرف على الضفتين.

 

في الأيام التالية تتعدد القراءات في أمكنة كثيرة ويقام الطقس الاحتفالي المميز للشاعر ضيف الشرف بأن يزرع بنفسه شتلة شجرة لتنمو في حديقة الشعراء باسمه. هناك شجرة باسم أدونيس وأخرى باسم محمود درويش.

 

ومن الطرائف التي حدثت لي في زيارتي الأولى في 2002، هو اكتشافي وجود علم ضخم للسودان على ضفة نهر درين، استفسرت من الشاعر “بوجوميل جوزيل” المنظم إن كان بالمدينة مؤتمر سياسي يشارك فيه السودان، لأنني رأيت علمًا كبيرًا للسودان على الضفة. ضحك وقال لي: “إن هذا العلم لك بمناسبة مشاركتك في هذا المهرجان!”، وتابع ضاحكًا: “لقد تعبنا من أجل إيجاد علم لك، وقد أنجزوه لنا سريعًا وخصيصًا من أجلك!”.

 

من تقليدهم السنوي أيضًا في هذا المهرجان هو نشر سبعة دواوين مترجمة إلى اللغة المقدونية؛ كتاب لشاعر من كل قارة من القارات السبع. وقد حالفني الحظ في 2005 بأن يكون لي ديوان حمل عنوان (حجر أكبر من السماء) من ترجمة الشاعر الكبير “جوزيل”.

استضاف رئيس الجمهورية الشعراء السبعة وقدم لنا مشروبًا احتفاليًا احتفاءً بنا في جو حميمي لطيف ودردشة بلا أبهة ومبالغات.

 

* * * * *

في أكتوبر من العام الماضي 2024، دُعيتُ للمرة الثانية إلى مهرجان كوستاريكا الدولي للشعر. الدعوة الأولى كانت في 2014. بين هذين المهرجانين على مدى ما يقرب من ربع قرن دُعيت إلى أكثر من خمسين مهرجان ولقاء حول العالم، تستحق حديثًا موسعًا لا يناسبه المكان.

 

من فضائل مهرجان كوستاريكا أنهم ينشرون ديوانًا مترجمًا إلى اللغة الإسبانية لكل كاتب أجنبي مدعو. وأتذكر أنه من أجمل اللفتات في دعوتي الأولى قبل عشر سنوات، أن من استقبلني في مطار سان خوسيه كان مدير المهرجان بنفسه الشاعر “نوربرتو سالينا”. كنت قد سألته قبل السفر عمَّن سيقلني من المطار، كتب لي: “من سيحضر إليك سيرفع غلاف كتابك عاليًا لتتعرف عليه!” وكانوا قد أرسلوا لي صورة غلاف ديواني قبل وصولي.

الطريف أيضًا أنني لم أنتبه أن من رفع غلاف الديوان في المطار هو مدير المهرجان نفسه، ولم أكن أعرف صورته. حضر بصورة عادية وتواضع كبير ونقلني بسيارته الخاصة الصغيرة.

 

يبدأ الافتتاح عادة في المسرح الكبير وفي الأيام التالية إلى الجامعة، ثم نتوزع في مجموعات صغيرة على عدة مناطق كعادة البرنامج، لزيارة المدارس في عدد كبير من المحافظات في معظم أنحاء البلاد.

في عام 2014 كان من حظي أن أزور منطقة رائعة مرتفعة وسط الغابات اسمها “مونتيفيرده”. كنت بصحبة سيدة فنانة ومنظمة مرافقة تتحدث الإنجليزية ومعنا مصور محترف. هناك زرت ثلاث مدارس نهارًا وقمت مساءً بلقائين مع الكتاب الكبار في المنطقة، وقد تبرعت سيدة محبة للأدب والفن بإقامتي هناك لثلاثة أيام في بيت جميل منفصل وسط الغابات.

 

في العام الماضي 2024 قام مدير المهرجان “نوربرتو سالينا” بعمل مسابقات في مدارس الدولة جميعها قبل المهرجان، ليختار أكثر من سبعين شاعرة وشاعرًا أقل من 18 سنة وينشر لهم أنطولوجيا شعرية ضخمة بصورهم وأشعارهم. شاركونا على المسارح وفي المدارس بإلقاء شعرهم الجميل.

يتضمن البرنامج زيارة لأجمل مناطق كوستاريكا في منطقة “تورتوجيرو” العظيمة على البحر الكاريبي لثلاثة أيام، بدعوة دائمة من مدير المنتجع، للشاعرات والشعراء الشابات والشباب الفائزين في الأنطولوجيا صحبة أمهاتهم. وتمضي الأيام في قراءات ونقاشات ورحلات ورؤية أجمل أمكنة الطبيعة على الإطلاق.

 

أيضًا من أجمل ما رأيت في دعوتي الأولى لمهرجان كوستاريكا العالمي للشعر في 2014 هو توزيع مقتطفات من أشعار الكتاب في بوسترات كبيرة ملصقة على محطات الباصات العمومية في المدينة تصحبها رسومات لفنانين، ومن يقف في انتظار الباص سوف يقرأ بعض الأشعار لواحد منا مزينة باسمه، وهو إعلان ذكي في الوقت نفسه عن المهرجان الموجود في البلاد.

 

* * * * *

 

من المهرجانات الملفتة عالميًا، مهرجان “ميديين” للشعر في كولومبيا. هو واحد من أعرق وأكبر المهرجانات العالمية، يرأسه الشاعر الكبير “فرناندو ريندون” ومن تنسيق “لويس إدواردو ريندون.

في مدينة “مديين” الكولومبية تجلى مثالٌ حيّ لانتصار الشعر وترويضه لمجتمع عاش عقودًا ضحية للعنف والجريمة إلى أن اكتسبت المدينة نفسها اليوم، بعد 35 عامًا من تأسيس المهرجان الدولي للشعر، روحًا أخرى وتغيرت صورتها النمطية في الأذهان.

 

المهرجان الدولي للشعر في ميديين يقام في مدينة ميديين، وهي ثاني أكبر مدينة في كولومبيا بعد العاصمة بوجوتا. تأسس هذا المهرجان في العام 1991 في تلك المدينة التي اشتهرت لأعوام طويلة بالعنف وبالارتفاع الكبير في معدل الجريمة، وبوجود أشهر كارتل للمخدرات في العالم ظهر عام 1976 من قِبَل بابلو اسكوبار، عُرِف باسم “كارتل ميديين”؛ فظلت المدينة تحت وطأة إرهاب داخلي وزعزعة استقرار. في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات ظهرت العصابات الاجرامية في الأحياء الشعبية ونشط القتلة المرتزقة وانتشـرت عمليات الاختطاف وقتل القضاة والسياسيين وتحولت المدينة لفوضى وخطر.

كانت وفاة بابلو إسكوبار في العام 1993 بمثابة نهاية كارتل ميديين الذي سبَّب آثارًا جانبية امتدت لسنوات من نزوح ولجوء وعدم استقرار، لذا أتى مهرجان ميديين الشعري بفكرة بديلة لهذا الاضطراب والفوضى والعنف؛ تلك السمات التي أساءت لسمعة المدينة لزمن طويل، فأسس الشاعر المعروف فرناندو ريندون هذا المهرجان الذي أصبح من أهم المهرجانات في العالم وأوسعها صيتًا.

حصل المهرجان على جائزة (الحق في العيش) بعد 15 عامًا من تأسيسه، وهي الجائزة المخصصة لتكريم ودعم هؤلاء الذين يقدمون حلولًا عملية ومثالية للتحديات الأكثر إلحاحًا التي تواجهنا اليوم، مؤكدًا أنه عن طريق الفن والشعر وحرية التعبير، يمكن للمجتمع أن يتغير إيجابيًا ويزيل الكثير من الخوف والعنف الراسخ في عمق المجتمع، وتحولت ميديين تدريجيًا لتحمل اسم “مدينة الربيع الأبدي”، مثلما تحمل اسمًا آخرَ جميلًا هو “عاصمة الجبال”.

 

 

حضرت مهرجانين تاليين عبر زووم في فترة الكورونا، وفي المهرجان الثالث والثلاثين سافرت للمرة الثانية بدعوة رسمية، وشارك فيه 90 شاعرة وشاعر من 54 دولة.

الملفت في هذه المهرجانات أن صبغة العالمية تنطبق عليها بالفعل وأن الحضور الجماهيري خيالي بالفعل بعدده الضخم جدًا. وبالإضافة للقراءة هناك على مسارح كبيرة يتم توزيع الشعراء في مجموعات صغيرة للطواف في أنحاء البلاد للقراءة أيضًا ضمن شعراء المناطق التي يصلون إليها.

يستمر مهرجان “ميديين” للشعر في كولومبيا لمدة أسبوع. يأتي إليه الجمهور بالآلاف ليستمع إلى الشعراء في “حديقة الأمنيات”، وهو المكان الذي ينطلق منه الافتتاح ويكون فيه الختام. الشباب هم غالبة الحاضرين.

جمهور كولومبيا يعشق الشعر، تربى عليه ويتذوقه ويتفاعل معه ومع كل الأصوات واللغات التي تأتي من كل أنحاء الأرض. يجلسون لساعات طويلة منصتين ثم منتظرين توقيع الشعراء على الأنطولوجيا السنوية الفخمة المطبوعة على ورق مصقول ملون في نحو 340 صفحة، جهزها المهرجان بالسِيَر الذاتية والقصائد بالإسبانية والإنجليزية.

 

ليس هناك أي خصوصية لشعر دولة أو منطقة في هذا المهرجان، الشعر هناك هو صوت كل العالم، بل بالعكس فالشعر هنا يذيب أي فوارق حدودية أو جغرافية أو إثنية. صحيح أن الشعراء يمثلون بلادهم، لكن الشعر هو بطل الموقف والزمان والمكان. الجملة الشعرية هي الفاصلة وهي المعنى والمراد. البعض يتحصن بنكوص أدبي وفني ويظن أن هذه هي الوطنية الحقة، لكن الوطنية تكمن في إثبات إنسانية التواصل ورقيّ الاندماج. بعدها سيسألك الناس من أين أنت؟

 

(ريف شمال النمسا، 2025-03-27)

 

 

 

 

 

تهمة «ازدراء أدونيس»! | الطيب الحصني

الطيب الحصني

كاتب ومترجم سوري

منذ فترة، انتقد صديق شاعرٌ تجربةَ أدونيس على منبرٍ ثقافيٍّ انتقادًا شاملًا، بما يمليه عليه توجهه التراثي التقليدي. فانبرى في الأيام التالية شاعرٌ آخر بالردِّ عليه، فابتدأ بتوضيح مفاسد قوله، وخطورة معتقده وفكره على المجتمع، ثم أكمل ينتقدُ طريقة اكتسابه رزقَه، ولم يتوقف للأسف عند أهله وأولاده. كَبُرَ الأمرُ… قلتُ يومها للأول مازحًا: “إذا أدخلتك هذه المشكلة السجن فستكون أول من يسجنُ بتهمة ازدراء أدونيس”.

إن التعصب الغاضب الذي يبدر من مُحبِّي أدونيس شعرًا والمتفقين معه فكرًا -فلنسمِّهم الأدونيسيين- حين يعارض أحد من الناس شيئًا من آرائه أو شعره، ظاهرةٌ تستحق التأمل، وهي ظاهرةٌ يمكننا أن نجد أساسَها على لسان أدونيس نفسه في غير موضع، لعلَّ أوضحها إجابته عام 2021 على سؤالٍ حول قيمة شعره في العالم العربي: “…فهذه الثقافة [العربية] لا تزال في جوهرها كما أرى دينية (فقهية – شرعية، على الأخص)، نظرةً وممارسةً. وهذا […] يجعلها كذلك ضد المعرفة، وضد الإنسان، وضد الحياة ذاتها. وهكذا أشقُّ العرب إلى قسمين، فبعضهم إلى جانبي في هذه النظرة، وهم القلَّة. وانطلاقًا منها يرون أن شعري وفكري يمثلان ذروة الشعر والفكر في اللغة العربية، ولا مثيل لها في تاريخ الإبداع العربي وبخاصة الحديث. أقول هؤلاء قلة، ولكنهم القلة الخلَّاقة الرائية”.

 

وهكذا، وفقَ رؤية أدونيس والأدونيسيين، نجدُ أنفسنا أمام ثياب الملك القديمة/الجديدة: فإنْ استطاعت ذائقة المرء استيعاب أن “ذروة الشعر والفكر” هي عند أدونيس، تلك الذروة التي “لا مثيل لها“، فقد حُقَّ للمرء الانتماءُ إلى “القلّة الخلاقة الرائية” والدخولُ في عهدها؛ وأما منْ عجِزتْ ذائقته عن إدراكِ تلك “الذروة” فهو إذن من الأكثرية الدهماء آنفة الذكر، أي: تلك التي هي “ضد المعرفة، وضد الإنسان، وضد الحياة ذاتها“.

 

لا حاجة بنا إلى التنبيه إلى سوء هذا التحزُّب، فضلًا عن طرافة أن يجعل أيُّ إنسانٍ الإعجاب بأعماله شخصيًّا هو المعيار في الرؤية الخلَّاقة.

من المؤكد أنني لن أحاول في هذا المقال القصير الاشتباك مع فكر أدونيس كله، بل أريد أن أشير فيه إلى بضعة أمثلة بارزة من أفكاره، أمثلةٍ جعلتني أضعُ الكتاب جانبًا وأسأل: لِمَ أقرأ هذا الكلام؟ أي فائدة تُجنَى منه؟ وهدفي من المقال توضيحُ أنه من الوارد، ضمن عالم الممكنات، أن يزدري الإنسان أفكار أدونيس من دون أن يكون “ضد المعرفة، وضد الإنسان، وضد الحياة ذاتها”.

 

أولُ الإشكالات، ولعلَّه جوهريُّ فيها، هو إحالةُ أدونيس ظواهر شعرية معقدة برمَّتِها إلى التنوع الثقافي-التاريخي، متجاهلًا كونَ جزء منها يرجع إلى طبيعة الإنسان. تأمَّل قوله –في سياق تقليله من أهمية الأوزان الخليليّة- إنَّ: “الوزن/القافية عملٌ تنظيري لاحقٌ لتشكيل شعريٍّ سابق“.

في الواقع، الوزن/القافية ليس عملًا تنظيريًّا من الأصل، حتى يكون لاحقًا لـ”شكلٍ شعري” يسبقه. بل العكس صحيح: إنَّ التزام الوزنِ سبَّاقٌ على العمل التنظيري من جهتين مختلفتين، مهمّتين بالقدر ذاته:

 

الأولى تاريخيةٌ: لقد سبقَ الالتزامُ الدقيق بأوزان البحور وقوافيها كلَّ الجهود التنظيرية التي جاءت بعده، والتزاماتُ الجاهليين بالوزن والقافية بالغة الصرامة، مثلَ التزامهم سلامة عَروض البسيط، وتفعيلته الثالثة من كل شطر، من الزحاف. ولو بحثتَ عن الأبيات التي خرجوا فيها عن هذه (القاعدة) لوجدت أن نسبتها أقل من 1%؛ إنَّ مثل هذه الالتزامات الصارمة –وأمثالها كثير- ليست “تشكيلًا شعريًّا”، بل هي التزامٌ بالوزن/القافية سبقَ التنظير بقرنين على الأقل.

 

الثانية طبيعية: إن جزءًا ما من الوزن سبّاقٌ لا على التنظير وحسب، بل على الثقافة ككل، لأن المزامنة الإيقاعية (“Entrainment”) ثابتٌ بيولوجيٌّ كونيٌّ في الإنسان؛ وتقطيعُ الأصوات إلى أقسام متساوية متكررة –في الموسيقى والشعر على حد سواء- ليس اختراعًا ثقافيًّا اخترعه أحد الشعوب القديمة ثم انتشر في القارات مثل السلعة (أو بتعبير أدونيس هو “عملٌ بارعٌ […] ربما يزول، وذلك بحسب التطور ومقتضياته”)، بل هو غريزة ثابتة لا تزول، يمارسها حتى الأطفال الذين لم يبلغوا سن الدراسة. وهو حقيقيٌّ على نحوٍ خاص في الشعر الخليليّ لأنه مبنيٌّ على الزمن الإيقاعي، لا على النَّبْر. حريٌّ بنا، إذن، ونحن ننظر إلى بِنْيَة بيت الشعر الخليليّ، ونقرُّ بأن جزءًا كبيرًا من التزامات هذه البنية تاريخيٌّ متعلق بالثقافة التي نشأت فيها، أن ننتبه إلى أن في بنيَتِه أيضًا ما يتسامى فوق الثقافيَّ نحو الكونيّ والفطري.

 

إذا ما وضعنا جانبًا كل العنفوان والإجلال الذي نحمله في داخلنا نحو الشعر العربي (كي لا نُتهم بأننا ذوو “عقلية دينية-فقهية-شرعية مضادة للحياة والإنسان)، ووضعنا جانبًا، أيضًا، الاعتراضات التي أوردتها توًّا، فلنا على الأقل أن نسأل: أي فائدة نجنيها من إحالة الطبيعة والثقافة إلى “عملٍ تنظيري”؟ وأي قيمةٍ نجنيها من إعلاء أدونيس شأنَ “الحالة” و”التخييل” و”المجاز التعبيري”؟ وجعلها أشياء أكثر شاعريَّة من “الواقع” و”المفهوم”؟ فإن الإنسان لا يلقى جوابًا، أو يجد جوابًا يسوؤه. يقول:

“اللسانُ، لا الواقع، هو المادة المباشرة في عمل الشاعر. باللسان وفيه، يرى العالم وشكله. هذه الممارسة المادية للسان تفرض عليه أن يكون عارفًا المعرفة العليا به، ومتقنًا الإتقان الأكبر لتاريخية الكلام الشعري، ولكيفية الكتابة شعريًّا. فإذا كان الإنسانُ حيوانًا ناطقًا، فإن الأكثر معرفةً باللسان هو الأكثر إنسانية…”.

يمثِّلُ هذا المقطع خيرَ تمثيل لما هو منفِّرٌ في فكر أدونيس، إن أدونيس يفرضُ على الشاعر أن يكون عارفًا المعرفة العليا باللسان الذي يكتب به، لكنَّ عالمنا العربي –والعالم الغربي أيضًا!- يضجُّ بالشعراء (الفصيحين والعاميين) الذين ينبغون في بيئات لا تقدم لهم إمكانية تلك “المعرفة العليا” ولا “الإتقان الأكبر لتاريخية الكلام الشعري“، لكنهم يقولون من الشعر أعذبه وأنقاه.

يَظهرُ بؤس هذه الفكرة في المنطق التقريري الأخير الذي يجعل الأكثر معرفة باللسان هو الأكثر إنسانية، بحجة تعريف الإنسان بأنه حيوان ناطق.

لو نظرت في هذا القول من حيثُ شكله المنطقي، أقصدُ من دون النظر في معناه، لوجدته فاسدًا منطقيًّا، لأنه: إذا كان النبيذ شرابًا كحوليًّا، فإن النبيذ الأكثر كحولًا ليس أكثر “نبيذيَّةً” من غيره، بل يتحول إلى مطهِّرٍ للأيدي في أفضل الأحوال. فإن تجاوزتَ عن فسادِ حجة المنطق ونظرتَ في النتيجة التي يصل إليها الكلام في حد ذاتها، وَجَدْتها أكثر فسادًا.

إن القول بأن “الأكثر معرفة باللسان هو الأكثر إنسانية” يقتضي، مثلًا، أن أهلنا في سوريا الذين قضوا عقدًا في المخيمات (بلا مدارس أو أي ظاهرة من ظواهر العيش الآدمي) هم أقلُّ إنسانية من نظرائهم الأسعد حظًّا الذين نهلوا “المعرفة العليا” وأتقنوا “تاريخية الكلام الشعري“. كما يقتضي ذلك أيضًا أن العبيد الأفارقة في الولايات كانوا أقل إنسانيًّة من مستعبديهم، كيف لا وأجيال العبيد فقدت سريعًا معظم صلتها بلسانها الأصلي –لأن مستعبيدهم كانوا لا يتركون من ينطقون بلغة إفريقية واحدة يجتمعون في مجموعة عمل واحدة، خوفًا من تمردهم- ثم همُ لمّا يتعلموا من الإنجليزية شيئًا كافيًا بعد، أقصدُ لم يحصلوا على “المعرفة العليا” باللسان.

 

من البديهي أن هذا كله فاسد، وأن الشاعر (أدونيس أو غيره) لا يزيد إنسانيةً مقدار شعرة على أم تُغَنِّي لابنها تهويدةً كي ينام في الخيمة، بل الأرجح أن ينقُص؛ هذه الفكرة لا يُقِرُّها مؤدِّبٌ أصلًا، فضلًا عن أديب، ولا أظنها جاءت على قلم أدونيس إلا كما يحصل مع كافة أهل الفنون من النرجسية، حيثُ يحدِّثُك الرسام عن أن الأحذقَ بصرًا هو الأعمق بصيرةً، ويرى العازف أن الأدرى بقفلات مقام الصبا هو الأكثر رومنسية، إلى آخر مثل هذا الكلام الذي يمدح به أهل المهن أنفسهم.

 

هذه الفكرة وما يشابهها عند أدونيس مثل ازدرائه للقرَّاء (غير الخلَّاقين والرائين منهم) حين يعتبر أن “الجمهور أكبر أكذوبة فنية” وأنه “ليس له معنى”… هذا الأفكار كلها نهايات منطقية لإقصاء الشعر تمامًا عن فطرته وإحالته إلى “التاريخي” و”الثقافي”، أي: إحالة تقييم الشاعر إلى الآليات المؤسساتية، شرقية كانت أم غربية. وينتهي الأمر بنا هنا إلى سؤال نتمنى أن يكون عادلًا ومشروعًا ومؤدَّبًا: ألا يحقُّ لهذا الجمهور الذي يراهُ أدونيس “أكبر أكذوبة فنية في التاريخ” و”لا معنى له” أن يرى هو أيضًا أنَّ أدونيس “أكذوبة” و”لا معنى له”… من دون أنْ يُحاكَمَ بتهمة «ازدراء أدونيس»؟!