الشعر ضد الجريمة.. كيف تغسل المهرجانات الشعرية العالمية أرواح المدن؟ | طارق الطيب

طارق الطيب

شاعر وكاتب - النمسا

في عام 2002، وكنت قد استقررت في فيينا منذ 18 سنة، وصلتني دعوة أدبية لحضور مهرجان شعري اسمه (مهرجان ستروجا الدولي للشعر). لم أعرف وقتها أين تقع ستروجا، ولم أسمع في ذاك الوقت باسم هذا المهرجان.

 

سوف أسرد هنا بعضًا من ملامح هذا المهرجان واثنين غيره وهما الأبرز، دون اللجوء إلى مقارنات بيننا في العالم العربي وبينهم، ودون وضع خلاصة للتجربة؛ فالحكاية وحدها كفيلة بالتأمل والتفكير، وربما التغيير إن أردنا.

 

عرفت أن “ستروجا” هذه مدينة تقع في شمال مقدونيا الشمالية، وأن فيها واحدًا من أقدم المهرجانات الشعرية العالمية، وأن الاسم الأصلي للمهرجان هو (أمسيات الشعر في ستروجا) الذي تأسس في ستروجا عام 1961، بمشاركة شعراء مقدونيين فقط. في عام 1963 سيتوسَّع ليشمل شعراء من جميع أنحاء جمهورية يوغوسلافيا الاتحادية الاشتراكية السابقة وبحلول عام 1966 سيتحوَّل الحدث إلى مهرجان ثقافي دولي.

 

أُنشِئت جائزة الإكليل الذهبي الدولية في العام نفسه، وكان روبرت روزديستفينسكي أول من فاز بها. في عام 2003، وبالتعاون الوثيق مع اليونسكو، أنشأ المهرجان جائزة دولية أخرى تُسمى “جُسور ستروجا”، لأفضل كتاب شعري أول لمؤلف شاب.

استضاف المهرجان قرابة 4000 شاعرًا ومترجمًا وكاتب مقال وناقدًا أدبيًا من قرابة 95 دولة حول العالم.

كذلك كرّم المهرجان بعضًا من أبرز الشخصيات الأدبية في العالم، بمن فيهم العديد من الحائزين على جائزة نوبل للآداب، مثل جوزيف برودسكي، وبابلو نيرودا، وشيموس هيني، وليوبولد سيدار سنغور، ويستن هيو أودن، وآلان جينسبيرج، وتوماس ترانسترومر الذي حالفني الحظ بالوجود معه في إحدى نسخ المهرجان في مقدونيا والتعرف عليه بشكل وثيق.

 

قلت سوف أجرب وألبي الدعوة ولنرى كيف هي هذه المهرجانات الشعرية. لأعرف أيضًا أن هذا المهرجان الأدبي الدولي يقام سنويًا ويستمر ستة أيام ويعد من بين أقدم وأكبر المهرجانات من نوعها في العالم إن لم يكن أقدمها.

 

وصلت إلى مطار مقدونيا فوجدت بعض الشعراء قد وصلوا قبلي وكان عليَّ أن أنتظر وصول بعض الشاعرات والشعراء الآخرين القادمين من دول مختلفة، ليقلّنا باص صغير به ما يقرب من عشرة شعراء متجهًا نحو فندق عتيق على نهر “درين”، ليستقبلنا مدير المهرجان آنذاك الشاعر المقدوني “بوجوميل جوزيل” الذي يجيد الفرنسية مرحِّبًا، إلى جواره شاعرات وشعراء يعرفنا على بعضنا البعض، مع مجموعة من مترجمات ومترجمين من الشباب الذين يجيدون بعض اللغات الأوروبية، من أجل مرافقة الشعراء طوال اليوم وإزالة معوقات اللغة وضبط مواعيد القراءات والندوات.

 

كان هذا هو المهرجان الأول لي خارج النمسا. الاحتفاء فيه بالشعراء فوق الخيال. رئيس الجمهورية هو الذي يفتتح هذا المهرجان الشعري العالمي بنفسه، ويُفتح المسـرح الكبير لاستقبال الناس مجانًا، دون حرس وأمن وتضييق وعصبية وخوف وجنون عظمة.

في يوم الافتتاح يُغلق الجسـر الرئيسي في المدينة، لتُنصَب عليه خشبة مسـرح كبيرة يقف عليها الشعراء للقراءة مساء ويقرأ ترجمة الشعر ممثلات وممثلون محترفون في الإلقاء. يخرج الناس بالمئات إلى ضفتي النهر للاحتفال بهذا الأسبوع الجميل وتمتلئ البحيرة بالقوارب الملونة والضفاف بالألوان المفرحة وينقل التلفزيون هذا الحفل على الهواء، وأعلام بلاد المشاركين ترفرف على الضفتين.

 

في الأيام التالية تتعدد القراءات في أمكنة كثيرة ويقام الطقس الاحتفالي المميز للشاعر ضيف الشرف بأن يزرع بنفسه شتلة شجرة لتنمو في حديقة الشعراء باسمه. هناك شجرة باسم أدونيس وأخرى باسم محمود درويش.

 

ومن الطرائف التي حدثت لي في زيارتي الأولى في 2002، هو اكتشافي وجود علم ضخم للسودان على ضفة نهر درين، استفسرت من الشاعر “بوجوميل جوزيل” المنظم إن كان بالمدينة مؤتمر سياسي يشارك فيه السودان، لأنني رأيت علمًا كبيرًا للسودان على الضفة. ضحك وقال لي: “إن هذا العلم لك بمناسبة مشاركتك في هذا المهرجان!”، وتابع ضاحكًا: “لقد تعبنا من أجل إيجاد علم لك، وقد أنجزوه لنا سريعًا وخصيصًا من أجلك!”.

 

من تقليدهم السنوي أيضًا في هذا المهرجان هو نشر سبعة دواوين مترجمة إلى اللغة المقدونية؛ كتاب لشاعر من كل قارة من القارات السبع. وقد حالفني الحظ في 2005 بأن يكون لي ديوان حمل عنوان (حجر أكبر من السماء) من ترجمة الشاعر الكبير “جوزيل”.

استضاف رئيس الجمهورية الشعراء السبعة وقدم لنا مشروبًا احتفاليًا احتفاءً بنا في جو حميمي لطيف ودردشة بلا أبهة ومبالغات.

 

* * * * *

في أكتوبر من العام الماضي 2024، دُعيتُ للمرة الثانية إلى مهرجان كوستاريكا الدولي للشعر. الدعوة الأولى كانت في 2014. بين هذين المهرجانين على مدى ما يقرب من ربع قرن دُعيت إلى أكثر من خمسين مهرجان ولقاء حول العالم، تستحق حديثًا موسعًا لا يناسبه المكان.

 

من فضائل مهرجان كوستاريكا أنهم ينشرون ديوانًا مترجمًا إلى اللغة الإسبانية لكل كاتب أجنبي مدعو. وأتذكر أنه من أجمل اللفتات في دعوتي الأولى قبل عشر سنوات، أن من استقبلني في مطار سان خوسيه كان مدير المهرجان بنفسه الشاعر “نوربرتو سالينا”. كنت قد سألته قبل السفر عمَّن سيقلني من المطار، كتب لي: “من سيحضر إليك سيرفع غلاف كتابك عاليًا لتتعرف عليه!” وكانوا قد أرسلوا لي صورة غلاف ديواني قبل وصولي.

الطريف أيضًا أنني لم أنتبه أن من رفع غلاف الديوان في المطار هو مدير المهرجان نفسه، ولم أكن أعرف صورته. حضر بصورة عادية وتواضع كبير ونقلني بسيارته الخاصة الصغيرة.

 

يبدأ الافتتاح عادة في المسرح الكبير وفي الأيام التالية إلى الجامعة، ثم نتوزع في مجموعات صغيرة على عدة مناطق كعادة البرنامج، لزيارة المدارس في عدد كبير من المحافظات في معظم أنحاء البلاد.

في عام 2014 كان من حظي أن أزور منطقة رائعة مرتفعة وسط الغابات اسمها “مونتيفيرده”. كنت بصحبة سيدة فنانة ومنظمة مرافقة تتحدث الإنجليزية ومعنا مصور محترف. هناك زرت ثلاث مدارس نهارًا وقمت مساءً بلقائين مع الكتاب الكبار في المنطقة، وقد تبرعت سيدة محبة للأدب والفن بإقامتي هناك لثلاثة أيام في بيت جميل منفصل وسط الغابات.

 

في العام الماضي 2024 قام مدير المهرجان “نوربرتو سالينا” بعمل مسابقات في مدارس الدولة جميعها قبل المهرجان، ليختار أكثر من سبعين شاعرة وشاعرًا أقل من 18 سنة وينشر لهم أنطولوجيا شعرية ضخمة بصورهم وأشعارهم. شاركونا على المسارح وفي المدارس بإلقاء شعرهم الجميل.

يتضمن البرنامج زيارة لأجمل مناطق كوستاريكا في منطقة “تورتوجيرو” العظيمة على البحر الكاريبي لثلاثة أيام، بدعوة دائمة من مدير المنتجع، للشاعرات والشعراء الشابات والشباب الفائزين في الأنطولوجيا صحبة أمهاتهم. وتمضي الأيام في قراءات ونقاشات ورحلات ورؤية أجمل أمكنة الطبيعة على الإطلاق.

 

أيضًا من أجمل ما رأيت في دعوتي الأولى لمهرجان كوستاريكا العالمي للشعر في 2014 هو توزيع مقتطفات من أشعار الكتاب في بوسترات كبيرة ملصقة على محطات الباصات العمومية في المدينة تصحبها رسومات لفنانين، ومن يقف في انتظار الباص سوف يقرأ بعض الأشعار لواحد منا مزينة باسمه، وهو إعلان ذكي في الوقت نفسه عن المهرجان الموجود في البلاد.

 

* * * * *

 

من المهرجانات الملفتة عالميًا، مهرجان “ميديين” للشعر في كولومبيا. هو واحد من أعرق وأكبر المهرجانات العالمية، يرأسه الشاعر الكبير “فرناندو ريندون” ومن تنسيق “لويس إدواردو ريندون.

في مدينة “مديين” الكولومبية تجلى مثالٌ حيّ لانتصار الشعر وترويضه لمجتمع عاش عقودًا ضحية للعنف والجريمة إلى أن اكتسبت المدينة نفسها اليوم، بعد 35 عامًا من تأسيس المهرجان الدولي للشعر، روحًا أخرى وتغيرت صورتها النمطية في الأذهان.

 

المهرجان الدولي للشعر في ميديين يقام في مدينة ميديين، وهي ثاني أكبر مدينة في كولومبيا بعد العاصمة بوجوتا. تأسس هذا المهرجان في العام 1991 في تلك المدينة التي اشتهرت لأعوام طويلة بالعنف وبالارتفاع الكبير في معدل الجريمة، وبوجود أشهر كارتل للمخدرات في العالم ظهر عام 1976 من قِبَل بابلو اسكوبار، عُرِف باسم “كارتل ميديين”؛ فظلت المدينة تحت وطأة إرهاب داخلي وزعزعة استقرار. في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات ظهرت العصابات الاجرامية في الأحياء الشعبية ونشط القتلة المرتزقة وانتشـرت عمليات الاختطاف وقتل القضاة والسياسيين وتحولت المدينة لفوضى وخطر.

كانت وفاة بابلو إسكوبار في العام 1993 بمثابة نهاية كارتل ميديين الذي سبَّب آثارًا جانبية امتدت لسنوات من نزوح ولجوء وعدم استقرار، لذا أتى مهرجان ميديين الشعري بفكرة بديلة لهذا الاضطراب والفوضى والعنف؛ تلك السمات التي أساءت لسمعة المدينة لزمن طويل، فأسس الشاعر المعروف فرناندو ريندون هذا المهرجان الذي أصبح من أهم المهرجانات في العالم وأوسعها صيتًا.

حصل المهرجان على جائزة (الحق في العيش) بعد 15 عامًا من تأسيسه، وهي الجائزة المخصصة لتكريم ودعم هؤلاء الذين يقدمون حلولًا عملية ومثالية للتحديات الأكثر إلحاحًا التي تواجهنا اليوم، مؤكدًا أنه عن طريق الفن والشعر وحرية التعبير، يمكن للمجتمع أن يتغير إيجابيًا ويزيل الكثير من الخوف والعنف الراسخ في عمق المجتمع، وتحولت ميديين تدريجيًا لتحمل اسم “مدينة الربيع الأبدي”، مثلما تحمل اسمًا آخرَ جميلًا هو “عاصمة الجبال”.

 

 

حضرت مهرجانين تاليين عبر زووم في فترة الكورونا، وفي المهرجان الثالث والثلاثين سافرت للمرة الثانية بدعوة رسمية، وشارك فيه 90 شاعرة وشاعر من 54 دولة.

الملفت في هذه المهرجانات أن صبغة العالمية تنطبق عليها بالفعل وأن الحضور الجماهيري خيالي بالفعل بعدده الضخم جدًا. وبالإضافة للقراءة هناك على مسارح كبيرة يتم توزيع الشعراء في مجموعات صغيرة للطواف في أنحاء البلاد للقراءة أيضًا ضمن شعراء المناطق التي يصلون إليها.

يستمر مهرجان “ميديين” للشعر في كولومبيا لمدة أسبوع. يأتي إليه الجمهور بالآلاف ليستمع إلى الشعراء في “حديقة الأمنيات”، وهو المكان الذي ينطلق منه الافتتاح ويكون فيه الختام. الشباب هم غالبة الحاضرين.

جمهور كولومبيا يعشق الشعر، تربى عليه ويتذوقه ويتفاعل معه ومع كل الأصوات واللغات التي تأتي من كل أنحاء الأرض. يجلسون لساعات طويلة منصتين ثم منتظرين توقيع الشعراء على الأنطولوجيا السنوية الفخمة المطبوعة على ورق مصقول ملون في نحو 340 صفحة، جهزها المهرجان بالسِيَر الذاتية والقصائد بالإسبانية والإنجليزية.

 

ليس هناك أي خصوصية لشعر دولة أو منطقة في هذا المهرجان، الشعر هناك هو صوت كل العالم، بل بالعكس فالشعر هنا يذيب أي فوارق حدودية أو جغرافية أو إثنية. صحيح أن الشعراء يمثلون بلادهم، لكن الشعر هو بطل الموقف والزمان والمكان. الجملة الشعرية هي الفاصلة وهي المعنى والمراد. البعض يتحصن بنكوص أدبي وفني ويظن أن هذه هي الوطنية الحقة، لكن الوطنية تكمن في إثبات إنسانية التواصل ورقيّ الاندماج. بعدها سيسألك الناس من أين أنت؟

 

(ريف شمال النمسا، 2025-03-27)

 

 

 

 

 

تهمة «ازدراء أدونيس»! | الطيب الحصني

الطيب الحصني

كاتب ومترجم سوري

منذ فترة، انتقد صديق شاعرٌ تجربةَ أدونيس على منبرٍ ثقافيٍّ انتقادًا شاملًا، بما يمليه عليه توجهه التراثي التقليدي. فانبرى في الأيام التالية شاعرٌ آخر بالردِّ عليه، فابتدأ بتوضيح مفاسد قوله، وخطورة معتقده وفكره على المجتمع، ثم أكمل ينتقدُ طريقة اكتسابه رزقَه، ولم يتوقف للأسف عند أهله وأولاده. كَبُرَ الأمرُ… قلتُ يومها للأول مازحًا: “إذا أدخلتك هذه المشكلة السجن فستكون أول من يسجنُ بتهمة ازدراء أدونيس”.

إن التعصب الغاضب الذي يبدر من مُحبِّي أدونيس شعرًا والمتفقين معه فكرًا -فلنسمِّهم الأدونيسيين- حين يعارض أحد من الناس شيئًا من آرائه أو شعره، ظاهرةٌ تستحق التأمل، وهي ظاهرةٌ يمكننا أن نجد أساسَها على لسان أدونيس نفسه في غير موضع، لعلَّ أوضحها إجابته عام 2021 على سؤالٍ حول قيمة شعره في العالم العربي: “…فهذه الثقافة [العربية] لا تزال في جوهرها كما أرى دينية (فقهية – شرعية، على الأخص)، نظرةً وممارسةً. وهذا […] يجعلها كذلك ضد المعرفة، وضد الإنسان، وضد الحياة ذاتها. وهكذا أشقُّ العرب إلى قسمين، فبعضهم إلى جانبي في هذه النظرة، وهم القلَّة. وانطلاقًا منها يرون أن شعري وفكري يمثلان ذروة الشعر والفكر في اللغة العربية، ولا مثيل لها في تاريخ الإبداع العربي وبخاصة الحديث. أقول هؤلاء قلة، ولكنهم القلة الخلَّاقة الرائية”.

 

وهكذا، وفقَ رؤية أدونيس والأدونيسيين، نجدُ أنفسنا أمام ثياب الملك القديمة/الجديدة: فإنْ استطاعت ذائقة المرء استيعاب أن “ذروة الشعر والفكر” هي عند أدونيس، تلك الذروة التي “لا مثيل لها“، فقد حُقَّ للمرء الانتماءُ إلى “القلّة الخلاقة الرائية” والدخولُ في عهدها؛ وأما منْ عجِزتْ ذائقته عن إدراكِ تلك “الذروة” فهو إذن من الأكثرية الدهماء آنفة الذكر، أي: تلك التي هي “ضد المعرفة، وضد الإنسان، وضد الحياة ذاتها“.

 

لا حاجة بنا إلى التنبيه إلى سوء هذا التحزُّب، فضلًا عن طرافة أن يجعل أيُّ إنسانٍ الإعجاب بأعماله شخصيًّا هو المعيار في الرؤية الخلَّاقة.

من المؤكد أنني لن أحاول في هذا المقال القصير الاشتباك مع فكر أدونيس كله، بل أريد أن أشير فيه إلى بضعة أمثلة بارزة من أفكاره، أمثلةٍ جعلتني أضعُ الكتاب جانبًا وأسأل: لِمَ أقرأ هذا الكلام؟ أي فائدة تُجنَى منه؟ وهدفي من المقال توضيحُ أنه من الوارد، ضمن عالم الممكنات، أن يزدري الإنسان أفكار أدونيس من دون أن يكون “ضد المعرفة، وضد الإنسان، وضد الحياة ذاتها”.

 

أولُ الإشكالات، ولعلَّه جوهريُّ فيها، هو إحالةُ أدونيس ظواهر شعرية معقدة برمَّتِها إلى التنوع الثقافي-التاريخي، متجاهلًا كونَ جزء منها يرجع إلى طبيعة الإنسان. تأمَّل قوله –في سياق تقليله من أهمية الأوزان الخليليّة- إنَّ: “الوزن/القافية عملٌ تنظيري لاحقٌ لتشكيل شعريٍّ سابق“.

في الواقع، الوزن/القافية ليس عملًا تنظيريًّا من الأصل، حتى يكون لاحقًا لـ”شكلٍ شعري” يسبقه. بل العكس صحيح: إنَّ التزام الوزنِ سبَّاقٌ على العمل التنظيري من جهتين مختلفتين، مهمّتين بالقدر ذاته:

 

الأولى تاريخيةٌ: لقد سبقَ الالتزامُ الدقيق بأوزان البحور وقوافيها كلَّ الجهود التنظيرية التي جاءت بعده، والتزاماتُ الجاهليين بالوزن والقافية بالغة الصرامة، مثلَ التزامهم سلامة عَروض البسيط، وتفعيلته الثالثة من كل شطر، من الزحاف. ولو بحثتَ عن الأبيات التي خرجوا فيها عن هذه (القاعدة) لوجدت أن نسبتها أقل من 1%؛ إنَّ مثل هذه الالتزامات الصارمة –وأمثالها كثير- ليست “تشكيلًا شعريًّا”، بل هي التزامٌ بالوزن/القافية سبقَ التنظير بقرنين على الأقل.

 

الثانية طبيعية: إن جزءًا ما من الوزن سبّاقٌ لا على التنظير وحسب، بل على الثقافة ككل، لأن المزامنة الإيقاعية (“Entrainment”) ثابتٌ بيولوجيٌّ كونيٌّ في الإنسان؛ وتقطيعُ الأصوات إلى أقسام متساوية متكررة –في الموسيقى والشعر على حد سواء- ليس اختراعًا ثقافيًّا اخترعه أحد الشعوب القديمة ثم انتشر في القارات مثل السلعة (أو بتعبير أدونيس هو “عملٌ بارعٌ […] ربما يزول، وذلك بحسب التطور ومقتضياته”)، بل هو غريزة ثابتة لا تزول، يمارسها حتى الأطفال الذين لم يبلغوا سن الدراسة. وهو حقيقيٌّ على نحوٍ خاص في الشعر الخليليّ لأنه مبنيٌّ على الزمن الإيقاعي، لا على النَّبْر. حريٌّ بنا، إذن، ونحن ننظر إلى بِنْيَة بيت الشعر الخليليّ، ونقرُّ بأن جزءًا كبيرًا من التزامات هذه البنية تاريخيٌّ متعلق بالثقافة التي نشأت فيها، أن ننتبه إلى أن في بنيَتِه أيضًا ما يتسامى فوق الثقافيَّ نحو الكونيّ والفطري.

 

إذا ما وضعنا جانبًا كل العنفوان والإجلال الذي نحمله في داخلنا نحو الشعر العربي (كي لا نُتهم بأننا ذوو “عقلية دينية-فقهية-شرعية مضادة للحياة والإنسان)، ووضعنا جانبًا، أيضًا، الاعتراضات التي أوردتها توًّا، فلنا على الأقل أن نسأل: أي فائدة نجنيها من إحالة الطبيعة والثقافة إلى “عملٍ تنظيري”؟ وأي قيمةٍ نجنيها من إعلاء أدونيس شأنَ “الحالة” و”التخييل” و”المجاز التعبيري”؟ وجعلها أشياء أكثر شاعريَّة من “الواقع” و”المفهوم”؟ فإن الإنسان لا يلقى جوابًا، أو يجد جوابًا يسوؤه. يقول:

“اللسانُ، لا الواقع، هو المادة المباشرة في عمل الشاعر. باللسان وفيه، يرى العالم وشكله. هذه الممارسة المادية للسان تفرض عليه أن يكون عارفًا المعرفة العليا به، ومتقنًا الإتقان الأكبر لتاريخية الكلام الشعري، ولكيفية الكتابة شعريًّا. فإذا كان الإنسانُ حيوانًا ناطقًا، فإن الأكثر معرفةً باللسان هو الأكثر إنسانية…”.

يمثِّلُ هذا المقطع خيرَ تمثيل لما هو منفِّرٌ في فكر أدونيس، إن أدونيس يفرضُ على الشاعر أن يكون عارفًا المعرفة العليا باللسان الذي يكتب به، لكنَّ عالمنا العربي –والعالم الغربي أيضًا!- يضجُّ بالشعراء (الفصيحين والعاميين) الذين ينبغون في بيئات لا تقدم لهم إمكانية تلك “المعرفة العليا” ولا “الإتقان الأكبر لتاريخية الكلام الشعري“، لكنهم يقولون من الشعر أعذبه وأنقاه.

يَظهرُ بؤس هذه الفكرة في المنطق التقريري الأخير الذي يجعل الأكثر معرفة باللسان هو الأكثر إنسانية، بحجة تعريف الإنسان بأنه حيوان ناطق.

لو نظرت في هذا القول من حيثُ شكله المنطقي، أقصدُ من دون النظر في معناه، لوجدته فاسدًا منطقيًّا، لأنه: إذا كان النبيذ شرابًا كحوليًّا، فإن النبيذ الأكثر كحولًا ليس أكثر “نبيذيَّةً” من غيره، بل يتحول إلى مطهِّرٍ للأيدي في أفضل الأحوال. فإن تجاوزتَ عن فسادِ حجة المنطق ونظرتَ في النتيجة التي يصل إليها الكلام في حد ذاتها، وَجَدْتها أكثر فسادًا.

إن القول بأن “الأكثر معرفة باللسان هو الأكثر إنسانية” يقتضي، مثلًا، أن أهلنا في سوريا الذين قضوا عقدًا في المخيمات (بلا مدارس أو أي ظاهرة من ظواهر العيش الآدمي) هم أقلُّ إنسانية من نظرائهم الأسعد حظًّا الذين نهلوا “المعرفة العليا” وأتقنوا “تاريخية الكلام الشعري“. كما يقتضي ذلك أيضًا أن العبيد الأفارقة في الولايات كانوا أقل إنسانيًّة من مستعبديهم، كيف لا وأجيال العبيد فقدت سريعًا معظم صلتها بلسانها الأصلي –لأن مستعبيدهم كانوا لا يتركون من ينطقون بلغة إفريقية واحدة يجتمعون في مجموعة عمل واحدة، خوفًا من تمردهم- ثم همُ لمّا يتعلموا من الإنجليزية شيئًا كافيًا بعد، أقصدُ لم يحصلوا على “المعرفة العليا” باللسان.

 

من البديهي أن هذا كله فاسد، وأن الشاعر (أدونيس أو غيره) لا يزيد إنسانيةً مقدار شعرة على أم تُغَنِّي لابنها تهويدةً كي ينام في الخيمة، بل الأرجح أن ينقُص؛ هذه الفكرة لا يُقِرُّها مؤدِّبٌ أصلًا، فضلًا عن أديب، ولا أظنها جاءت على قلم أدونيس إلا كما يحصل مع كافة أهل الفنون من النرجسية، حيثُ يحدِّثُك الرسام عن أن الأحذقَ بصرًا هو الأعمق بصيرةً، ويرى العازف أن الأدرى بقفلات مقام الصبا هو الأكثر رومنسية، إلى آخر مثل هذا الكلام الذي يمدح به أهل المهن أنفسهم.

 

هذه الفكرة وما يشابهها عند أدونيس مثل ازدرائه للقرَّاء (غير الخلَّاقين والرائين منهم) حين يعتبر أن “الجمهور أكبر أكذوبة فنية” وأنه “ليس له معنى”… هذا الأفكار كلها نهايات منطقية لإقصاء الشعر تمامًا عن فطرته وإحالته إلى “التاريخي” و”الثقافي”، أي: إحالة تقييم الشاعر إلى الآليات المؤسساتية، شرقية كانت أم غربية. وينتهي الأمر بنا هنا إلى سؤال نتمنى أن يكون عادلًا ومشروعًا ومؤدَّبًا: ألا يحقُّ لهذا الجمهور الذي يراهُ أدونيس “أكبر أكذوبة فنية في التاريخ” و”لا معنى له” أن يرى هو أيضًا أنَّ أدونيس “أكذوبة” و”لا معنى له”… من دون أنْ يُحاكَمَ بتهمة «ازدراء أدونيس»؟!

حبيب الصايغ.. رَسَمَ وجْهَهُ فتشَكَّل العالم! | شعبان البوقي

شعبان البوقي

شاعر وكاتب مصري

يتساءل الكاتب والشاعر الأرجنتيني الشهير خورخي لويس بورخيس:

“ما هو الزمن؟! إنه النهر الذي ينفلت مني.. لكنني أنا النهر! إنه نمرٌ يفترسني.. لكنني أنا النمر! إنه النار التي تلتهمني.. لكنني أنا النار! العالم -للأسف- هو أنا.. العالم هو بورخيس”.

بعد كل هذه التجربة الممتدة والعميقة يكتشف بورخيس صدمته، ويصدمنا جميعًا معه، بأن العالم الذي حاول رصده وتفسيره ما هو إلا بورخيس ذاته، وها هو يُصرِّح في كتابه الخالق قائلًا: “في آخر صفحات الكتاب تحدَّثتُ عن رجل يحاول أن يرسم صورة للكون.. ولكنه اكتشف في لحظة موته أنه رسم وجهه هو!”.

هذه الحقيقة التي بدت له وصدمته بعد كل هذا العناء؛ فطن لها شاعر العربية الكبير حبيب الصايغ منذ بداياته مع الشعر، حين أدرك أن الذات المفردة وفهمها هما السبيل الأقدر للخلْق الشعري وصياغة العالم لينطلق من الذات ودواخلها إلى الخارج. حيث المفرد هو المجموع في حقيقته، لنجد أن تجربته الشعرية ذاتيةً انطلقت من تفرُّدها لترسم لنا عالمًا مدهشًا صاغه برؤاه الفلسفية النابعة من الداخل والمكنون فيه.

ربما كان هذا المنحى هو السبب الأكثر موضوعية لمجايليه من المبدعين والنقاد حين وصفوه بالغموض والإبهام. هذا المفرد الذي انطلق منه “الصايغ” لتشكيل عالمه الشعري بدا لنا منذ أن قدم أول ديوان له وهو (هنا بار بني عَبْس) في عام 1980 تلك القصيدة الطويلة التي تتناول سيرة عنترة بن شداد محتفيةً بالهم الفردي والبحث عن الحرية الشخصية كمنطلق لتحرير العالم بكامله لا العكس. فهو لا يكتب عن فارس مقهور من منظور البطولة بل يعيد قراءة عنترة قراءة مغايرة تنظر إليه من خلال احتفائه بذاته والبحث عن حريته ومجده الشخصي الذي لا يعير انتباهًا لباقي العبيد كما يقول “الصايغ”. إن هذا المنحى الفلسفي لفهم حرية الإنسان التي تبدأ من تحريره لذاته وإعلائها لبناء الكون كان حاضرًا في شعر حبيب الصايغ طوال تجربته وكأنه يقول لقارئه: “أنا العالم.. ستكتشفه باكتشافي” وربما كانت تلك النزعة الوحدوية عنده نتيجة موضوعية لمتصوف اعتمد النظرة العميقة للنفس وعوالجها وبواطنها منظارًا دقيقًا لتفسير العالم ونواة لتكوين الوجود الشعري الخاص به.

فها هو يؤكد على نظرته الأولى وفلسفته بديوانه الثاني الذي نشره عام 1981 ويعلنها بعنوان مُبين أسماه “التصريح الأخير للناطق باسم نفسه” وهنا يؤكد بما لا يدع مجالًا للريبة أنه قادم للخلْق الشعري من منطلق الحديث عن نفسه هو، حيث تفرُّده وحده القادر على حمل الشعر وطنًا للإنسانية، رافضًا الاستيراد من الخارج للتعبير والمحاكاة عنه، حيث ذاته هي العبور للمطلق الرحب. وحبيب الصايغ هنا يضع لنا قاعدة رئيسية للإبداع وهي أن الخلق عند الشاعر يبدأ من ذاتيته؛ فهو الراصد لهمسها ليستمع لهمس الكون من حوله، وهو المنكفئ عليها ليجعلها قاربًا يعبر به من أراد الإبحار في الفن. فها هو يصرح عن ديوانه الأول قائلًا: “وفي إحدى الليالى كنت أكتب فى القصيدة، وجاءت فى خاطرى الجملة الشعرية «تُشاغِلُني البِيدُ فى ذروةِ الوحدةِ العاقلة» فوجدت أن هذه الجملة هى مطلع القصيدة وأن ما كتبته خلال العامين السابقين يجب أن ألقيه فى سلة القمامة”.([i])

لقد فطن أن ذروة الوحدة العاقلة هي المسلك الحقيقي لفهم الإنسان، مقررًا أن يلقي كل ما سبق في سلة المهملات ليبدأ رحلة القبض على حقيقة فهم الإنسان والشعر.

تلك النظرة الفلسفية والحقيقة التي أدركها “الصايغ” جعلتنا نطالع شاعرًا رائدًا قديرًا من أعمدة الحداثة في الشعر العربي، وهنا لا أريد أن أقول الإماراتي وحسب، فهذا التصنيف قد يمنحه فخرَ الموطن العظيم، لكنه قد يسلبه حقَّهُ في مشهد القصيدة العربية التي كان واحدًا من فرسانها المجدِّدين والمجرِّبين بها تجريبًا لا يحتفي بالتمرد على شكل مُعين ولكنه تجريب ينطلق من التفرد في النظرة والمجاز الذي ينطلق دائمَا من نفس وحيدة متأملة تقدم رؤيتها للعالم، خالقةً لا معبرةً، فهو الذي يقول عن نفسه : “أنا متفرد” وهنا لم يكن مغرورًا أو متعاليًا، لكن القراءة الموضوعية المتفحِّصَة في منجزه الشعري ستجد خلَّاقا قادرًا على الدهشة والقبض على رؤى ومعانٍ ونوايا متفردة، طارحًا فلسفة شعرية مغايرة من زاوية بعيدة وخاصة لا يشبهه فيها أحد ولم يتشبَّه فيها بأحد.

فعلى سبيل الشكل استطاع أن يكتب القصيدة العمودية والتفعيلية وقصيدة النثر، مصرِّحًا بأنه لا يرفض شكلًا بعينه ولا ينتصر لجنة بعينها حيث يقول: “كتابة الشعر ليست «لعبة»، لذلك أحاول أن أكون جديدًا وأن أقول ما لم يقله أي أحد قبلي، ولا يمكن أن يقوله أحد غيري، وأن يكون هناك تجريب دائم وشكل جديد ومضمون جديد، لذلك أنا أكتب الأشكال الشعرية الثلاثة القصيدة العمودية، وقصيدة التفعيلة، وقصيدة النثر، وهذا مهم ففي رأيي ليس هناك شكل شعرى يقوم بإلغاء شكل آخر”([ii]).

هذا الفهم جعل حبيب الصايغ لا يقدس الإطارات لكنه يسعى للنفاذ لجوهر الشعر، الذي هو ذاتي لا يقبل عنده أن تشوبه شائبة ابتلاع طُعْم الآخرين، فهو يطرح نفسه بأسئلتها وبحيرتها وبأحزانها وتأملاتها الخاصة لينطلق من داخلها لصوغ عالمه الرحب الفَتَّان، فأسئلته شجرُ الآخرين، وهو الذي رسَمَتْهُ البيدُ، وركضت نحوه السواحل، وأبصر مالا يراه غيره.. بل إن رثاءه وموته انتهاء للحضارات.

“أؤسِّسُ أسئلتي في الفراغِ،

فيستدرجُ الشكلُ ظِلِّي إلى وحشَةِ الحُبِّ

أدفن أسئلتي في حديقة بيتي،

فيطلعها صاحبي شجرًا

لا سماءَ سوى ما انتهى

فَدَعيني أقلْ ما أشاءْ

مرةً، حين داهمني الموتُ

أبصرتُ ما لا يُرى

وحيدٌ أنا

ضائعٌ كالفصولِ الشريدةِ

إنَّ الرثاءَ انتهاءُ الحضاراتِ

فلتَرْبِطوني إلى شاهدِ القبرِ كي ما أُغَنِّي!

وحيدٌ أنا

البِيدُ حَوْلي ترْسمُني من جديدٍ

وتركضُ نحوي السواحل».

لقد آمَنَ حبيب الصايغ أن التفرد هو السبيل الأوحد ليُتَوِّجَهُ الكونُ شاعرًا، حين قال: “لولا شعوري، بل يقيني بأنني متفرد؛ لما نشرتُ شعرًا ولما قلتُ إني شاعر. في الشعر لا توجد منطقة وسطى.. إما أن تكون شاعرًا متفردًا وإما لا تكون”([iii]).

إن سيطرة الأنا على شعر حبيب الصايغ لم تكن من قبيل النرجسية، لكنها المرآة التي يجب أن ينظر فيها الكون والشعر ليجد نفسه. بل إن الموت عند حبيب الصايغ أضعف من محو الإنسان والفنان، فهو يدركه ويتصالح معه ويتحداه ويراه.. قبل أن يأخذ حبيبًا في غياهِبِه البعيدة. وفي هذا يقول: “الكتابة تمرينٌ على الموت، أنا أتوقَّع أنني سأموت فجأةً في يومٍ من الأيام، وهذا تمرينٌ على الموت،  فالكتابة كالحُب تمامًا”([iv]).

 “لا يُناسِبُني أيُّ شيءْ

لا يُناسِبُني الغزَلُ الصِّرْفُ هذا المساء

ولا أدَّعي أنني عاشقٌ..

يُعرَف العاشقونَ

بأسمائهم واحدًا واحدًا

وأنا لا يُناسبني أيُّ شيء

ولستُ أنا، غير أنِّي انتظرتُ بهاءَكِ

منذُ ازدحامِ سمائي ببرقِكِ

منذُ اكتمالِ دمي

في مرايايَ

أو تَعَبي في خلاياي

يا أنايَ البعيدةَ فيَّ

ولا ألتقيكِ لأنكِ أقربُ مِنِّي إليَّ”([v]).

وليس من دليل على قهرِهِ للموت أوضح من ديوانه الخالد “أُسَمِّي الرَّدَى ولدي”، الذي قدَّم فيه رؤية فنان تغلب على الموت واحتواه فكان ابنه، لأن مقامه أكبر منه في رحاب الخلود، فهو المُصِرُّ على نسب الموت له، وكأنه هو أبوه ومن أتى به للكون، وهذا أكبر دليل على احتفائه بذاته في شعره.

“كذلك قالَ العدم

فانثنيتُ إلى الخُلْدِ عَلِّي أُقاوِم فيهِ فُضُولي

وأقنَع بالنومِ أو بالقراءةِ أو بالندمْ

أو باختراعِ الأباطيلِ

أو صُحْبةِ الأُسْدِ في الغابِ

أو بمحاورةِ امرأةٍ سبَقَتْني إلى الغيبِ والجَوُّ صَحْوٌ ومنتَشِرٌ

في نواحي الأبدْ

وبالموت…

حتى إلى الخُلْدِ تلحَقُني يا ابتدائي

أردتُ أقول: وحتى إلى الخُلْدِ تَلْحَقُني يا وَلَد؟!”.

لم يكن حبيب الصايغ بعيدًا عن هَمِّ أمته وحضارته ووطنه، لكن الوطن والأمة والأماكن عنده تخضع لقوانين الذات والتصاقها بها وفهمها من الداخل واستخلاصها من أعماق النفس؛ لا رصدها والتعبير عنها كآثار وطرق سلكها قبله الآخرون يتلمسها أو يرسمها ويحاكيها.. بل يخلقها على عينِه وينفخ فيها من روحه الشاعرة، فتراها مغايرةً فاتنةً كأنَّك تراها لأول مرة وذلك هو الفرق بين الخلْق والتعبير.

فحينما تناوَلَ قضية فلسطين مثلًا، وجدنا كيف انداحَ الجمعيُّ والقوميُّ في الذاتيّ، وكيف أن حزن الإنسان الشخصيّ وهمومه هما المحرك لكل قضية كبرى.

“ما الذي أنتَجَتْه الحروبُ الأخيرةُ

قُلْ !

ما الذي أنتَجَتْهُ الحروبُ الأخيرةُ؟

دَعْ عنكَ حُزني الخفيفَ

سأتركه جانبًا

وأقاتلُ من أجل كلِّ فلسطين

واللافتاتِ الجميلةْ

وأعشقُ كل بناتِ القبيلةْ

سأقاتلُ من أجل كلِّ فلسطين”([vi]).

إن الهوية  إبداعيًا -كما يرى الشاعر والمفكر الكبير أدونيس- هي أن تحيا وتفكر وتعبر كأنك أنت نفسك وغيرك في آن، بحيث تبدو في لحظةٍ ما كأنك الكل في واحد، فالإنسان في الإبداع مشروعٌ لا يكتمل، والشعر ليس أجنبيًا على الذات، وهو بُعْدٌ مِن أبعادِها وصورتها الثانية، والآخر ليس بالضرورة هو الانتماء القومي أو التراث أو الهوية الجماعية أو الأيدولوجية، وإنما هو الإنسان المفرد، كالذات، أي هو الوعي الإنساني الشخصي الذي يواجه الكون، ويحاول أن يكتبه.[vii]

وهذا معنى كبير يلخِّصُه حبيب الصايغ قائلًا:

في حياته، منذ وُلِدَ،

وهو لا يرى إلا موتَهُ

في الينابيع وزجاج النوافذ والقطارات..

وعندما مات أخيرًا

اكتشف أنَّ ما كان يراهُ طيلَةَ حياتِهِ ليسَ

الموت!

يتذكر ويضحك ..

ويُهيل بيديه على وجهه

شلَّال ورد .. ويضحك”.

كان حبيب الصايغ يرفض الاستسهال في الشِّعْر، فعلى حَدِّ قولِهِ: هناك ذائقةٌ قد تُدَمَّر بنشْرِ ما لا ينبغي نَشْرُه. وإذا نظرنا لمنجزه الشعري سنجده المتحدث باسم نفسه، المُتَفَرِّد الأُمَّة، المنتصر للإنسان متمثلًا في ذاته، المُسَمّي الرَّدَى وَلَدَهُ ليُرَوِّضَه، والراسم وجْهَهُ  ليتشكَّل العالم.. سلامٌ لروحِه في الأعالي.

 

 

 

 

[i]( حبيب الصايغ: لقاء خاص مع صحيفة البوابة نيوز، القاهرة، مصر، الأربعاء 21/أغسطس/2019 – 10:00 م

[ii] نفسه

[iii] حبيب الصايغ: أنا متفرد··· صحيفة الاتحاد، الإمارات، 24 يوليو 2008 00:10

[iv] حبيب، الصايغ: حوار مع الشاعر في مجلة نزوى، عمان : 1 أكتوبر,1997

[v]    الأعمال الشعرية – حبيب الصايغ – الجزء الأول – اتحاد كتاب وأدباء الإمارات – 2012م – ط 1 – ص : 58

[vi] حبيب الصايغ: الأعمال الشعرية، الجزء الأول، اتحاد كتاب وأدباء الإمارات – 2012م – ط 1 – ص :43

[vii] أدونيس: سياسة الشعر ، دراسات في الشعرية العربية المعاصرة، دار الآداب – بيروت، ط1، 1985 م، ص : 69و 70

مساجلة شعرية في دارة الشعر العربي بالفجيرة

 

أقامت دارة الشعر العربي بالفجيرة، ليلة أمس، أمسية شعرية بعنوان “ليلة المساجلة الشعرية الرمضانية” والتي تميزت بأجواء تنافسية وتشاركية حميمة.. بحضور نوعي من محبي العربية ورواد دارة الشعر العربي من مختلف الإمارات.

شارك في الفعالية ستة متسابقين من الشعراء والباحثين في الشعر العربي،
حيث تنافسوا كفريقين عبر ثلاث فقرات هي: المعرفة الشعرية، والارتجال، والمساجلة.

تكوّن الفريق الأول من المشاركين: عمار حسن من السودان، وأحمد أبو دياب من مصر، وآندي فاط جينغ من السنغال. وتكوّن الفريق الثاني من المشاركين: زكريا مصطفى من السودان، وجعفر أحمد حمدي من مصر، ومحمد صابيرالي من الهند.

وأدار الفاعلية الشاعر محمد المتيم، مدير المحتوى والنشر بدارة الشعر العربي، لينتهي السجال بفوز الفريق الثاني بفارق سبع عشرة نقطة عن الفريق الأول.

وفي ختام الأمسية قامت الشاعرة سليمة المزروعي، مدير دارة الشعر
العربي، بتكريم كلا الفريقين، وتسليم الجوائز وشهادات التكريم لهم.

من الجدير بالذكر أن دارة الشعر العربي بالفجيرة تمثل بؤرة اهتمام نوعي بالشعر العربي، ومنزلًا مشرع الأبواب لكل محبي الشعر، والشعراء، والمؤمنين باللغة العربية كحجر الزاوية والمكوّن الرئيس ضمن مكونات الهوية العربية.

 

 

هَوَسُ الخلود عند دِعْبِل الخُزاعِي | أحمد عايد

أحمد عايد

شاعر وكاتب من مصر

هَوَسُ الخلود عند دِعْبِل الخُزاعِي

أحمد عايد

شاعر وكاتب من مصر

 

تنتشر آراء كثيرة حول نشأة الفنون ولماذا اخترعها الإنسان. ولعلَّ أشهرها يزعم أن الإنسان اخترع الفنون ليقاوِم الفناء؛ فالفنَّان لا يريدُ أن يموتَ كالآخرين، “كأنَّهم مِن هوان الخَطب ما وُجِدوا”[1]، وإنما يريد أن يتردَّد اسمه دائمًا أبدًا، كأنَّ لسان حالهم جميعًا:

وما الدَّهر إِلَّا مِن رواة قصائدي * إذا قلتُ شِعرًا أصبح الدَّهرُ مُنشِدا[2].

ويرجع هذا إلى اعتقاد الفنَّانين أنَّ بهم لمسةً ألوهيَّةً، بوصفهم خلَّاقين ومُبدعين، وبالتَّالي فمن حقهم ألَّا يموت ذِكرهم كبقية الناس.. حتَّى ولو اشتركوا معهم في موت الجسد.

ومنذ كتب هوميروس ملاحِمَه، والشُّعراء مشغولون بالخلود، لا يريدون أن يضيع ما بذلوه في قصائدهم من وقتٍ وجهدٍ هباءً، ولا يريدون أن يمروا على الدنيا مرور العابر.. ومن هؤلاء دِعْبِل الخُزاعي (ت. 246 هـ).

وُلد دِعْبِل لأُسرة شعراء، فجدُّه رَزين شاعرٌ، وأبوه عليٌّ شاعرٌ، وأخوه رَزين بن عليّ شاعرٌ، والحُسين ابنُهُ شاعرٌ، وابن عمه مُحمَّد بن عبد الله بن رَزين المعروف بأبي الشِّيص شاعرٌ.

وعلى الرغم من هذا، فقد تتلمذ على يد مُسْلِم بن الوليد المعروف بـ”صريع الغواني” أحد كبار شُعراء العرب، ويحكي دِعْبِل عن نفْسه قائلًا: “ما زلتُ أقول الشِّعر وأعرضه على مُسْلمٍ، فيقول لي: اكتمْ هذا. حتَّى قلتُ:

أين الشَّبابُ؟ وأيَّةً سلكا؟ * لا.. أين يطلبُ؟ ضلَّ، بل هلكا.

فلمَّا أنشدتُهُ هذه القصيدة، قال: اذهب الآن فأظهِرْ شِعرَك كيف شئتَ لِمَن شئتَ”[3].

وهي من قصيدته التي يقولُ فيها:

لا تعجبي يا سَلْمُ مِن رَجُلٍ * ضَحِكَ المَشيبُ برأسِهِ، فبكَى

لا تأخُذا بظُلامتي أحدًا * قلبي وطرفي في دمي اشتبكا[4]

وهي الأبيات التي غنَّاها أحد المُغنِّين بين يدَي الخليفة الرَّشيد، فطرب لها، وسأل عن صاحبها، فلما أُخبر بأنها لدِعْبِل، أمر بإحضاره، فأنشده دِعْبِل إياها، فأعطاه الرشيد عليها عشرة آلاف درهم، فاشتُهر بين الناس. وظلَّ يفخرُ بهذه القصيدة: “أنا ابن قولي لا تعجبي يا سَلْمُ مِن رجلٍ ضحِكَ المشيبُ برأسِهِ؛ فبكى”، ويعني أنه عُرِفَ بهذا البيت[5]. ولعلَّ هذا الاحتفاء البالغ بأوَّل قصيدةٍ معلنة لدِعْبِل جعله يعتقد أنَّه مؤهَّل لما ينتظر الشعراء من الخلود.

ويبدو لنا من عدم ركونه إلى ميراث أُسرته الشِّعري، ومن تتلمذِهِ على يدَي مُسلم أنه يعي جيدًا أن الشِّعر صنعةٌ تحتاج إلى الإتقان؛ لأنَّ هذا الإتقان أحد أسرار خلود الشِّعر، وهو ما تُشير إليه أبياتُهُ التالية:

نَعَوني، ولمَّا ينعني غيرُ شامتٍ * وغيرُ عدوٍّ قد أُصيبَتْ مقاتلُهْ

يقولون: إنْ ذاق الرَّدَى، مات شِعرُهُ * وهيهاتَ عُمرُ الشِّعر طالت طوائلُهْ

وهَبْ شِعرَهُ إن مات مات، فأينَ ما * تَحمَّلَهُ الرَّاوونَ، والخطُّ ناقلُهْ

سأقضي ببيتٍ يحمَدُ النَّاسُ أَمرَهُ * ويكثرُ من أهل الرِّواية ناقلُهْ

يموتُ رديءُ الشِّعر مِن قبلِ أهلِهِ * وجيِّدُهُ يبقى وإنْ ماتَ قائلُهْ[6]

وقد كان دِعْبل “مِن مشاهير الشِّيعة، وقصيدته التَّائية في أهل البيت من أحسن الشِّعر وأسنى المدائح”[7]. ولذا اهتم الشيعة بشِعره، وقد جمعه الشيخ محمد السماوي[8]، وكذلك عبد الصاحب عمران الدجيلي[9]، وضياء حسين الأعلمي أيضًا[10].

والقصيدة المشار إليها، هي كما وصفها ياقوت حقًّا، وقد اهتم بها الشيعة، حتى أُفردت بالشَّرح، وممَّن شرحها الميرزا محمد كمال الدين بن محمد معين الدولة من أعلام القرن الثاني عشر الهجري[11]، ومحمد لطف زاده[12]، والعلَّامة محمد باقر بن محمد تقي مجلسي[13]. يقول فيها:

مدارسُ آياتٍ خلتْ من تلاوةٍ * ومنزلُ وحيٍ مقفر العَرَصَاتِ

لآل رسول الله بالخَيف من مِنًى * وبالركن والتعريف والجمراتِ

ديارُ عليٍّ والحُسين وجعفرٍ * وحمزةَ والسَّجَّاد ذي النَّفَثَاتِ

ومنها:

ملامَكَ في أهل النَّبي؛ فإنهم * أحبَّايَ ما عاشوا وأهل ثقاتي

تخيَّرتُهم رُشدًا لأمري؛ لأنَّهم * على كلِّ حالٍ خيرةُ الخِيَراتِ

ولما أتمها، قصد بها أبا علي ابن موسى بن الرضا بخُراسان، فأعطاه عشرة آلاف درهم وخلع عليه بُردة من ثيابه، فأعطاه أهل قُمٍّ بها ثلاثين ألف درهم، فلم يبعها، فقطعوا عليه الطريق ليأخذوها، فقال لهم: إنها تُراد لله عز وجل، وهي مُحرَّمةٌ عليكم. فدفعوا له ثلاثين ألف درهم، فحلف ألَّا يبيعها أو يعطوه بعضَها ليكون في كفنه، فأعطوه كُمًّا واحدًا، فكان في أكفانه. ويُقال إنه كتب القصيدة في ثوب وأحرم فيه، وأوصى بأن يكون في أكفانه[14].

وقد كان دِعْبِلٌ “هجَّاء خبيث اللسان، لم يسلمْ عليه أحدٌ من الخلفاء ولا من وزرائهم ولا أولادهم ولا ذو نباهة، أحسن إليه أو لم يحسن، ولا أفلت منه كبيرُ أحدٍ”[15]. حتَّى أنه هجا أخاه رَزينًا، وامرأته، وأستاذه مسلم بن الوليد، بل وهجا الخليفة الرشَّيد بعدما مات؛ غير معتبرٍ بكونه أول مَن أعطاه على شِعره وشهره بين الناس، وأحمد بن أبي دؤاد الذي أنفق على دِعْبِل جزيلًا. وقد لامه في ذلك أبو خالدٍ الخزاعي الأسلمي: “ويحك! قد هجوتَ الخلفاء والوزراء والقوَّاد، ووترتَ الناس جميعًا، فأنت دهرَكَ هاربٌ خائفٌ، لو كففتَ عن هذا، وصرفتَ هذا الشر عن نفسك!”، فقال دِعْبِل: “ويحك! إني تأملتُ ما تقول، فوجدتُ أكثر الناس لا يُنتفع بهم إلَّا على الرهبة، ولا يُبالى بالشاعر وإن كان مجيدًا إذا لم يُخَفْ شرُّه، ولَمَن يتقيك على عِرضه أكثر ممَّن يرغبُ إليك في تشريفه. وعيوب الناس أكثر من محاسنهم، وليس كلّ مَن شرَّفتَهُ شَرُف، ولا كلّ مَن وصفتَه بالجود والمجد والشجاعة ولم يكن ذلك فيه انتفع بقولك، فإذا رآك قد أوجعتَ عِرض غيره وفضحته، اتقاك على نفسه وخاف من مثل ما جرى على الآخر. ويحك! يا أبا خالدٍ، إنَّ الهجاء المقذع آخذٌ بِضَبع الشاعر من المديح المضرع”[16].

بل بلغ به الأمر أنه كتب هجاءً بلا اسم معيَّن، وقد حكى ذلك أحمد بن أبي كامل: “كان دِعْبِل يُنشدني كثيرًا هجاءً قاله، فأقول له: فيمن هذا فيقول: ما استحقه أحدٌ بعينه، وليس له صاحب. فإذا وَجِد على رَجلٍ، جعل ذلك الشِّعر فيه، وذكر اسمه فيه”[17].

لكنّ اللافت حقًّا أننا لا نعرف اسم دِعْبِل الحقيقي على سبيل الجزم، وقد زعم بعضهم أن اسمه محمد، ويُكنى أبا عليّ، واختلفوا في سبب تسميته “دِعْبِل”، واختلفوا في معنى لقبه: الناقة التي معها ولدُها، والبعير المُسن.. إلخ. وقد ألَّف كتاب طبقات الشُّعراء، وكتاب الواحدة، وترك ديوانًا كبيرًا، يدلُّ على ذلك قول الجاحظ: “سمعتُ دِعْبِل بن عليّ يقول: مكثتُ ستين سنةً ليس من يوم ذرَّ شارقه إلَّا وأنا أقول فيه شِعرًا”[18]. وقد ذكر ابن النديم أن الصولي عمل ديوان دِعْبِل في نحو ثلاثمئة ورقة[19]. وجاء في تراجم الشعراء أنه كان عند ابنه الحُسين من شعر أبيه ست مجلدات ضخمة، في كل مجلدة ثلاثمئة ورقة[20].

وقد أدرك دِعْبِلٌ شُهرتَهُ في حياته، يحكي أبو ناجية أنه كان معه في شهرزور، فدعاه رجل إلى منزله، وعنده قَينةٌ محسنة، فغنت الجارية بشعر دعبل: “أين الشَّبابُ؟ وأيَّةً سلكا؟”، فارتاح دِعْبِل لهذا الشِّعر، وقال: “قد قلتُ هذا الشِّعر منذ سبعين سنةً”[21].

وممَّا يلفت أيضًا أن نقرأ لدِعْبِل ملاحظة على عمرو بن نصر القصافي، يقول فيها: “قال القصافيُّ الشِّعر ستين سنةً، فلم يُعرف له إلَّا بيتٌ”[22].

ولنا أن نسأل بعد ذلك: هل أدرك دِعْبِلٌ حقًّا الخلودَ بشِعره؟ وإجابة هذا السُّؤال يكفلها الزمان، على وقع صوت دِعْبِل:

إنَّي إذا قلتُ بيتًا، ماتَ قائلُهُ، * ومَن يُقالُ بِهِ، والبيتُ لم يَمُتِ[23]

 

 

[1] شطر بيت لأحمد شوقي، ديوانه، ج 3 ص 63.

[2] ديوان المتنبي، ص 361.

[3] أبو الفرَج الأصفهاني، الأغاني، ج 20 ص 157.

[4] ديوان دعبل الخزاعي، صنعة د. محمد يوسف نجم، ص 117، 118.

[5] الأغاني، ج 20 ص 125.

[6] ديوانه ص 123، 124. وأمالي القالي، ج 3 ص 111.

[7] ياقوت الحموي، معجم الأدباء، ج 11 ص 102، 103.

[8] لا يزال مخطوطًا، أشار إليه د. محمد يوسف نجم في نشرته لديوان دِعْبِل.

[9] نشرته دار الكتاب اللبناني- بيروت.

[10] نشرته مؤسسة النور للمطبوعات- بيروت- لبنان.

[11] نشرته مؤسسة البلاغ.

[12] نشرته دار المجتبى بقُم.

[13] متوفر على اليوتيوب.

[14] معجم الأدباء، ج 11 ص 103.

[15] الأغاني، ج 20 ص 120.

[16] الأغاني، ج 20 ص 125.

[17] الأغاني، ج 20 ص 129.

[18] الأغاني، ج 20 ص 151.

[19] الفهرست، ص 161.

[20] د. محمد يوسف نجم، مقدمة ديوان دعبل، ص 6.

[21] لأغاني، ج 20 ص 127.

[22] المرزباني، معجم الشعراء، ص 34.

[23] ديوان دِعْبِل، ص 48.

مكتبات الشعر في مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث | شيخة المطيري

شيخة المطيري

شاعرة وكاتبة من الإمارات

لم تشعر دواوين الشعر بالغربة في المكتبة، فهي تلك التي تؤمن أنها تملك صوتًا خاصًا ودافئًا ينساب هادئًا أو صاخبًا من أرواح الشعراء. تجمع تلك الدواوين رموزٌ تستند إلى معايير الفهرسة والتصنيف، فنحن حين ندخل المكتبة ندرك بشكل طبيعي أنها تنتمي لرفوف معينة، تجعلها تنتظم متجاورةً وفق جغرافياتها وتاريخها.

هذا ما نراه في المكتبات العامة، ولكننا أيضًا نجد نماذج أخرى لحاضنات كتب الشعر –الدواوين والدراسات– كأن تكون المكتبة مخصصة بشكل كامل للشعر؛ كما هو الأمر في مكتبة البابطين في دولة الكويت الشقيقة. أما مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث فقد انتهج نهجًا خاصًا به، بأن أفرَدَ للشعر عددًا من المكتبات. مكتبة الشعر العربي ومكتبة الشعر الإماراتي (بيت القصيد) ومكتبة الشاعر نزار قباني، إضافةً إلى مكتبة الشاعر الإماراتي حمد خليفة بو شهاب والتي تُعَدُّ مكتبةً من المكتبات الخاصة في المركز، وهي فكرة قائمة على اقتناء مكتبات العلماء والمؤلفين والأدباء ومُحِبِّي الكتب، وقد انطلقت الفكرة من اهتمام معالي جمعة الماجد –مؤسس المركز- بتأريخ المكتبات الشخصية وتوثيقها والحفاظ على إرث أصحابها، وكأنها بعدُ في منزل صاحبها.

أما مكتبات الشعر فقد نشأت هذه المكتبات انطلاقًا من اهتمام معالي جمعة الماجد، الذي حرص منذ تأسيس الصرح الثقافي العظيم أن يهتم بالنتاج الأدبي الإبداعي، لإيمانه بصوت الشعر وحقيقة رسالته وعمقها.

ولهذه المكتبات أهمية كبيرة في مجال البحث والمطالعة، فكثيرة هي الدراسات القائمة على فكرة النص الشعري. ودراسة الموضوعات التي تناولتها القصائد الإماراتية والعربية. وتمت مناقشة عدد من الرسائل الجامعية بين الماجستير والدكتوراه استنادًا إلى ما جاء في هذه المكتبات. كما يقوم المركز أيضًا بدور فاعل في تعزيز المكتبة من خلال المناسبات الشعرية التي أقامها من أمسيات شعرية وجلسات حوارية مع الشعراء وطباعة الدواوين القديمة المحققة والحديثة، ونجد هذا الحضور العلمي أيضًا في مجلة «آفاق الثقافة والتراث» وهي المجلة العلمية المحكَّمة التي تصدر عن المركز، لتحمل بين أعدادها أبحاثًا عن الشعر وقضاياه النقدية، وتحقيقات لأشعار الشعراء القدامى، وسيأتي الحديث الآن عن المكتبات الشعرية في المركز.

 

مكتبة حمد خليفة بو شهاب

هو الشاعر والنسَّابة الإماراتي المعروف بالهزار الشادي، والذي ولِدَ عام 1932م في عجمان، وتعلم في كتاتيبها ومدارسها. أحب الشعر مبكرًا وكتبه في سن التاسعة، وظل محافظًا على القصيدة العمودية طوال عمره. كان أول من قدم مجالس الشعراء عبر تلفزيون الكويت من دبي عام 1971م. وهو أول من نشر الشعر الشعبي في الصحافة اليومية من خلال جريدة البيان منذ عام 1981م. ومن أبرز مؤلفاته كتاب «تراثنا من الشعر الشعبي».

ضمّ المركز جزءًا من مكتبة شاعرنا، فكان عدد العناوين فيها نحو 727 عنوانًا، انعكست اهتماماته عليها، حيث كان أكثرها من كتب الأدب والديانات والتاريخ.

وقد كان الاشتغال على هذه المكتبة من أمتع التجارب التي عشتُها، إذ أتيحت لي فرصة المطالعة القريبة لمحتويات المكتبة، رفقة أستاذَيّ الباحث والمؤرخ علي المطروشي والباحث النسَّابة عبد الله المهيري. كانت المكتبة تضم الكتب المطبوعة ومجموعة من الوريقات التي تخص الشاعر، كتب فيها ملاحظات حياته اليومية، ووضع تعليقاته على الكتب. كما كان –رحمه الله– يضع إشارات عند الصفحات دلالةً على موضع القراءة. لقد كان الشاعر حمد خليفة بو شهاب من الزوار الدائمين للمركز بحكم اهتمامه بالثقافة والصداقة التي جمعت بينه وبين جمعة الماجد. ومن وفاء المركز للشاعر فقد أقيمت فيه فعالية ذكرى رحيل الهزار الشادي؛ مستعرضين أهم إصداراته المطبوعة والمخطوطة.

  

مكتبة نزار قباني

لهذه المكتبة حكاية حَفِظَتْها ذاكرة معالي جمعة الماجد والعاملين في المركز في ذلك الوقت. زار الشاعر نزار قباني مركز جمعة الماجد بتاريخ 6/12/1994م، وكان ذلك حين حصل على جائزة الإنجاز الثقافي والعلمي في مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية، وكان قباني في ضيافة الشاعر سلطان العويس الذي أخبره عن المركز وطلب منه زيارته. وقد أعجب نزار بالمكان وما فيه من مكتبة وخدمة للباحثين وكما يروي معالي جمعة الماجد فإن نزار قباني سأله إن كانت كتبه موجودة في المركز، وقد سُرَّ كثيرًا حين رأى مجموعة من كتبه، ثم سافر إلى بيروت وشحن للمكتبة بقية إصداراته. تطور الأمر بعد ذلك من قِبَل القائمين على المكان وتتم الآن إضافة كل كتاب جديد يصدر عن نزار قباني إلى هذه المكتبة. ضمت مكتبة نزار 137 كتابًا من دواوينه المنشورة والدراسات التي أُجريَت حوله، لعل من أقدمها نسخة مصورة من كتاب «دنيا الحروب: ملحمة شعرية أوحتها نار الحرب الحاضرة وصدى أنين البشرية المعذبة المرهقة»، نُشِرَ سنة 1941م. وكتاب «قالت لي السمراء»، شعر، نُشِرَ سنة 1944.

 

مكتبة الشيباني

وتضم مكتبة المركز أيضًا مكتبةً لشاعر آخر وهو محمد شريف الشيباني، وهو شاعر ومؤرخ توفيَ سنة 1998م، وكان يعمل أمينًا لمكتبة عامة في أبوظبي، ولديه إصدارات تربو على 20 كتابًا. أما مقتنيات المكتبة فقد تنوعت بين الكتب المطبوعة والوثائق والمراسلات والتسجيلات الصوتية والصور الفوتوغرافية الخاصة بالشاعر. وقد وجدنا في المكتبة من ضمن التسجيلات تسجيلات صوتية بصوت الشاعر وهو يقرأ أبياتًا مهداة لمعالي جمعة الماجد. أما الوثائق فمنها ما يتعلق بعمله في المكتبة، وسيقوم المركز الآن بالاشتغال على هذه الوثائق لإصدارها في كتاب خاص يتحدث عن أمناء المكتبات الشعراء.

 

مكتبة الشعر العربي

وللشعر العربي عمومًا أفردت مكتبة اسمها (مكتبة الشعر العربي)، وهي مكتبة متخصصة تضم كل ما يتعلق بالشعر والشعراء. وفيها ما يقارب 13 ألف عنوان منها أكثر من 500 كتاب من نوادر المطبوعات، مثل كتاب «العيون اليواقظ في الأمثال والمواعظ»، لمؤلفه محمد عثمان جلال والمطبوع سنة 1857م. وديوان ابن معتوق المطبوع سنة 1861م. وقد قدمت هذه المكتبة خدمات بحثية جليلة للباحثين من داخل الدولة وخارجها، كما استعان بها بعض المهتمين بإصدار موسوعات شعرية.

 

مكتبات أخرى متخصصة

وفي عام 2011م وجَّه معالي جمعة الماجد بتأسيس مجموعة أخرى من المكتبات المتخصصة في المركز، ومنها: مكتبة النخيل، ومكتبة الغوص، ومكتبة الشعر الإماراتي (بيت القصيد) والتي تم افتتاحها في العام ذاته برعاية كريمة من معالي جمعة الماجد وبحضور عدد من مديري المؤسسات الثقافية والشعراء والمهتمين، وقد تأسست هذه المكتبة لتخدم الباحثين في مجال الشعر الإماراتي، وتقع في قسم الثقافة الوطنية وهو القسم المعنيّ بدولة الإمارات العربية المتحدة.

تضم المكتبة دواوين الشعراء الفصيحة والعامية، والدراسات المتعلقة بالشعر والشعراء في الإمارات. كما قام القائمون عليها بعمل قائمة تضم أسماء الشعراء وأعمالهم تسهيلًا على الباحثين. وتقوم المكتبة بعمل فعاليات شعرية معززة لدور المصادر والمراجع في المجال البحثي. منها ما كان في حفل افتتاحها من استضافة الشاعرين الكبيرين ربيع بن ياقوت –رحمه الله– وراشد شرار، والاحتفاء بالشاعر الإماراتي الدكتور شهاب غانم بمناسبة حصوله على جائزة طاغور العالمية.

هذه هي المكتبات التي أُفْرِدَتْ بشكل واضح المعالم للشِّعر، أو كان أصحابها من الشعراء. وليس الأمر متقصرًا على هذه المكتبات؛ لأن المركز يضم أيضًا كتبًا عن أشعار الثقافات الأخرى وبلغات متنوعة، كما يضم قسمًا خاصًا بالرسائل الجامعية المتعلقة بالشعر. ولن يتوقف هذا الاهتمام عند هذا الأمر، فبإذن الله سيستمر المكان محافظًا على الإرث الإنساني الإبداعي للشعراء العرب من المحيط إلى الخليج.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

نظمت دارة الشّعر العربي بالفجيرة ورشةً تعليمية بعنوان “رحلة الشعر العربي عبر العصور”

نظمت دارة الشّعر العربي بالفجيرة ورشةً تعليمية بعنوان “رحلة الشعر العربي عبر العصور”، قدّمها أ.د. محمد أبو الفضل بدران، حيث تناولت الأساليب الشعرية في عصر ما قبل الإسلام و عبر مختلف العصور والمدارس الشعرية.

توقيع اتفاقية تعاون بين “دارة الشعر العربي” بالفجيرة و “كلية اللغة العربية بجامعة الأزهر” بالقاهرة

وقّعت دارة الشعر العربي بالفجيرة و كليّة اللغة العربية بجامعة الأزهر بالقاهرة؛ اتفاقية تعاون مشترك بين الدارة والكلية، في مقر الكليّة في القاهرة بجمهورية مصر العربية.

وقّع الاتفاقية، سليمة عبدالله المزروعي مدير دارة الشعر العربي بالفجيرة، والدكتور علاء جانب عميد كلية اللغة العربية بجامعة الأزهر الشريف بالقاهرة.

الاتفاقية التي تعدّ الأولى من نوعها في هذا المضمار، تنصُّ على فتح آفاق التعاون بين المؤسستين، واحتضان المواهب الشعرية والإبداعية خاصةً فئة الناشئة والشباب، وإرساء القيم الجماليّة والمَعرفية التي تُسهم في الارتقاء بالمشهد الشعريّ العربي على كافة المستويات.

وتباحثَ الطرفان سُبل دعم القصيدة العربية، ورعاية الشعراء الشباب من من المُهتمين والدّارسين، سيّما في ظل الإقبال الكبير من طلبة كلية اللغة العربية من غير العرب على كتابة ودراسة الشعر العربي.

كما تهدف الاتفاقية، إلى تكريس آفاق القصيدة العربية، وتعزيز مجالات نقد الشعر العربي، وصقل الذائقة الشعرية ونشر المعرفة عبر الاستفادة من خبرات كوادر كليّة اللغة العربية من أعضاء هيئة التدريس، وبرامج التعاون المُشترك وأنشطة دارة الشعر العربي.

ويأتي توقيع اتفاقية التعاون على هامش مشاركة دارة الشعر العربي في معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته (56)، وتعزيز حضورها العربي والدولي.

ومن الجدير بالذكر أن دارة الشعر العربي مؤسسة أدبية ثقافية أُنشِئت في إمارة الفجيرة عام 2024 لتسهم في دفع المشهد الشعري العربي إلى أفضل المستويات ونقل تراثه ومكوناته إلى العالم.

كما أن كلية اللغة العربية بالأزهر الشريف، التي تخرج فيها مئات النقاد والشعراء والمفكرين من مختلف دول العالم، تعتبر الكلية الأقدم في هذا التخصص في العالم كله، حيث أُنشِئت بمرسوم ملكي قبل أكثر من 95 عامًا.

مشاركة دارة الشعر العربي بالفجيرة ضمن البرنامج الثقافي لمعرض القاهرة الدولي للكتاب الدورة (56)

مشاركة دارة الشعر العربي بالفجيرة ضمن البرنامج الثقافي لمعرض القاهرة الدولي للكتاب الدورة (56)

حضور نوعي لافت، وإقبال مشهود من جمهور معرض القاهرة الدولي للكتاب.
شارك في الأمسية الشعراء: عبد القادر الحصني وعلاء جانب ونورا عثمان، وأدارها الناقد د. شوكت المصري.

 

 

في “موعد الورد” دارة الشعر العربي تجمع أحمد بخيت بمُحبّيه

أقامت دارة الشعر العربي بالفجيرة، ليلة أمس، أولى أمسياتها الشعرية في العام الجديد باستضافة الشاعر المصري الكبير أحمد بخيت، والتي أدارتها باقتدار الشاعرة السودانية ابتهال تريتر.

حضر الأمسية لفيفٌ من المثقفين والشعراء والكُتاب ومحبّي الشعر العربي الذين توافدوا من مختلف إمارات الدولة إلى الفجيرة، ليتلقوا بشاعرهم الأثير، ويحظوا بتوقيعه على ديوانيه “قالت لمى” و”المشكاة”.

واستمتع الحضور إلى مجموعة من قصائد الشاعر أحمد بخيت على وقع موسيقى آلة القانون بعزف الفنان عمر زياد.