آخَرُ “أحمد بخيت” المُقاوِم | أ. د. أحمد بلبولة

أ. د. أحمد بلبولة

شاعر وأكاديمي مصري

       قدَّمهُ شِعْرُه قبل أن يُقَدِّمه أي أحد؛ فعلى أي شيء كان يراهن أحمد بخيت حين توجَّه بكُلِّيَّتِه إلى القصيدة العمودية ضاربًا صفحًا عن كل أشكال القصيدة الأخرى؟ وهل اتسعت لاستيعاب تجربته؟ هل اختار السهل؟!

    إنَّ من يعرف أحمد بخيت حقَّ المعرفة يعرف أنه يحفظ قصائد كثيرة لرواد الشعر الحر، ويعرف أنه لم يتخذ موقفًا معاديًا من قصيدة النثر. المسألة إذن اختيار، وعلى قارئه أن يتفهَّم هذا الاختيار، ويتقبَّله. لقد كتب هذه القصيدة في وقت كان التجريبُ قد بلغ غايته في الشعر في مصر والأقطار العربية لدى جيل السبعينيات، وكانت القصيدة العمودية كفيلة بأن تُزيحه من الساحة تمامًا، خصوصًا وقد كانت الهيمنة على المنابر الثقافية في تسعينيات القرن الماضي لكُتَّاب الشعر الحر وقصيدة النثر الذين كان جُلُّهم ينظر إلى القصيدة العمودية على أنها حفرية منقرضة، وإلى كاتبيها على أنهم كائنات متكلِّسَة ترفض العصر، وتعيش في الماضي؛ بل تنتصر للصحراء والبداوة على التمدن، لحُداء الإبل على صوت الماكينات في المصانع، وكان الشاعر العمودي في هذا الوقت يعاني غربةً وإقصاءً، وكثير ممن كانوا كتابًا للقصيدة العمودية حاولوا أن يوازنوا فكتبوا الشعر الحر إلى جانب الشعر العمودي؛ حتى يجدوا مكانًا أو مبررًا للقبول، وظل أحمد بخيت مستعصمًا بالقصيدة العمودية، كاتبًا، ومنشدًا، محاولًا أن يشق طريقها من جديد، وفي هذا الوقت ظهرت جائزة البابطين، وفتحت منابر الشعر خارج مصر أبوابها للقصيدة العمودية؛ فصنعت شيئًا من التوازن، نفَّست فيه عن هذه القصيدة المضطهدة التي كادت أن يطويها النسيان.

    ثم في مطالع الألفية الثالثة بدأت الجوائز الداعمة لهذه القصيدة تتوالى في العالم العربي، فصار الشاعر العمودي يولد في مصر، ويتلقى شرعية وجوده بما يحرزه من تقدم في هذه الجوائز أو من تألق على هذه المنابر، وشيئًا فشيئًا حتى ظهر جيل جديد انضم إلى هذا المشهد؛ فشكل سندًا داخليًا، ودعمًا لاستعادة روح تلقي القصيدة العمودية، إلى أن استعادت السيادة مرةً أخرى مع توالي الأجيال، وظهور تكنولوجيا المعلومات، وفق متابعة قريبة لا تحتاج إلى إحصاء.

    وخلال هذه الفترة كان أحمد بخيت طاغيًا في حضوره، وتأثيره ليس على الناشئة في مصر وحدها بل في العالم العربي من المحيط إلى الخليج، وكان الشعراء يتابعون قصائده ويحفظونها، وإن تنكَّروا له وأنكروه، وكان الشعر يأتي من العالم العربي؛ فإذا بضاعتنا رُدَّتْ إلينا، ولا يجب أن يغضب الشعراء من ذلك؛ فالركود الشعري كان يحتاج إلى من يُحرِّكه، ولقد اصطفى الشعر أحمد بخيت في الوقت المناسب، أقول هذا محذرًا الشعراء الشباب من سطوته، وأدعوهم إلى الاحتراز من الوقوع في دائرته المحرقة. فما الذي قدَّمه أحمد بخيت حتى يُحدِث هذا الأثر؟

    إنَّ أحمد بخيت الذي أعرف، ويعرفه غيري، حلَّ المعادلة الصعبة لكن على طريقته؛ فلم يستنسخ تجربة نزار قباني، ولم يقع في أسر تجربة محمود درويش، ولا استسلم لطغيان أمل دنقل شاعر القضية الواضحة -عكس ما يُشاع عنه من غير العالمين بالشعر- بل احتفظ للقصيدة بمعمارها المحكم، وموسيقاها الكاملة، ولم ينزلق إلى فجاجة التجارب، أو يتعمد الإثارة بكسر التابوهات، لا مباشرًا كان ولا مغرقًا في المجاز، بل ملتزمًا بالحقيقة فكرًا وأداءً، بعيدًا عن كابوسية التصوير، واستغلاق الدلالة، وأسلوبية الوهم والتلبيس، خلطة سحرية تقف من ورائها طاقة روحية تنقلها القصيدة فوق ما تقوله في لغة رشيقة سلسة، تهدي حكمتها ناصعة كالوردة الطازجة؛ لذلك فديوانه سجلٌّ حافل بالأحداث التي عاصرها، والتجارب التي عاشها، والتساؤلات التي يطرحها وقته وزمانه، وهو معلم شاعر أو شاعر معلم، صاحب رسالة، لا تقوده قصيدته بل يقودها، وأحيانًا يرغمها على أن تقول ما يريد أن يقول.

    عبر عشرين ديوانًا -أعماله الشعرية الكاملة التي بين يديَّ الآن- يعالج أحمد بخيت قضايا أمته العالقة، يتحدث عن فلسطين، والعراق، وسوريا، وليبيا، واليمن، ومصر، يودِّع الصحراء، ويبشِّر بالماء، يحب البشر، ويهجوهم، ويخاصمهم أحيانًا، ويدير لهم ظهره، وهو مشَّاء في الزمان والمكان، يفحصهما فحصًا دقيقًا، ويرصد رحلة الإنسان فيهما من لدن آدم، يبحث عن بيت يؤيه، وعن أمان مفقود، يبحث عن حب كامل، وصديق كامل، ووطن كامل، يبحث عن الإنسان الكامل، وفي المقابل زاهد يصل زهده أحيانًا إلى رفض الحياة:

ويا ابنَتِيَ اشهدي لأبيكِ

هل أوفيتُ واستوفَيْتْ

هما متران من دنيايَ

للثوبِ الذي أبْلَيْتْ

فهل أنقصتُ من دنياكِ

أم زدتُ اتساعَ البيتْ؟

وربما جاء هذا الرفض للحياة من يقين راسخ لديه يصل إلى أن يكون مفتاحًا لشخصيته الشعرية، يتلخَّص في إحساسه بأن عمره قصير، وإن كان الأمر كذلك فلا بد أن يكون الحضور خاطفًا كالبرق، والأثر هائلًا:

أنا ضيفٌ على الدنيا وأوُشِكُ أنْ أوَدِّعَها

ولدتُ بحضنِ قافيةٍ وأختِمُ رحلتي معها

وغايةُ شهوةِ الكلماتِ أنْ تغتالَ مبدِعَها

الحضور الخاطف الذي يضيء العالم، ويختفي بعد أن عرَّف الناس على النور؛ لذلك قضى أحمد بخيت عمره كله -وقد جاوزَ الستِّينَ الآن- أسيرَ هذا الظهور المتقطع حتى في مشاركاته الشعرية، كأنما في كل ظهور يولد من جديد، ثم يموت ويختفي، كل ظهور حياة، وكل غياب موت، وعمره في كل مرة ثابت، عمر البرق، أو عمر الشِّهاب، وعلى متابعيه أن يحصوا ميتاته وحيواته:

عمَّا قليلٍ سوف أبلغُ موطِني

وأُضيءُ محترقًا كأيِّ شهابِ

    وعلى مستوى الأداء، أحمد بخيت ليس شاعر المانشتات الثورية، وإنما شاعر العقود المتلألئة، تشع أبياته مجتمعة، ويشع كل بيت منفردًا كاللؤلؤة الفريدة، وهو في ذلك يحافظ على الغلالة الشفيفة التي تغلف المعنى دون أن تطمسه، وتحول دون تورطه في المجابهة الصريحة، وتحفظ للأداء انفتاحه على الاحتمال، وهذا هو السر الذي يرتفع بشعره على المناسبة الضيقة ليكون شعر كل العصور، خالدًا ما بقيت العربية، وفي سبيل أن يبقى الأداء مفتوحًا يُمارِس استراتيجيات الكشط المستمر؛ إذ يُهدي -على سبيل المثال- أغلب دواوينه إلى مجهول، يكتفي بوضع نقاط مكان الاسم، غير مصرح باسم أو صفة أو كنية، ونادرًا ما يتورط في الوقائع؛ ليظل الوجود دائمًا وأبدًا، كما يقول مارتن هايدجر، تحت كشطة، وخير دليل على ذلك قصيدته في الحسين رضي الله عنه، وهي شخصية شائكة؛ نظرًا للتشابكات المذهبية، والكتابة عنها بما أحاطها من حضور أسطوري نادرًا ما ينجو من أن يتورط، لكن أحمد بخيت يمشي على الشَّعْرة الدقيقة التي لا تُغْضِب هؤلاء ولا أولئك، قصيدة ذات وجهين، يقرأها كل فريق فيجدها متسقةً مع معتقده، وهو إذ يفعل ذلك لا ينسى أثناء هذا الأداء المتوازن أن يُوَقِّع التوقيع الذي يَشي بحل المعادلة الصعبة؛ فيذكر الأزهر الذي يجمع الفريقين: السنة والشيعة معًا بحكم التاريخ وتحولاته:

يأتي زمانٌ والمودةُ غربةٌ

والكُرْهُ بلدتنا التي نستعمِرُ

بايعتُ عن نجباء مصرَ جميعهم

وأنا ابنُ وادي النيلِ واسمي الأزهرُ

هذا؛ ولا تستغرقه في شعره الرموز التاريخية وإشاراتها؛ بل يستخدمها كالمقبِّلات التي تُعطي للطبخة نكهتها المميزة، غير مضطرٍ القارئ إلى أن يفتح المعاجم أو أن يقوم ببحث ثقافي، ويغلب على استخدامه الرمز أو الإشارة الاكتفاء بالشائع المتداول يختار لهما وقتهما الذي يكهرب الحالة، مسًّا خفيفًا لا يلبث أن يغادره، وهو إذ يغادر إلى رمز آخر أو إشارة أخرى يلتزم الاستراتيجية ذاتها؛ فتتعاضد الرموز والإشارات في رسم فسيفساء الدلالة المزركشة، علوًّا بالجمال، وإلحاحًا على المعنى وترسيخًا له وتوطينًا:

جواري روايات عصرِ الرشيد

قتلنَ أبا الفرج الأصفهاني

أمِنْ عربٍ فوقَ ظهرِ الخيولِ

إلى عربٍ في كتابِ الأغاني؟!

هذان البيتان بما مسَّهما من إشارات ورموز: (الرشيد، وأبو الفرج الأصفهاني، وكتاب الأغاني) استطاعا أن يوصلا الرسالة الشعرية، مبتعدين تمامًا عن الاصطدام الفَجّ بالسُّلطة، التي لو كانت حاضرةً لصفَّقت له وهي جالسة في الصفوف الأولى، رخصة تُوهَب لكل فنان، وللفن سلطان فوق كل سلطان.

وإضافةً إلى تعشيق الرموز والإشارات في التركيب والبنية تعشيقًا مثاليًا حدَّ الإذابة يأتي التعامل مع الأسلاف لا على سبيل المعارضة الصريحة، ولكن على سبيل استحضار النماذج العليا للفن التي أثرت في أحمد بخيت، النماذج السيارة؛ إذ يبدو ظهور الأسلاف غاية في الشحوب، بما توفرت لديه من قدرة هائلة على طمس الأثر، فقد نصادف نونيَّة كنونيَّة هاشم الرفاعي؛ لكنها ليست هي، وقد نصادف كافيَّة ككافيَّة شوقي لكن البون شاسع، وقد نصادف داليَّة كداليَّة المتنبي.. وهلم جرا، لكن في كل الأحوال ليست هي إياها:

تنسى المواعيد تنسانا المواعيدُ

حتى البلابل تنساها الأغاريدُ

تنسى المقاعدُ عطري مثلما نسيَت

صوتَ التلاميذ في الصيف الأناشيدُ

   وبالتكنيكين نفسيهما: المقابلات، والتوقيع، يلجأ إلى الألفاظ العامية بُغيَة تفصيحها، وتقريبًا للشعر من الجمهور، وإنعاشًا للغة وكهربةً للحالة، وغمزًا للجمهور غير المصري وتنبيهًا لمصريته، وكذلك يفعل مع الألفاظ الأجنبية، والألفاظ الدارجة، وأسماء الأعلام:

يكفي لتكتملَ الرسالةُ أن ترى

وتكونَ أحمدَ كيْ تضمَّ خديجَتَكْ

    هذا عن أحمد بخيت الذي أعرف، أما عن أحمد بخيت الذي لا أعرف؛ فيقود انقلابًا ناعمًا على ذاته، انقلابًا يقف من ورائه إحساسه العالي بالتفرد، ورفضه الشديد للتكرار، وهو ما أسميه آخَر أحمد بخيت المُقاوِم، الذي يرفض الرضا التام عن نفسه، أحمد البَرِّي في مقابل أحمد العارف، أو بتعبير آخر الفطرة في مقابل الخبرة، الأمر الذي يدفعه إلى انسلاخات أو محاولات انسلاخ تصل أحيانًا إلى حد الغرابة، وبخاصة حين يريد أن يُعَقْلِن أساطيره الشعرية الذائعة، بإعادة النظر العقلي فيها منقِّحًا، والغرابة لا تأتي إذا كان الدافع وراء التنقيح فنيًّا، وإنما تأتي الغرابة -في أغلب الظن- إذا كان التنقيح لأسباب نفسية، وربما يتفرد أحمد بخيت بهذا المسلك من بين الشعراء جميعًا، وقد يكون لأنه عاش ورأى ذيوع شعره بعينيه، وهيمنة صوته على غيره، وهو انسلاخ يصل إلى حد النفور، وكراهية أن يتقاطع مع صوته وقد صارت الكثرة تستعيره وتملأ به الساحات، وهي أزمة نادرة لم يتعرض لها شاعر كما تعرض لها أحمد بخيت!

    وربما يفرح غيره بهذا لو كان في مكانه، لكن ما يُفْرِح غيره لا يفرحه، لقد وصلت غيرته على صوته أنه حين يسمعه من الآخرين ينكره، وصلت غيرته على صوته إلى حد إنكار صوته. في إنشاده الأول لقصيدته: “سلام على الحب” في جماعة الشعر بكلية دار العلوم، وكان معيدًا وقتها، قبل أن يترك الجامعة للشعر، وقد جاء بصحبة رائد الجماعة د. مصطفى عراقي (رحمه الله)، وكنت وقتها طالبًا بالفرقة الثانية بالكلية، حاضرًا هذا اللقاء، وسمعتها منه برواية غير الرواية المثبتة في هذه المجموعة:

سيأتي صباحٌ بلا عاشِقِين

بلا أغنياتٍ ولا ملهمين

سيأتي صباحٌ تحِنِّينَ فيه

إلى العطرِ والحبِّ والياسمين

إلى قُبْلةٍ لم تنَلْها الشِّفاهُ

إلى موعدٍ دونما آخرين

وها هي تتحول هنا إلى:

غدًا في صباحٍ بلا عاشِقِين

بلا أغنياتٍ ولا ملهمينْ

ستصحو الحديقةُ من نومِها

وتفتقِدُ العِطْرَ والياسَمينْ

وتبكي الوسائدُ.. تبكي المناديلُ

تبكي وقد جفَّ وردُ العيونْ

على قُبلَةٍ لم تنَلْها الشفاهُ

على موعدٍ دونَما آخرينْ

غيرة تصِل إلى درجة إفساد النص، وتبديد طاقته الروحية، وكذلك يفعل في قصيدته “ركعة الشاهد”؛ فيقول: “أمشي معي أمشي”، وقد كانت “أمشي لكي أمشي”:

أمشي لكي أمشي وتلك إجابتي

عن فوضويَّةِ هذه الأعضاءِ

وربما يُسْقِط بيتًا كاملًا:

على موعدِ الحُبِّ نحن التَقَينا

بشوقِ العصافير للمنبعِ

من قصيدته التي يقول فيها:

فقيرٌ أنا غيرَ أنَّ النجومَ

تنامُ كثيرًا على إصبَعي

ولستُ وسيمًا ولكنني

أكون وسيمًا وأنتِ معي

إن تدخُّل العقل المعرفي عند أحمد بخيت كثيرًا ما ينزع عن الأداء أسطوريته، حتى ولو كان الدافع نفسيًّا كما ذكرت، وأرجو ألا يكون الدافع هو النسيان، وإلَّا فما الذي يجعله يستبدل بكلمة “أكفاني” كلمة “ديواني” في قوله:

وإذا ذوى وَردي الجميلُ فربما

يتضوَّعُ النعناع من أكفاني

إن قراءة القصيدة كاملة التي منها هذا البيت لا يمكن أن تنتمي كلمة “ديواني” لعالمها، ناهيك عن أنها تحرف التلقي عن الأنا الكلية إلى الأنا الخاصة، عن الإنسان إلى الشخص.

    أمر آخر يتعلق بمسألة التنقيح إلى جانب الاستبدال والحذف اللذين يمارسهما أحمد بخيت على قصائده في سياق الحديث عن الانقلاب الناعم على الذات، يتمحور في إسقاط المثير وعدم ذكر الملهِم، وربما يقف وراء ذلك كما سبق وذكرت في أن يظل النص مفتوحًا على الجميع، كما فعل في إسقاط الإهداء لأبي همام (عبد اللطيف عبد الحليم)، أستاذنا في دار العلوم – رحمه الله، في قصيدته: “الفاتحون”:

ما الشعرُ إلا رجلٌ خارجٌ

من ذاتِهِ يرنو لها من كثبْ

قد يكون الدافع فنيًّا في هذه القصيدة التي تعالج سقوط الأندلس، مع إسقاط ذلك على الواقع العربي، وإن كان أبو همام الذي درس في إسبانيا كفؤًا لأن يكون قناعًا نموذجيًّا للحديث عن هذا الموضوع، ومع ذلك فمع التسليم بالدافع الفني في إسقاط الإهداء يبقى السؤال: لماذا أبقى أحمد بخيت على أسماء أخرى أهدى إليها قصائده، من مثل إهدائه قصيدة “حارس الضوء” إلى الكاتب بهاء طاهر على الرغم من أن القصيدة لا تمت له بصلة؟!

هذا ولا يفوت قارئ هذه المجموعة أن يتوقَّف أمام أطرف إهداءاته في ديوانه: “قمر جنوبي”، الذي أهداه إلى أمه قائلًا: “إلى أمي رتيبة محمد علي”، موقعًا تحته: “أحمد بن رتيبة”:

ومرَّ أبو الطيب المتنبي

وحيدًا كما ينبغي أن يكون

وإذا كنت قد أشرت سابقًا إلى أن أحمد بخيت لا يتورط في الرمز تورطًا كاملًا، ولا تستعبده الإشارة التاريخية، إنما يمسهما مسًّا خفيفًا، ويذكرهما كما هما؛ اعتمادًا على مغازلة المخزون الثقافي الجمعي لدى متلقيه، وانتقاء لأكثر التيمات وقْعًا كما فعل في قصيدته: “الحبيب صلى الله عليه وسلم” حين اكتفى من قصة يوسف عليه السلام بالقميص؛ نقلًا للقضية الفلسطينية من كونها مأساة سياسية إلى كونها مأساة إنسانية:

فوق القميصِ دمٌ فوق الضميرِ دمٌ

وما يزالون من هُونٍ إلى هُونِ

أقول: إذا كنت قد أشرتُ سابقًا إلى ذلك أثناء الحديث عن أحمد بخيت الذي أعرف، فإنَّ أحمد بخيت المقاوِم لأحمد بخيت المتحقِّق الذي ملأ الدنيا وشغل الناس – يعمل على تقويض ذلك؛ ويحاول فتح مناطق أخرى من خلال إلباسه الرمز قصيدةً كاملةً، انصرافًا عن معالجته معالجة جزئية كما تقدم إلى معالجته معالجة كلية، حالة ليست شائعة في استراتيجيات الكتابة لديه، ومنحى مقاوم نطالعه في قصيدته: “من عنترة إلى أبيه”، وهي قصيدة من قصائد البدايات، يتخذ فيها من شخصية عنترة رمزًا كليًّا للعربي المسحوق تحت واقعه القاسي:

لآخر لحظةٍ في العُمْرِ وحدي

وأنت ووجهُكَ القَبَلِيّ ضِدِّي

تُقامِر بي لكي تبتاع عِقْدًا

لفاطمةٍ وأقراطًا لهِنْدِ

لا يبهظ أحمد بخيت قصائده بالمحمولات الثقافية المعقدة، لكنَّ آخَرَ أحمد بخيت المقاوم يدفعه إلى البحث الثقافي، والتفلسُف، والتأويل:

تعلَّمْتُ تأويلَ النبوءاتِ ها هُنا

وفي أوَّلي أبصرتُ آخِرَ آخِري

البحث كما في قصيدة: “وداعًا أيتها الصحراء”، وهي قصيدة متقدِّمَة في رحلته الشعرية من حيث الزمن، راجَع فيها تاريخ الشعر العربي، وقدَّم لها مقدمة نثرية، وذيَّلها بمعاجم غير تقليدية، لا تخلو من سخرية؛ بحيث لا يمكن أن ينفك الجانب النثري عن الجانب الشعري فيها، فكلاهما يكمل أحدهما الآخر، وكان الغرض من ذلك أن يبرز التناقض الصارخ بين واقع العالم العربي والتحولات التي يشهدها العالم مع دخول عصر الحاسوب، القصيدة تقدم رثاءً لكل ما هو روحي في مقابل الزحف المادي للعصر، وأغلب الظن أن هذه القصيدة تعكس رغبة مبكرة في كتابة المسرح الشعري، وأتمنى أن يفرغ أحمد بخيت أخيرًا لكتابة المسرح فقد آن الأوان، وهو واجب فني ضروري لا بد أن يؤديه. أما عن التفلسف فقد خلصت له ثلاث قصائد طوال، تقترب في حجمها من حجم الملاحم الشعرية، هي القاهرة، والحادي، والناقوس، انتقل فيها من السؤال الذي كان يصل إلى درجة التجديف المهذب أحيانًا إلى محاولة الإجابة عن عذاب الإنسان:

وسوف تدقُّ بابَ اللهِ يومًا

وتسأله بتجديفٍ مُهَذَّبْ

ألم يَكُ كل هذ الحزنِ يكفي

لترضى عن خليفَتِكَ المُعَذَّبْ؟

 

إيمانًا بأن الحياة تجربة إنسانية، وعلى الإنسان أن يجد الحلول، أو على أقل تقدير أن يجد الطريق للتعايش مع المعضلات، استمرارًا لها وتكيفًا معها:

ألم تعطني أنتَ هذا الترابَ

لأطلعَ منه البهاء النبيلا

    في هذه المطولات الثلاث يحاول أحمد بخيت أن يتحلى بإيجابية الفيلسوف؛ ليفهم ما حدث، أو ما كان، على طريقة أبي العلاء المعري، وكُتَّاب الملاحم كهوميروس، وجون ميلتن؛ فيقدم في قصيدة “القاهرة” مراجعةً شاملة لمصر وعلاقتها بالعالم، يفتش عن الأجوبة وسط ركام التفاصيل والأحداث والشخصيات: يحيى حقي، ونجيب محفوظ، وأم كلثوم، وبليغ حمدي، ومحمد عبد الوهاب، وأبو زيد الهلالي، وبو عزيزي، وأوباما، وكوندليزا رايس، وفرجيل، وأوديسيوس، وهومير، وراحيل، وآخيل، ونابليون، وشامبليون، .. وهلم جرا؛ ليجيب عن السؤال: ماذا حدث لثورة يناير؟ ويصل إلى قرار موجيٍّ مفاده أن هذا يحدث وعلى الإنسان أن يتقبَّلَه:

يا وردةَ الميدانِ يا اسمَ قصيدةٍ

لم تكتمِلْ.. يا حلمُ يا مثكولُ

ما من مصادفةٍ وأول خطوةٍ

أخت الأخيرة والطريق طويلُ

تُلقي الحياةُ على الحياةِ سؤالَها

ويدور ذاتُ الدورة البندولُ

وكذلك يفعل في قصيدة: “الحادي”، وإن أخذت المعالجة شكلًا مغايرًا في قصيدة: “الناقوس” التي تُذَكِّر بلزوميات أبي العلاء المعري.

    أقول: إن هذا الانقلاب الناعم عائدٌ إلى أن أحمد بخيت لا يُحِبُّ أن يكرِّرَ ذاتَهُ، أو يكرر غيره، أو يكرره غيره؛ فالشعر عنده هو المنقذ من التكرار:

الشعر يُشْبِهُ أن تعيشَ بغزةٍ

لا طِفْلَ يرجعُ مرَّتَيْن لأمِّهِ

فعلى المستوى الإيقاعي يقود آخَرُ أحمد بخيت تمردًا على إيقاعاته المستأنسة، وقوافيه المدجنة، لكنه تمرُّد خافتٌ أمام سيادة هذه الإيقاعات وهذه القوافي، تمرد لا يصل إلى أن يحرك الكتلة الحرجة، وبتوصيف دقيق، يظل واقعًا في دائرة الاعتراض، بعيدًا عن دائرة الثورة الإيقاعية، وبخاصة حين تستحوذ بحور كبحر الكامل، والبسيط، والمتقارب، والوافر على النصيب الأعلى في الكتابة، في مقابل بحور أخرى كالطويل، والخفيف، والسريع، والمديد، والرمل، والمجتث، وأخيرًا المنسرح؛ إذ كتب عليها قصائد معدودة. والأمر ذاته يمكن أن ينسحب على قوافيه؛ إذ تتراجع نسب القوافي التي تتخذ رويًّا من حروف كالضاد، والذال، والزاي، والعين، والشين أمام حروف المعجم الأخرى، وإن كنت مع المذهب الذي يقول: البحر لا يصنع الشعر، الشعر هو الذي يصنع البحر، وكذلك القافية؛ فالشعر يبدأ من أول السطر لا من آخره، غير أنني أستطيع أن أقول مطمئنًّا: إن مراجعة هذه القصائد المتمردة عند أحمد بخيت مراجعة سريعة تُطْلِعُنا على أنها استفزَّت إمكاناته، وغيَّرت معجمه. أحمد بخيت يستطيع التمرد على أحمد بخيت، أحمد بخيت الذي كتب قصيدة كاملة على قافية من كلمة واحدة، هي تونس:

ستنجو أمةٌ من حوتِ يونُس

وأول شاطئ الأحرار تونُس

أأُخطِئُ في اسم أولادي لأني

أناديهم جميعًا باسم تونس؟

“ابن نوح…” بين أمل دنقل وعارف الساعدي | د. محمود فرغلي

د. محمود فرغلي

شاعر وناقد مصري

     من خصائص القصيدة الحداثية أنها تتعالى على الحدث وتاريخيته، للنجاة من أسْر اللحظة المقيدة للزمان والمكان، فالحدث عرضة دائمًا للتلاشي، إنَّ ما يصدر عن الإنسان من أفعال وأحداث هو دائمًا في حالة تلاشٍ مستمرة، تتفلت مع الزمن، لكنه إمكانية شعرية قائمة من خلال اللفظي، “وهو أمر تفسره الترابطات الممكنة بين ما يتم من خلال الحدث (السلوك الفعلي للكائنات) وما يلتقطه اللفظي ويخزنه (ما يصبح معنى في الكلمات التي تصف وتلتقط التحولات). إن الأول مادة تتم في اللحظة المرئية من الزمن (إنه يصنف الوجود العرضي الذي يختفي باختفاء لحظة وقوعه)، أما الثاني فصياغة رمزية تُجرد وتعمم وتؤبد (إنها مفهوم يتم التقاطه خارج الزمن). إن اللغة في هذه الحالة وفي جميع الحالات أيضًا، لا تصف حدثًا فحسب، إنها بالإضافة إلى ذلك تؤول وتؤبد حالة وتضعها للتداول خارج وجهها الحدثي”[1]، هذا الفصل بين الحادثة وتشعيرها، رغم تلاشي الحدث، نجد أنه يمتلك “قدرة التهامية، سرعان ما تحيط بالنص وتتخلله وتنتشر في نسيجه، مانعةً ظهور العناصر التي تشكل هويته الفنية؛ وتساعد عملية التلقي في ترجيح الحدث خارج النص على أية كيفية تمثيلية له داخل النص، فوقع الحدث أشد قوة وأوضح صورة، وأبلغ تعبيرًا على أية صياغة فنية له، أو صلة به”[2]، ولكيلا نرسل الكلام على عواهنه نتوقف أمام قناع “ابن نوح” لدى كل منأمل دنقل وعارف الساعدي، حيث يمثل قلبُ الحدث أو تغييرُ زاوية الرؤية إليه ضرورةً إبداعيةً؛ حتى يتسنَّى بعثُه باعتباره حدثًا نصيًّا جديدًا، له القدرة على التأثير، ومنفتحًا على تداولية مستمرة، ومرتبطًا بسياقات الحياة والواقع، وقد برز ذلك في اختلاف السياق التاريخي للتجربتين، لذلك نجد التناصات تعبر عن قراءة عميقة لحدث الطوفان من قِبَل الشاعرين، وتعدد زوايا الرؤيا، لوضعه في سياق مُتخيَّل، ليس له من الحدث الرئيس إلا شذرات دالة، ومرتكزات مؤسسة لبناء قصيدة حداثية في إطار ثنائية الاتصال والانفصال.

     تظل قصيدة أمل دنقل سردية أولًا.. غنائية ثانيًا، بل إن الغنائية تتلاشى مع تصاعد النسق السردي، والتقسيم المقطعي والتشكيل البصري للقصيدة، وإن حضرت الغنائية من خلال اللحن الرئيسي (جاءَ طوفانُ نُوحْ) الذي يتكرر بصورة جعلت الغنائية ممسكة بتلابيب التجربة، آزرها في ذلك التقفية الموقعة والدالة، بيْدَ أنَّ وقوف الذات الشاعرة على مسافة من النص من خلال عملية التقنع، وبروز صوت الراوي إلى جوارها، ثم تنوع المنظور كل ذلك جعل السمة السردية حاضرة بقوة الدفع المنبثقة من توالي الأحداث وتصاعدها، لنسيرَ في اتجاه ذروة ثم نهاية دالَّة، فيما تقف قصيدة الساعدي في إطار غنائي أولًا ثم سردي ثانيًا، فلم يتوسَّل بأدوات متنوِّعة في صنع درامية قصيدته، ولا شك أن التشكيل البصري يحفز الطبيعة الإنشادية للقصيدة، فيما لا تبرز الدرامية إلا من خلال السرد وتحوُّله وتعدد الأصوات مع أحادية التشكيل البصري الحاكم لبنية الخطاب مع اتساع المعنى لآفاق إنسانية تفصل الشخصيات عن المرجعية الدينية، وهنا نشير إلى أن الشعر السردي بحكم طبيعته هو في الأصل مادة شعرية تبحث عن تقينات سردية تعضدها وتبرز أبعادًا أخرى من شعريتها، لم يخرج القناع في حالة الساعدي عن غنائيته، مع طول المونولوج الاسترجاعي في القصيدة، وتراجع الحدث فيها بفعل سيطرة الشعر بآلياته المختلفة إيقاعًا ووزنًا وقافيةً على الحدث، والحيلولة دون تنامِيه تناميًا تصاعديًّا، وعدم القدرة على إبراز طبيعة الشخصيات إلا من خلال صوت أحادي دون الدخول في حوارية، تعطي للحدث فاعليته لتتوَلَّد منها الدراما بوصفها العنصر المهيمن كنسق تركيبي حاكم للأنساق الأخرى في القصيدة.

 

الضمير السارد

  الضمائر عكس الأعلام في إمكاناتها التأويلية وفاعليتها السردية من خلال فاعليتها اللغوية، ولذلك التفت النقاد إلى أهميتها ودورها في بناء الجنس الأدبي، كل جنس يلتمس مخططًا للضمائر، ويشير جاكوبسون إلى ترابطها الوثيق مع مختلف الأجناس، ومختلف الوظائف، فالشعر الملحَمِي يتمحور حول ضمير الغائب، ويرتبط الشعر الغنائي بضمير المتكلم، والالتفات بين الضمائر يقوم بوظائف فنية عدة وفقًا لكل جنس، ما نلاحظه هو أن الإحالة الضميرية في النصَّين تجمع بين عائدية داخلية (نصية) وعائدية خارجية (تداولية)، وفي هذا خروج عن المسار السردي الاعتيادي بطريقة ما في لحظة ما، بقصد إحداث تنوع أسلوبي وإضفاء بُعْد درامي في بنية النص الكلية، وتاركًا أثرها في القارئ، حيث تأتي تلك التقنية بمثابة نقطة توقف أو صدمة مفاجأة تُحدث خلخلة في الذهن والإدراك البشري، وتستمر الحركة الثنائية بين الداخل والخارج والماضي والحاضر والشاعر والآخر بما يحول عملية التلقي إلى مجاهدة مستمرة لالتقاط مراكز التشابه والاختلاف، بما يقدم من رؤية جديدة تفسيرية وشعرية لماضٍ ما، وهو ما يدفع المتلقي دفعًا إلى اتخاذ موقف بعينه مع أو ضد، في ظل عملية الخلخلة التي يُحدثها التقنُّع.

   كان لأحادية الضمير السارد في نص عارف الساعدي، وهو ضمير المتكلم، دورٌ في إبراز الغنائية الذاتية، بجانب تحقيقه الفاعل لإيهام وجود آخر غير الشاعر، يوجه إليه الحديث، في حين أسهم التماهي الصوتي بين أنا الشاعر السارد في قصيدة أمل دنقل، وأنا القناع وتنوع معطيات السرد في إحداث التوازن الدرامي المطلوب.

   كذلك نلحظ  أن التطابق بين ذات الشاعر والذات الإنسانية واضحٌ في قصيدة الساعدي، حيث ينفتح النص على أزمة الإنسان المعاصر ووقوعه فيما وقع فيه سابقوه، مما يستدعي طوفانًا آخر، فيما تبرز النزعة الإنسانية في قصيدة دنقل دون تخليها عن البعد الوطني، في إطار مفهوم المواطنة الذي يتشكل بمعزل عن المرجعية الدينية، ليأخذ موقف ابن نوح طابعًا سياسيًّا ويتشكل موقفه في إطار رفض التنازل عنه أو بيعه، فيما تآزرت الشخصيات الأخرى في تأكيد الاختلاف قيام العلاقة بين ابن نوح القصيدة الذي يتحول إلى صوت جمعي، ووعي بضرورة المقاومة؛ وابن نوح الديني على التباديل والتوازي بصورة تبرز تنوعهما:

ها هم الحكماءُ يفِرُّون نحو السفينة

المغنون – سائس خيل الأمير- المرابون- قاضي القضاةِ.. ومملوكُه

حاملُ السيف- راقصةُ المعبد (ابتهجت عندما انتشلت شعرها المستعار) جباة الضرائب- مستوردو شاحنات السلاك – عشيق الأميرة في سمتِه الأنثويِّ الصَّبوح – جاء طوفانُ نوحْ

هاهم الجبناءُ يفِرُّون نحو السفينةْ

بينما كنتُ

كانَ شبابُ المدينةْ

يُلْجِمونَ جوادَ المياهِ الجَموحْ[3].

تلعب المفارقة دورها في المقطع السابق، حيث يتداخل صوتان متضادان من خلال كلمة الحكماء التي تحمل وجهة نظر الفارين إلى السفينة لتبرير خضوعهم وفرارهم بالحكمة، فيما يتبدَّل المنظور في نهاية المقطع ومن خلال تبئير “ابن نوح” ذاته حين يصفهم بحقيقتهم الجبناء، كما إنَّ تنوع صنوفهم يلعب دوره في كسر التقاطع بين النص والمتناص الديني، حيث جاء اختيارهم بعناية فائقة لتكشف فساد المجتمع الأخلاقي والمالي في طبقاته العليا، والانتهازيين في كل زمان، كما إنهم مستلهمون من سياقات تاريخية متنوعة عبر التاريخي العربي لكسر عنصر المشابهة، وإبراز خصوصية شخصيات النص، وهذا التنوع يشد من جهة أخرى المتلقي ليضعه بين طرفي معادلة أو أمام مرآتين يعاود النظر بينهما، لإدراك الاختلافات المستمرة، وذلك في إطار عمليات الاستبدال والإحلال.

الزمن السردي

   من حيث الزمن السردي نجد أن الترتيب الزمني يقوم على الاسترجاع، حيث زمن الحكاية سابق على زمن الخطاب، ومع تصاعد صوت الذات في حوارها يشد الزمن إلى الحاضر المأزوم الذي يستدعي طوفانًا جديدًا، وهي النقطة التي يتحول فيها السرد من الغنائية إلى الدرامية. في نص الساعدي يتسع القناع زمنيًا، ويتحول الزمن السردي من لحظة يعكسها الشاعر ببراعة ليؤكد عنصر الاختلاف والمفارقة للمرجعية الدينية، فيستبدل (ونادى نوحٌ ابنه…) بقوله “ناديته”، في إطار عملية قلب مقصودة وفاصلة في تحريك الدلالة في اتجاه النص لا النص المرجعي، وهي تحول طرفي الاتصال مساحة لحركية النص وتفجير الطاقة الدلالية لموضوعاته، مع مخاتلة مستمرة للنص المرجعي.

ناديتُه وخيوطُ الصوتِ ترتفعُ        هل في السفينة يا مولاي متَّسَعُ

ناديتُهم كلَّهم هل في سفينتكم…؟      كأنَّهم سمِعوا، صوتي وما سمِعوا

ورحتُ أسألُه ياشيخ قسمةُ مَنْ         نجوتَ وحدَكَ، والباقون قد وقعوا؟

  ومن خلال الحوار المقلوب نجد أن الصوت يخلُصُ للابن، في تأكيد لفردية المنظور وأحادية الرؤية الغنائية، فيما  يظل الطرف الآخر صامتًا لكن تضافر عناصر الوصف  تعطي لنا صورة لهذا الشيخ، كذا يتم القلب على مستوى العلاقة، فالطوفان في النص لم يكن فيه خلاصهم، بل كان بدءًا لفساد أشد:

وهل سترتاحُ؟ هل في العُمْرِ طعْمُ ندى؟        وأنت وحدَكَ والصحراءُ تجتمِعُ

وكيف تبدأُ هذا الكون ثانيةً                              وقد تركتَ الفتى والموجُ يصطرعُ؟!

  تبرز الذات حيرتها من كثرة الأسئلة وتتابعها، وهي وإن كانت مجافيةً للسرد بحكم إنشائيتها إلا إن التتابع يجعل القصيدة تمور بالحركة المتسقة مع فورة الذات وبحثها عن الخلاص، وإذ كانت الحوارية تأخذ اتجاهًا واحدًا، فإنَّ الإحالة الضمائرية والتناص تضفيان على القصيدة بُعدًا دراميًّا، دون التخلي عن الغنائية خاصةً في الأبيات التي يجتر فيها الابن ذكرياته مع أبيه، في صورة تقترب من الاسترجاع السردي، لكنه يظل مرتبطًا باللحظة الآنية التي هي لحظة الصراع وذروته وتتأكد الغنائية من أحادية المنظور من جهة والحدة الانفعالية في التعبير عن الحيرة والإحساس بالضياع من جهة أخرى:

وهل ستذكرُ؟ قبل الموت كيف دنا         عيني تضيقُ، وعينُ الموتِ تتَّسِعُ

وهل تنامُ؟ وفي عينيكَ نابتةً                     عيونُ طفلِك والألعابُ والمُتَعُ

………………………………………………

كل التفاصيل مرَّتْ في مخيِّلَتي               البيتُ والأهلُ والأشجارُ تجتمِعُ[4]

  إنَّ قصيدة القناع ذات طبيعة جدلية تتأسس على حضور أنا الشاعر وغياب أنا القناع والعكس، في حركة تبادلية متزنة، مع إمكانية التباس في إحالة الصوت والضمير داخل القصيدة، يترتب عليها تراجع الغنائية الذاتية التي تحتفظ لنفسها بالمقومات التقليدية كالنسق الموسيقي والتكرار والمجاز، والتشكيل البصري، وفي القصيدة  يتنازع الصوت أنا الشاعر، وأنا القناع مع اختلاف طبيعة كل منهما وزمانه، فالصوت الأول للابن يعود بالزمن إلى الوراء في لحظة إقلاع السفينة، أما الصوت الثاني فينسب إلى صوت الذات الشاعرة،  وكلامها يتصلان وينفصلان، ولكن نقطة الاتصال هي انضوائهما تحت مظلة إنسانية واحدة تدين الفساد وتطلب طوفانًا آخر، وحضور الثاني تغييب للأول، لكن دون أن يلغي حضوره في أعماقه، فالقناع يصل لدرجة من الشفافية بصورة يكون ظاهره كباطنه.

   ما نؤكده هنا هو أن القناع لدى الساعدي لم يحُل نسقه الخليلي دون بروز سمة سردية تفجره بالدلالة وتخفف من غنائيته دون أن تمحوها، كما كان للثنائية الصوتية من خلال التقنع دور في التحول من التعبير اللامباشر إلى التعبير المباشر، أو التعبير باللامباشر عن المباشر، والمعنى الصريح علامة على المعنى الضمني، فالقناع والمعنى الصريح على السطح، في حين تتركَّز ذاتية الشاعر بحاضره في العمق.

   بيْدَ أن التشكيل البصري وتفعيل علامات الترقيم في نص دنقل كان أكثر ثراءً وفاعليةً وارتباطًا بتصاعد النسق الدرامي للقصيدة، بل إن وجود علامات ترقيم بعينها كالأقواس والشرطة الاعتراضية ومساحات البياض؛ أضاف صوتًا آخر للأصوات داخل النص هو صوت التعليق على أقوال الشخصيات[5]، ولا شك أن التشكيل البصري آلية سردية حين يفلح الشاعر في توظيفها، فيما لم يفعِّل الساعدي الفضاء البصري مما جعلها -خاصةً في المونولوج الاسترجاعي لتحرك عاطفة الأب- يغلب عليها الغنائية.

    

[1]  سعيد بنكراد، السردية والتجريد المفهومي، علامات ع12، المغرب 2012، ص31: 37

[2] حاتم الصكر، الحدثي والحداثي، الحدثي والحداثي، الطبيعة الالتهامية للموضوع والضرورة الفنية للقصيدة، مجلة الكرمل، ع79/ 2004، ص 23:56

[3]  أمل دنقل، الأعمال الكاملة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة 1998، ص408

[4] عارف الساعدي، الطوفان، موقع القصيدة دوت كوم.

[5]  انظر تفصيل ذلك في دراسة سيد البحراوي، البحث عن لؤلؤة المستحيل،  دار شرقيات القاهرة 1996ص50

شي صعب ممحاه: عن الزمن والحنين في ديوان “منادمات” لعائشة الكندي

أحمد أبو دياب

كاتب مصري

تُعدُّ الشاعرة عائشة الكندي واحدة من الأصوات الشابة البارزة في الشعر النبطي الإماراتي، ورمزًا من رموز القصيدة التي استطاعت أن تجمع بين الأصالة والمعاصرة، بين التجربة الذاتية والوجدان الجمعي، في لغةٍ تنبض بالمشاعر والذاكرة والحنين. وإذا كانت عائشة الكندي قد عُرفت بصدقها العاطفي وعمق تجربتها الإنسانية، فإنَّ ما يميِّز ديوانها “منادمات” هو هذا الحضور الطاغي للزمن بوصفه ذاكرةً وشوقًا واستعادةً لما مضى، حتى يصبح الشعر عندها وسيلة للحفاظ على لحظات الفقد والوصال، على تفاصيل الحياة التي تذوب مع مرور الوقت، وعلى الذات التي تبحث عن معناها في تقاطع الماضي بالحاضر.

في قصائد الديوان، يتجلّى الزمن ليس كخلفية للأحداث، بل ككائن شعري ينبض بالحضور والوجع، فهي لا تتعامل مع الماضي كمشهد منتهٍ، بل كجزء من كيانها الداخلي. إنها تستعيد الزمن لا لتندب فواته، بل لتعيد بناءه في صور شعرية تمزج بين الحنين والتأمل، بين حضور الذاكرة وغيابها، فالأماكن القديمة، والأصدقاء، والوجوه الراحلة، تتحول جميعها إلى رموز للزمن الذي لا يعود، لكنها تستحضرها بكلمات يملؤها الدفء والعاطفة.

 

تقول عوشة في قصيدة “مفاتيحه”:

من غَلاك أحَبِّبْ تْرابِك

وانتظِرْ وَرْدِك وتَفتِيحَه

يا رِبيع العِمْر وِش صابِك

فَسِّر وعَطْني تِشَارِيحَه

كَنْ عَنَي غِلْقَت أبْوابِك

والقِفِلْ غابَتْ مِفاتيحَه

 

هنا تُحوّل الشاعرة العلاقة العاطفية إلى رمز للزمن الجميل الذي انقضى. فهي لا تكتفي بإظهار التعلُّق بالمحبوب، بل تعبِّر عن عمق الانتماء حين تقول «من غَلاك أحبِّب ترابك»، فيتحول الحب إلى امتداد روحي للأرض والذاكرة. أما انتظار “وردك وتفتيحه” فهو انتظار للربيع الداخلي، للعودة إلى زمن الصفاء والعاطفة الأولى. وحين تقول «كَنْ عني غلقت أبوابك، والقفل غابت مفاتيحه»، يظهر وعيها بالفقد، كأنها تلامس استحالة استعادة الماضي.

ويمثِّل الحنين في شعر عوشة الكندي طاقة داخلية تحرِّك النص، وهو لا يقتصر على حنينٍ إلى الحبيب أو الوطن فقط، بل يمتد إلى حنينٍ إلى الذات الأولى، إلى البراءة والبدايات والأيام البسيطة.

في بعض قصائدها نجد عوشة تخاطب الماضي كما لو كان شخصًا قريبًا؛ تعاتبه أحيانًا، وتبتسم له أحيانًا أخرى، لكنها لا تتخلى عن ارتباطها الوجداني به، ذلك الارتباط يخلق حالةً شعرية فريدة، إذ يتحول الحنين إلى أداة للتعبير عن الهوية، وإلى وسيلة لحفظ ما يندثر من العادات واللغة والمشاعر.

تقول الشاعرة في قصيدة “روض ورياض”:

الوَقْت لِي دُونَه غِمِيضِي

و ويّاه فَاقَات وبَرَاضَه

تَيّار مُويَاتَه عِرِيضِي

يْزِيد ويْرِدْ انخِفاضَه

تُبرز عوشة الكندي رؤيتها الفلسفية العميقة للزمن، فهي لا تنظر إليه كتعاقب للأيام بل كحالة وجدانية متقلبة، إذ تقول «الوقت لي دونه غميضي وويّاه فاقات وبراضه»، لتشير إلى أن الحياة بلا زمنٍ تحبه مظلمة، ومعه تتأرجح بين الشدة والرضا. ثم تأتي استعارتها اللافتة «تيّار موياته عريضي يزيد ويرد انخفاضه» لتجعل من الزمن نهرًا متغير الجريان، لا يمكن التنبؤ بحركته، في لحظة يفيض بالعطاء وفي أخرى ينحسر. من خلال هذا التصوير المائي، تعبِّر الشاعرة عن تجربة إنسانية عميقة في مواجهة تقلُّب الحياة، حيث يصبح الزمن شريكًا في الوجدان، له مدٌّ وجزرٌ، فرحٌ وانكسار، لكنه يظلّ هو الإطار الذي تحتضن فيه الذاتُ حنينَها وأملها معًا.

لغة عوشة الكندي النبطية تمتاز بعفويتها وصدقها، لكنها في الوقت نفسه تحمل وعيًا فنيًا دقيقًا يجعلها قادرة على تحويل اللهجة إلى لغة شعرية رفيعة، فهي تستخدم المفردة التراثية بحذر وذكاء، وتستحضر الأمثال والرموز الشعبية عبر الديوان لتجعلها جسرًا بين الأجيال، وكأنها تُعيد عبر لغتها بناء الماضي في الحاضر، ولذلك، تبدو قصائدها مثل وثائق وجدانية تحفظ ملامح البيئة الإماراتية القديمة، وتربط بين تجربة الفرد وجماعة تنتمي إلى أرض وتاريخ مشتركين.

في كثير من نصوصها، تواجه الشاعرة ذاتها في مرآة الزمن، فتبدو القصيدة ساحة حوار داخلي بين “أنا” ماضية و”أنا” حاضرة، هذه الثنائية تُنتج وعيًا عميقًا بالفقد، لكنها في الوقت نفسه تمنح الشاعرة قدرة على التصالح مع التغيُّر، كأنها تدرك أن مرور الزمن لا يمحو الذكريات، بل يعيد تشكيلها داخل القلب، من هنا يأتي الهدوء التأملي في نبرتها، ذلك الهدوء الذي لا يخلو من الأسى، لكنه أيضًا لا يغرق في الحزن، بل يحمل حكمة ناضجة تُعبِّر عن تجربة حياة طويلة.

تقول الكندي في قصيدة “السّحاب“:

ليت لا يِمْكِنْ عَلى البِعدْ تتعَوَد

وليت قربك قِرْب عِنقِي للقَلايد

وليتِني مِنْ فكرةْ غيابِكْ أعَوّد

كان بَنعِي مِن كِثر فَقدِك وِسايِد

خَلْ سَحَّاب الحِزِن هَطْلَه يِرَوِّد

كُوُد يِحيَا الشَوق و تْرِدو تِعايِد

 

تبوح الشاعرة بأقصى درجات الحنين والرفض للفقد، إذ تعبِّر عن عجزها عن التكيُّف مع البعد بقولها «ليت لا يمكن على البعد تتعود»، وهي أمنية تحمل في طياتها احتجاجًا على قسوة الزمن. ثم تربط القرب بالمحسوس والعاطفي معًا حين تقول «وليت قربك قرب عنقي للقلايد»، لتجعل من الحبيب زينة الروح، ومن اللقاء امتدادًا طبيعيًا لوجودها. في الأبيات التالية يتصاعد صوت الحنين حتى يتحول إلى وجعٍ شعريٍ شفيف، إذ تقول «كان بنعي من كثر فقدك وسايد»، فتجعل من الفقد موتًا مجازيًا ومن الذكرى حياة بديلة. أما ختام المقطع «خل سحاب الحزن هطل يروِّد كود يحيا الشوق وتردو تعايد» فيحمل ومضة أمل وسط العتمة، كأنها ترى في البكاء مطرًا يُخصب الذاكرة ويُنعش الشوق، لتغدو القصيدة دعاءً لاستعادة زمنٍ مفقود، ولو في الحلم.

ولا يمكن فصل الحنين في شعر عوشة الكندي عن الإحساس بالهوية الوطنية والإنسانية، فهي حين تتحدث عن ماضٍ جميل أو عن بيوتٍ رحلت أو عن أزمنة الطفولة، فإنها في الحقيقة ترسم صورةً لهوية مجتمعها بكل تفاصيله: البحر، الرمل، العلاقات الاجتماعية، القيم القديمة، والأصوات التي كانت تملأ المكان دفئًا.

ففي قصيدة “أقفيت” تقول:

أقفِيت ما عِدت النّظَر فيِّ

وأمْسَت مَرابِعنا خِلِيَّات

لَوَّلْ أحِيدِك دُوم تَوْفِيّ

والصَّعب عِنْدِكْ لَهْ مَرامَات

أصبِحْ عَلي لِقياك وأمْسِيْ

وأبَات في إنْس وشَراغَات

ترسم عوشة لوحة وجدانية عن الغياب واستحالة الرجوع إلى الماضي، حيث تقول «أقفيت ما عدت النظر فيّ وأمست مرابعنا خليات»، فتجعل من الفقد مشهدًا بصريًا للمكان الذي خلا من الوجود والدفء. هنا يتحول الحبيب إلى رمزٍ لزمنٍ رحل، والمكان إلى ذاكرةٍ فارغة لا يسكنها سوى الصدى. ومع ذلك، يظلُّ في وجدانها بريق من الوفاء، فهي تتذكره بشعرها لتؤكد أن الماضي رغم رحيله، ما زال يحتفظ بصفائه الأخلاقي وجماله الإنساني. أما ختام المقطع «أصبح على لقياك وأمسي وأبات في إنس وشراغات» فيجسد الإقامة في الحلم والذاكرة، إذ تصحو وتمسي على طيف اللقاء الغائب، ليغدو الزمن عندها دائرة مغلقة من الانتظار والحنين، لا تُقاس بالأيام بل بعمق الشعور.

قصائد عوشة الكندي ليست مجرد تسجيل للماضي، بل هي احتفاء به، وإصرار على أن يبقى حيًّا في وجدان الحاضر، وأن يظل جزءًا من ملامح الشعر النبطي في الإمارات، وتتسم صورها الشعرية بالبساطة والعذوبة، فهي لا تلجأ إلى الغموض أو التعقيد، بل إلى الصدق العاطفي الذي يمنح الصورة بريقها، وتستخدم الطبيعة –من رياحٍ ونجومٍ وصحارى– لتجسيد مشاعرها الداخلية، فتغدو البيئة انعكاسًا لروحها، إنها تُعيد تشكيل العالم من منظورٍ وجداني أنثوي يرى في التفاصيل الصغيرة رموزًا للزمن الكبير، وفي اللحظات العابرة إشارات إلى الأبدية.

عوشة تحتفظ بنقاء العاطفة ودفء اللهجة وصدق التجربة، وهي بهذا تمثل نموذجًا للشاعرة النبطية التي استطاعت أن تُعبِّر عن وجدانها الشخصي بلغةٍ تحفظ روح التراث وتجدِّد حضوره في الزمن المعاصر، ولعل هذا ما يجعل شعرها باقيًا في الذاكرة، ليس لأنه يستعيد الماضي فحسب، بل لأنه يمنحه حياة جديدة في قلب القارئ، ويذكِّره بأن الشعر هو وحده القادر على جعل الزمن ينبض من جديد.

الخروج من عباءة جميل بنِ مَعْمَر | نبيل عبدالكريم

نبيل عبدالكريم

كاتب أردني

لو كانت بُثينةُ شاعرةً ماذا تقول؟! أيحقُّ لصوتِها المحبوس في فضاء جميل بنِ مَعْمَرٍ أربعةَ عشرَ قرْنًا أنْ يجْهَرَ؟ صوتها؛ شخصيتها وكينونتها وعاطفتها وإرادتها، الذي ظلَّ مُضافًا، كاسمها، إلى صوت جميل، أما آنَ الأوان لأنْ يُسمحَ له أنْ يُغادِرَ عباءة جميلٍ، ويُحرَّرَ من سردية المُحِبِّ، ويستقلَّ بسرديته الخاصة، سردية المُحِبَّةِ وليس المحبوبة، وأنْ يستوي على عُودِ القصيدة ثمرةً ناضجةً، ناطقةً بذاتها، حلوِها ومُرِّها؟

ينتمي ديوان (بُثينةُ جميل)، الصادر حديثًا عن (دارة الشعر العربي بالفُجيرة)، إلى مشروع شعري خاص بشاعره، الشاعرِ الأردني عبد الله أبو شميس، يقوم على استنهاض المرأة من موقعها الهامشي، أو الثانوي، في التاريخ العربي الإسلامي، الديني والأدبي، ودعوتِها إلى المَتْنِ، أو الصدارة. ويُعَدُّ الديوان الجديد خطوة ثانية في هذا المشروع بعد ديوان (المَنْسِيّات) الصادر عن (دار أزمنة. عمّان. 2021)، ويسترجع فيه سيرة نساء ذكرهنَّ القرآن الكريم في سياق القصص القرآني، مثل حواء، وهاجر، وراحيل، وبلقيس، ومريم، وخديجة، عليهنّ السلام. وينهجُ في استرجاع السير النسائية القرآنية منهج استقراء الشخصية من الداخل، وبنائها من خلال التعبير بصوتها عن نفسها، ويقف منها موقفًا موضوعيًا، محاذرًا أنْ يتَّخذَ من صوتها وسيلة للتعبير عن نفسه، إلَّا بمقدار ما يرى أنَّ السرديات الكبرى، والمُتُون الرئيسة في التاريخ الإنساني، ركَّزت على أدوار الرجال، فأخّرت، أو أهملت، أو نسيت التركيز على أدوار النساء.

يقع الديوان في مئة واثنتي عشرة صفحة، وفيه اثنتا عشرة قصيدة، وتحمل كلها عناوينَ مفردةً، وليس فيها عنوان مركب، وفي العناوين المفردة دلالة على ترابط القصائد وانتظامها وتكاملها في عِقْدٍ يحيطُ بسيرة بثينة وشخصيتها من جوانبها كافة، من حيث إضاءة كلِّ عنوان لملمح من ملامح شخصيتها، وجانب من علاقتها المتشابكة مع شاعرها وحبيبها، وتكاملها كلِّها في إضاءة شاملة عليها. ولا شكَّ أن صاحب الديوان قد استعان في إضاءته شخصيةَ بثينة، إلى جانب صورتها الشعرية في ديوان جميل بنِ معمر، بالمصادر التاريخية التي روت أشياء من سيرتها خارج مرآة جميل، كما اطلع على الدراسات الحديثة التي حلَّلت شخصيتها من الناحية الإنسانية، وأوضحت البيئة الاجتماعية التي أطَّرت حكاية الشاعر معها.

يُفتتح الديوانُ بقصيدة (الناي)، والناي رديف الغناء، والغناء هو الشعر عند العرب. وفي هذه القصيدة تُفصح بثينة عن رغبتها بالقول، والتعبير عن ذاتها، والارتقاء بها إلى منزلة جميلٍ الذي تصفه بـ (سيِّد الشعر). وتُمثِّلُ القصيدة الأولى نوعًا من الخطاب التأسيسي، تُمهِّد فيه بثينة لكلِّ ما سَيَليها من قصائد، إذ انتقلتْ من موقع المُعَبَّرِ عنه إلى موقع المُعَبِّر. تقول مخاطبةً محبوبها:

أعِرْني مِنَ الناي

بعضَ الثقوب

أهرِّبُ فيها

الغرامَ الثقيلا

وثاني قصائد الديوان قصيدة (بثينة)، وهي قصيدة الهوية، وفيها تقدم بثينة نفسَها كما هي، لا كما رسمها جميل، ولا كما اتَّخذها الشعراء بعده صورة نمطية للمرأة المشتهاة الشبيهة تارة بظبية، وتارة بزهرة، وتارة بغيمة ماطرة، فتقول مخاطبة الشعراء:

فاستريحوا

من البحثِ

يا فقهاءَ الكلامِ

آمنوا بي

كما أنا

ليس كمثل بثينة شيءٌ،

وليس كمثلِ اسْمِها

في الأسامي!

وتخصُّ بثينة جميلًا بكلامها في القصيدة الثالثة (الغزالة)، وتخُصُّ بسهام النقد ذاتَه المُتضخِّمة، ونرجسيته التي حالت دون أنْ يحبَّها حبًا طبيعيًا بمعزل عن إخضاعها لخياله الشعري، وجعلها موضوعًا لقصيدته، فكأنَّه اختارها قصدًا لتكون ملهمته، يقدحُ بها زِناد عاطفته لينشئ قصائده البديعة، جاعلًا منها عبدةً لمزاجه الشعري:

أنتَ

لستَ تحبُ بثينةَ

إلَّا بمقدارِ ما تتوهَّجُ فيكَ القصائدُ…

تلمَسُني فتضيءُ

وتَهْربُ نحوَ البراري

والقصيدة الرابعة (النار) تحكي عن الحب الذي وُلِدَ مشوَّهًا بحكم اختلاطه بلوثة الشعر التي قضتْ عليه بأنْ لا يُقرُّه المجتمع البدوي في وادي القُرى. فكانت العلاقة بين الحبيبين محكومة بنهاية سيئة، ولم يُصِبْهما منها غيرُ الحسرة والضياع:

فكِلانا

تغرَّبَ عن نفسه

ومضى في طريقِ السرابِ…

كلانا

إذا ما رأى وجهَهُ

دونَ صاحبِهِ

يتحسَّرْ

القصيدة الخامسة (الشَّام) يتجلَّى فيها صوت بثينة العاشقة، الصريحة في التعبير عن عواطفها المشبوبة، الجريئة في البوح بافتتانها بمعشوقها، المندفعة في الكشف عن أشواقها إليه في رحلته من بادية الحجاز إلى الشام، ليهدمَ صورة بثينة المعشوقة المُتَمنِّعة التي كرَّسها جميل، وكرَّس صورته من خلالها إمامًا للعذريين، ونموذجًا للعاشق المُعَذّب، فإذا ببثينة تقلب الصورة، وتبدِّلُ المواقع، وإذا بعذاباتها تفوق عذاباته أضعافًا:

أنتَ من أشعلتَ نيراني

وأضْرمْتَ ضِرامي

ها أنا أصْهُلُ

كالمُهْرةِ

في ليلِ الهيامِ

القصيدة السادسة (الفَرَس) تنْضَحُ بالمرارة المتولدة من المفارقات التراجيدية في حكاية بثينة وجميل، ويُبْرِزُ صوتُ بثينة، بنبْرة عتاب ساخرة حاذقة، جانبَ الكوميديا السوداء في الحكاية. وتتَّخِذُ القصيدة من موقف لا يحتمله العاشقان مدخلًا للتعبير عن المأساة، هو موقف عُرْسِ بثينة، وفيه تسأل جميلًا عن الهدية التي سيقدمها لها بمناسبة زواجها من رجل غيره. وفي القصيدة تعريض بجميل الشاعر الذي لا يتخلَّى عن الشعر، لكنه يتخلَّى عن حبيبته، وفيها قدْرٌ وافر من رثاء النفس المستضعفة المخذولة من حبيبها، والمُجبرة من أهلها على الزواج من رجل لا تريد الزواج منه:

ستطولُ لياليكَ

بعدَ بثينةَ،

لكنَّما سوفَ تألفُها

يا جميلُ

سوفَ تصنعُ فيها

بثينةً أخرى

تعانقُها في القصائدِ

سوفَ تغنِّي

لها ولنفسكَ

أغنيةَ كنتَ تهذي بها

فوقَ حضني،

سيزهرُ غصن الغناءِ

ويقصُرُ ليلُ المغنِّي…

ولكنْ، تُرى

كم ستُغْنيكَ

تلكَ البثينة عنِّي؟

القصيدة السابعة (الخيمة) تكشف عن وجهٍ من وجوه بثينة، هو وجهُ المُتحلِّلة من أعذار العفة، والمحافطة على دلالها الأنثوي في الوقت نفسه، مُغويةً مُقبلةً على حبيبها غير عابئةٍ بالعواقب. والخفَّة التي تتبدى في شخصية بثينة في هذه القصيدة تُعدُّ ضربًا من التمرُّدِ على شخصيتها المستسلمة لمصيرها التراجيدي في القصيدة السابقة، إذ يبدو من الناحية النفسية أنْ القهر الاجتماعي الذي ألزمها الزواج من رجل غيرِ حبيبها، قد خلق لشخصيتها وجهين، وجهًا يتظاهر بقبول الأمر الواقع في العلن، ووجهًا يبطنُ الرفض في السِّر. والقصيدة تعبِّر عن الجانب السرِّي في هذه الشخصية المزدوجة، الحبيبة التي تدعو حبيبها للقائها في خيمتها.

عجِّلْ.. عجِّلْ

وتعالَ

أريدكَ

بينَ يديَ

هنا

والآنْ

أبعَدْتَ كثيرًا

في الظلِّ

وقدْ آنَ أوانُ العودةِ

للألوانْ

الليلة

سوف نُزوِّجُ

هذا الحبَّ العذريَّ

ونطعنُ صدرَ الحرمانْ

القصيدة الثامنة (طَلَل) هي قصيدة بثينة بعد أن عفا الزمن على حكايتها مع جميل، وقد عاشت بعده سنين، وصارت حكايتها ظلًّا من ظلال الماضي البعيد، وداخلتها الشكوك في أذهان مَنْ لم يُعاصِروا جميلًا، ولم يعرفوا بثينة في صباها. وسؤال ابنتها لها عن صحة الحكاية يكشف مدى التبدُّل الذي أحدثه الزمن في هيئتها مقارنةً بصورتها في قصائد جميل، فيكاد الناظرون إليها في شيخوختها لا يصدقون أنها المرأة الجميلة المعشوقة نفسها في القصائد:

يا جميلُ

كبُرتُ كثيرًا

ولم يبقَ منِّي

سوى طللٍ

في القصائدِ

يبدو لناظرهِ

مقفِرا

القصيدة التاسعة (النَّهر) وفيها تُظهر بثينةُ وجهَها النرجسي مقابل نرجسية جميل وذاتيته المفرطة في أنانيتها، وتقابل أنانيته الذكورية باعتدادها بأنوثتها، وتردُّ على هجره بإثارة غيرته:

والمحِبُّون عندي سواسيةٌ

لا أُفرِّقُ

ما بينَ مَنْ جاءَ أمسِ

ومن سيجيءُ غدا

كنتَ سيِّدَهم عندما كنت

خادمَ نهري الكبيرَ

ولكنْ

بثينةُ

ما كنتَ يومًا لها سيِّدا

في القصيدة العاشرة (الدَّالِيَة)، تفصح بثينة عن وجهها الإنساني المُجرَّدِ من أقنعة الخُيَلاء التي ألبسها جميل لها، وارتضت هي أنْ تلبسها استحسانًا منها لصورة المرأة المُتَعالية القاسية المشاعر. وهي بكشفها عن هشاشتها وضعفها، إنَّما تطلب من حبيبها أنْ يشاركها نزع الأقنعة التي يتقنَّعُ بها، وأنْ يُسْقِطَ من ناحيته الصورة المزيفة التي رسمها لنفسه عاشقًا جوّالًا في البلاد، مستعذِبًا البكاء والشكوى من ظلم حبيبته:

يا جميلُ

إلامَ تسافرُ كالغيمِ

فوقَ حنيني

فتذبلُ دونَ يديكَ سنيني

وتنجرِفُ

في القصيدة الحادية عشرة (جميل)، تكشف عن تشابك الحبيبين وانفصالهما، وائتلافهما واختلافهما، في علاقة مركبة معقدة، يجمعهما الإعجاب، ويفرقهما اختلاف الطباع، تربطهما الحاجة إلى الآخر برباط متين، ويَلَذُّ كلٌّ منهما بصحبة الآخر، وبما يُكنُّهُ من مشاعرَ نحوَهُ تملؤه رضًا، لكنَّ إحساس اليأس كان يعكِّرُ صَفْوَ العلاقة، وطولُ الانتظارِ يفسدُ الأمنيات:

كان يبكي كطفلٍ

ويضحك…

كالماء يرضى

ويغضبُ نارا

وأنا كنتُ

عاصفةً مثلَهُ

وجَرحْنا الغرامَ

شِجارًا

شِجارا

خاتمة القصائد (الأرملة)، رثاء بثينةَ جميلًا، ونهاية الحكاية الإنسانية، وبداية الحكاية الأدبية. لكنَّ بثينة ترثي نفسها مع جميل، وتغلقُ باب قلبها، وتعلنُ نفسها (أرملةَ الحُبّ)، وتنعى الحكاية الإنسانية والأدبية على حَدٍّ سواء:

أهذا هو الحُبُّ

يا صاحبي

لقدْ هَدَّنا

مُقْبِلًا مُدْبِرا

ولمْ يَبْقَ مِنّا

سوى أثَرٍ

وسرعانَ ما نَمَّحي

أثَرا

تستحقُّ النزعة المسرحية الدرامية في مشروع عبد الله أبو شميس الشعري نظرة مستفيضة جامعة، في هذا الديوان، وفي دواوينه السابقة، بأدوات النقد الأدبي التشريحية المتخصصة، وهو ما لا يتَّسِعُ له المقال في هذا المقام. إلَّا أنْ القارئ الحصيف المتذوق يَلْمسُ بوضوح في قصيدة أبي شميس امتزاجًا متوازنًا بين بعدين شعريين رئيسين، البعد الجمالي، والبعد المعرفي، يُؤَهِّل قصيدته لأنْ تمْلكَ حِسَّ القارئ وعقلَهُ معًا، وما كان هذا التَّمكُّنُ من الصنعة ممكنًا لولا تَبَحُّرُ الشاعر في التراث الشعري العربي، والديني الإسلامي، ولولا اطِّلاعه الواسع على الحداثة الشعرية، وأساليبِها في مراحلها المختلفة، وتجاربها المتنوعة، فتبدو قصيدته عميقة الجذور، وطالعة من تُربة خصبة، لكنَّ مُتنَفَّسها جديد، وثمارها طازجة. 

إيهاب البشبيشي .. أربعون عامًا مع الشعر | أ.د/ أحمد درويش

أ.د أحمد درويش

 

تمتد تجربة إيهاب البشبيشي الشعرية لما يزيد على أربعين عامًا. وقد عرفته مبكرًا منذ ثلاثين عامًا تقريبًا وتابعت شعره وتطوره خلال هذه الأعوام الثلاثين، وكتبت خلالها عدة دراسات عن منتجه الشعري، كانت أُولاها مقدمة لمجموعته الشعرية التي عُنوانُها “لُغَةٌ تعرِفُ أُلَّافَها”، والتي نال عنها جائزة الدولة التشجيعية بمصر منذ ربع قرن تقريبًا، وكانت آخرها دراسة موسَّعة عن قصيدته “ذاكرة الغرابيل”.

ويكاد يُشكِّل هذا العمل الذي يتكوَّن من ثمانِ مجموعاتٍ شعرية علامةً من العلامات البارزة في مسيرة تجديد القصيدة العربية الحديثة، من خلال انجذابها نحو التواصل الخلَّاق مع التراث، في مقابل نزعة أخرى في تجديد القصيدة العربية الحديثة علا صوتها في العقود الأخيرة، وهي تتبنى من خلال التطبيق أو التنظير اتجاه القطيعة مع هذا التراث، وقد يكون من صالح القصيدة العربية ذاتها أن تتجاور هاتان النـزعتان، أو حتى أن تتصارعا، حتى تجد القصيدة العربية صوتها الخالص في نهاية المطاف. لكن هذا الحوار لن يكون مجديًا إذا تحمَّس له الأدعياء وأصحاب الأبواق العالية هنا وهناك، وإنما يؤتي ثماره إذا تولَّاه المبدعون الحقيقيون الذين تتلبسهم روح الشعر وموهبته إبداعًا أو تنظيرًا، ويتأهبون لهذا الفن العظيم بما يليق بالمبدع فيه أو المتحدِّث عنه من معرفة وتأمل، وصاحب الصوت الشعري المتدفِّق عبر صفحات هذا الدواوين ينتمي إلى هذه الطائفة فيما أحسب.

ينتمي البشبيشي إلى جيل الثمانينيين، لو صحَّت هذه المقاربة للأجيال، وهو جيلٌ تمتع بكثير من الحيوية والاستقلالية والاتزان؛ لا سيَّما وقد سبقه السبعينيون الذين اضطُّر الكثير منهم نتيجةً للظرف السياسي والحضاري إلى الخروج من عباءة المشروع القومي المنتكس والهجرة الإبداعية إلى الآخر، فجاءت تجاربهم هجينةً رافضةً لكل ما ينتمي للتراث ولكل ما يؤكد الهوية. ومع امتلاكهم للمنابر الثقافية والإعلامية ورفضهم للقصيدة البيتية فقد كان على الثمانينيين عبء الخروج من هذا التِّيه الإبداعي من غير منبر يدعمهم ولا زخم من جوقة نقدية تُسَوِّغ منتَجَهم الشعري وتُسوِّقه. وكان شاعرنا البشبيشي في مقدمة هؤلاء الذين تصدُّوا للتحديات المصاحبة لهذا الخروج. ولأن القصيدة لا تكتمل إلا بوجود القارئ، وتظل خرساء ما لم يسمعها السامع؛ فقد كان أهم هذه التحديات محاولة استعادة جمهور الشعر النافر من النَّص الهجين المغترب المبهَم، أو النازح نتيجةً لمزاحمة الوسائط الإبداعية الأخرى للشعر.

لقد اقتضى ذلك تناغم القصيدة وتساوقها لغةً وتصويرًا مع جمهورها المتنوع، لذلك كان على هؤلاء الشعراء أولًا، أن يقدِّموا نصًّا قريبًا من الجمهور دون أن يتنازلوا عن معاييرهم الجمالية الرفيعة. وثانيًا، كان عليهم فتح آفاق النص الموسيقي بشِقَّيه البيتي والتفعيلي، التي زعم البعض انغلاقها، وذلك من خلال ضبط إيقاع القصيدة مع إيقاع الشارع وهمومه الذاتية والعامة. وثالثًا، الاشتباك المباشر مع الجمهور من خلال الندوات والتجمعات الأدبية واستعادة صوت القصيدة الحي مع جمهورها. ورابعًا، تطوير ذائقة مختلفة تتصل بتراثها بالقدر نفسه الذي تجرب فيه وتجدد فيه دماءها كنتيجة مباشرة لإحساسهم بمسؤوليتهم عن إحياء النص البيتي، وهو ما يُفَسِّر انشغال كثير من قصائدهم بالقصيدة ذاتها، والبحث عنها ومحاورتها. وخامسًا، الاستجابة إلى هَمّ الجمهور الكبير المتمثل في التمسك بالهوية واستنهاض مقوماتها الحضارية، لذلك كانت العناية باللغة هي أهم شواغلهم الجمالية. وسادسًا، ابتكار حلول جديدة لتحديات القصيدة، وقد تعدَّدت هذه الحلول وتنوعت ليس فقط بقدر عدد هؤلاء الشعراء، وإنما بعدد قصائدهم أيضًا.

وقد آتت هذه الجهود ثمارها، حيث نستطيع الآن بوضوح سماع صوت هذه القصيدة نقيَّا صافيًا سواء من هؤلاء الشعراء أو ممن اقتدى بهم من الأجيال الثلاثة التالية لهم، ولا أدلَّ على ذلك من هذا الكم من المسابقات والجوائز التي تبثها الشاشات ومواقع التواصل مزاحمةً بها برامجها ومسلسلاتها.

لم يكن البشبيشي على رأس هؤلاء الشعراء فحسب، بل كان له السبق فيما يمكن أن نسمِّيَه تعصير القصيدة، أي تقديم قصيدة معاصرة في كل مكوناتها، فعلى المستوى المعجمي تبنَّى البشبيشي فكرة الاقتراب الحذِر من المعجم الدارِج، عن طريق الاستعانة بالألفاظ والعبارات الدارِجة على ألسنة العامة والتي هي فصيحة في الوقت نفسه. وعلى المستوى الدلالي سنجد أن الهَمَّ الحضاري والشأن العام يستغرقان العدد الأكبر من القصائد، كما سنجد أنه يتخذ من المشترك العام بينه وبين الجمهور، مثل القيم الدينية والأمثال والأساطير والفنون الشعبية والتراثية، متكآتٍ تصويرية ورمزية.

وقد يتسرب هذا الاتكاء من الدلالي إلى البنائي، فشاعرنا البشبيشي يُولي اهتمامًا خاصًّا للبناء الفني والتكثيف والترابط المنطقي والنمو الرأسي للقصيدة، كما يتضح على سبيل المثال في ديوانه الذي بعنوان “مُتَّفَقٌ عليه” والذي اقتبس فيه شاعرنا للقصيدة شكلَ الخبر التراثي والرواية ذات السند والمتن.

هذه الأعمال الشعرية -على تنوُّع قصائدها، وتعدُّد زوايا النظر، واختلاف أساليب الرصد وتقنيات التعبير فيها، وعلى ما تتضمنه من تجارب البدايات، شأنها في ذلك شأن الأعمال الكاملة لكل الشعراء- تكاد تنطلق في كثير من تجلياتها من بؤرة سؤالٍ مـحيِّرٍ قديم جديد حول جوهر الشعر والشاعر، ما هو؟ كيف يتلبَّس الروح ويحل بها؟ كيف يشكِّل ثنائيةَ اتصالٍ أو انفصالٍ؟ كيف يُرى داخل الذات وكأنه خارجها؟ ويُرى زائرًا وكأنه مقيم، أو مقيمًا وكأنه زائر؟ كيف يُرصَد في ذات شعرية أخرى؟ كيف يمتد؟ كيف يتجمَّد؟ كيف يتبخَّر؟ كيف يتلاشى؟ كيف يُولَد من جديد؟ كيف يكون دقيقًا لا يُرى؟ ضعيفًا لا يكاد يَأبَهُ له أحد؟ وهو في الوقت ذاته شديد الخطورة لا يكاد يُقاوَم، يتمرَّد على حدود المألوف في الزمان والمكان والكم والكيف والوجود والعدم، فيستقيم ماردًا سحريًّا صوفيًّا، مجردًا وواقعيًّا في آنٍ واحد.

هذا التساؤل المُحيِّر المبهَم، هو الذى يسيطر على قصائد رئيسية مثل: “منـزل الروح”، و”الشـهادة”، و”كم الوقت”، و”ندَّاهة الشعر”، و”ضحـكـئذٍ”، ويتسـرَّب في غيرهـا من القصائد. لكنه تساؤلٌ يُثار بطريقة شعرية، ويجري الحوار معه وحوله بطريقة شعرية، ومن خلال لغة شعرية راقية، وهو عبر ذلك كله يصبح تساؤلًا مثيرًا بدوره للتساؤل، لا يقع في جفاف الفكر مع أنه منطلق منه، ولا يسقط في خواء الحياة الرتيبة مع أنه يلامسها أحيانًا.

 وعلى المستوى نفسه تتشكَّل لغتُه التى تفرد من ناحية أجنحتها الواسعة على منابع التراث، من خلال التناص مع صوره ومفرداته، وبثِّ الحيوية فيما كان يُظن أنه عرضة للضمور أو الذبول، وتمتد بهذه الأجنحة من ناحية أخرى إلى لغة الواقع اليومي في جرأة تبدو باعثةً على الدهشة والرضا. وإنَّ اتساع مدى الجناحين هنا يؤكد على أن من يحاول أن يحلِّق في آفاق النسور عليه ألَّا يكتفي بالرضا بمساحة أجنحة العصافير، أيًّا كان جمال لونها وسحر ريشها وحلاوة تغريدها.

يقول أحد أبيات قصيدة “ضِحْكَئِذٍ”:

لُغَةٌ تَعرِفُ أُلاَّفـَها

كلُّ بَينٍ في مَدَاها اتِّصَال

مشيرًا إلى العلاقة بين الشاعر ولغته وإلى سعي اللغة ذاتها إلى محبِّيها بعد أن استوثَقَتْ بأنَّ نفوسَهم فاضت بالمحبة والشوق فسعت إليهم أسرارُها، في رحلة صوفية لا تتأتَّى للمتشدقين ولا للمُستَهِينين، لكنهم عندما يتلقون الموجةَ التى تعرفهم، يدركون أن كلَّ بَيْنٍ في المدى ليس إلا اتصالًا وتواصلًا، من شأنه أن يمسك بالشعلة من حيث أتته، متقدِّمًا بها إلى الأمام، كاشفًا مساحة أخرى من الضوء، دون أن يطمس ما خلفه أو يتناساه أو حتى دون أن يعود القهقرى ليطرق ما كان مطروقًا، أو يكشف ما كان مكشوفًا.

يُطوِّع الشاعر ثقافته القديمة والحديثة لشعره، ويثبت أن لحظة الإبداع إذا وصلت إلى درجة حرارة ملائمة تستطيع أن تصهر داخلها كل العناصر التى يوظِّفها الشاعر في بناء قصيدته، لتؤكد أنه لا يوجد عنصر شعري بطبيعته، وعنصر غير شعري بالضرورة، وإنما توجد موهِبَة ولحظة وبنيَة تصل إلى درجات متفاوتة من صهر العناصر، فيبدو معها قدر الانسجام والتوافق، أو الخلل والتنافر، فليس القمر والبحيرة والمساء عناصر شعرية دائمة، وليست المسطرة والبرجل عناصر خارجة بالضرورة عن نطاق الشاعر وهو يرسم بأدوات (المهندس) الملامح الرئيسية لسيرة شاعر:

         مِنْ كُلِّ حُلْمٍ

         كنتُ أصحو في يميني قطعةٌ أخرى

         أُرَكِّبها بِهِ وأوَصِّلُ..

         حتى غَدَا : قدماه “سِـنٌّ”

         وانفراجُ يدَيْهِ ما غطَّى ضِياءً “برجَـلُ”

وهذه النـزعة “البرجلية” تترك آثارها الدقيقة على بنية القصيدة المُحْكمة في غالب الأحايين، فلا يحرمها التدفق الظاهري من الإحساس بإحكام نسج الخيوط الحريرية المتدرجة من قاعدتها إلى قمتها، نلحظ ذلك في قصيدة “منـزل الروح” التى يمكن أن تُقرأ من بعض الزوايا على أنها “سيرة ذاتية” لشاعر، شأنها في ذلك شأن قصيدة “الشهادة”. كما يمكن أن تُقرأ قصيدة “ندَّاهـة الشـعر” على أنـها “سيـرة غيـرية” لشاعر، شأنـها في ذلك شأن قصيدة “كم الوقت؟”. وفي كل الحالات يتضح التماسك الخفي الذى يوائم بين الامتداد الزمني واسترجاع تيار الوعي، وبين الصورة التفصيلية ولمسة الريشة العابرة، وبين الأبعاد المألوفة وخلخلة الأبعاد المتعمدة، تمهيدًا لوضع إطار غير عادي لحالة غير عادية.

في مفتتح قصيدة “الشهادة” يعمد الشاعر إلى خلخلة مفهوم الزمان والمكان والظاهر وما وراء الظاهر، ليمهد رسم ملامح الشخصية الشعرية:

كُنَّا على أرجوحةِ الوقتِ المُعَلَّقِ في انفساحِ مجرَّتين

البعضُ يصطادونَ في الأفقِ المقابلِ بعضَ أوتارِ الفراغ

        والبعضُ يملأُ كوبَ طاقتِه هُلامَ رؤى

        وينفخُها فقاقيعَ احتمالْ

وهذه الخلخلة تقود المتلقي إلى صورة فيها إيهام الواقع في صورة مَنْ أَخَذَتْ بكفِّه وأدخلته خِدْرَها، لكن هذه الصورة “الواقعية” ما تلبث أن تتحوَّل إلى إشعاعات تقترب بها إلى السياحة الصوفية، لتَهَبَ الإحساس بإفلات الشخصية الشعرية من ضحالة البُعد الواحد، والاقتراب من تركيبة الجوهرة المشِعَّة المتعددة الأبعاد والاحتمالات، والتى تضع المتلقِّي في قلب المناخ الشعري المُراد.

وهـذه التقـنية ذاتـها هـي التى تتبدَّى في مطلع قصيدة “كم الوقت؟”، حيث خلخلة مفاهيم الكم والكيف، وقياس الأشياء بالتراكم الكَمِّي لا بالأبعاد الشعورية، فعندما يُطرح السؤال “بكم؟” في لغة النثر فإنما يتوجَّه إلى أن يتجزأ ويُحسَب بالتراكم العددي، وتكون الإجابة عليه عشرة أو عشرين أو ثلاثين أو أكثر أو أقل، وعندما يُطرح السؤال “بكيف؟” فإنما يتوجه إلى الحالة التى لا تُجزَّأ ولا تُعَد وإنما تُوصَف، لكن الشاعر يهدم هذه الفواصل بين الكم والكيف من خلال طرح أربعة أسئلة تتصدرها “كم”: (كم الحزن يا سيّدي؟ – كم العمر يا سيدي؟ – كم اللون يا سيدي؟ – كم الوقت يا سيدي؟)، ولا يبدو من بينها مستجيبًا لشروط العُرف اللغوي (النثري) سوى سؤالين حول “العمر” و”الوقت”، وهما يشكِّلان ضفيرة مع السؤالين الآخرين: كم الحزن؟ وكم اللون؟ اللذين يشكِّلان “خروجًا” أو “مجاوزةً” لغوية مقصودة، واللافت للنظر أن إجابة الشاعر على الأسئلة “المعقولة” تبدو “غير معقولة”، فليس هناك عمر يشمل “ألف صيف” ويُضحي فيه بـ”مليون قلب”، وليس هنالك وقت بـ”قرب مشرق الشمس من الغرب”، و”قرب شتات الشتات”، فالخلخلة تحدث حتى من خلال الإيهام المعقول، وهي تحدث من باب أولى مع السؤالين الآخرين اللذين يطرقان مجال الحزن ومجال اللون لقياسهما بالكم، ومن خلال هذا تُمهِّد القصيدة لبناء المجال الذي تتحرك فيه في إطار رسم “سيرة غيرية” لأحد الشعراء، وكأنها تدين من خلال “النقيض المضاد” أعرافَ عالمٍ يرى الأشياء بتراكماتـها الكمية لا بأبعادها الشعورية ولا بقيمتها الذاتية.

إن سيطرة الشاعر اللافتة على أسرار الإيقاع الشعري، تبدو مثارًا للاهتمام والإعجاب في زمن التفلت من معظم ضوابط الإيقاع بحجة الانطلاق في الآفاق الشعرية، وهو انطلاق يبدو أن من الصعب تَحقُّقه في غياب هذه الضوابط ذاتها، ونحن نلتقي هنا باستخدامٍ سلِسٍ طَيِّعٍ لأبحُر الشعر المختلفة، سواء كانت من ذوات التفعيلة الواحدة مثل الكامل والمتقارب، أو من ذوات التفعيلة المزدوجة مثل البسيط والمديد والخفيف، مع انتقال رشيق بين صور التفعيلة الممكنة، وتساوي أو تنوُّع عدد مرَّات ورودها، وهو انتقالٌ يبدو في معظم الأحيان ملائمًا للحظة التى تصل إليها القصيدة في تطورها، مما يحتاج إلى دراسة مفصَّلة، ويمكن أن أشير هنا فقط إلى وجود هذه الظاهرة مع تفعيلة الكامل في قصيدة “الشهادة”، وتفعيلة المتقارب في قصيدة “كم الوقت”، ولا بد أن أشير أيضًا إلى الهيمنة الشعرية الجميلة في قصيدة “ندَّاهة الشِّعر” على قافية الجيم النادرة في بحر البسيط بإيقاعه التراثي المتموِّج، وما صاحب ذلك من التناص مع مستوى عريق جميل من اللغة التراثية.

لكن الذى يزيد من ذلك الإعجاب أن يتم ذلك الالتزام دون أن يُقيِّد حركة الشاعر في اللجوء إلى كثيرٍ من التقنيات الجيدة في بناء قصيدته، مثل اللجوء إلى الحوار، والمزج بين الامتداد الزمني وتيار الوعي، واستغلال كثيرٍ من الوسائل الفنية في بناء الصورة متعددة الأبعاد، واللجوء أحيانًا إلى الصورة المفصّلة المستوعبة، وحينًا إلى اللمسة الخاطفة، والجمع من وراء ذلك كله بين هموم الذات الفردية التى تنعكس عليها الصورة لدرجة الإيهام بأنها ترسمها وحدها، والاختراق إلى الذات الجماعية التى يمكن من خلالـها رؤية النفوس اللامتناهية في مرآة القصيدة إلى غير ذلك من التقنيات الكثيرة التى تحتاج إلى وقفات مفصلة، ويضيق المقام عنه في مجال تقديم العمل لقارئ ينبغي ألا يُحجَب كثيرًا عن اللقاء بالنصِّ الشعريِّ الذي هو مُقدِمٌ على قراءته والتمتع به، والذى قد يجد فيه من ألوان المتعة ما لم يخطر ببال الشاعر والناقد معًا.

محمد عبد الباري.. شاعرٌ في نيويورك! | الواثق يونس

الواثق يونس

شاعر وناقد سوداني

إنها نيويورك، فتاة الحداثة البارعة في فن الإغراء، ودعوى التقدم المستفزة، وأيقونة النظام العالمي الحديث بشواهقها العاليات وشوارعها التي تصل الأفق بالأفق كما يقول عبد الباري، لمَّا تزل موضوعًا لحوارٍ شعريٍّ ساخنٍ منذ مطلع القرن العشرين وحتى الساعة. يأتيها الشعراء ليوقظوا الدهشةَ في نفوسهم، وسرعان ما يأخذهم الحنين للبداهة والطبيعة، وكأن كل من زارها انفصم بين ذاتين أو زمنين، يطلبون إليها الدخول والقبول ولكن يتغنون بجمال غيرها، يحبونها ويكرهونها في آنٍ معًا، وهل أدْعَى لقول الشعر من هذا النزاع الشعوري المزمن؟! ولهذا لا غرو ولا غرابة في أن تجد مؤلَّفًا من خمسمئة صفحة أو يزيد باسم “أشعار نيويورك” ومجموعات شعرية  لعمالقة كبار مثل الإسباني فيدريكو جارسيا لوركا وسعدي يوسف وأدونيس وغيرهم.

يحاول هذا المقال أن يتأمل نيويورك في واحدة من هذه التجارب، تحت ضوء ما سبقها من أعمال شعراء كبار، وهي تجربة “أغنية لعبور النهر مرتين” للشاعر السوداني محمد عبد الباري، القصيدة المطوَّلة التي كتبها في أثناء إقامته في نيويورك. ولأن المدينة كما أسلفنا قد ألهمت مجموعة عظيمة من الشعراء، فلا بد من مقاربة هذه القصيدة كحوار وتَصَادٍ مع ما سبقها من كتابات، خاصةً كتابة شاعر إفريقي مثلما في تجربة ليوبولد سنغور الشاعر السنغالي الكبير، أو شاعر عربي ومسلم مثل الأخضر سعدي يوسف أو أدونيس وكلاهما حاور المدينة وكتبها شعرًا.

افتتح الشاعر محمد عبد الباري قصيدته المطوَّلة بالرحيل والبحث، وكأن القصيدة كلها عبارة عن اكتشاف للضفة الأخرى من ذات الشاعر باعتبار أن الآخر مرآة الأنا، ونيويورك هي المرآة هنا التي يعيد الشاعر فيها اكتشاف ذاته ويكتب سيرته، إنها سيرة من نوع آخر، فعلى غير ما فعل الشعراء الآخرون كان محمد عبد الباري يكتب سيرته كشاعر من الجهة الأخرى في حديثه عن المدينة ومعها، حينما يرسم مشهد الدخول للمدينة وكأنه شعبٌ بأكمله أو سفيرُ أمة وهو يقول:

مرحى نيويورك

الرحيلُ مع المطالعِ قد تناهى بي إليكِ!

هو الخليجُ على جنوبِكِ

يفتحُ البوَّابةَ الزرقاءَ لي

لأَسِيلَ بين القادمينَ بلا وجوهٍ

من هوى الأفقِ الجديدِ إلى هوى الأفقِ الجديدْ.

الروح عيدْ.

وشُعلتي تتقدم الشُعَلَ المضاءةَ باتجاه مدينةِ الدنيا

وتدخل رايتي في سربِ راياتٍ تعالتْ تحت مجدِ الله

يا هذي المدينة

ذوبيني في المزيج الحارِّ منكِ

لكي أُجرِّبَ وحدةَ المعنى

وشُقِّي بي مدارَ الطاقةِ الناريةِ البيضاءِ فيكِ

لكي أفيضَ عن الرمادْ!

هنا يدخل الشاعر كجزءٍ من بانوراما أممية، رايات، وألوان، ونفوس، إلى مدينة الدنيا، ومقر الأمم المتحدة، وعولمة التجارة والاقتصاد الهائل، لكنه يجعل دخوله تحت رايات تعالت تحت مجد الله، في مدينة الدنيا والبهرج المعدني الغارق في دنويوته وماديته، غير أنه سرعان ما يلتقي بسلفه الإفريقي سنغور وهو يقول: ذوِّبيني في المزيج الحار منكِ. وكأنه يعيد مناشدة سنغور للمدينة -التي وصفها بالبرودة- بأن تدَعَ دماءَه السوداء تتدفَّق في دمائها في قصيدته المشهورة “إلى نيويورك”،هو الزنجي الداخل على مدينة يرى أنها تحتاجه، تحتاج أن تحتضن عنصره ودماءه الحارة كي تُكمِلَ بها النموذج الإنساني الذي عجزت عن تمثُّله الحضارة الغربية التي أنتجته. ولكن عبد الباري يمعن في الطلب على نحو لا يخلو من تناقض وهو يقول:

فيا مدينتي الجريئة

حرِّريني من قديمِ وجوهيَ الموروثةِ الأولى

ولو بجديد أقنعةِ السَّرابْ

*******

أريد من الغواية أن تزيحَ ستارةَ الصوفي عن جسدي

وفي المرآة من مِللي التي لا يمكن التحديق فيها مرتين:

أريد أن تتفجَّر الآن المسامُ من الإثارة في عروقي.

وهكذا ككثير ممن كتبوا عن نيويورك، وأصابتهم بوجهها الآلي العملاق وحداثتها المفرطة، يتحرك نص عبد الباري مراوَحَةً بين الهجاء والمدح، بين الرغبة والرهبة، فالشاعر يريد منها أن تخلع عنه جبة الصوفي أن يغرق في عالمها الدنيوي أن يتفجَّر إثارةً، وأن تُلبسه وجوهًا جديدةً ولو كانت سرابًا! وهنا يبرز التناقض من جديد فهو يطلبها ولكنه يرى فيها تطابقًا مع الجهة السالبة من أناه الممزقة، فكل ملامح المدينة تنقلب فجأةً تمثيلًا لبؤسه: مشاةٌ كأسباب خوفي/لافتاتٌ دعائيةٌ كملامِحِ وجهي أراها أماميَ تكذِبُ /تَكَاسٍ وصفراء صفراء مثل احتمالات موتي أراها خلال المكان تجوسُ.

إنها نيويورك.. بوابة الحيرة إنها الذهاب إلى الأقاصي من الجسد والأرض .

  • هارلم

مثلما كانت نيويورك مثالًا للعولمة الصادمة، وما يصاحب هذا المصطلح من معاني انهيار الخصوصية الثقافية، حتى قبل أن تتجلى هذه المعالم والمصطلحات في واقعنا الحديث، ومثلما بهرت لوركا قبل تسعة عقود وكتب مجموعته الشهيرة “شاعر في نيويورك” التي استعرنا عنوانها للحديث عن تجربة عبد الباري، فإنها أيضًا فتحت نافذةَ “هارلم” أمام عينيه، هذا الحي الذي احتضن الاختلاف والزنوجة، وصارت مشهدًا أصيلًا في أعين الشعراء من بعده مثل سنغور في القصيدة المذكورة آنفًا:

رأيت هارلم تعجُّ بالأصوات والألوان الطقوسية
ورائِحة الفضوح 
في ساعة شرب الشاي المسائي،  في منزلِ عامل توصيل الأدوية، رأيت مهرجان الليل يبدأ بانحسار النهار.
وأنا أعلن أن الليل أصدقُ من النهار.
إنه الساعة الطاهرة، إذ يبعث الله الحياة الأزلية في الشوارع،
******

هارلم، هارلم! ها قد رأيت هارلم، هارلم!
نسمة خضراء من الذرة تتصاعد من الأرصفة
بذَرَتْها أقدام راقصي “الدان” الحافية،
أردافٌ تتموج كالحرير، وصُدور شامخة كأعالي الرماح،
باليهات النيلوفر،

والأقنعة الخيالية الرائعة،
وثمار مانجو الحب وهي تتساقط مُتَدَحْرِجةً من المنازل المنخفضة.

كان سنغور يرى في “هارلم” إمكانات كامنة لفكرة الحداثة المشرقة التي تعج بالحياة والتي يتساوى فيها الناس، عالمًا ينصف الزنجي الأسود ويغسل عنه تاريخ الاستعباد، وهو يقرر أن الليل الأسود أصدق من النهار وأنه لحظة مقدسة يبذر فيها الله الحياة في االشوارع.

 

  • لوركا

وقف لوركا ينادي:

أواه يا هارلم..

ليس هناك من أسىً يعادل عينيك المسحوقتين!

غير أن لوركا في فتنته السريالية كان يغني بمرارة وسخرية معًا، وبأمل يشتبك مع العجز بأسلوب الصورة المركبة التي تعول على السحر والأثر النفسي، كان يغني لأيقونة النهضة الزنجية “هارلم”، بارقة التحرر وفرصة الضمير الأبيض لاحتضان السواد واحترامه. ربما لم يقف عبد الباري طويلًا عند هارلم، ولكنه وقف وما كان له أن يتجاوزها أبدًا، يقول محمد عبد الباري:        

هارلم 

هلالٌ من الذهب المستحيل

أنا كالهلال أُصَلِّي

وأُمْسِكُ وحدي السموات

كي لا تميل!

كعادته أعادها إلى أفقه العربي الإسلامي هلالًا يقيم ميل السموات فهو منذ البداية دخل المدينة تحت مجد الله لم ينس أنه يمثِّل أفقًا آخر، وإن طلب إلى المدينة أن تخلع على مائه سرابَها، لم ينس محمد عبد الباري أن يحاكم المدينة ويكذِّبها ويكذِّب تاريخها الحضاري وهو يقول:

أنا في المدينة يكذب التاريخ

يكذب في المحيط الأطلسي غيابُ ماء الأبيض المتوسط

الآثارُ تكذبُ في المتاحف..

حتى يقول: ….. وتكذب في المسيح عيونه الزرقاء!

المسيح الآتي من الشرق وقد تحول في صور الكنائس إلى أوروبي بعيون زرقاء، لم يبتعد كثيرًا محمد عبد الباري في محاكمته المدينة عمَّن سبقه من الشعراء لكنه أبدع في تذكره للجذور، في عودته وفي سيرته التي عادت به من مدينة الدنيا كما سمَّاها إلى مدينة المناقل في السودان، حيث وُلِدَ: في النصف من أعمال برج الجدي جئتُ لوحشَةِ البشريّ فيمن جاؤوا/ ذاق الترابُ الماءَ شعَّتْ في المناقِلِ فكرتي الشفَّافةُ السمراءُ…! وإلى حواري الرياض حيث شبَّ وكبر، وكأنَّه يجر نيويورك من شَعْرِها إلى عالَمِه الشرقيّ ليقرأَ على مسامعها سيرةَ الشاعر وبحثِه القديم وحيرته في مواجهة العالم.  

 

إطلالة على المشهد الشعري في سلطنة عمان | أ.د أحمد الصغيــر

أ.د أحمد الصغير

ناقد وأكاديمي مصري

تقف قصيدة الحداثة في سلطنة عُمَان موقفًا لافتًا، حيث أغنى الشعراء العمانيون الساحة الشعرية العربية داخل عمان، وخارجها، بقصائدهم الحداثية التي تحفر بقوة مكانًا خاصًّا لها بين أنواع شعرية أخرى. جاءت هذه القراءة مهتمة بالمشهد الشعري العماني من خلال مجموعة من الشعراء (سيف الرحبي، سماء عيسى، هلال الحجري، حسن المطروشي)، لما يمثلونه من قدرة جمالية ومعرفية في البناء الشعري الحديث.

أعتقدُ أن قصيدة الحداثة في عمان أكثر عمقًا وإيغالًا نحو الذات من جهة، والواقع من جهة أخرى، فهي لم تحفل بالرومانسية بشكل واسع، لكن كان جُلُّ همِّها الجنوح نحو الذات بأشكالها المختلفة. ومن ثم فإنها تمثِّل حالة شعرية ذاتية خاصة، ولونًا من ألوان الشعر الذاتي والمعرفي في حركة الحداثة العربية، وفي ظني أن هذا اللون له سِماته ومعاييره الجمالية التي ينبغي مقاربتها مقاربة جوَّانية، وأن نتعايش مع هذه النصوص بطريقة مغامرة معها، هذه المغامرة التي تتطلب النظر في جواهر الأشياء وبواطنها، لا إلى أنماطها وأشكالها الخارجية؛ فقصيدة الحداثة/قصيدة النثر، هي ــأيضًاــ عالم بلا حدود.. لا تقبل الحواجز أو المعايير المسبقة التي ألِفَها النقاد التقليديون، فالكتابة في نوع أدبى جديد، هي نوع من المغامرة والتمرد على السائد والمألوف، وكسر حاجز التبعية، بل هي التجاوز الفعلي لحركات الواقع، بل هي رصد دقيق لعوالم شعرية واسعة، تحتاج إلى من يطفو بها على سطح الكتابة.

  • الموروث الشعري:

  اتكأ الشاعر العماني الحديث على الموروث الديني الذي يعتمد على مجموعة من الأنساق الثقافية التي أسهمت في تكوُّنِه، ومن ثم فقد لاحظنا أن القصيدة العمانية الحديثة اعتمدت على توظيف التراث الديني بأشكاله المتعددة، ولذلك نلاحظ النسق القصصي في توظيف النص القرآني، وتجلى ذلك في استلهام قصة النبي يوسف عليه السلام في شعر حسن المطروشي، يقول:

    وما كان أصْغَرَ إخْوَتِهِ،
    كَيْ يُدَلِّلَهُ الأَبُ،
    ما كان أَجْمَلَهُمْ،
    كَيْ تُشَبِّهَهُ أُمُّهُ بالْغَزالْ،
    وما افْتَقَدوهُ مِنَ البيتِ…

يتجلى في المقطع السابق توظيف الشاعر لقصة النبي يوسف عليه السلام، من خلال اعتماده على نسق المحبة الأبوية في الموروث الديني، حيث تذكر الروايات محبة النبي يعقوب لابنه يوسف مما أدى إلى لجوء إخوة يوسف إلى المكر به وإلقائه في غيابات الجب، للتخلص منه، وهذا النسق يستدعي نسقًا نقيضًا مضمرًا وهو نسق الكراهية التي تملكت نفوس الإخوة، ففعل التدليل الذي يشير إليه النص الشعري، بمثابة الموروث الديني الذي اتخذه المطروشي للتعبير عن جمال يوسف الذي كان سببًا فيما حدث له، بل يكشف النص الشعري عن دلالة التدليل الثقافي في الخبر الذي جاء في النص عن حديث يعقوب ليوسف من محبة ودلال، ولم يكن هو الأصغر، مما يمنح المتلقي سؤالًا لماذا يوسف؟ وكأن يعقوب النبي يدرك أن يوسف هو النبي القادم، وأنه سيكون له شأن كبير في المستقبل.

تتجلى أصوات الشعراء القدامى في القصيدة العمانية الحديثة، لما يمثلونه من أثر واضح في بنية الشعر العربي من المحيط إلى الخليج، فقد انفتحت القصيدة محتفيةً بأصوات شعرية ذات أثر بالغ في مسيرة الشعر العربي، حيث راح شعراء الحداثة العمانية يستلهمون نصوص أبي الطيب المتنبي، وأبي نواس، والبحتري، والشنفرى، وغيرهم من الشعراء، ولكن يمكننا أن نطرح السؤال الآتي: لماذا يلجأ الشاعر العماني تحديدًا إلى استدعاء قصيدة قديمة في قصيدته الحديثة؟  ويمكننا أن نزعم أن القصيدة الحديثة هي امتداد طبيعي تاريخي، لما قدمته القصيدة العربية القديمة، بل خرجت من رحمها الشعري القديم الذي تتوالد عنه الأجيال، لتمتح من نبعها، فيقول سيف الرحبي مستدعيًا صوت المتنبي: 

لا أريد أن أكذِّب أحدًا

أو أصدق شيئًا

سأنام ملء جفوني

عن شوارد الحروب والجوارح

سأنزع الخناجر المسمومة من جسدي

سأصفِّي روحي من دويِّ الذكريات

لتحلِّق خارج الأزمنة والمُدن،

خفيفةً، مرحةً..

كروح بحَّارٍ تجاوزَ خطر العاصفةِ!

    تتبدى صورة المتنبي بشكل مكتنز في قصيدة سيف الرحبي من خلال قوله: سأنام ملء جفوني عن شوارد الحروب والجوارح، فاستبدل الشعر بالحرب واستبدل الناس بالجوارح، حيث يقول: المتنبي:

أنام ملء جفوني عن شواردها

ويسهر الخلق جرَّاها ويختصمُ

فمن الملاحظ استعادة المتنبي المغامر الثائر الذي يضرب في كل فجٍّ بسهم، ليرسم عراك اللغويين حول قصيدة المتنبي وشواردها، بينما جاء الأمر مناقضًا عند سيف الرحبي، فالقصيدة تشير إلى الاغتراب الذاتي عن الحياة، على الرغم من الحروب والجوارح والموت والقتل المباشر، وانتهاك الحريات، والمعارك الصغيرة بين الشخوص في مجتمعنا العربي، وكأن الشوارد هي ما يشغل عقل الشاعر عبر الزمان والمكان. فيلتقي المتنبي وسيف الرحبي في الخروج إلى حياة البراح وتصفية القلب من ذكريات الماضي، لتلقى الذات في الكون الأكبر وتفاصيل الزمن والمدن، حيث تبحث الروح عن مرح المغامر عبر البحار، فقد تجاوز الشاعر العاصفة وانتهت الشوارد في نفسه لكنها لن تنتهي في الحياة. 

 يقول الشاعر سماء عيسى مستدعيًا موقف المتنبي من المنفى الداخلي:

   ظلِّلي 
   يا نجومَ المنفى
   رفاتَ أنبيائنا
   ظلِّلينا
!

تبدو صورة المنفى الداخلي واضحة في شعر سماء عيسى، حيث يمثل اغترابًا ذاتيًا في داخل الوطن، حيث تعيش الذات في عالم لا يتناسب مع ما تحلم به، بل كل ما يشغلها هو أن تشعر بحركية الروح في الحياة ومرحها، لكنها تجد نفسها مكبَّلةً بالغياب والألم والقيود، فالشاعر سماء عيسى يتناص فنيًّا مع قول أبي الطيب المتنبي:

ما مقامي بأرض نخلة إلَّا

كمقامِ المسيح بين اليهودِ
أنا في أمَّةٍ تداركها اللَّــه

غريبٌ كصالحٍ في ثَمودِ!

لا شك أن إحساس الذات الشاعرة بالغربة والنفي الداخلي والتهميش يسهم في انزوائها وموتها موتًا غير مباشر في الحقيقة، وكأنها تموت في وطنها جريحة، فتلم جراحاتها الذاتية، فأصبح المنفى هو الروح التي تميل إلى الذات لتضفي عليها ملامحها في المنفى، فتخاطب الذات نجوم المنفى كي تظللها وتحنو عليها، فتصبح النجوم نسقًا ثقافيًا ظاهرًا في بنية النص الشعري، لما تحمله من علامات على الحضور والغياب في آن واحد، ومن ثم تقف الذات الشاعرة في ظل النجوم مستمدةً منها نسيج الحياة.

يقول الشاعر هلال الحجري، مستدعيًا صوت الشنفرى:

عِمْ صباحًا أيها الشنفرى

أيها الصعلوك النبيل

يا صديقَ الذئابِ وبناتِ آوى

سيد القفار في الربع الخالي

رسول الرؤيا ونبي الثورة!

   اتكأ الشاعر هلال الحجري في القصيدة السابقة على استدعاء سيرة الشنفرى أمير شعراء الصعاليك في التراث العربي، حيث يستمد من صوته معالم الثورة على المجتمع والرفض والتمرد على العادات والتقاليد، وبناء مركزية للمهمَّشين الذين يحاولون الحفر وراء هدم تقاليد وبناء أخرى، فقد يعتمد النص الشعري عند الحجري على أنساق ثقافية مضمرة ومعلنة من خلال حديثه عن (الشنفرى، الربع الخالي، بنات آوى، نبي الثورة، رسول الرؤيا) فتبدو لي هذه النسقية محمولة بشحنات تراثية وثقافية متنوعة فتبدو صورة الشنفرى، وما ترسمه عنه كتب الأخبار مع أصدقائه الصعاليك، تأبط شرا، وعروة بن الورد وغيرهم، وأنهم كانوا يقطعون الطرق في صحراء الربع الخالي ويأخذون من الأغنياء من أجل مساعدة الفقراء، كما حفلت القصيدة العربية الحديثة باستلهام أصوات الصعاليك في لحظات الثورة والتمرد، وانتشار الضيق وشظف العيش، وغياب العدالة الإنسانية. فقصيدة هلال الحجري تحمل رؤية اجتماعية شديدة الاقتراب من واقعنا العربي، حيث يأكل القوي الضعيف، وينتصر الحق على الباطل، مما أدى إلى بروز شعراء الصعاليك في متن القصيدة الحديثة بوصفهم رمزًا ضد النظام الاجتماعي البائس في الثقافة العربية.

  • الموروث الشعبي:

  تتجلى أصوات الموروث الشعبي في القصيدة العمانية الحديثة، لما يمثله التراث الشعبي من حضور لافت في بنية القصيدة الحديثة ومن ثم نلاحظ اعتماد الشاعر على الحكاية الشعبية من خلال الحديث عن القمر والنجوم والأساطير والخرافات الشعبية وغيرها، حيث صارت جزءًا من عناصر البناء الفني في القصيدة العربية الحديثة، حيث يمثل الموروث الشعبي المرجعية الأولى للثقافة الشعبية التي اتكأ عليها النقاد والباحثون في صياغة المفاهيم العلمية في شتى المجالات الإنسانية، وقد تجلَّى المورث  الشعبي من خلال نسق الأسطورة الشعبية في شعر سماء عيسى، فيقول:

القمر أكثر صفاءً كحزن الأنبياء
وروحي التي حملها اللّه
على طيفٍ من النار
هل تعيدها إليَّ
عصافير البحر
أسمعها تناديني
كأرملة ذوى الدهر بها في الهجير!

     يرتكز الشاعر سماء عيسى على بنية النسق الثقافي من خلال حضور الأسطورة الشعبية للقمر الذي يضيء الكون ليلًا، ففي قول الذات الشعبية وجهة كالبدر والقمر والطيف، وكأن القمر هو المحرك الأساس للأسطورة، فيمثل القمر في صفائه حزنًا كحزن الأنبياء والمرسلين الحزانى والمكلومين، حيث يصور الشاعر القمر بالروح التي حملها الله في جسد العاشق، وقد ربط بين القمر وعصافير البحر الهائمة التي تبحث عن ملجأ ومأوى، يحميها من هجير الصحراء وجبروتها وقسوتها التي تكشف عن صخبها في أوج الليل والنهار، ثم يستند على نسق المرأة التي جاءت في صورة أرملة تقاسي من جراء هزائم الزمن والنكبات، يبدو لنا أن الشاعر أضاء الروح باستدعائه من موروثنا الشعبي صورة القمر والعلائق الميثيولوجية بينه وبين المرأة والروح والأنبياء والموت.

الشاعر سيف الرحبي

 

الشاعر سماء عيسى

 

الشاعر هلال الحجري

 

الشاعر حسن المطروشي

أسئلة الغابة: أزمة الشعر النسوي! | د. حنين عمر

د. حنين عمر

شاعرة وكاتبة جزائرية

كما تنمو الغابات الاستوائية المعتمة، تنمو تلك الأسئلة الصَّامتة التي يعرفها الجميع ولا يقولها أحد، وتتمدد أغصانها الشَّائكة لتتشابك مع الحقيقة وتجرح كلَّ من يمد يده إليها، وكأنها تلوِّح بمخاطرة التَّوغل والكشف، ومجازفة البحثِ عن إجابات مجهولة، غير أن نظرة واحدة على المشهد –متى ما اقترنت ببعض الوعي- كافية لاستيعاب أهميَّة أن نتساءل، وأن نبحث، وأن نحاول فهم مختلف الظواهر الموازية للعملية الإبداعية.

ولعلَّ من أكثر الأسئلة التي يتم تفادي الحديث عنها نقديًّا، هي أزمة الشِّعر النسوي –مع تحفظي على المصطلح واضطراري لاستخدامه- ففي حين تعج المدونة النقدية بكثير من الأسماء الشعرية المؤنثة، التي غالبًا ما يتم تفخيم كثيرٍ مِنها من باب المجاملة أو التعاطف، إلا أن تلك القراءات تحتفي غالبًا بتجارب معينة لأسباب معينة، وتغفل أخرى –لأسباب أخرى- سهوًا أو عمدًا، لكنَّها نادرًا ما تغامر بطرح الظواهر المسكوت عنها علنًا، والمُتهامَس حولها سرًّا، والمرتبطة بهذه الفئة الإبداعية. فما هي هذه الظَواهر؟ وما هي هذه الأزمة؟ وما هي هذه الأكَمَة التي لا بد من استقراءِ ما وراءها؟

سأعود في البدء بالذاكرة إلى سنوات بعيدة كنت فيها ما أزال في بداية تجربتي، حينما انتبهت بالمصادفة إلى افتتاحية مجلة ثقافية قديمة، كانت تحتل صدارتها مجموعة من كبار الأدباء والنقاد، أولئك الذين رُتِّبَت صورهم بعناية في أولى صفحاتها، باعتبارهم الأهم والأشهر والأفضل –وقد كانوا كذلك– إلا أنني تساءلت ببراءة يومها: لماذا لا توجد أي صورة نسائية بينهم؟ وكان هذا سؤالًا أشبه بكرة ثلج راحت تتدحرج في وعي فتاة في عشرينياتها وتكبر شيئًا فشيئًا، وتكشَّف لها أنَّ تطابُقَ جينين وراثيين في حمضها النووي، قد يحدد –رغم اجتهادها- مصيرها الشعري المحتَّم.

ولا أنفي هنا أن المجلة العريقة كانت ثريَّة بالمشاركات النِّسائية، غير أن الصُّورة التي كنتُ أبحث عنها لم تكن ضمن القائمة العاديَّة فيها، بل كنت أبحث –وما زلت- عن أسماء نسائية رائدة، تُصَنَّف –ويرجى الانتباه هنا-: مع الجواهري ومحمود درويش وأمل دنقل والفيتوري ونزار قباني وأحمد شوقي و مع أبي تمام وامرئ القيس والمتنبي والقائمة المخيفة تطول…! فلماذا لا يوجد مثلًا مدرسة شعرية نسائية مؤثرة تاريخيًّا في الأجيال اللاحقة؟ ماذا حدث لكثير من التَّجارب التي خفتت بإرادتها، أوتم التعتيم عليها رغمًا عنها؟ ولماذا هناك تقليل من شأن الإبداع النسائي؟ سواء بالإجحاف أو المبالغة، وقبل أن يتم اتهامي بمعاداة الذكورية، وانحيازي للأنثوية، فإنني أحرص أن أؤكد هنا –بشكل قاطع- على كوني حيادية تمامًا في قراءة الظاهرة، وأحمِّل كل ذي حِمْلٍ حِمْلَه، بل قد أذهب أبعد… إلى رفع الظلم عن الرجال الذين لطالما اتُّهِموا بأنهم وحدهم السبب، كوني أؤمن بمقولة مارتن لوثر كينغ: “لا أحد يستطيع أن يقف فوق ظهرك إلا إنْ كنتَ منحنيًا”، وما هدفي في النهاية –ككل من دخلوا غابة الأسئلة- سوى أن أدخل جحيم الوعي، ما دمت غير مرتاحة في جنة الجهل، وما دمت أرى في المعرفة خلاصًا لعقل الإنسان.

ثمَّ لنعد إلى البدايات –سريعًا- وإلى المعطيات التاريخية عن الشعر النسوي، وهو مصطلح سنتفق لأسباب لوجستية على استخدامه في ما يلي، للإشارة إلى (نصوص شعرية تكتبها النساء)، ففي حضارة بلاد ما بين النهرين، يبرز اسم أقدم شاعر معروف على الأرض –ولم أقل هنا “شاعرة” لتأكيد السبق على الجنسين– وهي  إنهيدوانا ابنة الملك سرجون الأكدي، وقد ولدت عام 2286 قبل الميلاد، وتوفيت وهي بعد شابة في الخامسة والثلاثين، لكنها خلال حياتها القصيرة، تركت أثرًا عظيمًا وكتبت نصوصًا خالدة، اتخذت شكلًا خارجيًّا دينيًّا، لكنَّ تأمُّلَ معانيها وصورها وإحالاتها، يُفضي إلى كونها مجرد قناع، أخفَتْ الشاعرة خلفَهُ رؤاها الذاتية، وقصَّتها المأساوية بإسقاطات بارعة، ومع ذلك لم تحظَ نصوصُها للأسف بالاحتفاء نفسه الذي حظيَتْ به ملحمة جلجامش، ولم تترجم أعمالها إلا فيما ندُر، ومثلها أيضًا كثير من الشاعرات اليونانيات كإيرينا ونوسيس وكورينا، والشاعرات الأوروبيات المهمات اللواتي تمَّ التَّعتيم عليهن في مسارات التَّرجمة العربية، فلم تصل منهن سوى أسماء قليلة، أغلبها ليست بأهمية من تمَّ إغفالهن لأسباب إديولوجية!

أما على المستوى العربي، ففي العصر الجاهلي، تظهر أسماء كثيرة جدًّا فُقِدَ أغلبُ أثرها النصِّي ولم يتبقَّ منه سوى أبيات متناثرة، مثل صفية الشيبانية، الشخصية القوية الشجاعة، التي –لسبب مجهول- يُغْفِل كثيرٌ من الدارسين أهميتها السياسية، ولم يُحفَظْ من شعرِها إلا ما ارتبط بمعركة ذي قار، والتي تم تحجيم دورها الكبير فيها، أما أشهرهن وهي الخنساء، فرغم شهرتها الواسعة لم تنل ما ناله مجايلوها من الرجال، كما أن قصتها مع النابغة الذبياني، وإلقاؤها عليه قصيدة في رثاء صخر ليمنحها صكَّ التفوق، فلا يمكن أن تصح ببساطة لأن النابغة الذبياني توفي عام 604م، في حين توفي صخر عام 613م، أي بعد النابغة، فإما أن تكون القصة غير صحيحة، وإما أن يكون النص الذي ألقته مختلفًا، وهو ما يعني أنَّها لم تكن بعد قد اشتهرت ونضجت تجربتها. ولا بد أن نشير هنا إلى معلومة خاطئة حول وفاة أبنائها الأربعة، فالخنساء “السلمية” ليست من مات أبناؤها، إنما “النخعية” -كما أورد الطبري- إضافة إلى أن ابنها الشاعر الشهير عباس بن مرداس توفي بعد معركة القادسية، وابنها الثاني “هارون” توفي أيام الجاهلية في حادثة ثأر.

ولا بد من أن نشير لشيء مهم هنا، وهو ظاهرة الرثاء في العصر الجاهلي، وارتباطه بالمرأة تحديدًا، والذي يعود – برأيي- ببساطة إلى كون المرأة في ذلك الوقت المحفوف بالحروب والنزاعات وقسوة الحياة… كانت لا تصل إلى سن النضج الشعري، إلا وقد تيتَّمت أو ترمَّلت أو أثكلت أو فقدت أخًا… فتشرَّبت بذلك من فلسفة الموت، وأصبحت ترى الحياة عبره، وباتت قصائدها انعكاسًا له، وتعبيرًا عن آلامها الوجودية.

غير أن ذلك لم يكن كافيًا لتُذكَر أي شاعرة في كتاب “المفضليات” مثلًا – الذي كُتِبَ بين 764م و787م، ويعتبر من أول المدوَّنات التي حفِظَتْ إرث العرب الشعري، والذي ضمَّ 67 شاعرًا وقرابة 130 نصًّا، بغياب تام للشعر النسائي، أما كتاب “الأصمعيات” فذُكِرَتْ فيه –ويا للسعادة- شاعرة واحدة فقط هي سُعْدَى بنت الشمردل الجهنية، بقصيدة واحدة من ضمن باقة ضمَّت قرابة 92 نصًّا، ويبدو اسمها أصلًا خيارًا غريبًا، إذ لم تكن من الشاعرات المشهورات مقارنةً بغيرها ممن لم تُذكرن كالخنساء وصفية الشيبانية وهند بنت النعمان، وكان لا بد من انتظار “ديوان الحماسة” لصاحبه الشاعر الشهير أبو تمَّام، ليذكر بعض الشاعرات مثل السلكة أم السليك، وعمرة بنت مرداس، أما “كتاب الحماسة” للبحتري، فخصَّص بابًا لمراثي النساء آخر مؤلَّفِه، وحُقَّ لنا أن نتساءل عن سبب كل ما سبق؟ مثلما حُقَّ لنا أن نتساءل عن سبب كون كل المعلقات قد كتبها شعراء رجال!

أما بدخول العصور الأموية والعباسية وحتى الأندلسية، فقد طرأت تحوُّلات على الحياة الاجتماعية والبيئة الأدبية، وأصبح الشعر النسائي مربوطًا بشكل كبير بالجواري اللواتي كُنَّ يستخدِمْنَهُ كحرية تعبير وأداة تميُّز، فتكونت ظواهر شعرية جديدة، تبدو فيها النصوص أكثر غزارة صوريًّا، وأكثر جرأة موضوعيًّا، ولكنها لم تستطع – للأسف- أن تفرز عدالة من أي نوع بين الجنسين، بل كرَّسَتْ صورة نمطية تضرُّ أكثر مما تنفع، وتسبب ذلك في تبلور صورة  ثانوية عن المرأة الشاعرة.

وأخيرًا، وفي العصر الحديث، لم تتغيَّر الأمور كثيرًا، إذ ظلَّ الشعر النسائي مستبعدًا من الخطوط الأمامية التي رابط عليها شعراء كبار لا يمكن إلا الاعتراف بأهمية تجاربهم واستحقاقهم بجدارة، وبالمقابل لا يمكن أن نتذكر في مواقع الريادة سوى أسماء قليلة، أهمها نازك الملائكة، التي حاولت أن تفتح بابًا لإثبات قدرات المرأة الشاعرة ليس فقط شعريًّا إنما نقديًّا أيضًا، وقد كان من الممكن أن يتحقق ذلك مع الانفتاح واتساع مساحة الحرية التي نالتها النساء في العقود الأخيرة، والتي دحضت حجة القمع الذكوري والسلطة الاجتماعية، باعتبارها الشماعة التي يتم تعليق أسباب الأزمة عليها، لكن العكس هو ما حدث، إذ علا صوت الجعجعة، وغاب الطحين، وكثُرَتْ الشاعرات وقلَّ الشعر، وبدل أن تتصدَّر المشهد أسماء كبيرة تُغَيِّر النظرة النمطية التي تم سَجْنُه فيها، تراجعت سلطة النقد أيضًا، ومنح بعضُهُ شرعيةً لكثير من المواهب المحدودة، من مبدأ التشجيع أو التلميع، في مقابل تحجيم المواهب المميزة، وحصارها أحيانًا ومحاربتها أحيانًا أخرى، بسبب تفشي الظواهر السلبية بشكل أكبر مع دخول عصر وسائل التواصل الاجتماعي التي ضيَّعت مشية الغراب.

وإنني لا أحاول هنا أن أُدينَ المشهد المُدان، والذي نعرف جميعًا ما له وما عليه، بقدر ما أحاول أن أشير إلى موضع الداء لنجد الدواء، فإيجاد حلٍّ يستدعي الاعتراف أولًا بوجود مشكلة كبيرة وواضحة، تتفاقم عبر العصور، وتعطل تطور الشعر العربي وتؤدي إلى إهدار المواهب وتحطيم التجارب، لذا وجب علينا تحليل الظاهرة بشكل أكثر عقلانية، بعيدًا عن الخلافات، ودون أن ننكر وجودها وخطرها، ودون أن يُلقي كل طرف اللوم على الآخر بلا جدوى، وأن نفهم أن الأزمة حاليًا تتجاوز قيمة النص، وجدية الموهبة، وتصل عميقًا إلى مفهوم التلقي، وحيادية النقد، وإعادة إنتاج الوعي وبناء الإنسان، ولن يكون هذا إلا إذا قررنا أن نتوقَّف عن التساؤل بصوت خائف، وقررنا أن ندخل تلك الغابة المعتمة بشجاعة، وأن نقلم أشجارها ونرعى أزهارها، ونُعَبِّد طرقاتها، لنسير بأمان إلى ما بعدها، إلى هناك… إلى قمة التاريخ!

الشِّعر في العصر الرقمي: استخفاف أَمْ إحياء؟ | وئام غداس

وئام غداس

كاتبة تونسية

أنا واحدةٌ ممن بدأوا في كتابة “الشِّعر” على “فيسبوك”، قبل عقد من الزمن، في الوقت الذي كانت الهجمة على هذه الظاهرة الجديدة، من الشعراء والنقاد والمثقفين في أوجها، وفي شكلها الأشدّ قسوة وضراوة. لن أنسى أبدًا طيف العار الذي كان يصاحب نصوصي، ويلازمها، رغم التظاهر بالثقة وعدم الاكتراث. شعوران كان يغذيهما احتفاء الأصدقاء في فيسبوك، وهم غالبًا، إمَّا أشخاص مثلي يحاولون فرض هذا الشكل الجديد في نشر النصوص، أو أشخاص عاديون، ليسوا شعراء، واهتماماتهم لا تضمُّ الشِّعر أو حتى الأدب، ليسوا من النخبة الأدبية -وإن كانوا من نُخَب أخرى-، لكنهم خصوصًا لا يغارون على الشِّعر ولا يرونه ملكية حصرية، قرؤوا كلمات أثَّرت بهم أو تقاطعت مع احدى تجاربهم الحياتية وهذا كل شيء! (لا أحب أن أقفز فوق نوع آخر في هذا الجمهور طبعًا، وهم المعجبون بصاحب/ة النص بقطع النظر عما كتب/ت، ومهما كان ما كتب/ت!).

تستطيع أن تتخيل كيف يكتب شخص، وهو يشعر بالخجل مما يكتبه، ينشر نصَّه على أحد مواقع التواصل، ثم يتمنى أن يختفي من الوجود أو تنشق الأرض وتبتلعه، على الرغم من شعوره العميق أنَّ ما كتبه جيِّد، فأنا أيضًا لست شخصًا قادمًا من بعيد، لقد تنفَّستُ الكتب والأدب شِعرًا ورواية وقصة منذ تعلمت القراءة والكتابة، وأعتبر نفسي مؤهلة لتقييم ما أكتبه تقييمًا سليمًا، لا تنقصه الموضوعية، لكنها سلطة الانتقاد اللاذع، والرفض الأعمى، والعنجهية المركّّبة التي قادتها في ذلك الوقت جيوش من “الكبار” و”المهمين” و”الأكاديميين” و”الفاعلين” و”ذوي التاريخ والمكانة”، أصحاب الدواوين، الذين خبروا معنى المرور بكل تلك المراحل المضنية لتخرج قصائدهم في كتاب ورقي، ومعنى تحقيق شيء من التوافق بين ناشر حساباته تختلف جذريًّا مع حساباته كشاعر، ومعنى النضال حرفيًّا حتى يُقرأ هذا الكتاب وهي الغاية الأساسية من وراء هذه الرحلة العجيبة، والتي لا تتحقق إلا بنسبة ضئيلة جدًا، إن لم تكن معدومة، من جمهور محدود ونخبوي، وهو الجمهور نفسه الذي سيحضر الأمسيات الشِعرية ليسمع هذه القصائد، الأمسيات النادرة والقليلة والتي سيعاني هذا الشاعر ليتلقى دعوة إليها، ويُحارِب ويُحابي ويغضب ويسجِّل المواقف.

لكن الشاعر تعوَّد على ذلك، تعوَّد عليه إلى الحد الذي بات معه انتشار شاعر أو جماهريته -حتى لو كان هو- أمرًا مرعبًا بالنسبة له، ليس هذا فقط، إن النجاح والشهرة ونسب البيع المرتفعة شيء يتنافى وجوهر الشِعر وكتابته، وهذا غالبًا ما يكون الطريق المهيأ للحكم البديهي: أن هذا ليس شاعرًا وما يكتبه ليس شِعرًا، الشِعر توأم اليأس والفقر، ومن ليس له هذان الأخان فهو “لقيط”!

عندما جاءت وسائل التواصل غيَّرت كل شيء، وهذا التغيير في الحقيقة ليس سوى جزءٍ من طبيعة الحياة التي تتقدم على الدوام، فإذا كانت التكنولوجيا والرقمية قد طالت كل جوانب الحياة، فلماذا ستستثني  الشِّعر؟ وهؤلاء الذين استنكروا ذلك، فليتذكروا أن الشعر كان يُلقَى شفاهةً في الأسواق، ثم ذهب إلى المخطوطات الورقية ومن ثم إلى المطبعة، وداخل هذه السيرورة فهو الآن في قلب وسائل التواصل الاجتماعي والوسائط الرقمية، التي باتت تعد ركيزةً عضويةً من ركائز واقعنا الراهن، وما لا يوجد داخلها، لن يوجد في الحياة، هكذا بهذه البساطة. لم يعد الشعر حبيس الكتب والدواوين، بل صار يتنفس في “فيسبوك” و”إنستغرام” و”تويتر” و”تيك توك”، حيث أصبح للشعر شكل جديد، وجمهور جديد، وربما وظيفة جديدة.

هكذا انفجرت تجارب شعرية لا يمكن عدُّها أو حصرها، وخرج الشِّعر من أشخاص عاديين، غير معروفين ولا مكرَّسين، فقط حلُموا بكتابته. لم يعد الشعر حِكرًا على أحدٍ، أصبح لكل شخص الحق أن يكتب وينشر، ما فتح المجال أمام أصوات جديدة متنوعة، من الإجحاف عدم الاعتراف أنَّ كثيرًا منها كان رائعًا. شِعر جاء من أشخاص عاديين وذهب إلى أشخاص مثلهم، ليسوا شعراء، ولا نقادًا، وأحيانًا لا يكونون قراءً متمرِّسين أو متذوقين للأدب، إنها نصوص للجميع، حتى من لا يقرأ الشِعر عادةً. هذا شِعر جديد شرطه ليس الثقافة الأدبية بل الإحساس، إحساس عميق بالأشخاص والأشياء والمواقف، وهذا ما قد يتوفر في بائع خضار على الناصية، ولا يتوفر في شخص درس عشرة سنين في الجامعة وقرأ ألف كتاب! وهنا يحضرني ما قاله الشاعر الفرنسي بول فاليري قبل قرن من هذا الزمن أنّّ: “هنالك شعراء لم يكتبوا قصيدة واحدة في حياتهم، وقتلة لم يسفكوا قطرة واحدة من الدم”.

انتقلنا من زمن كان يُنظر فيه إلى الشعراء كأصوات فنية أو فكرية متميزة، وجزء من النخبة الثقافية، غير المتاحة، إلى شعراء هم أقرب إلى مؤثرين، يُطلق عليهم مثلًا اسم: “الإنستابويترز”، أي شعراء الإنستغرام، يتواجدون بنصوصهم أو هم بأنفسهم في تواصل وتفاعل مباشر ودائم مع قرائهم، ويدخلون السوق التجارية (بيع كتب، منتجات، تعاونات…) شعراء ينشرون نصوصًا قصيرة مرفقة بصورة أو تصميم بسيط لتصل في ثانية إلى آلاف القراء والمتابعين حول العالم بضغطة زر، دون حاجة لدور نشر أو إلى منصات تقليدية. على غرار روبي كور الشاعرة الكندية من أصول هندية، التي برزت على “إنستغرام” بكتابة أبيات قصيرة مع رسومات بسيطة، والتي حقق ديوانها حليب وعسل مبيعات خيالية، ولانج ليف الشاعرة والفنانة النيوزيلندية ذات الأصول الكمبودية، الناشطة بكثافة على مواقع مثل “أنستغرام” و”فيسبوك”، كانت قصائدها ذات الطابع التأملي والرومنسي، مادة مهمَّة لكثير من المترجمين في كل أنحاء العالم، والعالم العربي من ضمنها، ما جعلها تصل بعيدًا بنصوصها، بفضل مواقع التواصل. والشاعر المجهول الذي بات يُعدُّ ظاهرة، والذي يتخذ اسم “أتيكوس” كاسم مستعار، وهو ما أضاف غموضًا جذب جمهور وسائل التواصل إليه. ينشر أتيكوس أبياتًا قصيرة غالبًا بالإنجليزية على “إنستغرام”، تعتمد على الرومانسية والوجودية المبسطة، أسلوبه بسيط، قصير، وصوري، يناسب التصفح السريع. نصوصه هذه تحوَّلت إلى اقتباسات تجوب العالم، وبفضل هذا الانتشار نجح في تحويل نصوصه الرقمية إلى كتب شِعرية بِيعَت منها ملايين النسخ.

لكن “إنستغرام” ليس المنصة الوحيدة، فالكثير من الشعراء العرب والعالميين وجدوا في “فيسبوك” مساحة للتفاعل الحيّ مع قرائهم، وفي “تويتر” مجالًا لتجريب “القصيدة القصيرة” أو “الهايكو الرقمي” في 280 حرف فقط.

في الوقت الذي كانت أهم القضايا الوجودية والفلسفية والسياسية منوطة بالشِّعر، أصبح الشِّعر اليوم يركِّز على مشاعر شخصية ويومية، وتجارب فردية، مثل الحب، والانكسار، والقلق، والشفاء الذاتي، فأصبح الشِعر فنًّا قريبًا جدًا من الناس، ذلك لأنه بات يلامسهم أكثر. إنه فنٌّ عظيم يتكلم عن أشياء بسيطة وعادية في حياتهم، كانت في السابق بالنسبة إليه -أي الشِعر- أمورًا تافهة! وهنا، عند هذه النقطة سيبرز سؤال: من الذي قسَّم الألم الإنساني إلى قضايا كبيرة وأخرى صغيرة؟ ومن قال إنَّ الآلام الفردية، الشخصية جدًّا والأشدّ حميمية يجب أن تتفسَّخ أمام القضايا الجمعية؟!

لغة الشعر الصلبة ذات البناء اللغوي المعقد، والصور البلاغية العميقة، والإحالات الثقافية والتاريخية، المكتوبة في نصوص طويلة أو متوسطة، أصبحت اليوم لغةً سهلةً وبسيطةً ومباشرة، مفهومةً لأي شخص. نحن بصدد نصوص قصيرة، أقرب إلى أن تكون “اقتباسًا”، وهو أمر على الرغم من عيوبه، إلا أنه يجعل قراءة الشعر أمرًا سهلًا ومتاحًا وبالمجان فوق ذلك.

نعم لقد أعادت منصَّات مثل “فيسبوك” و”إنستغرام” و”تيك توك” وغيرها إحياء الشعر لجمهور شابّ كان بعيدًا عنه، لكن هل هذا كل شيء؟

قطعًا لا، ولأكون موضوعية لن أنكر ما يبدو واضحًا، وهو أن كل هذه الإيجابيات لم تأتِ دون سلبيات على الشِعر والشعراء وحتى القراء. إنَّ فَرْضَ هذه المنصَّات الرقمية للإيقاع السريع دفَعَ بعض الشعراء إلى اختصار النصوص واختزالها، وجعل بناءها الشعري أعرجَ، فلم يعد تقريبًا من الممكن التحدث عن قصائد بل عن اقتباسات تصلح للمشاركة السريعة، شكَّلَتْ خطر التسطيح لفنٍّ أول ما يُميِّزه هو العمق. كما سهَّلَتْ السطو والسرقات الأدبية، وانتهاك حقوق الملكية، فهذه الاقتباسات تُلصَق وتُنشر دون الإشارة لصاحبها، بل أكثر من ذلك فهي تُنسَبْ بسهولة لشخص آخر.

أما هاجس الجذب الذي يستبدُّ بكل من يصنع محتوى رقميًا، فلم يستثنِ الشعراء بالطبع، إذْ أصبحت الصورة ضرورة لمرافقة النص الشعري، (ستفهم الآن لماذا أشرتُ في بداية المقال إلى مُعجبي الكاتِب وليس النص، إذْ كثيرٌ من الشعراء، والشاعرات خصوصًا الآن، يُرفقن صورهن الشخصية مع نصوصهن، وهو أغرب ما رأيته بهذا الصدد!) وهو ما نلاحظه بكثافة في منصات كـ”إنستغرام” و”تيك توك”، فتكون الأبيات، غالبًا، مجرد جزء من تصميم أو فيديو، حيث تأخذ الصورة الأهمية الأكبر، ويصبح النصُّ مكمِّلًا لا محوريًّا، فتفقد القصيدة هالتَها، خصوصًا وهي جزءٌ من محتوى آخر ضخم ومتنوع وسريع، يجعل وجود الشِّعر بينها نوعًا من الاستخفاف به. الاستخفاف الذي يبلغ ذروته مع انتشار النصوص الضعيفة، فمع سهولة النشر أصبح الجميع قادرًا على نشر نصوصه دون نقد أو مراجعة أو تحرير، ما خلق فوضى متعلقة بجودة النصوص وتراجع المعايير.

في النهاية، هنالك حقيقة لا يمكن لشيء تغييرها، لا الزمن، ولا تغيُّر الواقع ووسائطه، وهي أن الشعر ملازم للحياة، يستبطن جِلْدَها، ويفتح نوافذ الروح على العالم. الرقمية غيَّرت لِباسَهُ وقواعده، لكنها لا تقدر على إفساده ولا إنقاذه طبعًا، يمكن النظر إلى المسألة على أنها ركَّبت له أجنحة للعبور بعيدًا. التحدي اليوم ليس رفض الرقمية ولا الانصهار الكامل فيها، بل إيجاد توازن يحفظ جوهر الشعر ويستفيد من أدوات العصر. أما الشِعر الضعيف الذي يخشى الكثيرون أن يُسيء إلى قيمة الشعر، وهذه الأقدام الكثيرة التي تتطلع إلى لمس هذا البساط الأحمر المخمليّ، ولو بطرف إصبع واحد، ليست مجرمة. من حق الجميع أن يظنوا أنهم شعراء، في واقع صعب وضاغط كالذي نعيشه، حيث يصبح الذهاب فيه إلى الفنون أفضل من الذهاب إلى البشاعة، حتى تغربل آلة الزمن الشِعر من غيره وهو أمر بدهيٌّ، لا يجب أن يشغل أحدًا، لأنه ليس دوره.

“حربُ أخي” لِطالب عبد العزيز .. سكينةُ العنوانِ وغَلَيانُ المقاصِد | عبود الجابري

عبود الجابري

شاعر وكاتب ومترجم عراقي

(حربُ أخي)

قم أخي.. لقد انتهت الحرب

وأخذوا دبابتك إلى مصهر الحديد

لكنَّ بندقيتك ما زالت على الجبل

وها قد أتت الرمال على بسالتك أخيرًا

الفلاح يزرع حقله الذي سقطت فيه

لأن الأشجار التي زرعتها أنت

ماتت أيضًا

أمَّا الجبل الذي آليتَ

ألَّا تُبارِحَهُ حيًّا

تدفق الأعداء إلى قمته

وأنزلوا من ثلوجه

رايتك الصابرة

في كل مرَّة ٍ

قبل سقوطك الأخير

يسلب الأعداء بدلتك وبهاءك

ومهما كنت ميتًا يا أخي

كانوا يُفَتِّتون جثتك بالرصاص

وحتى في ميتتك الأخيرة

حين كان الدود يسقط من محجريك

وفتحة فؤادك الكبير

كانوا يظنونك تكذب

وأنك ما زلت كابوسهم المستمر

قم يا أخي لقد انتهت الحرب

وها قد تسوَّر الأطفال الحديقة

والكرات التي كنت تراها

من نارٍ ومعدن،

بردت، وهاهم يتقاذفونها

بين أقدامهم

إلَّا الكرة التي سقطت قربها

تلك التي أحالت جسدك رفيفًا.

نحن هنا في القرية

بلا حربٍ ولا أعداء

أفق من هزازاتٍ نديَّة

يتشكل توًّا تحت وسائدنا

وقد نسينا بعض جراحنا

وقد نطعم بعض خناجرنا بغضاءنا

القديمة

لكنَّ جُلَّ ما نريده

أن لا تنبح كلابنا إلَّا ضيفًا

أمّي ما زالت في فراشها

أحدثها عن طولك وعضدك القويّ

ويطربها كثيرًا

أنهم لم يجدوا حذاءً على مقاسك

كانت تسألني

على أيِّ جنبيك كنت تنام

أوحشني أن أقول لها

إنك لم تنم منذ أعوام سبعة

وإن الشظية التي هشَّمت أضلاعك

كانت من مدفع مارد وقوي

وقد فركت فتوَّتَك كلها

وإني تركت الشمس

تغرب على أسمائك وأحلامك

وإني ضننت على جسدي النثار

الذي صِرْته

وإن المسافة بين حياتك

وموتك ستة أطفال..

 

*من ديوان تأريخ الأسى

 

طالب عبد العزيز، شاعر عراقي يعمل في الشعر، والشعر يعمل لديه. كلاهما يشتغلان بدأب على تقديم ما هو مغاير لافت للأنظار والأسماع وبقية الحواس. صدرت له في الشعر والنثر أكثر من عشرة عناوين، آخرها ديوان شعري يحمل عنوان “مديح علبة الألوان”.

نشر في عام 1993 قصيدته الشهيرة (حرب أخي)، وهي مرثية كتبها عند استشهاد أخيه، وأحدثت صخبًا مكتومًا في ضمائر المتلقين، كونها كانت ضربًا من الأدب المقاوِم الرافض لفكرة الحرب ولكن بأسلوب موارب يقف على عتبة يتناصفها الخوف من بطش النظام الحاكم، والدهشة التي قوبِلَتْ بها القصيدة. كما أنها لسان واحد ينوب عن ملايين المكلومين بأبنائهم وإخوتهم، ما جعل القصيدة تنتشر كما لو أنها دعاء مبارك، وفي الوقت ذاته لم تحظ القصيدة بتناول نقدي يوازي أهميتها حين صدورها، كون النبش في ترابها اللغوي يمكن له أن يقود المنقِّبين إلى العثور على ما يدين الشاعر ومن يتجرَّأُ على التحليل النقدي للقصيدة.

“وما يثير الاستغراب فعلًا أن القصيدة لم تلقَ الرفض من الرقيب الذي كانت تضعه الدولة للحيلولةِ دون نشر أي شيء تراه غير متوافق معها، على الرغم من أن الشاعر يعلن وبقوة ليس رفضه للحرب فقط وإنما تأكيده وبإصرار أن هذه الحرب كانت عبثية، والدليل على ذلك عنوان القصيدة، فهو كأنما يريد القول أن هذه الحرب كانت حرب أخي.. لذا فقد خسر حياته بسببها. بينما رجع الآخرون إلى حياتهم الطبيعية لأنها لم تكن حربهم، وهذه سخرية مريرة يمررها الشاعر حتى على رقباء الطبع في تلك الحقبة الصعبة والقاسية من حياة العراق”(1).

قصيدةُ “حرب أخي” مرثيةٌ عميقةٌ تحمِلُ قارئَها في رحلةٍ حِسِّيةٍ عبرَ أروقةِ الذاكرةِ وما خلَّفتْهُ الحربُ من فقدٍ وأثرٍ مدمِّرٍ على النفسِ؛ من خلال عددٍ قليلٍ من الصورِ المرهقةِ، لتجسيدِ حزنِ الأخِ العميقِ على رحيلِ شقيقهِ، ورغمَ انتهاءِ الحربِ بمعناها المادّي، إلّّا أنَّ آثارها العاطفية ظلَّتْ حيَّةً ومحفورةً في الحقولِ الصامتة، تَحتَ الغطاءِ الذي تتدثَّرُ بهِ الأمَّهات، وفي الجسد المشوَّهِ للشاعِر، وحتَّى في كلماتِ التذكُّر ذاتها.

وتفرُّد القصيدة يعزى إلى تجاوزِها للانتماءاتِ السياسيَّةِ أو الوطنيَّة، فهي صرخةٌ يتردَّدُ صداها بينَ مختلفِ جدران الثقافات، من حيث تناولها للصدمةِ التي يخلِّفُها العنفُ وقداسةُ الذكرى التي تَحملُها الأرواحُ، والخرابُ الهادئُ الذي يَلي زمنَ البطولاتِ المزعومة. لم تتوقَّفِ القصيدةُ عندَ فكرةِ الاحتجاجِ على الحربِ واستنكارِ مآلاتِها فحسبْ، وإنَّما تتعمَّقُ في التأمُّلِ الفلسفيِّ حولَ الأثرِ الذي يتركهُ العنفُ في الحياة من ذكرياتٍ؛ وصولًا إلى الطريقةِ التي يُفهَم بِها الموتُ نفسه.

تُستهلُّ القصيدةُ بمطلعٍ يحملُ قدرًا من المفارقةِ: “قم أخي، لقد انتهت الحرب”، وذلك يمنحُ النصَّ طابعًا منَ السخريةِ والتهكُّمِ الموجِع،  فعلى الرغم من أنَّ الحربَ قد تكونُ “انتهتْ” وفقًا لتعريفها الجيوسياسي، إلَّا أنَّها تبقى نابضةً في الذاكرةِ وفي بقايا أجسادِ الموتى. إنَّ الدعوةَ للنهوضِ هنا ليستْ أملًا صادقًا بقدْرِ ما هيَ صيحةٌ يائِسةٌ، تُعبِّرُ عن حالةٍ من عدمِ التصديقِ، العجزِ، والثِّقَلِ الذي يَحمِلُهُ غيابُ الأخِ في اللحظةِ الراهنة. تظهرُ الحربُ في هذا السياقِ ليسَ كحدَثٍ محدودٍ زمنيًّا، بل كظاهرةٍ تمتدُّ آثارها إلى ما بعدَ نهايتِها المفترضةِ، تتخلل زمن السلام، والأرض، وتعبث بألعاب الطفولة وأحلامها، لتترك وراءها تشوهات لا سبيل إلى تجاهلها.

فيما تحمل عبارة “لقد أخذوا دبابتك إلى مصهر الحديد” دلالة عميقة على تجريدِ البطولة من طابعِها الشخصيِّ، كونَ حياةِ الجندي، رغم ما تحمله من تقدير، تُختزل في النهاية إلى مجرد حطام معدني ، بينما توحي جملة “لكنَّ بندقيتك ما زالت على الجبل”، برمزية تشير إلى التخلي عن المهمة أو الواجب لم يكتمل، وربما تعكس رفض الجبل للعنف الذي يولِّده البشر. ومع ذلك، يبقى هذا التخلي ذاته مرتبطًا بجانب من جوانب استشهاد الأخ، ما يعمق المعاني المرتبطة بالتضحية والمفارقة الإنسانية.

الطبيعة في القصيدةِ لا تبدو سلبيَّةً أو مُرمَّمة؛ إنَّها مجروحةٌ ومتواطئة، “وها قد أتت الرمال على بسالتك أخيرًا، الفلّاح يزرع حقله الذي سقطت فيه”، تُوحي بدفن الجسد والمُثلِ العليا من خلال توظيف الرمال، التي ترمز تقليديًا إلى الزمن والزوال، فالبطولة هنا تبتلع نفسها، وتحذو الأشجار حذوها “لأن الأشجار التي زرعتَها أنتَ ماتتْ أيضًا”، كدلالة على المحو الشامل الذي اقترفته الحرب بحق المخلوقات.

لعلَّ أكثر أجزاء القصيدة تأثيرًا يكمن في التباين بين الماضي الذي مزَّقتْه الحربُ وحاضر ما بعدَ الحرب، فالأطفال يلعبون الآنَ بما كانَ في السابقِ أدواتِ موت:

“والكرات التي كنت تراها من نارٍ ومعدن،

بردت،

وهاهم يتقاذفونها بين أقدامهم”.

هذا التحول من الأسلحة إلى الألعاب جميل ومُرعب في آنٍ واحد، فهو يمثل السلام والصمود من جهةٍ، ومن جهة أخرى، يُقلل من شأن وحشيةِ الحرب، مُختزلًا إيِّاها إلى جماليَّاتٍ ناشزةٍ، يكسرُ نشازَها المقطعُ الذي يقولُ فيهِ” إلَّا الكرة التي سقطتَ قربها تلكَ التي أحالت جسدك رفيفًا”، في توصيف شعري للموت، مستعيرًا بذلك وظيفة الأجنحة في وصف عروج الروح إلى السماء، بينما تمثُلُ الأمُّ في مشهد الموت أسوةً ببقية الثواكل، متمسكةً بذكرياتِ وأساطيرِ ابنها: “ويطربُها كثيرًا أنَّهم لم يَجدوا حذاءً على مقاسِك”.

افتخارًا بتفرُّدِ ولدها، وربما بالاستثناءِ الإلهي في أن يكون الشهيد -حرفيًّا ومجازيًّا– أكبرَ من العالم، بينما يعاد تصوير التأقلم الذي تلوذ به الأمهات الملتاعات في السؤال عن الشهيد كما لو كان على قيد الحياة: “كانت تسألني على أيِّ جنبيك كنت تنام، أوحشني أن أقول لها إنك لم تنم منذ أعوام سبعة”، حيث يعبِّر هذا السؤال وإجابته المضمرة عن الغياب الجسدي والسلام المبدد الذي يحرم منه الأحياء والأموات على حدٍّ سواء.

نبرةُ القصيدةِ رثائيَّةٌ، رقيقةٌ، مريرةٌ، وتأمُّليَّةٌ، تحملُ أصداءً من التراث الشعري العربي، لا سيَّما في تكرارها، واستحضارها للموتى، ومزجها بين الصور الطبيعية والجسد والعاطفة، فلا توجد فيها قافية صارمة أو بنية وزنية، ما يعكس تشتت الحالة العاطفية للمتحدث،  وبدت سلسةً، تُشبِهُ اعترافًا عفويًّا، لكنّها متجذِّرةٌ في صور دقيقة وقاطعة.

يمكن قراءة هذه القصيدة في سياق أي صراع حديث -شرق أوسطي، أو أوروبي شرقي، أو أفريقي- لكن قوتها تكمن في عالميَّتِها، فهي لا تُسمّي الحربَ، أو العدوَّ، أو الأيديولوجيا، وهذا الغياب يُتيحُ للقصيدة أن تكونَ بمثابةِ لوحةٍ لتاريخِ القرّاءِ وصدماتِهم.

حربُ أخي” تأمُّلٌ عميقٌ في بقايا العنفِ وثمنِ التضحياتِ، وما يجعلُ هذهِ القصيدةَ استثنائيَّةً هو دمجُها بينَ الشخصيِّ والسياسيِّ والغنائيِّ، فهيَ لا تُمجِّدُ الاستشهادَ، لكنَّها لا تَذمُّهُ، بل تسعى إلى إضفاءِ طابعٍ إنسانيٍّ على الخسارةِ في عصرٍ غالبًا ما يُغفِل هويَّة الخاسر.

___________________

(1) د.حذام بدر حسني، (سيرة الحرب في الشعر العراقي المعاصر).