أفكار حول تجربة الحداثة الشعرية في الإمارات | عادل خزام

WhatsApp Image 2024-10-17 at 12.34.48 PM

عادل خزام

شاعر/ الإمارات العربية المتحدة

لا يُمكن على وجه الدِّقَّةِ الوقوف على توثيقِ تجربةِ الحداثةِ الشِّعريةِ في الإمارات، وتحديدًا إرهاصاتِ ظهورِ قصيدةِ النثرِ أو مَن بدأ بها أولًا. لكننا نملكُ مجموعةً من المعطياتِ التي أسَّستْ لظهورِ هذه التجربةِ الشِّعرية، والتي تصاعدتْ بشكلٍ كبيرٍ منذ مطالعِ الثمانينيات لتصبحَ إحدى التجاربِ المهمةِ في منطقةِ الخليج، كونها ضمَّت مجموعةً رائعةً من الأصواتِ الشِّعريةِ الشابةِ التي أنجزتْ نصًّا شعريًّا متجاوزًا يرتقي إلى مستوى التجربةِ العربيةِ التي سبقته في بلدانِ الشامِ والعراقِ ومصرَ والمغربِ العربي.

الإرهاصات الأولى

من وجهةِ نظري كشاهدٍ على هذه التجربة، فإنَّ التمهيدَ لظهورِ قصيدةِ النثرِ بدأ مع تجربةِ الشاعرِ د. أحمد أمين المدني، الذي درسَ في العراقِ وعادَ منها في أوائلِ الستينياتِ متأثرًا بموجةِ التجديدِ وشعرِ التفعيلةِ الذي ظهرَ في العراقِ على يدِ نازك الملائكة، ثم تطوَّرَ بعمقٍ في تجاربِ بدر شاكر السيَّاب وعبد الوهاب البياتي وآخرين. كتبَ المدني شعرَ التفعيلةِ مقدِّمًا لأولِ مرةٍ تجربةَ كسرِ البيتِ الشِّعريِّ الكلاسيكيِّ، وكان ينبغي لتجربتهِ هذه أن تتطورَ بعدَ أن درسَ في جامعةِ كامبريدج ببريطانيا ثم السوربون في فرنسا، حيثُ الحداثةُ وقصيدةُ النثرِ هناك عمرها أكثرُ من مئتي عام. لكن مع ذلك، حافظَ المدني على كلاسيكيتهِ العربيةِ وقدمَ شعرهُ العموديَّ وقصائدَ التفعيلةِ معًا في ثلاثِ مجموعاتٍ هي: حصاد السنين 1968، أشرعة وأمواج 1973، عاشق لأنفاس الرياحين 1990. وربما أشارت بعضُ الدراساتِ إلى أنَّ هناكَ بعضَ الأسماءِ التي ربما سبقتِ المدني في تجريبِ شعرِ التفعيلة، لكنها لم تكتملْ ولم تتأسسْ على نضجٍ كافٍ لترسيخها في سياقِ دراسةِ الأدبِ الإماراتيِّ وتحولاتهِ الفنيةِ والموضوعيةِ والفكرية. لكن يمكن الرجوعُ إليها في البحوثِ والدراساتِ التي قدمها الأستاذُ بلال البدور، وجمع فيها قصاصاتٍ وقصائدَ مفردةً ومحاولاتٍ أولى لشعراءَ من الإمارات لم تكتملْ تجاربُهم لاحقًا. حيث الى جانب الأسماء الراسخة، ذهب البدور عميقاً للبحث عن الذين حاولوا كتابة الشعر ولم يكملوا الطريق. وفي كتابه النوعي (موسوعة شعراء الإمارات – الجزء الأول) قدم لنا تراجم لـ 101 من شعراء الفصحى الذين كتبوا الشعر العمودي.

التحولات الاجتماعية السريعة

كانتِ الساحةُ الشِّعريةُ في الإماراتِ تقومُ على القصائدِ الكلاسيكيةِ بالطبع، وكان المجتمعُ التقليديُّ لا يستسيغُ هذه النقلةَ في كسرِ البيتِ الخليليِّ، لكن مع قيامِ دولةِ الإماراتِ الثاني من ديسمبر من العام 1971، أصبحَ التحولُ نحو الحداثةِ سريعًا جدًا وشملَ جميعَ القطاعاتِ وتحديدًا التعليمَ، حيثُ دخلتْ في وجدانِ الإنسانِ الإماراتيِّ روحٌ جديدةٌ وارتفعَ في داخلهِ الشغفُ والطموحُ للارتقاءِ في كلِّ شيءٍ بما فيها الفنونُ والآداب. وبمجردِ وصولِنا إلى أوائلِ الثمانينيات، انتظمتِ الصحفُ اليوميةُ في الصدورِ (بعدَ أن كان صدورُها متقطعًا) لتخصصَ صفحاتِها الثقافيةِ لتجاربِ التجديدِ في الوطنِ العربي. وصرنا نقرأُ ونسمعُ بأسماءِ محمود درويش والماغوط وأدونيس ونزار قباني وغيرهم من روادِ موجةِ التجديد بشكل يومي، ونتأثر بفكرهم.

ازدهار الحياة الثقافية

مع أوائلِ الثمانينياتِ أيضًا انتظمتْ معارضُ الكتبِ لدينا في الشارقةِ وأبوظبي، وجاءتْ كتبُ الشِّعرِ الجديدِ وأيضًا الشِّعرِ العالميِّ (المترجم) لتقعَ بين أيدينا نحنُ الشباب، حيث كنّا لا نزالُ طلبةً في جامعةِ الإمارات أو مبتعثينَ للدراسةِ في الخارج، وصار لزامًا أن نتأثرَ بهذه التياراتِ التي نظَّرتْ وانحازتْ أيضًا إلى قصيدةِ النثرِ، فانقسمتِ الساحةُ الشِّعريةُ إلى ثلاثِ فئاتٍ هي: روادُ القصيدةِ الكلاسيكيةِ الكبارُ من الجيلِ الأول، ثم روادُ وشبابُ قصيدةِ التفعيلةِ، ومنهم د. أحمد أمين المدني، وحبيب الصايغ، وعارف الشيخ، وعارف الخاجة، وإبراهيم الهاشمي، وكريم معتوق، وصالحة غابش، وظاعن شاهين، وأمينة ذيبان، وأسماءٌ أخرى كثيرةٌ قدمتْ نفسها لكنها لم تكملْ الطريق. ثم في هذه الفترةِ (نهاية السبعينيات حتى منتصف الثمانينيات) بدأتْ تبرزُ أصواتُ المجربينَ الخائضينَ في مغامرةِ قصيدةِ النثر، بدايةً من ظبية خميس، نجوم الغانم، أحمد راشد ثاني، ميسون صقر، خالد البدور، خالد الراشد، علي العندل، عبدالعزيز جاسم، ثاني السويدي، خلود المعلا، سالم بوجمهور، محمد المزروعي، وآخرين، وكنتُ أنا معهم نشهدُ هذه التحولاتِ السريعة. وكان معنا أيضًا كتابٌ وأدباءُ خليجيونَ وعربٌ منهم قاسم حداد وأمين صالح من منبرِ جريدةِ الخليج التي كانت تصدرُ في الإماراتِ والبحرين في نفسِ الوقت، والشاعرُ سيف الرحبي من عُمان الذي أقامَ لفترةٍ في الإماراتِ وعملَ في مجلةِ أوراق التي يصدرها حبيب الصايغ من أبوظبي. وأيضًا كان معنا الشعراءُ والمثقفونَ العرب، ومنهم محمد الماغوط الذي أشرفَ على صفحاتِ جريدةِ الخليج الثقافية واستقطبَ نصوصَنا وقدمها، والكاتبُ السودانيُّ محمود مدني، ود. يوسف عيدابي، وبعضُ الأسماءِ العربيةِ الأخرى.

وقفات لا بد منها:

أولًا: أحبُّ هنا أن أتوقفَ عند بروزِ اسمِ المرأةِ الإماراتيةِ في تجربةِ الحداثةِ منذ بدايةِ انطلاقتها نتيجةً لقوةِ التعليم، ولا زلتُ أذكرُ العشراتِ من الأسماءِ النسائيةِ التي أسَّستْ لصوتِ الحداثةِ، ليس فقط على مستوى قصيدةِ النثرِ، وإنما في القصةِ القصيرةِ والفنِّ التشكيلي، حيث امتدتْ (روحُ الحداثة) إلى الفنونِ البصريةِ، وكما نادى الشعراءُ مبكرًا بكسرِ الوزنِ الخليلي، ظهرَ من بعدِهم من ينادي بكسرِ الإطارِ التقليديِّ للوحةِ الفنيةِ مثل الفنانِ حسن شريف في بدايةِ الثمانينيات الذي راحَ يعرضُ أعمالَه على الأرض. أيضًا نادى المسرحيونَ بكسرِ العلبةِ الإيطاليةِ في المسرح مثل ناجي الحاي وجمال مطر اللذان قدَّما تجربةَ عرضِ أعمالِهما في الهواء الطلق على الرملِ وقرب البحرِ من دون خشبة. وكانتِ القراءاتُ الصحفيةُ والنقديةُ التي ترافقُ هذه التغطياتِ تُشيدُ بفكرةِ التمردِ على الأنماطِ الكلاسيكيةِ وتمجّدُ التجريبَ الفنيَّ الذي شملَ كلَّ تياراتِ الفنونِ والآداب.

ثانيًا: أقفُ هنا أيضًا عند ملاحظةٍ جديرةٍ بالنظر، وهي أنَّ الحداثةَ في الإماراتِ واجهتْ بالفعلِ تحدياتٍ كبيرةٍ أثناءَ ظهورِها في مجتمعٍ تقليدي، ورغمَ بعضِ الرفضِ من المؤسسةِ الثقافيةِ أو أفرادِ المجتمعِ لهذه الأصواتِ الجديدةِ والأفكارِ غير المألوفة، إلا أنَّ المناخَ الثقافيَّ المنفتحَ في الإماراتِ جعلها تتطورُ بشكلٍ طبيعيٍّ وصحيٍّ من غيرِ قسوةٍ أو مبالغة. حيث صارتِ الفنونُ التجريبيةُ تتسيدُ اليومَ الساحةَ الفنيةَ، واستطاع شعراءُ قصيدةِ النثرِ أن يطوّروا تجاربَهم ويراكموها. على عكسِ بعضِ البلدانِ العربيةِ والخليجيةِ التي وصلَ فيها الأمرُ في فترةِ الثمانينيات إلى منعِ الكتبِ وإتلافها بل وإحراقها فقط لكونِها تنادي بالتجديدِ الفنيِّ على صعيدِ الشكل.

ثالثًا: في العام 1984 تأسسَ اتحادُ كُتابٍ وأدباء الإمارات، وفي 1987 أصدرَ أولَ أنطولوجيا شعريةٍ لأبناءِ الإماراتِ بعنوان قصائد من الإمارات، وكان صوتُ الحداثةِ متمثلًا في قصائدِ التفعيلةِ والنثرِ حاضرًا بقوةٍ في هذا الكتاب، بل إنه يمثلُ نحو 50% من محتواه، وهذا مؤشرٌ مهمٌّ على قوةِ حضورِ شعرِ الحداثةِ في ذلك الوقت. وقد تشرفتُ بالمشاركةِ في هذا الكتابِ بقصيدةِ نثر مع مجموعة من شعراء البدايات الأولى لتجارب القصيدة الجديدة في الامارات. وكم أتمنى أن تُعاد تلك التجربة الغنية بإصدار موسوعة جديدة تضم قصائد شعراء الإمارات منذ البدايات حتى اليوم.

رابعًا: أسهمَ اتحادُ كُتابٍ وأدباء الإمارات في نشرِ المجموعاتِ الشعريةِ الجديدةِ لشعراءِ قصيدةِ التفعيلةِ والنثر، بل انحازَ أيضًا لنشرِ كتبِ الشعراءِ الخليجيينَ والعربِ المقيمينَ في الإمارات ومن خارجها. ولعبتْ مجلةُ شؤون أدبية التي تصدرُ عن الاتحادِ دورًا حيويًا في ترسيخِ حضورِ صوتِ الحداثةِ الإماراتيةِ على المستوى العربي، قبل أن تتراجعَ لاحقًا عن هذا الدور. أيضا بدأ صوت القصيدة الجديدة يصل الى الخارج حيث فازت مجموعة (ليل) لخالد البدور بجائزة يوسف الخال في العام 1992، كذلك صارت دور النشر العربية المعروفة في لبنان ومصر تنشر مجموعاتنا الشعرية الجديدة من ضمن سلسلة تضم أبرز التجارب الشعرية العربية الشابة.

خامسًا: يُلاحظُ أننا عند منتصفِ الثمانينياتِ صرنا نستوعبُ أصواتَ الحداثةِ الشِّعريةِ الجديدةِ بزخمٍ أعلى من تجاربِ التفعيلةِ والعمود. حيث ظهرتْ أسماءٌ كثيرةٌ تكتبُ قصيدةَ النثرِ وتنشرُ إنتاجَها في الصحفِ والمجلاتِ، ومن بينها إبراهيم الملا، وعبدالله السبب، والهنوف محمد، ومسعود أمر الله، وعبدالله عبدالوهاب، وأحمد العسم ومها خالد وآخرين. كما ظهرتْ أيضًا تجاربُ إصدارِ النشراتِ الأدبيةِ الحرة مثل (أشلاء الأرانب القزحية) التي شارك فيها مرعي الحليان وعلي العندل، ونشرة (رماد) مع مسعود أمر الله التي تحولتْ لاحقًا إلى نشرة (رؤى)، حيثُ استقطبتْ في عددٍ منها الشاعرَ البحرينيَّ الكبيرَ قاسم حداد. وكان يتمُّ طبعُ هذه النشراتِ وتوزيعُها يدويًّا بين الأصدقاءِ من غيرِ ترخيصٍ رسمي.

سادسًا: شهدتِ الإماراتُ منذ الثمانينياتِ ظاهرةَ الكتابةِ باسمٍ مستعار، وبالأخصِّ الأسماءُ النسائيةُ من العائلاتِ المحافظةِ أو تلك التي تخشى مواجهةَ المجتمع. ورغمَ وجودِ هذه الظاهرةِ في الشِّعرِ الشعبيِّ مثل بنت البادية – قطوف – ريم البوادي وغيرها، إلا أنها في ظاهرةِ الحداثةِ تبدو غيرَ مألوفة. وأتمنى لو تكونَ هناكَ دراسةٌ مستفيضةٌ حولَ هذه الأسماءِ التي كانتْ تنشرُ القصصَ القصيرةَ والقصائدَ بأسماءٍ مستعارةٍ في الصفحاتِ الثقافيةِ لجرائدِ الاتحاد – الخليج – البيان وبعض المجلات، وربما كانتْ أسماءُ بعضِ الرجالِ أيضًا مستعارة.

سابعًا: ظلَّ النقدُ الأدبيُّ الموازي لتجربةِ الحداثةِ الشِّعريةِ متأخرًا عنها. حيثُ لم تكنْ هناك قراءاتٌ في التجربةِ الجديدةِ حتى منتصفِ الثمانينياتِ إلا فيما ندر، ثم من بعد ذلك بدأتْ مجلةُ شؤون أدبية تقدمُ بعضَ القراءاتِ الانطباعيةِ والتحليلية. ثم في بدايةِ التسعينياتِ صار بعضُ النقادِ العرب يقدمونَ قراءاتٍ صحفيةً للتجربة، إلى أنْ تطورَ الأمرُ لاحقًا إلى إصدارِ كتبٍ تقرأُ التجربةَ الشِّعريةَ ككل أو بعضها. لكنها في الأغلب تميلُ إلى الجانبِ الأكاديميِّ لغرضِ الدراسةِ الجامعية. أما ما اشتهرَ من هذه الدراساتِ فهو قليل، ولا يتجاوزُ 15 كتابًا كما أظن، كلها حاولتْ في مجلدٍ واحدٍ أنْ تقرأَ التجربةَ الشِّعريةَ في الإماراتِ على العمومِ ولم تخصصْ أو تركّزْ النظرَ في عمقِ علاماتِ التجديدِ على مستوى اللغةِ والصياغةِ وتكوينِ البنيةِ المعماريةِ للنصِّ الشِّعريِّ الجديد. وتحولاته الفكرية والفلسفية.

ملاحظة: ربما لم تتسع المقالة لاستيعاب جميع الأسماء الواردة في تلك المراحل الأولى، لكن الغرض هنا ليس تدوين وتوثيق التجارب كلها، بقدر ما هو سعيٌ لتقديم صورة مقربة لتجربة مهمة في تاريخ النهضة الثقافية على مستوى الشعر في دولة الإمارات العربية المتحدة.

الشعر والمعرفة | أ. د. صلوح السريحي

 أ.د. صلوح السريحي

أستاذ الأدب والنقد بجامعة الملك عبد العزيز 

عضو مؤسس مجلس أمناء أكاديمية الشعر العربي

         الشعر فن وعلم وصناعة وإعلام وإعلان.  كما أنه وعاء المعرفة والحكمة والفلسفة على الرغم ما بينهما من جدلية واختلاف، فهو فن غنائي يتسامر عليه العرب يجمع بين المتعة والفائدة، ينشدونه في أفراحهم واتراحهم، وهو ديوانهم الذي يحمل لغتهم، ويسجل أيامهم ووقائعهم حتى صار سجلًا معرفيًا لهم فهو كما قال أبو عمرو بن العلاء في حديثه عن العرب والشعر:” يقيد مآثرهم، ويُفخّم شأنهم، ويُهوّل على عدوهم ومن غزاهم، ويُهيِّب من فرسانهم، ويُخوّف من كثرة عددهم، ويهابهم شاعر غيرهم” وهو مصدرٌ من مصادر التاريخ عند مؤرخي العرب، وشاهدٌ عند النحاة وأهل اللغة والمفسرين للقرآن الكريم. هو علمٌ كما قال ابن الخطاب ” كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه” وهو ديوان العرب كما قال ابن عباس “الشعر ديوان العرب فإذا خفي علينا الحرف في القرآن الذي أنزله الله بلغة العرب رجعنا إلى ديوانها فالتمسنا معرفة ذلك”. كما أن للشعر دور أخلاقي تربوي فهو الذي يسن المكارم ويدل على المحامد؛ لذا قال أبو بكر “علموا أولادكم الشعر فإنه يُعلمهم مكارم الأخلاق” لذا أوصى به عمر فقال: ” تحفظوا الأشعار، وطالعوا الأخبار فإن الشعر يدعوا إلى مكارم الأخلاق ويُعلّم محاسن الأعمال ويبعث على جليل الفعال ويفتق الفطنة ويشحذ القريحة وينهي عن الأخلاق الدنيئة ويزجر عن مواقعة الريب ويحضّ على معالي الرتب”وبهذا كان للشعر سلطان وسطوة على النفوس تربيةً وتهذيبًا واصلاحًا وتقويمًا،

          وعلى الرغم من ارتباط الشعر بالعاطفة إلا أنه أرتبط أيضًا بالكون وأسالته وقضاياه فكان وعاءً للحكمة والفلسفة والمنطق على رغم ما بينهما من جدلية واختلاف لاستناد الأول منهما -الشعر- على العاطفة، واستناد الثاني- الفلسفة- على العقل إلا أن كلا منهما استوعب الأخر فَوجِد شعراء فلاسفة حكماء، كما وجد فلاسفة شعراء، وبذلك التحم الشعر بالحكمة والفلسفة وأرتبط بالكون وأسالته كما أرتبط بالإنسان وحضوره وبالإنسان وعواطفه أي  أرتبط بالعاطفة والعقل معًا، فكان لنا شعر الفارابي وابن سينا وابن رشد وزهير والمتنبي والمعري الذي كتبوا فلسفتهم عن الحياة والكون في قوالب شعرية تحكي نظرة من الدهشة والشعور بالغربة والحيرة أمام التساؤلات التي تغيب عنها الإجابة حتى تمثلت لنا من خلال إبداعهم فلسفة شعرية مدهشة

         ولأهمية الشعر وقيمته فقد بقي خالدًا في ذاته ومخلدًا للمحامد والمآثر فهو الحامل لقافية مثل حد السنان:

فَإِنِّي لذُو مرّة مرّة              إِذا ركبت حَالَة حَالهَا

أقدم بالزجر قبل الْوَعيد        لتنهى الْقَبَائِل جهالها

وقافية مثل حد السنان         تبقى وَيذْهب من قَالَهَا

تجودت فِي مجْلِس وَاحِد      قراها وَتِسْعين أَمْثَالهَا

         ولكن من قالها لم يذهب وإنما خلده شعره وإنشاده وتغنيه، وخلدته قافيته فكان لسانها الحامل لتراثنا والحافظ لهويتنا ولغتنا وثقافتنا وتاريخنا، نجد هذا اللسان عند أمرئ القيس وطرفة والأعشى والمتنبي وأبي تمام والبحتري، كما نجده في عصرنا الحاضر عند حافظ إبراهيم وأحمد شوقي ونزار قباني وبدر شاكر السياب وغازي القصيبي والثبيتي والقرطوبي وسيف الرحبي.

      وهكذا غدى الشعر وعاء للمعرفة وركيزة تبنى عليها المعرفة، ووسيلة لصناعة المعرفة والوعي بها والتعريف بقيمتها. وبذلك فإن الشعر بحثا عن المعرفة وفي المعرفة، أرتبط بالإنسان وحضوره وحافظ على قيمه وإرثه وهويته.

 

البيان والتبيين، الجاحظ عثمان بن عمرو، تحقيق وشرح عبد السلام هارون، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الرابعة، ص 76

 طبقات فحول الشعراء، لابن سلام الجمحي، قرأه وشرحه محمود محمد شاكر، دار المدني بجدة، 1/24.

الموافقات، الشاطبي: أبو إسحاق إبراهيم بن موسى، تحقيق أبو عبيدة مشهور بن حسن، دار بن عفان، الطبعة الأولى، ت 1417هـ، ج2 ص 88

 بتصرّف عن كتاب المظفر العلوي، نضرة الإغريض في نصرة القريض، تحقيق د. فهمي عارف، مجمع اللغة العربية بدمشق 1976م، ص 375.

 السابق

 شرح ديوان الحماسة لأبي تمام، الخطيب التبريزي: أبو زكريا يحي بن علي، منشورات محمد علي بيضون، دار الكتب العلمية، بيروت، ج1، ص 39

المكان في شعر ميسون صقر | مريم الزرعوني

مريم الزرعوني

كاتبة وشاعرة من الإمارات

رافق الأدب الحراك الثقافي الطليعي في دولة الإمارات منذ بدايته، وتميّز بالتنوع داخل الجنس ذاته، ومنه الشعر. فإلى جانب القصيدة العمودية ظهر الشعر الحر وقصيدة النثر، التي كتبها مجموعة من المثقفين الإماراتيين، شكّلوا الديباجة الأولى للشعر الحداثي الإماراتي، ونَحَوا حينها المنحى الأصعب، وهو التغيير والتجدد، ورغم التحدّيات التي واجهها هذا الفنّ خاصة من الكلاسيكيين، ومحبي الشعر العربي في صورته العمودية الموزونة، إلّا أن الأصوات الشابة حينها، استطاعت أن ترسم مسارها المختلف، لا سيما النسائية منها، وصار لها خصوصيتها في التجربة الشعرية العربية، والإماراتية على وجه الخصوص.

الشاعرة الإماراتية ميسون صقر، كتبت السرد كما كتب الشعر، وهي ذات تجربة متقدمة، في مجتمع مدني حديث نسبيًّا، لم يتجاوز النصف قرن، تغيرت ملامحه بسرعة، مع قيام الاتحاد ونهضة الدولة في مختلف الأصعدة، ما جعل الشاعرة هي وجيلها، رغم ريادتهم، لكن إبداعهم لم ينل حظّه الوافي من الدراسة والتقصي. فدراسات الشعر الإماراتي الحديث والمعاصر مازالت في بدايتها، ونعلم صعوبة أن تلج ساحة البحث، وهي تعاني من عجز أو قلة في المصادر.

 قدّمت الشاعرة في دواوينها كلّها قصيدة النثر، وشكّلت على مدى مسيرتها الأدبية التي جاوزت الأربعة عقود، نموذجًا خالصًا لهذا الجنس الأدبي، ساورته لغتها الحداثية بالسلاسة والجزالة في آن، ولتجربتها خصوصية وفرادة، كونها شاعرة إماراتية اختارت أن تستقرّ في القاهرة، وقد رافقت عائلتها للعيش فيها منذ طفولتها.

ما نتحدث عنه في هذا المقام، الشعر عند ميسون صقر، فقد أظهرت قصيدة النثر لديها، نموذجا جيدًا للتجريد والتخلي عن منظومة الأحمال التقليدية في الشعر، مقتربة من التجريد في معناه التشكيلي، ولا أدلّ على هذا المعنى من شروط سوزان برنار لقصيدة النثر، وهي الكثافة والتخلي عن الحشو والإطالة، وإشراق المفردة، بحيث ينطفئ المعنى باستبدالها، وانطلاقها من الذات في التجربة الخاصة.

إنّ التجريد الشعري ممثلًا في قصيدة النثر، يتطلب آليات مختلفة في تعاطي النقد مع النص، خارج إطار المجاز والعروض، فلم تعد القصيدة النثر مجموعة صور بيانية، في قالب شكلاني معروف، إنها في شكلها ومقاطعها أقرب ما تكون إلى الرؤية الإخراجية، القائمة على القطع والحذف، ثم إعادة التركيب واللصق، أو ما يعرف بالمونتاج في المشاهد السينمائية، لذا تتطلب بحثا و تجديدا في تعاطي النقد مع النص، بعيدا عن محدودية المعالجة، خاصة وأنّ أيلولة الشعر إلى قصيدة النثر، باتت الاحتمال الأكبر في ضوء تسارعات العصر، والحاجة إلى وعي مستدام يحفظه التفكير الناقد، والتعرض المستمر لكسر الوتائر.

للشاعرة بالإضافة إلى الدواوين الفصحى، أخرى بالعامية المصرية، لقد شكلت مصر محطّة مهمة في حياة الشاعرة، ولا شكّ أنّها أثرت في وجدانها، وجاء عملها الأخير “ريش عين على مصر” تجسيدًا لذلك الأثر، فقد أرخت للمقهى الثقافي القاهري الأشهر، وكتبت سيرته بعين الإماراتية، المحبّة لمصر، وفازت عن الإصدار بجائزة الشيخ زايد للكتاب 2022 فرع الآداب، وكان للمكان أثر عميق في وجدانها، نلحظ ذلك في تصريحها بعد حصولها على الجائزة الأكبر في تاريخها الأدبي، عندما أهدت الجائزة إلى الأماكن: “أهدت الشاعرة والروائية والفنانة التشكيلية الإماراتية ميسون صقر جائزة الشيخ زايد للكتاب فرع الآداب المتوجة بها عن كتابها “مقهى ريش”، الصادر عن دار نهضة مصر، إلى الإمارات الوطن الأم ولمصر أم الدنيا حبيبة القلب، وللشارقة الذاكرة الأولى ولأبوظبي الاكتشاف والوعي والتعلم”

المكان، ذلك الماديّ بأبعاده الفيزيائية المعروفة، يحمل تأويلاتٍ شتى في الذهن، تجعل من الحيّز فضاءً معنويًا أرحب، لا يتقيّد بتلك المساحة المحدودة مهما اتسعت. ألا نقول ” لك مكانٌ في القلب”؟ والآية الكريمة “وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَٰرِغًا”، ذلك الفراغ المجازي في قلب الأم، قد حلّ محلّ المكان المجازي الذي كان يشغله حضور ولدها المادي. المكان ذلك الشيء الذي يشغلنا، في حين أننا نشغله، ونحمله معنا، على هيئة أفكار، تثار لها مشاعر تتشكل تجاهه، وتشغل الوجدان.

 

نستل للشاعرة قصيدة من ديوانها “رغوة القلب الفائضة” بقصيدة شقوق الجدار:

هذه الشروخ في الجدار، تهمني// تزحزح الضيق// تتسرب منها الغرف والأجساد والأحلام. // هذه الفضاءات ثقوب في الأوهام // أو ربما خدش في قميصي الليلي الذي// أخبئ فيه حبيبي // وأنام

تستخدم الشاعرة المفردات المكانية الدالة على البيت بالضرورة: (الشروخ – الجدار – الغرف – الفضاءات -ثقوب – خدش- أنام) ثمة علاقة قديمة ووطيدة بين الشاعرة والمكان، هذا البيت الذي مضى عليه ردحٌ من الزمن بالتأكيد، حتى أنّ الشروخ بدت في جدرانه، و رغم ذلك العطب -وإن كان بسيطًا- إلا إنّه ملحوظ لدى الشاعرة على الأقل، والملاحظة قد تجاوزت الرؤية إلى الأثر الخاص في النفس، هذا الأثر دليل صلة وثيقة بالمكان، صلة إيجابية، تحتفي الشاعرة به، رغم غلالة غلالة الحزن الذي تلفّه، ممثلة بعبارة (تزحزح الضيق) و(تتسرب منها).

لا تصرح الشاعرة بمفردة البيت، لكنها تذكر العديد من مكوناته، فيظهر بشكل جزئي صريح، ثم تكتمل الصورة في مخيلة المتلقي، ما هو ذلك المكان الذي يتألف من جدران وغرف، ويصلح للنوم، المكان الذي ترتدي فيه سيدته قميصها الليلي، وتهتم للشروخ في جدرانه. إنه البيت – الملاذ، والذي يكاد يتكافأ مع العمر، بسبب العشرة الطويلة له من جهة، وقد ظهر في مفردات سبقت في النص، ومن جهة ثانية حين تتسرب من الغرف الأجساد والأحلام، كمن يفقد في حياته ومع مرور العمر، أشخاصًا يغادرون، وأحلامًا تتبدّد. ومن جهة أخيرة حين يصير كالعمر المنذور للحبيب، هذا البيت مخبأٌ آمنٌ له.

تجليات المديح النبوي في دارة الشعر بالفجيرة

نظمت دارة الشعر العربي بالفجيرة أمسية شعرية أدبية بعنوان “تجلّيات المديح النبوي في الشعر العربي”، شارك فيها الشاعر الدكتور عارف الشيخ من دولة الإمارات، والشاعر عبدالله العنزي من المملكة العربية السعودية.

وتناولت الأمسية حديثًا عن تاريخ ظهور المديح النبوي في الشعر العربي وأبرز من كتب فيه من الشعراء عبر العصور، كما تحدّث الشاعران عن التأثيرات والظواهر الاجتماعية التي تأثّرت بها أشكال المديح النبوي لدى الشعراء العرب منذ ظهوره حتى اليوم، وقرأ الشاعران في ختام الجلسة عددًا من قصائدهما في موضوع مدح النبي محمد عليه الصلاة والسلام.

كما تضمّنت الأمسية فقرةً إنشاديةً للمديح النبوي بمشاركة المُنشد فتحي محمد من جمهورية مصر العربي..

وتأتي الجلسة تزامنًا مع ذكرى المولد النبوي الشريف، بهدف استذكار القيم النبوية التي خلّدها الشعراء في قصائدهم تعبيرًا عن محبة الرسول محمد عليه الصلاة والسلام واحتفاءً بالمعاني والمواقف الجليلة للسيرة النبوية الشريفة.

حضر الأمسية جمهور غفير من داخل الفجيرة وخارجها.

دارة الشعر العربي تحتفي بشاعر العرب الأكبر

نظمت دارة الشّعر العربي بالفجيرة أمسية أدبية شعرية للاحتفاء بشاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري، بمناسبة مرور سبعة وعشرين عامًا على رحيله، بمشاركة الدكتور علي جعفر العلّاق، والدكتور عارف الساعدي، كما قرأ الشاعران الإماراتيان نجاة الظاهري وعبدالعزيز باروت عددًا من قصائد الجواهري، وحضرها نخبة من الشعراء والأدباء.

تاريخ الشعر الفصيح في الإمارات | إبراهيم الهاشمي

د. إبراهيم الهاشمي

 كاتب وشاعر من الإمارات

تعارف أغلب الباحثين والدارسين لتاريخ الشعر في الإمارات على أن أقدم ما وصلنا إلينا من الشعر الشعبي هو شعر الماجدي بن ظاهر، هذا بالنسبة للشعر الشعبي الذي حظي بالعديد من الدراسات والأبحاث التي تناولته وتناولت تاريخه وحقبه وفنياته وأنواعه، أما الشعر العربي الفصيح فحتى الآن لا زال الأمر غير واضح بشكل جلي، والدراسات أو الأبحاث في هذا الجانب لا تشفي الغليل، وتظهر مدى ما تعانيi المكتبة الإماراتية والعربية من شح وقصور فيما يتعلق بالدراسات المتخصصة في تاريخ الشعر العربي في الإمارات والذي لا يمكننا من تحديد دقيق وواضح وموثوق لأقدم النصوص التي يمكن الوصول إليها من الشعر الفصيح في الإمارات.

الدكتور أحمد أمين المدني يرحمه الله لم يذكر أي شيء يمكن أن يعتمد عليه في كتابه ” الشعر الشعبي في الإمارات العربية المتحدة نشأته وتطوره ” إذ خصصه بشكل كامل حول الشعر الشعبي بالرغم من تناوله في المقدمة بعض الملامح العامة حول الشعر والعوامل الجغرافية والاقتصادية والثقافية والسياسية والاجتماعية، إذ ركز على العوامل المؤثرة في الثقافة دون تفصيل للحياة الثقافية والشعرية، أما الباحث الشاعر أحمد راشد ثاني رحمه الله فتناول بتفصيل كبير ومتميز في دراسته ” الغير منشورة ” و التي كانت بعنوان ”  الشعر الفصيح في الإمارات من القرن 17 حتى العقود الأولى من القرن 20 ”  محاولاً  الوصول إلى أقدم ما قد يمكن الوصول إليه من خلال الوثائق والمخطوطات التي أستطاع الاطلاع على محتوها من قصائد فصيحة لشعراء الإمارات متناولاً بالدراسة  والعرض بعض المنظومات لشعراء قدامى من الامارات تعود للقرن السابع عشر حتى القرن العشرين، ذكر بعض الشعراء منهم محمد بن صالح المنتفقي ومحمد بن حسن المرزوقي وعلي بن محمد الشحي ومحمد بن حمود الشحي ويوسف بن رويسم ويعقوب الحاتمي وحماد بن سعيد و سالم بن عبدالله الكراني وغيرها من الأسماء التي اوردها لشعراء تلك الفترة الزمنية محاولاً في تلك الدراسة التي قد تكون الأكثر عمقاً في محاولة الوصول إلى اقدم ما يمكن الوصول إليه حول الشعر الفصيح في الإمارات، والشعراء الذين كتبوا باللغة العربية الفصحى، والجدير بالذكر أن الباحثة عائشة المهيري نشرت في مجلة الظفرة العدد السابع منها سنة 2007 قصيدة تحت عنوان تائية البستكي للشاعر عبدالرحيم البستكي نظمت سنة 1901 عثرت عليها في مخطوطة شعرية قديمة مؤرخة بتاريخ سنة 1921، وقد كشف الباحث ثاني بن عبدالله بن صقر المهيري في دراسة بحثية له أن الشيخ أبو فلاح محمد بن محمد بن علي الياسي مؤسس إمارة بني ياس في القرن العاشر الهجري الذي يوافق القرن السادس عشر للميلاد له قصائد بالفصحى كتبت بالشعر الهلالي القريب من الفصيح ويعتبر بذلك أقدم ما قد تم الوصول إليه من الشعر الفصيح في الإمارات.

الدراسات التي تناولت الشعر الفصيح في الإمارات قليلة بالرغم من مرور ما يزيد على 50 عاماً على تأسيس الدولة، ولا نجد حينما نبحث إلا بعض المقالات أو الدراسات القصيرة حول نتاج بعض الشعراء خصوصاً شعراء جماعة الحيرة الأدبية ، لا نستطيع أنكار دور مجموعة من الباحثين الذين اثروا الساحة بما كتبوه من أبحاث ومقالات ودراسات مثل عبدالغفار حسين وبلال البدور الذي بذل جهداً مميزاً في إصدار موسوعة شعراء الإمارات  التي صدر منها الجزء الأول حتى الآن والذي يتناول الشعر العامودي، ويوسف حطيني في كتابه ” الشعر الإماراتي ” والدكتور يوسف نوفل في كتابه ” شعراء دولة الإمارات العربية المتحدة دراسة وببليوجرافيا ” والدكتورة مريم الهاشمي في كتابها ” تطور الحركة الشعرية – جماعة الحيرة ” وأحمد محمد عبيد في كتابه ” الشعر الإماراتي   المعاصر ” والدكتور نزار أباظة في كتابه ” الاتجاهات الأساسية للشعر الحديث في دولة الإمارات والدكتور هيثم الخواجة في كتابه ” مدخل إلى قراءة القصيدة المعاصرة في الإمارات” وشاهين ذياب في كتابه ” الشعر الإماراتي الحديث – قراءة سيميائية ظاهراتية تأويلية في شعرية النص ” وغيرهم من الباحثين والدارسين، لكن هل يشفي ذلك الغليل، فيصل بنا إلى صورة واضحة لتاريخ الشعر الفصيح في الإمارات وبدايات القصيدة العامودية ومتى كانت انطلاقة شعر التفعيلة وعلى يد من من الشعراء؟ هل هو الدكتور أحمد أمين المدني أم الشيخ صقر بن سلطان القاسمي؟ وإرهاصات بدايات ظهور قصيدة النثر في الإمارات، وهل هناك ما يمكن تسميته وتقسيمه إلى أجيال شعرية، أم أن هناك تداخل يصعب معه وضع صورة واضحة للأجيال المتعاقبة من الشعراء سواءً ما قبل الإتحاد أو بعده.

الدراسات التي صدرت جهد مشكور لكنها لا تكفي لإعطاء صورة واقعية وحقيقية للشعر في الإمارات سواءً من ناحية المراحل الزمنية او المدارس الشعرية أو فنيات النص الشعري، إذ يدور جلها في فلك عام لم يصل لصلب وقالب وواقع الشعر المكتوب باللغة العربية الفصحى في الإمارات، قد يكون ذلك لندرة المخطوطات والوثائق وعدم الاهتمام بذلك التوثيق من جهة أخرى، وهنا لابد من دعوة كليات الآداب بالجامعات المختلفة في الإمارات إلى توجيه طلاب الدراسات العليا إلى تقديم دراسات تتناول كل ما يتعلق بالشعر الإماراتي الفصيح والاجتهاد في البحث بين سطور الوثائق والمخطوطات عن ما يمكن أن يشكل إضافة جديدة وحقيقية لتاريخ الشعر والثقافة في الإمارات.

الإِصغَاءُ للمُمكِنِ في الوَتَرِ المَقطُوعِ | موزة عبدالله العبدولي

موزة عبدالله العبدولي

 ناقدة من الإمارات

تطمحُ هذه المقالة الوقوف على صَدى الأصواتِ في نصِّ شاعرٍ أصم، حيثُ فَقدَ الشاعر السوريّ «رياض الصالح الحسين» (1954 – 1982) حاستي السمع والنطق وهو في الثالثة عشر من عمره إثر مرضٍ مفاجئ يُرجح أنه قصور كلويّ[1]، وظلَّ الشاعرُ يُواري مرضه عن الجَمع، مُرتاحاً في ظلاله الباردة، وناكراً علّته أمام العالم، يقول عنه الشاعر «منذر المصري»: “كان رياض يريد أن يكون صحيحاً، لا ينقصه شيء كالجميع، كامل أو شبه كامل كالجميع، وقابلاً لكل شيء، وأكثر من كل شيء”[2]، فاحتفظ الشاعرُ بذاكرة الصوت أو أشباحها، وظلَّ يستعيد الأغنيات بوصفها النغم المُستحيل.

       وأمام هذه الخزينة الصوتيَّة واللغويَّة، يتبينُ لأيّ قارئ في تجربة الشاعر: بساطة الألفاظ والصور والتراكيب ومحدوديَّة المُفردات، إذ تقوم قصائده على معجمهِ المُحاط بمهمومه، كنداءات الوَطن في ثوراته وحريَّاته، أو بكائهِ على هجرِ الحبيبة، ووحشة الوحدة، أو سخطه على قُبح العالم، ونستدلُّ بذلك أنّ الصُّم يمتازون بذخيرةٍ لغويَّة محدودة، وتتمركزُ ألفاظهم حول الملموس، وتظهر جملهم بشكلٍ أقصر وأقلّ تعقيداً[3]، وهذا الذي يتضح في تجربةِ الصالح، لكن معجمه يُعدُّ مُعجماً مُتطوراً ومُتشرّباً من التجربة الشعريَّة العربيَّة، وهو معجمٌ له حدوده اللغويَّة التي تعكس عالمه الشعريّ المسوَّر. في حين لا بُدَّ من آثارٍ تنعكس على تكوّن قصيدته بفعل الصمت الجبريّ الذي تعيشه ذاته الشاعرة، إذ يُفسر العالم الأنثروبولوجيّ «ديفيد لوبروتون» فجوة الصَّمت في قوله:”إنَّ عشيرة المعنى في شقها الأكبر عشيرة صوتيّة، وانفتاحٌ على صخب الحياة اليومية (..) الصممُ يُعدمُ بُعداً مُمكناً للواقع.”[4]

       يعبرُ الصوتُ جسورَ التواصلِ مع الذاتِ والعالمِ والذاكرة،  فتتمحورُ الأغنية في القصائد بوصفها الجوهر المفقود بعدَ جُرحِ الصَّمم، والحنين للصوتِ الجميلِ وطربهِ، لتجيء الأُغنيات في القصائد مؤسسةً جسرَ التواصلِ إلى عالم الأمس، أو حُلم الغد البعيد، وتظهر بوصفها الأمل والعلاج والسلام للحاضر البائس، يقول في ذلك:

“كنتُ أوزع الحب في القلوب
كما يوزعون الرصاص
كنتُ أنثر الأغاني في الطرق الجبلية
كما ينثرون الأنغام”[5]

       فالأغنيات هي مفردات الحب واللحظات السعيدة أمام بؤس الحروب ودمويتها، إذ يتضح أن أضداد الأغنية في معجم الشاعر هي الحروب وأسلحتها، وتتأكد هذه الثنائية في قوله للشاعر نزيه أبو عفش: “وإنك لكذلك / قريب كالحروب / وبعيد كالأغاني”[6]. لتخلق بذلك هذه المفردات هالتها الدلاليَّة كالسلب والإبادة والفناء (الحروب) والعطاء والنمو والديمومة (الأغاني). وقد ظلَّت مُفردة الأغنيات تظهر في القصائد محمّلةً بمعاني النور والأمل، وهي بكل أصدائها تُصارع القسوة والموت: 
“هل تذهبين إلى العشب؟
أم تذهبين إلى الحرب؟
كنا نسير وتثقبنا الطلقات
وكنا نسير نسير بدائرة قطرها ألف حزن
يداً بيد ونغني
يداً بيد ونموت”[7]

       إنَّ مشهد النهاية في الذهاب إلى الموتِ غناءً؛ يعكس صورةً من صور المُقاومةِ بسلاح الصوت الطروب، إذ تتحد في هذه النهاية المثاليَّة قوتان: قوة الموت وقوة الغناء. وتكمن الغرابة المُستمرَّة في استمساك الشاعر بسلاح الأغاني، السلاح الصوتيّ الذي لا يملك ذخائره، وهو يستمر بتوكيداته لهذا الحرمان من خلال تشبيه نفسه بقاعدة تُطلق الأغاني، يقول مخاطباً الحبيبة:

“ألا أبدو لكِ كقاعدة أرضية لإطلاق الأغاني على البشر فلماذا تنظرين إلي ببلاهة؟”[8]

       إن افترضنا أن أغنية الشاعر قصيدته، فهي قصيدة الأمل والحب التي تُضيء، ليكون هو الصوت الذي لا يستطيع قوله، لكنه يصل للبشرية جمعاء، وفي هذا التصوّر المثاليّ لما تخلقهُ الأغنياتُ من أثرٍ مُشرقٍ؛ تظهرُ في العديد من المشاهد بوصفها المهدئ والمُعالج، كقوله: “من سيغني لي أغنيةً في المساء لأنام / إذا وضعوا بين جفني صخرة مدبّبة؟”[9]، فتهويدات الطفولة – أو الحنين إلى تلك المرحلة الصوتيَّة – هي أقصى ما يرجوه المؤرَّق لإخماد أرقِهِ، لكنَّها أغنيات لا تصل، وسلوى يستحيل تحقيقها. في حين تلحُّ الأغنيات في معجمهِ، لتؤكّد معاني الأمان والحب والخير، فها هي يد الحبيبة التي تنطلق منها الأغنيات:

“لا تفتحي يدَكِ..لا تفتحي يدَكِ
فكلُّ أغاني العالم ستنطلقُ منها
لا تغلقي يدَكِ.. لا تغلقي يدَكِ
فكلُّ أغاني العالم ستلتجئ إليها”[10]

       إذ طالما ما ارتبطت اليد بالعطاء والاستقبال، وهي هنا في كلتا الحالتين تستقبلُ الأغنيات وتُطلِقها، تحتويها وفي الآن نفسهِ تمنحها الخَلاص، فقد صارت الأغنياتُ قرينة المُعجِزة، بكلِّ هذه المُستحيلات التي تنبثقُ من خلالها. وتصطفُّ الأغنيةُ بجانبِ النهر وصفائه، والنهار وبهائه، لتكون مكوّناً طبيعياً يُحسِّن من جودة الحياة، ويرتقي بالمرء إلى سَلامِه المأمول، يقول:
 “أمامي الكثير لأعطيه
وخلفي الكثير للمقابر
أمامي النهر ورائحة الصباح والأغاني”[11]
لكن هذه الأغنيات التي أصبحت رمزاً للجمال، يحلُّ بغيابها قَسوَة الوَحشة:
“فتحتُ النوافذ
لم يدخلها أحد
لا نهر، لا فراشة، لا أغنية تائهة”[12]

أو في قوله:
“لقد بدأنا نعرف ما معنى الزمن
عندما نعود إلى البيت وحيدين
متشابكي القلوب والأصابع
بدأنا نعرف ما تعني الصخور النائمة في البحر
الشمس النائمة في السماء
والأغاني النائمة في المقبرة”[13]
       وأمام سوداويَّة المعنى الذي يتحقق بغياب الأغنيات، نستجلي قيمة حضورها. فنوم الشمسِ يعني غياب الضوء، ونوم الأغنيات يعني غياب الأُنس والأَمان، وعلى الرغم من بساطةِ التشبيهات؛ إلا أنّ النصوص تصدحُ بمعاني فسيحة في وصفِ الحالة الوجوديَّة والإدراكيَّة للعالم ومكوناته، إذ أصبحت الأغنياتُ مادةً ملموسةً يتحققُ بها الوجود والمعنى.

       وعند فجوةِ الصَّمتِ الكبير، وافتقاد الشاعر لنغمة الأغنيات، تجيء قصائدهُ بِتكراراتٍ لافِتةٍ تولِّد إيقاعاً موسيقياً، يقول:
“السفر.. السفر.. السفر
هو ما أريد
الحرية.. الحرية.. الحرية
هي ما أطلب”[14]

       يجيء التكرارُ مُحمَّلاً بمدولاته الدلاليَّة، والصوتيَّة، فهو يُطالب، ويُشاكس ويَثور في سياقات مُختلفة، يقول: “بين يديك أيها العالم / أدور أدور أدور/ كدواليب الحظ”[15] وقوله: “أن أرقص وأرقص وأرقص / حتى تتعب الموسيقى”[16] ويجيء التكرارُ بوصفه إلحاحاً طفولياً: “ولكن قُل لي: هل تحبني؟ هل تحبني؟ هل تحبني؟”[17] أو كقوله مُخاطباً العالم: “وأقول تعال/ قبّلني قبّلني قبّلني/ قبّلني قبّلني قبّلني”[18]، ليخلق الشاعر بكلِّ هذه التكرارات الانفعاليَّة أغنيته التي يحلم بسماعها.

       وإن أعدنا التنقيب في بُعدِ الأغنياتِ في التجربةِ؛ سنجدها ممثلةً الحُلم المُستَحيل، الذي لشدَّةِ استحالتهِ تستمسكُ به النَّفسُ، وتعقِدُ عليه آمالها في السَّلام والحبِّ والشفاء والأُنس، إذ صارت الأغنياتُ – أو القصائد – هي مُعجِزة الشَّاعر الأصم، الذي يُبددُ كينونته الشعريَّة في نغمتها المُمكنة.

[1] إينانة الصالح، رياض الصالح الحسين وشِعريّة التفاصيل، مجلة العربي، الكويت، ع 699: https://alarabi.nccal.gov.kw/Home/Article/18971

[2] رياض الصالح الحسين، الأعمال الكاملة (1954 – 1982)، دار منشورات المتوسط، إيطاليا، ط2، 2021م، ص:8 (مقدمة الأعمال بقلم منذر المصري).

[3] يُنظر: تعليم الصم وضعاف السمع، جمال الخطيب، الشروق، الأردن، ط1، 2021م، ص:81

[4] دافيد لوبروطون، أنثروبولوجيا الحواس: العالم بمذاقات حسيّة، ترجمة: فريد الزاهي، المركز الثقافي للكتاب، الدار  البيضاء، المغرب، ط، 2020م، ص: 180

[5] الحسين، الأعمال الكاملة، ص: 87

[6] الأعمال الكاملة، ص: 125

[7] الأعمال الكاملة، ص:83

[8] الأعمال الكاملة، ص: 106

[9] الأعمال الكاملة، ص: 144

[10] الأعمال الكاملة، ص: 244

[11] الأعمال الكاملة، ص: 205

[12] الأعمال الكاملة، ص: 224

[13] الأعمال الكاملة، ص: 165

[14] الأعمال الكاملة، ص: 173

[15] الأعمال الكاملة، ص: 176

[16] الأعمال الكاملة، ص: 173

[17] الأعمال الكاملة، ص: 32

[18] الأعمال الكاملة، ص: 175

الشُّعراء الرُّحل | د. مراد القادري

د. مراد القادري

شاعر وباحث، رئيس بيت الشعر في المغرب.

مُنذُ فترةٍ غير قصيرة، شهِد الوسطُ الثقافي والأدبي العربي حَركةً لافتةً للنّظر، حتى لَيُمْكنُ أنْ نطلقَ عليها صِفة “الظاهِرة”، لأنها لم تَصْدُر عن فردٍ واحد، بل اقتفَى أثرَها عَددٌ من الأفراد، الذين اعتبرُوها سلوكًا عاديًا وضروريًا لبناءِ وضعِهم الأدبي وترتيبِ علاقتهم بذواتهم وبالآخر. أقصدُ بذلك ظاهرة ترحال الشُّعراء وهجرتهم الفرديّة والجماعيّة نحو الرواية.

تفاوتَتِ الرّدُود حول هذه الظاهرة، على أنَّ أغلبيتها نَحَت نحو استِـهجانـها، حيثُ اعتبرَتـها دليلاً وشهادةً تصدُرُ عن الشّعراء أنفسهم بانعِدام اليقين بالشّعروفُقْدانـهم الثّقة في ضرُورته وجَدْواه. 

ما سببُ هذه الهجرة؟ أهو ضِيقُ الشّعراء بالبيت الأوّل؛ البيت الذي خوَّل للعرب صِفة أمّة الشعر، البيت الذي ألِفَوا داخلَه ترتيبَ أبياتِ القصيد، ليصير ضاجًّا بالشّدْوِ والصّمت؟ أم أنّ الأمر لا يعدُو أنْ يكون رغبةً من الشّعراء في ارتياد أراضٍ جديدة، وانتحالِ هويّة نصّيّة مُغايرة، ومُصافحة ممارسةٍ إبداعية مختلفة قد تكونُ أقْدرَ على التّعبير عمّا فشل فيه الشّعر؟

 كيفما كان الجواب، فنحنُ أمام ظاهرةٍ لا يمكنُ نُكرانُها أو تجاهُلها، تعكسُ تراتبيةً يتخيّلُها البعضُ بين الشِّعر والرّواية، كأنّ بين الاثكة الشّعر، مُولِّين وجُوهَهم نحو الرّواية ومباهِـجِها الماديّة. 

يُديمُ هذا الصّنفُ من الشُّعراء التفكير في كيف يـُمكنُه أنْ يوظّفَ مُكتسباتِه الشِّعرية في صوْغٍ روائيٍّ وحِكائيٍّ، سواءٌ بالاغْـتـرافِ من سيرتِه الذاتية، أو بِاسترجاعِ يومياتِه ومُشاهداته الحياتيّة أو عبر توْظيفِ عناصر مقرُوئه المختلفة. المهمّ أنْ ينتسبَ إلى مملكة الرّواية، سيِّدة المقامات الأدبية. والأهمُّ هو أنْ تنجحَ روايتُه في بلُوغ اللائحة الطويلة أو القصيرة أو “المتوسّطة” لأيّ جائزة عربية أو عالمية، لتتوالى عقِب ذلك الحِوارات الصحفيّة، والكِتابات النّقدية والدّعوات لمعارض الكُتب شرقا وغربا.

من جهة أخرى، ثمّة شعراء عبروا من الشعر نحو الرواية دُون قرارٍ مُسبق، وبلا ترتيب سالف. عبورٌ لا واعٍ ومُنفلتٌ من التّصنيف، ومتملِّصٌ حتى من صفة الترحال، لأنّ هذا العبور يكفّ عن أن يكون هجرةً، مادام إقامةً في الشِّعر بصيغةٍ مُغايرة. بمـُوجِب هذا العبور، “انتقل” أصحابُه من الحالة الشّعرية إلى الحالة الرّوائية استجابةً لدعوةِ الكتابة ولا شيء غير الكـتابة، من دون أن يُغادروا مناطقهم الشعريّة. شُعراء غيرُ عابئين بالأسْلاك الشّائكة التي يتصوّرُها البعضُ قائمةً بين الأجناس الأدبية، فالكِتابة عندهم نـهـرٌ واحد، تتفرّعُ مجاريه وسواقيه، فيما يظلُّ منبعُه ومصبُّه واحدًا: إنّه الإبداعُ في اللحظة التي ينتصرُ فيها الأدبُ خارجَ منطقَ الأجناس. ضِمن هذه الخانة، يندرجُ عددٌ من الشُّعراء الذين استمرُّوا في ارتباطٍ عميقٍ بالشِّعر في كتابتهم السردية، مُحتفِظين برُوح الشّاعر داخلهم، مُلتصِقين في سردهم بالشّعْر، ورُوح الشّعْر، مُؤمنين بوحدة الكتابة، مُدركين، في ذات الوقت، للحدود الفاصلة بين الأجناس الأدبية، مُستفيدين من خِبرتهم في كِـتابة الشّعر في تقديم نصٍّ روائيّ له خصوصية جمالية وفنيّة. فالكتابة، عِند هذا الفريق، واحدةٌ، فيما التّعبيرات الفنيّة مُتنوّعة ومتباينة.

بهذا المعنى، تكونُ ظاهرة “تِرحال الشّعراء” متعدّدةَ الأسباب، ولا يمكنُ فهمُها إلا في ظلّ السياقات الثقافية والتدافُع الاجتماعي الذي يؤطّر المناخَ الأدبي في منطقتنا العربية، وباستحضار تبايُن النوايا التي تقف وراءها: نوايا بنفَسٍ جماليّ، وأخرى بنفَسٍ برغماتي. ولأنه لا يمكنُ لنا أنْ نُحاسبَ النوايا أو نُحاكمها، فإنّ مُحصّلة الكلام هو أنّ الحقل الأدبي العربي استفاد كثيرا من ظاهرنين خصومةً أو حربا، مالت كفّتـُها لصالح الرّواية. والحال أنّ نظرةً عابرة إلى حياتِنا الثقافية العربية تكفي لنكتشفَ أنَّ جَذْوَة الشعر ما زالت مُلتهبة، يصْعُبُ إخمادُها أو النَّيْلُ من شُعلتها. فعِلاوةً على وَفْرة الإنتاج الشّعري الذي تطالعُنا به يوميًّا دُور النّشر والمواقع الإليكترونية، ثمة ديناميّة ملحوظة نشهدُها، هنا وهناك، تتجسّدُ في انتظامِ مهرجانات الشّعر، وتواتُرِ الأماسي الشعرية بمختلف لغاتِ الكِتابة من فصيح ونبطي وشعبي، فضلًا عن ظهُورِ أصواتٍ شِعرية جديدة تتلمّسُ الانتسابَ إلى عالم القوْل المدهِش، لتُجدّدَ للشّعر رُوحَه وأنفاسَه وتُواصِلَ معه رحلة الحياة والإبداع. 

يبدُو لي أنّ ظاهرة “الشُّعراء الرُّحل” يجبُ أنْ ننظُر إليها تبعًا للخلفيات والنّوايا التي تُحركّ أصحابَها نحو خَوْضِ مُغامرة التِّرحال. فمن جهة، ثمة شُعراء هاجَروا من الشّعر إلى الرّواية عن سبْقِ إصرارٍ وترصّدٍ، بعد أنْ أغرتهم المكاسبُ التي باتت تحفُّ بالرّواية: لوائح طويلة، لوائح قصيرة، جوائز عريضة، مُواكبة نقدية وإعلامية، حقوق تأليف، عقود ترجمة، طلبيات معارض الكتُب، ارتفاع المبيعات…. كلّ ذلك حَفّز هؤلاء الشُّعراء على التّرحال من مملة عبور الشعراء نحو الكتابة السرديّة. عبورٌ يظلُّ حالة صحيّةً ومرغوبًا فيها، لأنها حقّقت التفاعل بين الأجناس الأدبية، وخاصّة بين الجنسين الأدبيين الأكثر استقطابا للكتابة: الشّعر والرواية، وهو ما يمكن رصدُه من خلال وجودِ روح الشّعر وصنعة الشاعر في عدد من الروايات العربية، حتى لتبدو كأنها مولودةٌ من رحم الشعر. 

* شاعر وباحث.

 رئيس بيت الشعر في المغرب.

جلسة أدبية في “دارة الشعر العربي ” بالفجيرة

الفجيرة في 19 يوليو/وام/ نظمت دارة الشعر العربي بالفجيرة جلسة أدبية شعرية بعنوان “أخبار وأشعار” حول شعراء العرب في الحجاز وشرق الجزيرة العربية.

استضافت الجلسة، الباحث في الأدب والشعر حمود الصاهود من المملكة العربية السعودية، والأديب والباحث الإماراتي أحمد محمد عبيد وتناولت قصص وأخبار شعراء العرب من مختلف مناطق الجزيرة العربية وعبر مختلف العصور وأبرز قصائدهم التي اشتهروا بها ومناسباتها.

وتحدث الباحثان عن ارتباط قصائد الشعراء بالمكان والعناصر البيئية والظواهر الاجتماعية المختلفة التي عايشها الإنسان العربي وتأثيرها على المفردات والصور الشعرية التي احتوتها قصائدهم.

حضر الجلسة جمع من الأدباء والشعراء والشباب والمهتمين من مختلف الأعمار بإمارات الدولة.

ولي عهد الفجيرة يشهد الأمسية الافتتاحية لدارة الشعر العربي

الفجيرة في 26 أبريل /وام/ أكد سمو الشيخ محمد بن حمد بن محمد الشرقي ولي عهد الفجيرة، مكانة الشعر في تاريخ الأدب العربي، ودوره الكبير في تجسيد مظاهر الحياة التي عاشها الإنسان في شبه الجزيرة العربية ورصد تحولاتها عبر العصور.

جاء ذلك خلال حضور سموه مساء أمس، الأمسية الشعرية الافتتاحية لدارة الشعر العربي في الفجيرة، بحضور سعادة الدكتور سلطان العميمي رئيس اتحاد كتاب وأدباء الإمارات.

وأشار سموه، إلى دعم وتوجيهات صاحب السمو الشيخ حمد بن محمد الشرقي عضو المجلس الأعلى حاكم الفجيرة، للمشاريع الثقافية التي ترتقي بقطاع الأدب والثقافة في الإمارة، وتعزز جهود دولة الإمارات في العمل الثقافي والإبداعي، وتحتفي بأصحاب المواهب في المساهمة ببناء الوطن، وتطوير دعائم نهضته الحضارية على جميع الأصعدة.

وتضمن برنامج الأمسية الافتتاحية الأولى لدارة الشعر العربي، عرضاً لفيلم قصير عن الدارة، وكلمة افتتاحية قدمتها سليمة المزروعي مدير الدارة، وأمسية شعرية بمشاركة الشاعرة روضة الحاج من جمهورية السودان، والشاعر حيدر العبد الله من المملكة العربية السعودية، والشاعرة أمل السهلاوي من دولة الإمارات.

ولفت سموه، إلى أهمية إبراز مختلف المدارس الشعرية في تاريخ الأدب العربي، والاهتمام بتقديمها والاحتفاء بها في المجتمع، ودعم الموهوبين على تعزيز قطاع الصناعات الإبداعية والمساهمة في دعمه وتطويره.

وكرم سمو ولي عهد الفجيرة، الشعراء الثلاثة المشاركين في الأمسية، مشيداً بأدائهم ومستوى مشاركاتهم في الأمسية.

وتأتي الأمسية الافتتاحية باكورة فعاليات دارة الشعر العربي في الفجيرة، التي تم إطلاقها بتوجيهات سمو ولي عهد الفجيرة مطلع فبراير الماضي، بهدف إحياء مكانة الشعر العربي كديوان العرب، وتسليط الضوء على كافة الأساليب الشعرية في تاريخ الشعر عبر العصور، والاحتفاء بالمواهب والشعراء التي تستهدف مختلف الفئات التي تستقطبها الدارة.

حضر الأمسية، سعادة الدكتور أحمد حمدان الزيودي مدير مكتب سمو ولي عهد الفجيرة، وصالحة غابش رئيس المكتب الثقافي والإعلامي بالمجلس الأعلى لشؤون الأسرة بالشارقة، وجمع من الشعراء والمثقفين.