الشعر ضد الجريمة.. كيف تغسل المهرجانات الشعرية العالمية أرواح المدن؟ | طارق الطيب

طارق الطيب

شاعر وكاتب - النمسا

في عام 2002، وكنت قد استقررت في فيينا منذ 18 سنة، وصلتني دعوة أدبية لحضور مهرجان شعري اسمه (مهرجان ستروجا الدولي للشعر). لم أعرف وقتها أين تقع ستروجا، ولم أسمع في ذاك الوقت باسم هذا المهرجان.

 

سوف أسرد هنا بعضًا من ملامح هذا المهرجان واثنين غيره وهما الأبرز، دون اللجوء إلى مقارنات بيننا في العالم العربي وبينهم، ودون وضع خلاصة للتجربة؛ فالحكاية وحدها كفيلة بالتأمل والتفكير، وربما التغيير إن أردنا.

 

عرفت أن “ستروجا” هذه مدينة تقع في شمال مقدونيا الشمالية، وأن فيها واحدًا من أقدم المهرجانات الشعرية العالمية، وأن الاسم الأصلي للمهرجان هو (أمسيات الشعر في ستروجا) الذي تأسس في ستروجا عام 1961، بمشاركة شعراء مقدونيين فقط. في عام 1963 سيتوسَّع ليشمل شعراء من جميع أنحاء جمهورية يوغوسلافيا الاتحادية الاشتراكية السابقة وبحلول عام 1966 سيتحوَّل الحدث إلى مهرجان ثقافي دولي.

 

أُنشِئت جائزة الإكليل الذهبي الدولية في العام نفسه، وكان روبرت روزديستفينسكي أول من فاز بها. في عام 2003، وبالتعاون الوثيق مع اليونسكو، أنشأ المهرجان جائزة دولية أخرى تُسمى “جُسور ستروجا”، لأفضل كتاب شعري أول لمؤلف شاب.

استضاف المهرجان قرابة 4000 شاعرًا ومترجمًا وكاتب مقال وناقدًا أدبيًا من قرابة 95 دولة حول العالم.

كذلك كرّم المهرجان بعضًا من أبرز الشخصيات الأدبية في العالم، بمن فيهم العديد من الحائزين على جائزة نوبل للآداب، مثل جوزيف برودسكي، وبابلو نيرودا، وشيموس هيني، وليوبولد سيدار سنغور، ويستن هيو أودن، وآلان جينسبيرج، وتوماس ترانسترومر الذي حالفني الحظ بالوجود معه في إحدى نسخ المهرجان في مقدونيا والتعرف عليه بشكل وثيق.

 

قلت سوف أجرب وألبي الدعوة ولنرى كيف هي هذه المهرجانات الشعرية. لأعرف أيضًا أن هذا المهرجان الأدبي الدولي يقام سنويًا ويستمر ستة أيام ويعد من بين أقدم وأكبر المهرجانات من نوعها في العالم إن لم يكن أقدمها.

 

وصلت إلى مطار مقدونيا فوجدت بعض الشعراء قد وصلوا قبلي وكان عليَّ أن أنتظر وصول بعض الشاعرات والشعراء الآخرين القادمين من دول مختلفة، ليقلّنا باص صغير به ما يقرب من عشرة شعراء متجهًا نحو فندق عتيق على نهر “درين”، ليستقبلنا مدير المهرجان آنذاك الشاعر المقدوني “بوجوميل جوزيل” الذي يجيد الفرنسية مرحِّبًا، إلى جواره شاعرات وشعراء يعرفنا على بعضنا البعض، مع مجموعة من مترجمات ومترجمين من الشباب الذين يجيدون بعض اللغات الأوروبية، من أجل مرافقة الشعراء طوال اليوم وإزالة معوقات اللغة وضبط مواعيد القراءات والندوات.

 

كان هذا هو المهرجان الأول لي خارج النمسا. الاحتفاء فيه بالشعراء فوق الخيال. رئيس الجمهورية هو الذي يفتتح هذا المهرجان الشعري العالمي بنفسه، ويُفتح المسـرح الكبير لاستقبال الناس مجانًا، دون حرس وأمن وتضييق وعصبية وخوف وجنون عظمة.

في يوم الافتتاح يُغلق الجسـر الرئيسي في المدينة، لتُنصَب عليه خشبة مسـرح كبيرة يقف عليها الشعراء للقراءة مساء ويقرأ ترجمة الشعر ممثلات وممثلون محترفون في الإلقاء. يخرج الناس بالمئات إلى ضفتي النهر للاحتفال بهذا الأسبوع الجميل وتمتلئ البحيرة بالقوارب الملونة والضفاف بالألوان المفرحة وينقل التلفزيون هذا الحفل على الهواء، وأعلام بلاد المشاركين ترفرف على الضفتين.

 

في الأيام التالية تتعدد القراءات في أمكنة كثيرة ويقام الطقس الاحتفالي المميز للشاعر ضيف الشرف بأن يزرع بنفسه شتلة شجرة لتنمو في حديقة الشعراء باسمه. هناك شجرة باسم أدونيس وأخرى باسم محمود درويش.

 

ومن الطرائف التي حدثت لي في زيارتي الأولى في 2002، هو اكتشافي وجود علم ضخم للسودان على ضفة نهر درين، استفسرت من الشاعر “بوجوميل جوزيل” المنظم إن كان بالمدينة مؤتمر سياسي يشارك فيه السودان، لأنني رأيت علمًا كبيرًا للسودان على الضفة. ضحك وقال لي: “إن هذا العلم لك بمناسبة مشاركتك في هذا المهرجان!”، وتابع ضاحكًا: “لقد تعبنا من أجل إيجاد علم لك، وقد أنجزوه لنا سريعًا وخصيصًا من أجلك!”.

 

من تقليدهم السنوي أيضًا في هذا المهرجان هو نشر سبعة دواوين مترجمة إلى اللغة المقدونية؛ كتاب لشاعر من كل قارة من القارات السبع. وقد حالفني الحظ في 2005 بأن يكون لي ديوان حمل عنوان (حجر أكبر من السماء) من ترجمة الشاعر الكبير “جوزيل”.

استضاف رئيس الجمهورية الشعراء السبعة وقدم لنا مشروبًا احتفاليًا احتفاءً بنا في جو حميمي لطيف ودردشة بلا أبهة ومبالغات.

 

* * * * *

في أكتوبر من العام الماضي 2024، دُعيتُ للمرة الثانية إلى مهرجان كوستاريكا الدولي للشعر. الدعوة الأولى كانت في 2014. بين هذين المهرجانين على مدى ما يقرب من ربع قرن دُعيت إلى أكثر من خمسين مهرجان ولقاء حول العالم، تستحق حديثًا موسعًا لا يناسبه المكان.

 

من فضائل مهرجان كوستاريكا أنهم ينشرون ديوانًا مترجمًا إلى اللغة الإسبانية لكل كاتب أجنبي مدعو. وأتذكر أنه من أجمل اللفتات في دعوتي الأولى قبل عشر سنوات، أن من استقبلني في مطار سان خوسيه كان مدير المهرجان بنفسه الشاعر “نوربرتو سالينا”. كنت قد سألته قبل السفر عمَّن سيقلني من المطار، كتب لي: “من سيحضر إليك سيرفع غلاف كتابك عاليًا لتتعرف عليه!” وكانوا قد أرسلوا لي صورة غلاف ديواني قبل وصولي.

الطريف أيضًا أنني لم أنتبه أن من رفع غلاف الديوان في المطار هو مدير المهرجان نفسه، ولم أكن أعرف صورته. حضر بصورة عادية وتواضع كبير ونقلني بسيارته الخاصة الصغيرة.

 

يبدأ الافتتاح عادة في المسرح الكبير وفي الأيام التالية إلى الجامعة، ثم نتوزع في مجموعات صغيرة على عدة مناطق كعادة البرنامج، لزيارة المدارس في عدد كبير من المحافظات في معظم أنحاء البلاد.

في عام 2014 كان من حظي أن أزور منطقة رائعة مرتفعة وسط الغابات اسمها “مونتيفيرده”. كنت بصحبة سيدة فنانة ومنظمة مرافقة تتحدث الإنجليزية ومعنا مصور محترف. هناك زرت ثلاث مدارس نهارًا وقمت مساءً بلقائين مع الكتاب الكبار في المنطقة، وقد تبرعت سيدة محبة للأدب والفن بإقامتي هناك لثلاثة أيام في بيت جميل منفصل وسط الغابات.

 

في العام الماضي 2024 قام مدير المهرجان “نوربرتو سالينا” بعمل مسابقات في مدارس الدولة جميعها قبل المهرجان، ليختار أكثر من سبعين شاعرة وشاعرًا أقل من 18 سنة وينشر لهم أنطولوجيا شعرية ضخمة بصورهم وأشعارهم. شاركونا على المسارح وفي المدارس بإلقاء شعرهم الجميل.

يتضمن البرنامج زيارة لأجمل مناطق كوستاريكا في منطقة “تورتوجيرو” العظيمة على البحر الكاريبي لثلاثة أيام، بدعوة دائمة من مدير المنتجع، للشاعرات والشعراء الشابات والشباب الفائزين في الأنطولوجيا صحبة أمهاتهم. وتمضي الأيام في قراءات ونقاشات ورحلات ورؤية أجمل أمكنة الطبيعة على الإطلاق.

 

أيضًا من أجمل ما رأيت في دعوتي الأولى لمهرجان كوستاريكا العالمي للشعر في 2014 هو توزيع مقتطفات من أشعار الكتاب في بوسترات كبيرة ملصقة على محطات الباصات العمومية في المدينة تصحبها رسومات لفنانين، ومن يقف في انتظار الباص سوف يقرأ بعض الأشعار لواحد منا مزينة باسمه، وهو إعلان ذكي في الوقت نفسه عن المهرجان الموجود في البلاد.

 

* * * * *

 

من المهرجانات الملفتة عالميًا، مهرجان “ميديين” للشعر في كولومبيا. هو واحد من أعرق وأكبر المهرجانات العالمية، يرأسه الشاعر الكبير “فرناندو ريندون” ومن تنسيق “لويس إدواردو ريندون.

في مدينة “مديين” الكولومبية تجلى مثالٌ حيّ لانتصار الشعر وترويضه لمجتمع عاش عقودًا ضحية للعنف والجريمة إلى أن اكتسبت المدينة نفسها اليوم، بعد 35 عامًا من تأسيس المهرجان الدولي للشعر، روحًا أخرى وتغيرت صورتها النمطية في الأذهان.

 

المهرجان الدولي للشعر في ميديين يقام في مدينة ميديين، وهي ثاني أكبر مدينة في كولومبيا بعد العاصمة بوجوتا. تأسس هذا المهرجان في العام 1991 في تلك المدينة التي اشتهرت لأعوام طويلة بالعنف وبالارتفاع الكبير في معدل الجريمة، وبوجود أشهر كارتل للمخدرات في العالم ظهر عام 1976 من قِبَل بابلو اسكوبار، عُرِف باسم “كارتل ميديين”؛ فظلت المدينة تحت وطأة إرهاب داخلي وزعزعة استقرار. في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات ظهرت العصابات الاجرامية في الأحياء الشعبية ونشط القتلة المرتزقة وانتشـرت عمليات الاختطاف وقتل القضاة والسياسيين وتحولت المدينة لفوضى وخطر.

كانت وفاة بابلو إسكوبار في العام 1993 بمثابة نهاية كارتل ميديين الذي سبَّب آثارًا جانبية امتدت لسنوات من نزوح ولجوء وعدم استقرار، لذا أتى مهرجان ميديين الشعري بفكرة بديلة لهذا الاضطراب والفوضى والعنف؛ تلك السمات التي أساءت لسمعة المدينة لزمن طويل، فأسس الشاعر المعروف فرناندو ريندون هذا المهرجان الذي أصبح من أهم المهرجانات في العالم وأوسعها صيتًا.

حصل المهرجان على جائزة (الحق في العيش) بعد 15 عامًا من تأسيسه، وهي الجائزة المخصصة لتكريم ودعم هؤلاء الذين يقدمون حلولًا عملية ومثالية للتحديات الأكثر إلحاحًا التي تواجهنا اليوم، مؤكدًا أنه عن طريق الفن والشعر وحرية التعبير، يمكن للمجتمع أن يتغير إيجابيًا ويزيل الكثير من الخوف والعنف الراسخ في عمق المجتمع، وتحولت ميديين تدريجيًا لتحمل اسم “مدينة الربيع الأبدي”، مثلما تحمل اسمًا آخرَ جميلًا هو “عاصمة الجبال”.

 

 

حضرت مهرجانين تاليين عبر زووم في فترة الكورونا، وفي المهرجان الثالث والثلاثين سافرت للمرة الثانية بدعوة رسمية، وشارك فيه 90 شاعرة وشاعر من 54 دولة.

الملفت في هذه المهرجانات أن صبغة العالمية تنطبق عليها بالفعل وأن الحضور الجماهيري خيالي بالفعل بعدده الضخم جدًا. وبالإضافة للقراءة هناك على مسارح كبيرة يتم توزيع الشعراء في مجموعات صغيرة للطواف في أنحاء البلاد للقراءة أيضًا ضمن شعراء المناطق التي يصلون إليها.

يستمر مهرجان “ميديين” للشعر في كولومبيا لمدة أسبوع. يأتي إليه الجمهور بالآلاف ليستمع إلى الشعراء في “حديقة الأمنيات”، وهو المكان الذي ينطلق منه الافتتاح ويكون فيه الختام. الشباب هم غالبة الحاضرين.

جمهور كولومبيا يعشق الشعر، تربى عليه ويتذوقه ويتفاعل معه ومع كل الأصوات واللغات التي تأتي من كل أنحاء الأرض. يجلسون لساعات طويلة منصتين ثم منتظرين توقيع الشعراء على الأنطولوجيا السنوية الفخمة المطبوعة على ورق مصقول ملون في نحو 340 صفحة، جهزها المهرجان بالسِيَر الذاتية والقصائد بالإسبانية والإنجليزية.

 

ليس هناك أي خصوصية لشعر دولة أو منطقة في هذا المهرجان، الشعر هناك هو صوت كل العالم، بل بالعكس فالشعر هنا يذيب أي فوارق حدودية أو جغرافية أو إثنية. صحيح أن الشعراء يمثلون بلادهم، لكن الشعر هو بطل الموقف والزمان والمكان. الجملة الشعرية هي الفاصلة وهي المعنى والمراد. البعض يتحصن بنكوص أدبي وفني ويظن أن هذه هي الوطنية الحقة، لكن الوطنية تكمن في إثبات إنسانية التواصل ورقيّ الاندماج. بعدها سيسألك الناس من أين أنت؟

 

(ريف شمال النمسا، 2025-03-27)

 

 

 

 

 

تهمة «ازدراء أدونيس»! | الطيب الحصني

الطيب الحصني

كاتب ومترجم سوري

منذ فترة، انتقد صديق شاعرٌ تجربةَ أدونيس على منبرٍ ثقافيٍّ انتقادًا شاملًا، بما يمليه عليه توجهه التراثي التقليدي. فانبرى في الأيام التالية شاعرٌ آخر بالردِّ عليه، فابتدأ بتوضيح مفاسد قوله، وخطورة معتقده وفكره على المجتمع، ثم أكمل ينتقدُ طريقة اكتسابه رزقَه، ولم يتوقف للأسف عند أهله وأولاده. كَبُرَ الأمرُ… قلتُ يومها للأول مازحًا: “إذا أدخلتك هذه المشكلة السجن فستكون أول من يسجنُ بتهمة ازدراء أدونيس”.

إن التعصب الغاضب الذي يبدر من مُحبِّي أدونيس شعرًا والمتفقين معه فكرًا -فلنسمِّهم الأدونيسيين- حين يعارض أحد من الناس شيئًا من آرائه أو شعره، ظاهرةٌ تستحق التأمل، وهي ظاهرةٌ يمكننا أن نجد أساسَها على لسان أدونيس نفسه في غير موضع، لعلَّ أوضحها إجابته عام 2021 على سؤالٍ حول قيمة شعره في العالم العربي: “…فهذه الثقافة [العربية] لا تزال في جوهرها كما أرى دينية (فقهية – شرعية، على الأخص)، نظرةً وممارسةً. وهذا […] يجعلها كذلك ضد المعرفة، وضد الإنسان، وضد الحياة ذاتها. وهكذا أشقُّ العرب إلى قسمين، فبعضهم إلى جانبي في هذه النظرة، وهم القلَّة. وانطلاقًا منها يرون أن شعري وفكري يمثلان ذروة الشعر والفكر في اللغة العربية، ولا مثيل لها في تاريخ الإبداع العربي وبخاصة الحديث. أقول هؤلاء قلة، ولكنهم القلة الخلَّاقة الرائية”.

 

وهكذا، وفقَ رؤية أدونيس والأدونيسيين، نجدُ أنفسنا أمام ثياب الملك القديمة/الجديدة: فإنْ استطاعت ذائقة المرء استيعاب أن “ذروة الشعر والفكر” هي عند أدونيس، تلك الذروة التي “لا مثيل لها“، فقد حُقَّ للمرء الانتماءُ إلى “القلّة الخلاقة الرائية” والدخولُ في عهدها؛ وأما منْ عجِزتْ ذائقته عن إدراكِ تلك “الذروة” فهو إذن من الأكثرية الدهماء آنفة الذكر، أي: تلك التي هي “ضد المعرفة، وضد الإنسان، وضد الحياة ذاتها“.

 

لا حاجة بنا إلى التنبيه إلى سوء هذا التحزُّب، فضلًا عن طرافة أن يجعل أيُّ إنسانٍ الإعجاب بأعماله شخصيًّا هو المعيار في الرؤية الخلَّاقة.

من المؤكد أنني لن أحاول في هذا المقال القصير الاشتباك مع فكر أدونيس كله، بل أريد أن أشير فيه إلى بضعة أمثلة بارزة من أفكاره، أمثلةٍ جعلتني أضعُ الكتاب جانبًا وأسأل: لِمَ أقرأ هذا الكلام؟ أي فائدة تُجنَى منه؟ وهدفي من المقال توضيحُ أنه من الوارد، ضمن عالم الممكنات، أن يزدري الإنسان أفكار أدونيس من دون أن يكون “ضد المعرفة، وضد الإنسان، وضد الحياة ذاتها”.

 

أولُ الإشكالات، ولعلَّه جوهريُّ فيها، هو إحالةُ أدونيس ظواهر شعرية معقدة برمَّتِها إلى التنوع الثقافي-التاريخي، متجاهلًا كونَ جزء منها يرجع إلى طبيعة الإنسان. تأمَّل قوله –في سياق تقليله من أهمية الأوزان الخليليّة- إنَّ: “الوزن/القافية عملٌ تنظيري لاحقٌ لتشكيل شعريٍّ سابق“.

في الواقع، الوزن/القافية ليس عملًا تنظيريًّا من الأصل، حتى يكون لاحقًا لـ”شكلٍ شعري” يسبقه. بل العكس صحيح: إنَّ التزام الوزنِ سبَّاقٌ على العمل التنظيري من جهتين مختلفتين، مهمّتين بالقدر ذاته:

 

الأولى تاريخيةٌ: لقد سبقَ الالتزامُ الدقيق بأوزان البحور وقوافيها كلَّ الجهود التنظيرية التي جاءت بعده، والتزاماتُ الجاهليين بالوزن والقافية بالغة الصرامة، مثلَ التزامهم سلامة عَروض البسيط، وتفعيلته الثالثة من كل شطر، من الزحاف. ولو بحثتَ عن الأبيات التي خرجوا فيها عن هذه (القاعدة) لوجدت أن نسبتها أقل من 1%؛ إنَّ مثل هذه الالتزامات الصارمة –وأمثالها كثير- ليست “تشكيلًا شعريًّا”، بل هي التزامٌ بالوزن/القافية سبقَ التنظير بقرنين على الأقل.

 

الثانية طبيعية: إن جزءًا ما من الوزن سبّاقٌ لا على التنظير وحسب، بل على الثقافة ككل، لأن المزامنة الإيقاعية (“Entrainment”) ثابتٌ بيولوجيٌّ كونيٌّ في الإنسان؛ وتقطيعُ الأصوات إلى أقسام متساوية متكررة –في الموسيقى والشعر على حد سواء- ليس اختراعًا ثقافيًّا اخترعه أحد الشعوب القديمة ثم انتشر في القارات مثل السلعة (أو بتعبير أدونيس هو “عملٌ بارعٌ […] ربما يزول، وذلك بحسب التطور ومقتضياته”)، بل هو غريزة ثابتة لا تزول، يمارسها حتى الأطفال الذين لم يبلغوا سن الدراسة. وهو حقيقيٌّ على نحوٍ خاص في الشعر الخليليّ لأنه مبنيٌّ على الزمن الإيقاعي، لا على النَّبْر. حريٌّ بنا، إذن، ونحن ننظر إلى بِنْيَة بيت الشعر الخليليّ، ونقرُّ بأن جزءًا كبيرًا من التزامات هذه البنية تاريخيٌّ متعلق بالثقافة التي نشأت فيها، أن ننتبه إلى أن في بنيَتِه أيضًا ما يتسامى فوق الثقافيَّ نحو الكونيّ والفطري.

 

إذا ما وضعنا جانبًا كل العنفوان والإجلال الذي نحمله في داخلنا نحو الشعر العربي (كي لا نُتهم بأننا ذوو “عقلية دينية-فقهية-شرعية مضادة للحياة والإنسان)، ووضعنا جانبًا، أيضًا، الاعتراضات التي أوردتها توًّا، فلنا على الأقل أن نسأل: أي فائدة نجنيها من إحالة الطبيعة والثقافة إلى “عملٍ تنظيري”؟ وأي قيمةٍ نجنيها من إعلاء أدونيس شأنَ “الحالة” و”التخييل” و”المجاز التعبيري”؟ وجعلها أشياء أكثر شاعريَّة من “الواقع” و”المفهوم”؟ فإن الإنسان لا يلقى جوابًا، أو يجد جوابًا يسوؤه. يقول:

“اللسانُ، لا الواقع، هو المادة المباشرة في عمل الشاعر. باللسان وفيه، يرى العالم وشكله. هذه الممارسة المادية للسان تفرض عليه أن يكون عارفًا المعرفة العليا به، ومتقنًا الإتقان الأكبر لتاريخية الكلام الشعري، ولكيفية الكتابة شعريًّا. فإذا كان الإنسانُ حيوانًا ناطقًا، فإن الأكثر معرفةً باللسان هو الأكثر إنسانية…”.

يمثِّلُ هذا المقطع خيرَ تمثيل لما هو منفِّرٌ في فكر أدونيس، إن أدونيس يفرضُ على الشاعر أن يكون عارفًا المعرفة العليا باللسان الذي يكتب به، لكنَّ عالمنا العربي –والعالم الغربي أيضًا!- يضجُّ بالشعراء (الفصيحين والعاميين) الذين ينبغون في بيئات لا تقدم لهم إمكانية تلك “المعرفة العليا” ولا “الإتقان الأكبر لتاريخية الكلام الشعري“، لكنهم يقولون من الشعر أعذبه وأنقاه.

يَظهرُ بؤس هذه الفكرة في المنطق التقريري الأخير الذي يجعل الأكثر معرفة باللسان هو الأكثر إنسانية، بحجة تعريف الإنسان بأنه حيوان ناطق.

لو نظرت في هذا القول من حيثُ شكله المنطقي، أقصدُ من دون النظر في معناه، لوجدته فاسدًا منطقيًّا، لأنه: إذا كان النبيذ شرابًا كحوليًّا، فإن النبيذ الأكثر كحولًا ليس أكثر “نبيذيَّةً” من غيره، بل يتحول إلى مطهِّرٍ للأيدي في أفضل الأحوال. فإن تجاوزتَ عن فسادِ حجة المنطق ونظرتَ في النتيجة التي يصل إليها الكلام في حد ذاتها، وَجَدْتها أكثر فسادًا.

إن القول بأن “الأكثر معرفة باللسان هو الأكثر إنسانية” يقتضي، مثلًا، أن أهلنا في سوريا الذين قضوا عقدًا في المخيمات (بلا مدارس أو أي ظاهرة من ظواهر العيش الآدمي) هم أقلُّ إنسانية من نظرائهم الأسعد حظًّا الذين نهلوا “المعرفة العليا” وأتقنوا “تاريخية الكلام الشعري“. كما يقتضي ذلك أيضًا أن العبيد الأفارقة في الولايات كانوا أقل إنسانيًّة من مستعبديهم، كيف لا وأجيال العبيد فقدت سريعًا معظم صلتها بلسانها الأصلي –لأن مستعبيدهم كانوا لا يتركون من ينطقون بلغة إفريقية واحدة يجتمعون في مجموعة عمل واحدة، خوفًا من تمردهم- ثم همُ لمّا يتعلموا من الإنجليزية شيئًا كافيًا بعد، أقصدُ لم يحصلوا على “المعرفة العليا” باللسان.

 

من البديهي أن هذا كله فاسد، وأن الشاعر (أدونيس أو غيره) لا يزيد إنسانيةً مقدار شعرة على أم تُغَنِّي لابنها تهويدةً كي ينام في الخيمة، بل الأرجح أن ينقُص؛ هذه الفكرة لا يُقِرُّها مؤدِّبٌ أصلًا، فضلًا عن أديب، ولا أظنها جاءت على قلم أدونيس إلا كما يحصل مع كافة أهل الفنون من النرجسية، حيثُ يحدِّثُك الرسام عن أن الأحذقَ بصرًا هو الأعمق بصيرةً، ويرى العازف أن الأدرى بقفلات مقام الصبا هو الأكثر رومنسية، إلى آخر مثل هذا الكلام الذي يمدح به أهل المهن أنفسهم.

 

هذه الفكرة وما يشابهها عند أدونيس مثل ازدرائه للقرَّاء (غير الخلَّاقين والرائين منهم) حين يعتبر أن “الجمهور أكبر أكذوبة فنية” وأنه “ليس له معنى”… هذا الأفكار كلها نهايات منطقية لإقصاء الشعر تمامًا عن فطرته وإحالته إلى “التاريخي” و”الثقافي”، أي: إحالة تقييم الشاعر إلى الآليات المؤسساتية، شرقية كانت أم غربية. وينتهي الأمر بنا هنا إلى سؤال نتمنى أن يكون عادلًا ومشروعًا ومؤدَّبًا: ألا يحقُّ لهذا الجمهور الذي يراهُ أدونيس “أكبر أكذوبة فنية في التاريخ” و”لا معنى له” أن يرى هو أيضًا أنَّ أدونيس “أكذوبة” و”لا معنى له”… من دون أنْ يُحاكَمَ بتهمة «ازدراء أدونيس»؟!

حبيب الصايغ.. رَسَمَ وجْهَهُ فتشَكَّل العالم! | شعبان البوقي

شعبان البوقي

شاعر وكاتب مصري

يتساءل الكاتب والشاعر الأرجنتيني الشهير خورخي لويس بورخيس:

“ما هو الزمن؟! إنه النهر الذي ينفلت مني.. لكنني أنا النهر! إنه نمرٌ يفترسني.. لكنني أنا النمر! إنه النار التي تلتهمني.. لكنني أنا النار! العالم -للأسف- هو أنا.. العالم هو بورخيس”.

بعد كل هذه التجربة الممتدة والعميقة يكتشف بورخيس صدمته، ويصدمنا جميعًا معه، بأن العالم الذي حاول رصده وتفسيره ما هو إلا بورخيس ذاته، وها هو يُصرِّح في كتابه الخالق قائلًا: “في آخر صفحات الكتاب تحدَّثتُ عن رجل يحاول أن يرسم صورة للكون.. ولكنه اكتشف في لحظة موته أنه رسم وجهه هو!”.

هذه الحقيقة التي بدت له وصدمته بعد كل هذا العناء؛ فطن لها شاعر العربية الكبير حبيب الصايغ منذ بداياته مع الشعر، حين أدرك أن الذات المفردة وفهمها هما السبيل الأقدر للخلْق الشعري وصياغة العالم لينطلق من الذات ودواخلها إلى الخارج. حيث المفرد هو المجموع في حقيقته، لنجد أن تجربته الشعرية ذاتيةً انطلقت من تفرُّدها لترسم لنا عالمًا مدهشًا صاغه برؤاه الفلسفية النابعة من الداخل والمكنون فيه.

ربما كان هذا المنحى هو السبب الأكثر موضوعية لمجايليه من المبدعين والنقاد حين وصفوه بالغموض والإبهام. هذا المفرد الذي انطلق منه “الصايغ” لتشكيل عالمه الشعري بدا لنا منذ أن قدم أول ديوان له وهو (هنا بار بني عَبْس) في عام 1980 تلك القصيدة الطويلة التي تتناول سيرة عنترة بن شداد محتفيةً بالهم الفردي والبحث عن الحرية الشخصية كمنطلق لتحرير العالم بكامله لا العكس. فهو لا يكتب عن فارس مقهور من منظور البطولة بل يعيد قراءة عنترة قراءة مغايرة تنظر إليه من خلال احتفائه بذاته والبحث عن حريته ومجده الشخصي الذي لا يعير انتباهًا لباقي العبيد كما يقول “الصايغ”. إن هذا المنحى الفلسفي لفهم حرية الإنسان التي تبدأ من تحريره لذاته وإعلائها لبناء الكون كان حاضرًا في شعر حبيب الصايغ طوال تجربته وكأنه يقول لقارئه: “أنا العالم.. ستكتشفه باكتشافي” وربما كانت تلك النزعة الوحدوية عنده نتيجة موضوعية لمتصوف اعتمد النظرة العميقة للنفس وعوالجها وبواطنها منظارًا دقيقًا لتفسير العالم ونواة لتكوين الوجود الشعري الخاص به.

فها هو يؤكد على نظرته الأولى وفلسفته بديوانه الثاني الذي نشره عام 1981 ويعلنها بعنوان مُبين أسماه “التصريح الأخير للناطق باسم نفسه” وهنا يؤكد بما لا يدع مجالًا للريبة أنه قادم للخلْق الشعري من منطلق الحديث عن نفسه هو، حيث تفرُّده وحده القادر على حمل الشعر وطنًا للإنسانية، رافضًا الاستيراد من الخارج للتعبير والمحاكاة عنه، حيث ذاته هي العبور للمطلق الرحب. وحبيب الصايغ هنا يضع لنا قاعدة رئيسية للإبداع وهي أن الخلق عند الشاعر يبدأ من ذاتيته؛ فهو الراصد لهمسها ليستمع لهمس الكون من حوله، وهو المنكفئ عليها ليجعلها قاربًا يعبر به من أراد الإبحار في الفن. فها هو يصرح عن ديوانه الأول قائلًا: “وفي إحدى الليالى كنت أكتب فى القصيدة، وجاءت فى خاطرى الجملة الشعرية «تُشاغِلُني البِيدُ فى ذروةِ الوحدةِ العاقلة» فوجدت أن هذه الجملة هى مطلع القصيدة وأن ما كتبته خلال العامين السابقين يجب أن ألقيه فى سلة القمامة”.([i])

لقد فطن أن ذروة الوحدة العاقلة هي المسلك الحقيقي لفهم الإنسان، مقررًا أن يلقي كل ما سبق في سلة المهملات ليبدأ رحلة القبض على حقيقة فهم الإنسان والشعر.

تلك النظرة الفلسفية والحقيقة التي أدركها “الصايغ” جعلتنا نطالع شاعرًا رائدًا قديرًا من أعمدة الحداثة في الشعر العربي، وهنا لا أريد أن أقول الإماراتي وحسب، فهذا التصنيف قد يمنحه فخرَ الموطن العظيم، لكنه قد يسلبه حقَّهُ في مشهد القصيدة العربية التي كان واحدًا من فرسانها المجدِّدين والمجرِّبين بها تجريبًا لا يحتفي بالتمرد على شكل مُعين ولكنه تجريب ينطلق من التفرد في النظرة والمجاز الذي ينطلق دائمَا من نفس وحيدة متأملة تقدم رؤيتها للعالم، خالقةً لا معبرةً، فهو الذي يقول عن نفسه : “أنا متفرد” وهنا لم يكن مغرورًا أو متعاليًا، لكن القراءة الموضوعية المتفحِّصَة في منجزه الشعري ستجد خلَّاقا قادرًا على الدهشة والقبض على رؤى ومعانٍ ونوايا متفردة، طارحًا فلسفة شعرية مغايرة من زاوية بعيدة وخاصة لا يشبهه فيها أحد ولم يتشبَّه فيها بأحد.

فعلى سبيل الشكل استطاع أن يكتب القصيدة العمودية والتفعيلية وقصيدة النثر، مصرِّحًا بأنه لا يرفض شكلًا بعينه ولا ينتصر لجنة بعينها حيث يقول: “كتابة الشعر ليست «لعبة»، لذلك أحاول أن أكون جديدًا وأن أقول ما لم يقله أي أحد قبلي، ولا يمكن أن يقوله أحد غيري، وأن يكون هناك تجريب دائم وشكل جديد ومضمون جديد، لذلك أنا أكتب الأشكال الشعرية الثلاثة القصيدة العمودية، وقصيدة التفعيلة، وقصيدة النثر، وهذا مهم ففي رأيي ليس هناك شكل شعرى يقوم بإلغاء شكل آخر”([ii]).

هذا الفهم جعل حبيب الصايغ لا يقدس الإطارات لكنه يسعى للنفاذ لجوهر الشعر، الذي هو ذاتي لا يقبل عنده أن تشوبه شائبة ابتلاع طُعْم الآخرين، فهو يطرح نفسه بأسئلتها وبحيرتها وبأحزانها وتأملاتها الخاصة لينطلق من داخلها لصوغ عالمه الرحب الفَتَّان، فأسئلته شجرُ الآخرين، وهو الذي رسَمَتْهُ البيدُ، وركضت نحوه السواحل، وأبصر مالا يراه غيره.. بل إن رثاءه وموته انتهاء للحضارات.

“أؤسِّسُ أسئلتي في الفراغِ،

فيستدرجُ الشكلُ ظِلِّي إلى وحشَةِ الحُبِّ

أدفن أسئلتي في حديقة بيتي،

فيطلعها صاحبي شجرًا

لا سماءَ سوى ما انتهى

فَدَعيني أقلْ ما أشاءْ

مرةً، حين داهمني الموتُ

أبصرتُ ما لا يُرى

وحيدٌ أنا

ضائعٌ كالفصولِ الشريدةِ

إنَّ الرثاءَ انتهاءُ الحضاراتِ

فلتَرْبِطوني إلى شاهدِ القبرِ كي ما أُغَنِّي!

وحيدٌ أنا

البِيدُ حَوْلي ترْسمُني من جديدٍ

وتركضُ نحوي السواحل».

لقد آمَنَ حبيب الصايغ أن التفرد هو السبيل الأوحد ليُتَوِّجَهُ الكونُ شاعرًا، حين قال: “لولا شعوري، بل يقيني بأنني متفرد؛ لما نشرتُ شعرًا ولما قلتُ إني شاعر. في الشعر لا توجد منطقة وسطى.. إما أن تكون شاعرًا متفردًا وإما لا تكون”([iii]).

إن سيطرة الأنا على شعر حبيب الصايغ لم تكن من قبيل النرجسية، لكنها المرآة التي يجب أن ينظر فيها الكون والشعر ليجد نفسه. بل إن الموت عند حبيب الصايغ أضعف من محو الإنسان والفنان، فهو يدركه ويتصالح معه ويتحداه ويراه.. قبل أن يأخذ حبيبًا في غياهِبِه البعيدة. وفي هذا يقول: “الكتابة تمرينٌ على الموت، أنا أتوقَّع أنني سأموت فجأةً في يومٍ من الأيام، وهذا تمرينٌ على الموت،  فالكتابة كالحُب تمامًا”([iv]).

 “لا يُناسِبُني أيُّ شيءْ

لا يُناسِبُني الغزَلُ الصِّرْفُ هذا المساء

ولا أدَّعي أنني عاشقٌ..

يُعرَف العاشقونَ

بأسمائهم واحدًا واحدًا

وأنا لا يُناسبني أيُّ شيء

ولستُ أنا، غير أنِّي انتظرتُ بهاءَكِ

منذُ ازدحامِ سمائي ببرقِكِ

منذُ اكتمالِ دمي

في مرايايَ

أو تَعَبي في خلاياي

يا أنايَ البعيدةَ فيَّ

ولا ألتقيكِ لأنكِ أقربُ مِنِّي إليَّ”([v]).

وليس من دليل على قهرِهِ للموت أوضح من ديوانه الخالد “أُسَمِّي الرَّدَى ولدي”، الذي قدَّم فيه رؤية فنان تغلب على الموت واحتواه فكان ابنه، لأن مقامه أكبر منه في رحاب الخلود، فهو المُصِرُّ على نسب الموت له، وكأنه هو أبوه ومن أتى به للكون، وهذا أكبر دليل على احتفائه بذاته في شعره.

“كذلك قالَ العدم

فانثنيتُ إلى الخُلْدِ عَلِّي أُقاوِم فيهِ فُضُولي

وأقنَع بالنومِ أو بالقراءةِ أو بالندمْ

أو باختراعِ الأباطيلِ

أو صُحْبةِ الأُسْدِ في الغابِ

أو بمحاورةِ امرأةٍ سبَقَتْني إلى الغيبِ والجَوُّ صَحْوٌ ومنتَشِرٌ

في نواحي الأبدْ

وبالموت…

حتى إلى الخُلْدِ تلحَقُني يا ابتدائي

أردتُ أقول: وحتى إلى الخُلْدِ تَلْحَقُني يا وَلَد؟!”.

لم يكن حبيب الصايغ بعيدًا عن هَمِّ أمته وحضارته ووطنه، لكن الوطن والأمة والأماكن عنده تخضع لقوانين الذات والتصاقها بها وفهمها من الداخل واستخلاصها من أعماق النفس؛ لا رصدها والتعبير عنها كآثار وطرق سلكها قبله الآخرون يتلمسها أو يرسمها ويحاكيها.. بل يخلقها على عينِه وينفخ فيها من روحه الشاعرة، فتراها مغايرةً فاتنةً كأنَّك تراها لأول مرة وذلك هو الفرق بين الخلْق والتعبير.

فحينما تناوَلَ قضية فلسطين مثلًا، وجدنا كيف انداحَ الجمعيُّ والقوميُّ في الذاتيّ، وكيف أن حزن الإنسان الشخصيّ وهمومه هما المحرك لكل قضية كبرى.

“ما الذي أنتَجَتْه الحروبُ الأخيرةُ

قُلْ !

ما الذي أنتَجَتْهُ الحروبُ الأخيرةُ؟

دَعْ عنكَ حُزني الخفيفَ

سأتركه جانبًا

وأقاتلُ من أجل كلِّ فلسطين

واللافتاتِ الجميلةْ

وأعشقُ كل بناتِ القبيلةْ

سأقاتلُ من أجل كلِّ فلسطين”([vi]).

إن الهوية  إبداعيًا -كما يرى الشاعر والمفكر الكبير أدونيس- هي أن تحيا وتفكر وتعبر كأنك أنت نفسك وغيرك في آن، بحيث تبدو في لحظةٍ ما كأنك الكل في واحد، فالإنسان في الإبداع مشروعٌ لا يكتمل، والشعر ليس أجنبيًا على الذات، وهو بُعْدٌ مِن أبعادِها وصورتها الثانية، والآخر ليس بالضرورة هو الانتماء القومي أو التراث أو الهوية الجماعية أو الأيدولوجية، وإنما هو الإنسان المفرد، كالذات، أي هو الوعي الإنساني الشخصي الذي يواجه الكون، ويحاول أن يكتبه.[vii]

وهذا معنى كبير يلخِّصُه حبيب الصايغ قائلًا:

في حياته، منذ وُلِدَ،

وهو لا يرى إلا موتَهُ

في الينابيع وزجاج النوافذ والقطارات..

وعندما مات أخيرًا

اكتشف أنَّ ما كان يراهُ طيلَةَ حياتِهِ ليسَ

الموت!

يتذكر ويضحك ..

ويُهيل بيديه على وجهه

شلَّال ورد .. ويضحك”.

كان حبيب الصايغ يرفض الاستسهال في الشِّعْر، فعلى حَدِّ قولِهِ: هناك ذائقةٌ قد تُدَمَّر بنشْرِ ما لا ينبغي نَشْرُه. وإذا نظرنا لمنجزه الشعري سنجده المتحدث باسم نفسه، المُتَفَرِّد الأُمَّة، المنتصر للإنسان متمثلًا في ذاته، المُسَمّي الرَّدَى وَلَدَهُ ليُرَوِّضَه، والراسم وجْهَهُ  ليتشكَّل العالم.. سلامٌ لروحِه في الأعالي.

 

 

 

 

[i]( حبيب الصايغ: لقاء خاص مع صحيفة البوابة نيوز، القاهرة، مصر، الأربعاء 21/أغسطس/2019 – 10:00 م

[ii] نفسه

[iii] حبيب الصايغ: أنا متفرد··· صحيفة الاتحاد، الإمارات، 24 يوليو 2008 00:10

[iv] حبيب، الصايغ: حوار مع الشاعر في مجلة نزوى، عمان : 1 أكتوبر,1997

[v]    الأعمال الشعرية – حبيب الصايغ – الجزء الأول – اتحاد كتاب وأدباء الإمارات – 2012م – ط 1 – ص : 58

[vi] حبيب الصايغ: الأعمال الشعرية، الجزء الأول، اتحاد كتاب وأدباء الإمارات – 2012م – ط 1 – ص :43

[vii] أدونيس: سياسة الشعر ، دراسات في الشعرية العربية المعاصرة، دار الآداب – بيروت، ط1، 1985 م، ص : 69و 70

هَوَسُ الخلود عند دِعْبِل الخُزاعِي | أحمد عايد

أحمد عايد

شاعر وكاتب من مصر

هَوَسُ الخلود عند دِعْبِل الخُزاعِي

أحمد عايد

شاعر وكاتب من مصر

 

تنتشر آراء كثيرة حول نشأة الفنون ولماذا اخترعها الإنسان. ولعلَّ أشهرها يزعم أن الإنسان اخترع الفنون ليقاوِم الفناء؛ فالفنَّان لا يريدُ أن يموتَ كالآخرين، “كأنَّهم مِن هوان الخَطب ما وُجِدوا”[1]، وإنما يريد أن يتردَّد اسمه دائمًا أبدًا، كأنَّ لسان حالهم جميعًا:

وما الدَّهر إِلَّا مِن رواة قصائدي * إذا قلتُ شِعرًا أصبح الدَّهرُ مُنشِدا[2].

ويرجع هذا إلى اعتقاد الفنَّانين أنَّ بهم لمسةً ألوهيَّةً، بوصفهم خلَّاقين ومُبدعين، وبالتَّالي فمن حقهم ألَّا يموت ذِكرهم كبقية الناس.. حتَّى ولو اشتركوا معهم في موت الجسد.

ومنذ كتب هوميروس ملاحِمَه، والشُّعراء مشغولون بالخلود، لا يريدون أن يضيع ما بذلوه في قصائدهم من وقتٍ وجهدٍ هباءً، ولا يريدون أن يمروا على الدنيا مرور العابر.. ومن هؤلاء دِعْبِل الخُزاعي (ت. 246 هـ).

وُلد دِعْبِل لأُسرة شعراء، فجدُّه رَزين شاعرٌ، وأبوه عليٌّ شاعرٌ، وأخوه رَزين بن عليّ شاعرٌ، والحُسين ابنُهُ شاعرٌ، وابن عمه مُحمَّد بن عبد الله بن رَزين المعروف بأبي الشِّيص شاعرٌ.

وعلى الرغم من هذا، فقد تتلمذ على يد مُسْلِم بن الوليد المعروف بـ”صريع الغواني” أحد كبار شُعراء العرب، ويحكي دِعْبِل عن نفْسه قائلًا: “ما زلتُ أقول الشِّعر وأعرضه على مُسْلمٍ، فيقول لي: اكتمْ هذا. حتَّى قلتُ:

أين الشَّبابُ؟ وأيَّةً سلكا؟ * لا.. أين يطلبُ؟ ضلَّ، بل هلكا.

فلمَّا أنشدتُهُ هذه القصيدة، قال: اذهب الآن فأظهِرْ شِعرَك كيف شئتَ لِمَن شئتَ”[3].

وهي من قصيدته التي يقولُ فيها:

لا تعجبي يا سَلْمُ مِن رَجُلٍ * ضَحِكَ المَشيبُ برأسِهِ، فبكَى

لا تأخُذا بظُلامتي أحدًا * قلبي وطرفي في دمي اشتبكا[4]

وهي الأبيات التي غنَّاها أحد المُغنِّين بين يدَي الخليفة الرَّشيد، فطرب لها، وسأل عن صاحبها، فلما أُخبر بأنها لدِعْبِل، أمر بإحضاره، فأنشده دِعْبِل إياها، فأعطاه الرشيد عليها عشرة آلاف درهم، فاشتُهر بين الناس. وظلَّ يفخرُ بهذه القصيدة: “أنا ابن قولي لا تعجبي يا سَلْمُ مِن رجلٍ ضحِكَ المشيبُ برأسِهِ؛ فبكى”، ويعني أنه عُرِفَ بهذا البيت[5]. ولعلَّ هذا الاحتفاء البالغ بأوَّل قصيدةٍ معلنة لدِعْبِل جعله يعتقد أنَّه مؤهَّل لما ينتظر الشعراء من الخلود.

ويبدو لنا من عدم ركونه إلى ميراث أُسرته الشِّعري، ومن تتلمذِهِ على يدَي مُسلم أنه يعي جيدًا أن الشِّعر صنعةٌ تحتاج إلى الإتقان؛ لأنَّ هذا الإتقان أحد أسرار خلود الشِّعر، وهو ما تُشير إليه أبياتُهُ التالية:

نَعَوني، ولمَّا ينعني غيرُ شامتٍ * وغيرُ عدوٍّ قد أُصيبَتْ مقاتلُهْ

يقولون: إنْ ذاق الرَّدَى، مات شِعرُهُ * وهيهاتَ عُمرُ الشِّعر طالت طوائلُهْ

وهَبْ شِعرَهُ إن مات مات، فأينَ ما * تَحمَّلَهُ الرَّاوونَ، والخطُّ ناقلُهْ

سأقضي ببيتٍ يحمَدُ النَّاسُ أَمرَهُ * ويكثرُ من أهل الرِّواية ناقلُهْ

يموتُ رديءُ الشِّعر مِن قبلِ أهلِهِ * وجيِّدُهُ يبقى وإنْ ماتَ قائلُهْ[6]

وقد كان دِعْبل “مِن مشاهير الشِّيعة، وقصيدته التَّائية في أهل البيت من أحسن الشِّعر وأسنى المدائح”[7]. ولذا اهتم الشيعة بشِعره، وقد جمعه الشيخ محمد السماوي[8]، وكذلك عبد الصاحب عمران الدجيلي[9]، وضياء حسين الأعلمي أيضًا[10].

والقصيدة المشار إليها، هي كما وصفها ياقوت حقًّا، وقد اهتم بها الشيعة، حتى أُفردت بالشَّرح، وممَّن شرحها الميرزا محمد كمال الدين بن محمد معين الدولة من أعلام القرن الثاني عشر الهجري[11]، ومحمد لطف زاده[12]، والعلَّامة محمد باقر بن محمد تقي مجلسي[13]. يقول فيها:

مدارسُ آياتٍ خلتْ من تلاوةٍ * ومنزلُ وحيٍ مقفر العَرَصَاتِ

لآل رسول الله بالخَيف من مِنًى * وبالركن والتعريف والجمراتِ

ديارُ عليٍّ والحُسين وجعفرٍ * وحمزةَ والسَّجَّاد ذي النَّفَثَاتِ

ومنها:

ملامَكَ في أهل النَّبي؛ فإنهم * أحبَّايَ ما عاشوا وأهل ثقاتي

تخيَّرتُهم رُشدًا لأمري؛ لأنَّهم * على كلِّ حالٍ خيرةُ الخِيَراتِ

ولما أتمها، قصد بها أبا علي ابن موسى بن الرضا بخُراسان، فأعطاه عشرة آلاف درهم وخلع عليه بُردة من ثيابه، فأعطاه أهل قُمٍّ بها ثلاثين ألف درهم، فلم يبعها، فقطعوا عليه الطريق ليأخذوها، فقال لهم: إنها تُراد لله عز وجل، وهي مُحرَّمةٌ عليكم. فدفعوا له ثلاثين ألف درهم، فحلف ألَّا يبيعها أو يعطوه بعضَها ليكون في كفنه، فأعطوه كُمًّا واحدًا، فكان في أكفانه. ويُقال إنه كتب القصيدة في ثوب وأحرم فيه، وأوصى بأن يكون في أكفانه[14].

وقد كان دِعْبِلٌ “هجَّاء خبيث اللسان، لم يسلمْ عليه أحدٌ من الخلفاء ولا من وزرائهم ولا أولادهم ولا ذو نباهة، أحسن إليه أو لم يحسن، ولا أفلت منه كبيرُ أحدٍ”[15]. حتَّى أنه هجا أخاه رَزينًا، وامرأته، وأستاذه مسلم بن الوليد، بل وهجا الخليفة الرشَّيد بعدما مات؛ غير معتبرٍ بكونه أول مَن أعطاه على شِعره وشهره بين الناس، وأحمد بن أبي دؤاد الذي أنفق على دِعْبِل جزيلًا. وقد لامه في ذلك أبو خالدٍ الخزاعي الأسلمي: “ويحك! قد هجوتَ الخلفاء والوزراء والقوَّاد، ووترتَ الناس جميعًا، فأنت دهرَكَ هاربٌ خائفٌ، لو كففتَ عن هذا، وصرفتَ هذا الشر عن نفسك!”، فقال دِعْبِل: “ويحك! إني تأملتُ ما تقول، فوجدتُ أكثر الناس لا يُنتفع بهم إلَّا على الرهبة، ولا يُبالى بالشاعر وإن كان مجيدًا إذا لم يُخَفْ شرُّه، ولَمَن يتقيك على عِرضه أكثر ممَّن يرغبُ إليك في تشريفه. وعيوب الناس أكثر من محاسنهم، وليس كلّ مَن شرَّفتَهُ شَرُف، ولا كلّ مَن وصفتَه بالجود والمجد والشجاعة ولم يكن ذلك فيه انتفع بقولك، فإذا رآك قد أوجعتَ عِرض غيره وفضحته، اتقاك على نفسه وخاف من مثل ما جرى على الآخر. ويحك! يا أبا خالدٍ، إنَّ الهجاء المقذع آخذٌ بِضَبع الشاعر من المديح المضرع”[16].

بل بلغ به الأمر أنه كتب هجاءً بلا اسم معيَّن، وقد حكى ذلك أحمد بن أبي كامل: “كان دِعْبِل يُنشدني كثيرًا هجاءً قاله، فأقول له: فيمن هذا فيقول: ما استحقه أحدٌ بعينه، وليس له صاحب. فإذا وَجِد على رَجلٍ، جعل ذلك الشِّعر فيه، وذكر اسمه فيه”[17].

لكنّ اللافت حقًّا أننا لا نعرف اسم دِعْبِل الحقيقي على سبيل الجزم، وقد زعم بعضهم أن اسمه محمد، ويُكنى أبا عليّ، واختلفوا في سبب تسميته “دِعْبِل”، واختلفوا في معنى لقبه: الناقة التي معها ولدُها، والبعير المُسن.. إلخ. وقد ألَّف كتاب طبقات الشُّعراء، وكتاب الواحدة، وترك ديوانًا كبيرًا، يدلُّ على ذلك قول الجاحظ: “سمعتُ دِعْبِل بن عليّ يقول: مكثتُ ستين سنةً ليس من يوم ذرَّ شارقه إلَّا وأنا أقول فيه شِعرًا”[18]. وقد ذكر ابن النديم أن الصولي عمل ديوان دِعْبِل في نحو ثلاثمئة ورقة[19]. وجاء في تراجم الشعراء أنه كان عند ابنه الحُسين من شعر أبيه ست مجلدات ضخمة، في كل مجلدة ثلاثمئة ورقة[20].

وقد أدرك دِعْبِلٌ شُهرتَهُ في حياته، يحكي أبو ناجية أنه كان معه في شهرزور، فدعاه رجل إلى منزله، وعنده قَينةٌ محسنة، فغنت الجارية بشعر دعبل: “أين الشَّبابُ؟ وأيَّةً سلكا؟”، فارتاح دِعْبِل لهذا الشِّعر، وقال: “قد قلتُ هذا الشِّعر منذ سبعين سنةً”[21].

وممَّا يلفت أيضًا أن نقرأ لدِعْبِل ملاحظة على عمرو بن نصر القصافي، يقول فيها: “قال القصافيُّ الشِّعر ستين سنةً، فلم يُعرف له إلَّا بيتٌ”[22].

ولنا أن نسأل بعد ذلك: هل أدرك دِعْبِلٌ حقًّا الخلودَ بشِعره؟ وإجابة هذا السُّؤال يكفلها الزمان، على وقع صوت دِعْبِل:

إنَّي إذا قلتُ بيتًا، ماتَ قائلُهُ، * ومَن يُقالُ بِهِ، والبيتُ لم يَمُتِ[23]

 

 

[1] شطر بيت لأحمد شوقي، ديوانه، ج 3 ص 63.

[2] ديوان المتنبي، ص 361.

[3] أبو الفرَج الأصفهاني، الأغاني، ج 20 ص 157.

[4] ديوان دعبل الخزاعي، صنعة د. محمد يوسف نجم، ص 117، 118.

[5] الأغاني، ج 20 ص 125.

[6] ديوانه ص 123، 124. وأمالي القالي، ج 3 ص 111.

[7] ياقوت الحموي، معجم الأدباء، ج 11 ص 102، 103.

[8] لا يزال مخطوطًا، أشار إليه د. محمد يوسف نجم في نشرته لديوان دِعْبِل.

[9] نشرته دار الكتاب اللبناني- بيروت.

[10] نشرته مؤسسة النور للمطبوعات- بيروت- لبنان.

[11] نشرته مؤسسة البلاغ.

[12] نشرته دار المجتبى بقُم.

[13] متوفر على اليوتيوب.

[14] معجم الأدباء، ج 11 ص 103.

[15] الأغاني، ج 20 ص 120.

[16] الأغاني، ج 20 ص 125.

[17] الأغاني، ج 20 ص 129.

[18] الأغاني، ج 20 ص 151.

[19] الفهرست، ص 161.

[20] د. محمد يوسف نجم، مقدمة ديوان دعبل، ص 6.

[21] لأغاني، ج 20 ص 127.

[22] المرزباني، معجم الشعراء، ص 34.

[23] ديوان دِعْبِل، ص 48.

مكتبات الشعر في مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث | شيخة المطيري

شيخة المطيري

شاعرة وكاتبة من الإمارات

لم تشعر دواوين الشعر بالغربة في المكتبة، فهي تلك التي تؤمن أنها تملك صوتًا خاصًا ودافئًا ينساب هادئًا أو صاخبًا من أرواح الشعراء. تجمع تلك الدواوين رموزٌ تستند إلى معايير الفهرسة والتصنيف، فنحن حين ندخل المكتبة ندرك بشكل طبيعي أنها تنتمي لرفوف معينة، تجعلها تنتظم متجاورةً وفق جغرافياتها وتاريخها.

هذا ما نراه في المكتبات العامة، ولكننا أيضًا نجد نماذج أخرى لحاضنات كتب الشعر –الدواوين والدراسات– كأن تكون المكتبة مخصصة بشكل كامل للشعر؛ كما هو الأمر في مكتبة البابطين في دولة الكويت الشقيقة. أما مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث فقد انتهج نهجًا خاصًا به، بأن أفرَدَ للشعر عددًا من المكتبات. مكتبة الشعر العربي ومكتبة الشعر الإماراتي (بيت القصيد) ومكتبة الشاعر نزار قباني، إضافةً إلى مكتبة الشاعر الإماراتي حمد خليفة بو شهاب والتي تُعَدُّ مكتبةً من المكتبات الخاصة في المركز، وهي فكرة قائمة على اقتناء مكتبات العلماء والمؤلفين والأدباء ومُحِبِّي الكتب، وقد انطلقت الفكرة من اهتمام معالي جمعة الماجد –مؤسس المركز- بتأريخ المكتبات الشخصية وتوثيقها والحفاظ على إرث أصحابها، وكأنها بعدُ في منزل صاحبها.

أما مكتبات الشعر فقد نشأت هذه المكتبات انطلاقًا من اهتمام معالي جمعة الماجد، الذي حرص منذ تأسيس الصرح الثقافي العظيم أن يهتم بالنتاج الأدبي الإبداعي، لإيمانه بصوت الشعر وحقيقة رسالته وعمقها.

ولهذه المكتبات أهمية كبيرة في مجال البحث والمطالعة، فكثيرة هي الدراسات القائمة على فكرة النص الشعري. ودراسة الموضوعات التي تناولتها القصائد الإماراتية والعربية. وتمت مناقشة عدد من الرسائل الجامعية بين الماجستير والدكتوراه استنادًا إلى ما جاء في هذه المكتبات. كما يقوم المركز أيضًا بدور فاعل في تعزيز المكتبة من خلال المناسبات الشعرية التي أقامها من أمسيات شعرية وجلسات حوارية مع الشعراء وطباعة الدواوين القديمة المحققة والحديثة، ونجد هذا الحضور العلمي أيضًا في مجلة «آفاق الثقافة والتراث» وهي المجلة العلمية المحكَّمة التي تصدر عن المركز، لتحمل بين أعدادها أبحاثًا عن الشعر وقضاياه النقدية، وتحقيقات لأشعار الشعراء القدامى، وسيأتي الحديث الآن عن المكتبات الشعرية في المركز.

 

مكتبة حمد خليفة بو شهاب

هو الشاعر والنسَّابة الإماراتي المعروف بالهزار الشادي، والذي ولِدَ عام 1932م في عجمان، وتعلم في كتاتيبها ومدارسها. أحب الشعر مبكرًا وكتبه في سن التاسعة، وظل محافظًا على القصيدة العمودية طوال عمره. كان أول من قدم مجالس الشعراء عبر تلفزيون الكويت من دبي عام 1971م. وهو أول من نشر الشعر الشعبي في الصحافة اليومية من خلال جريدة البيان منذ عام 1981م. ومن أبرز مؤلفاته كتاب «تراثنا من الشعر الشعبي».

ضمّ المركز جزءًا من مكتبة شاعرنا، فكان عدد العناوين فيها نحو 727 عنوانًا، انعكست اهتماماته عليها، حيث كان أكثرها من كتب الأدب والديانات والتاريخ.

وقد كان الاشتغال على هذه المكتبة من أمتع التجارب التي عشتُها، إذ أتيحت لي فرصة المطالعة القريبة لمحتويات المكتبة، رفقة أستاذَيّ الباحث والمؤرخ علي المطروشي والباحث النسَّابة عبد الله المهيري. كانت المكتبة تضم الكتب المطبوعة ومجموعة من الوريقات التي تخص الشاعر، كتب فيها ملاحظات حياته اليومية، ووضع تعليقاته على الكتب. كما كان –رحمه الله– يضع إشارات عند الصفحات دلالةً على موضع القراءة. لقد كان الشاعر حمد خليفة بو شهاب من الزوار الدائمين للمركز بحكم اهتمامه بالثقافة والصداقة التي جمعت بينه وبين جمعة الماجد. ومن وفاء المركز للشاعر فقد أقيمت فيه فعالية ذكرى رحيل الهزار الشادي؛ مستعرضين أهم إصداراته المطبوعة والمخطوطة.

  

مكتبة نزار قباني

لهذه المكتبة حكاية حَفِظَتْها ذاكرة معالي جمعة الماجد والعاملين في المركز في ذلك الوقت. زار الشاعر نزار قباني مركز جمعة الماجد بتاريخ 6/12/1994م، وكان ذلك حين حصل على جائزة الإنجاز الثقافي والعلمي في مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية، وكان قباني في ضيافة الشاعر سلطان العويس الذي أخبره عن المركز وطلب منه زيارته. وقد أعجب نزار بالمكان وما فيه من مكتبة وخدمة للباحثين وكما يروي معالي جمعة الماجد فإن نزار قباني سأله إن كانت كتبه موجودة في المركز، وقد سُرَّ كثيرًا حين رأى مجموعة من كتبه، ثم سافر إلى بيروت وشحن للمكتبة بقية إصداراته. تطور الأمر بعد ذلك من قِبَل القائمين على المكان وتتم الآن إضافة كل كتاب جديد يصدر عن نزار قباني إلى هذه المكتبة. ضمت مكتبة نزار 137 كتابًا من دواوينه المنشورة والدراسات التي أُجريَت حوله، لعل من أقدمها نسخة مصورة من كتاب «دنيا الحروب: ملحمة شعرية أوحتها نار الحرب الحاضرة وصدى أنين البشرية المعذبة المرهقة»، نُشِرَ سنة 1941م. وكتاب «قالت لي السمراء»، شعر، نُشِرَ سنة 1944.

 

مكتبة الشيباني

وتضم مكتبة المركز أيضًا مكتبةً لشاعر آخر وهو محمد شريف الشيباني، وهو شاعر ومؤرخ توفيَ سنة 1998م، وكان يعمل أمينًا لمكتبة عامة في أبوظبي، ولديه إصدارات تربو على 20 كتابًا. أما مقتنيات المكتبة فقد تنوعت بين الكتب المطبوعة والوثائق والمراسلات والتسجيلات الصوتية والصور الفوتوغرافية الخاصة بالشاعر. وقد وجدنا في المكتبة من ضمن التسجيلات تسجيلات صوتية بصوت الشاعر وهو يقرأ أبياتًا مهداة لمعالي جمعة الماجد. أما الوثائق فمنها ما يتعلق بعمله في المكتبة، وسيقوم المركز الآن بالاشتغال على هذه الوثائق لإصدارها في كتاب خاص يتحدث عن أمناء المكتبات الشعراء.

 

مكتبة الشعر العربي

وللشعر العربي عمومًا أفردت مكتبة اسمها (مكتبة الشعر العربي)، وهي مكتبة متخصصة تضم كل ما يتعلق بالشعر والشعراء. وفيها ما يقارب 13 ألف عنوان منها أكثر من 500 كتاب من نوادر المطبوعات، مثل كتاب «العيون اليواقظ في الأمثال والمواعظ»، لمؤلفه محمد عثمان جلال والمطبوع سنة 1857م. وديوان ابن معتوق المطبوع سنة 1861م. وقد قدمت هذه المكتبة خدمات بحثية جليلة للباحثين من داخل الدولة وخارجها، كما استعان بها بعض المهتمين بإصدار موسوعات شعرية.

 

مكتبات أخرى متخصصة

وفي عام 2011م وجَّه معالي جمعة الماجد بتأسيس مجموعة أخرى من المكتبات المتخصصة في المركز، ومنها: مكتبة النخيل، ومكتبة الغوص، ومكتبة الشعر الإماراتي (بيت القصيد) والتي تم افتتاحها في العام ذاته برعاية كريمة من معالي جمعة الماجد وبحضور عدد من مديري المؤسسات الثقافية والشعراء والمهتمين، وقد تأسست هذه المكتبة لتخدم الباحثين في مجال الشعر الإماراتي، وتقع في قسم الثقافة الوطنية وهو القسم المعنيّ بدولة الإمارات العربية المتحدة.

تضم المكتبة دواوين الشعراء الفصيحة والعامية، والدراسات المتعلقة بالشعر والشعراء في الإمارات. كما قام القائمون عليها بعمل قائمة تضم أسماء الشعراء وأعمالهم تسهيلًا على الباحثين. وتقوم المكتبة بعمل فعاليات شعرية معززة لدور المصادر والمراجع في المجال البحثي. منها ما كان في حفل افتتاحها من استضافة الشاعرين الكبيرين ربيع بن ياقوت –رحمه الله– وراشد شرار، والاحتفاء بالشاعر الإماراتي الدكتور شهاب غانم بمناسبة حصوله على جائزة طاغور العالمية.

هذه هي المكتبات التي أُفْرِدَتْ بشكل واضح المعالم للشِّعر، أو كان أصحابها من الشعراء. وليس الأمر متقصرًا على هذه المكتبات؛ لأن المركز يضم أيضًا كتبًا عن أشعار الثقافات الأخرى وبلغات متنوعة، كما يضم قسمًا خاصًا بالرسائل الجامعية المتعلقة بالشعر. ولن يتوقف هذا الاهتمام عند هذا الأمر، فبإذن الله سيستمر المكان محافظًا على الإرث الإنساني الإبداعي للشعراء العرب من المحيط إلى الخليج.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

“قصائد الثياب”، ذات المقص والحذف والبنيوية! | هاني نديم

هاني نديم

شاعر وكاتب سوري

صُودِفَ أنْ كنت في المكتبة الوطنية بباريس أبحث عن مخطوطٍ ما، فقيل لي إنَّ ثمَّة عرض أزياء في المكتبة إن أردت حضوره! كان غريبًا عليّ بعض الشيء، عرض أزياء في الـ”Bibliothèque nationale de France”.
كان العرض لمصممة خرّيجة اسمها سيسي لوبي، استوحت الشراكة الفنية بين الفنانة الأوكرانية سونيا ديلوناي والشاعر الروماني الشهير تريستان تزارا، بل خطت على مسارهما، مع تطوير الأدوات، حيث دمجت العناصر فأنتجت فساتين من ورق وحبر وقصائد ورسوم وقماش من مناديل البكاء والشعراء التي رميت تحت النوافذ.

ثوب من تصميم سونيا ديلوناي وعليه نصوص لتريستان تزارا

في العصر الحديث، قد تكون تلك العلاقة بين ديلوناي وتزارا هي أول اشتباك جمالي واضح ومفسَّر منهجيًا بين الأزياء والشعر، والحالة الأكثر تمثُّلًا في توظيف العلوم البينية والقريبة في خدمة الشعر، أو في خدمة بعضها بعضًا.
تعرفت ديلوناي إلى تزارا في مركز الطليعة الباريسية بين الحربين العالميتين وأصبحا أصدقاء يجمع بينهما الطموح الكبير في الابتعاد عن جيلهما فنيًا وإنتاج أشكال فنية تقدمية خارج حدود اللغة، وقد قدَّما المسرح والأزياء والتشكيل والشعر حتى باستعارات من الفنون القريبة، وذلك في وقت يضج بالثورات الفكرية والأسماء المهيبة.
تزارا المرعب بلُغَتِه العريضة والموسوعية، والمصنف كواحد من اللغويين العظماء في الشعر الأوروبي الحديث، وبإتقانه العديد من اللغات وبحثه وولعه الدائم في اجتراح لغة وتراكيب نحوية جديدة، ما جعل شعره يخرج عن المنطق واللغة برُمَّتِها، إلى جانب دوره كأحد المحرضين والملهمين للحركة الدادائية، بشراكة مع سونيا ديلوناي الرسامة والمعمارية، الشرسة والنسوية وصاحبة الأفكار الجريئة، والشارحة اللغوية البليغة في تركيب أعمالها والتي وسعت مفرداتها الملونة لتشمل الصور المتحركة والمسرح والعمارة، وبصورة خاصة تصميم الأزياء والمنسوجات والأزياء حيث تعاونت مع النسَّاجين والطابعين على ابتكار أشكال جديدة من التصنيع، ما جعل هذه العلاقة هي الأوضح بين مصمِّم أزياء وشاعر، فشكَّلا معًا عروضًا بصرية وشعرية رائعة.

سونيا الرائدة والمجنونة

سونيا ديلوناي (14 نوفمبر 1885 – 5 ديسمبر 1979) فنانة تنسب لفرنسا، ولدت في الإمبراطورية الروسية، أوكرانيا الآن، تعلَّمت الفن في روسيا وألمانيا، قبل أن تنتقل إلى فرنسا وتُوَسِّع ممارستها لتشمل تصميم المنسوجات والأزياء والديكور. عندما وصلت إلى باريس التحقت بأكاديمية “لا باليت” في مونبارناس. لكنها لم تُكْمِل الدراسة بسبب عدم رضاها عن أسلوب التدريس، الذي وصفته بأنه انتقادي للغاية، أمضت وقتها في معارض المدينة وتأثرت بفن ما بعد الانطباعية لفان جوخ وغوغان وهنري روسو ومجموعة الوحوش بما في ذلك ماتيس وديرين. وشاركت في تأسيس حركة الفن “الأورفية” المعروفة باستخدامها للألوان القوية والأشكال الهندسية، مع زوجها روبرت ديلوناي الذي تقول عنه: “وجدت في روبرت ديلوناي شاعرًا. شاعرًا لا يكتب بالكلمات بل بالألوان”. كما كانت أول فنانة حية تقيم معرضًا استعاديًا في متحف اللوفر عام 1964.
طوَّرَت سونيا تركيبات جديدة من الأقمشة وترجمت اللوحات المسطحة غير الموضوعية إلى أزياء ثلاثية الأبعاد تحركها الموضوعات. وقد حقَّقَت فساتينها وقبعاتها وأحذيتها مبيعات هائلة خاصة من زوجات أساتذة مدرسة “الباوهاوس” ما رفع من قيمة أعمالها ووضعها على خارطة الأزياء إنما الأزياء الشعرية.

صاغ صديق ديلوناي، الشاعر والناقد الفني الشهير “غيوم أبولينير”، مصطلح الأورفية لوصف نسخة ديلوناي من التكعيبية في عام 1913. وعبر صديقها أبولينير، التقت سونيا بالشاعر بليز سيندرارز الذي قالت عنه: “أعمال سيندرارز صدمتني ودفعتني إلى الأمام”. رسمت قصيدة سيندرارز الشهيرة La prose du Transsibérien et de la Petite Jehanne de France التي تتمحور حول رحلة على السكك الحديدية عبر سيبيريا، وجعلت النص في كتاب مطويّ على شكل أكورديون بطول مترين. وقد أحدث هذا العمل ضجة في باريس وتم بيعه بالكامل تقريبًا وأصبح الناس يقدمون طلبات اشتراك لنسخة منه، ضجَّ نقاد باريس حتى أن الرسام “بول كلي” أُعْجِب أيَّما إعجاب باستخدام سونيا للمربَّعات في غلاف الكتاب لتصبح سمة دائمة في أعماله.
وفي عام 1923 ابتكرت سونيا خمسين تصميمًا للأقمشة باستخدام الأشكال الهندسية والألوان الجريئة، بتكليف من أحد المصنعين في ليون؛ بعد فترة وجيزة، بدأت عملها الخاص وأصبحت simultané علامتها التجارية المسجلة، ولعل اسم علامتها (التزامن) يشرح مشروعها بإيجاز، بعد ذلك افتتحت “بوتيك” باسم العلامة أصبح بغية كبار المثقفين وزوجاتهم “لا بوتيك سيمولتانيه” بالشراكة مع جاك هايم، وكان من بين عملائها نانسي كونارد، وغلوريا سوانسون، ولوسيان بوجارت، وجابرييل دورزيات.

تزارا.. شراكة الرؤية والمسار

في العام نفسه، 1923، كانت باريس تستعد لعرض مسرحية الشاعر المرعب تريستان تزارا “القلب الغازي” Le Cœur à Gaz، وقد صممت سونيا السينوغرافيا والأزياء للممثلين. تلك المسرحية كانت بداية صداقة وتعاون مشترك في إزاحة الشعر إلى خارج اللغة.
بدأ تزارا بتأليف قصائد قصيرة تظهر كتركيبات حُرَّة على فساتين وأطقم تصممها وتلونها سونيا، وأحدثا صدمة وضجة في الأوساط الأدبية والفنية معًا، بحيث كتبت صحيفة Le Figaro: “إنها أزياء تعبد مرتديها، ذلك لأنهم المحتوى النصيّ واللونيّ والمعنى كاملًا، من سيلبس هذا؟ هل هنالك سوى مرعبي الثقافة؟”.
القلب الغازي أو القلب الذي يعمل بالغاز، مسرحية كتبها تزارا بالفرنسية على شكل سلسلة من الأحداث غير المترابطة ومحاكاة ساخرة للدراما الكلاسيكية. إنها أداء موسيقي وشعري فيه باليه ونصوص وتشكيل، وهي واحدة من أكثر المسرحيات شهرة المستوحاة من الاتجاه المناهض للمؤسسة المعروف باسم الدادائية. تم عرضها لأول مرة في باريس، كجزء من “صالون دادا” عام 1921 في جاليري مونتين، ثم عُرِضَت للمرة الثانية، وكانت مرتبطة ببيان فني تزامَن مع انقسام كبير في الحركة الطليعية، والذي دفع منافسي تزارا في عام 1924 إلى تأسيس السريالية. وفي معارضة لمبادئه للجناح المنشق من دادا، الذي يمثله أندريه بريتون وفرانسيس بيكابيا، حشد تزارا حوله مجموعة من المثقفين الحداثيين، الذين أيَّدوا بيانه الفني. بلغ الصراع بين تزارا وبريتون ذروته في أعمال شغب، والتي وقعت في أثناء العرض الأول للمسرحية.

ثوب من العرض المسرحي – تصميم سونيا ديلوناي

المؤرخ الأدبي الأمريكي ديفيد جرافر، وصف النص بأنه أعظم خدعة مكونة من ثلاثة فصول في القرن، حيث يسحق عناصر المسرح التقليدي التي يستخدمها بدقة شديدة لدرجة أن القليل من الإيماءات أو الملاحظات تتماسك في أي ترتيب يمكن التعرُّف عليه. هذه المظاهر من الدادا في أقصى درجاتها تقلل من المشهد المسرحي إلى نوع من الصوت الأبيض.
إنها مسرحية ممثِّلوها من أعضاء الجسم، عين وفم وأذن ويد، وتقيم حوارًا فوضويا ولكنه مليء بالشعر. تقول العين للفم: “افتح فمك من أجل حلوى العين”، يقول الفم:
“لا يعرفني الجميع
أنا وحدي هنا في خزانة ملابسي والمرآة فارغة عندما أنظر إلى نفسي..
الفراغ يشرب الفراغ وُلد الهواء بعيون زرقاء، ولهذا السبب يبتلع الأسبرين بلا نهاية”.
قدم تريستان تزارا نفسه نظرة ثاقبة للنية الساخرة والتخريبية، وصرَّح بعد العرض: “أتوسَّل إلى النقاد والأدباء أن يعاملوا هذه المسرحية كما لو كانوا يعاملون تحفةً فنيةً مثل ماكبث، ولكن أن يعاملوا المؤلف غير العبقري، دون أي احترام”.

شاكُل الفنون، خروج الشعر من الأوراق
مع ظهور الدادائية، كان العالم يضج بتحطيم الثوابت، بدأ التعاون بين الشاعر الكبير أندريه بريتون وتزارا في أواخر عشرينيات القرن العشرين، ثم تحول إلى صراع بعد عام 1921. فقد ورد أن بريتون اعترض على أسلوب تزارا في فن الأداء ورحلة دادا إلى سان جوليان لو بوفر وغيرها من الآراء والمواقف.
وقع أول صدام بينهما في مارس 1922، عندما دعا بريتون إلى عقد مؤتمر لتجديد الروح في الحداثة والدفاع عنها، وحشد شخصيات وازنة مرتبطة بالحركات الحداثية، حينها حضر تزارا المؤتمر ليسخر منه بينما استخدم بريتون المؤتمر كمنصة لمهاجمة تزارا.
ردًّا على ذلك، أصدر تزارا البيان الفني “القلب الملتحي”، والذي وقَّعَه أيضًا، من بين آخرين، مارسيل دوشامب، جان كوكتو، بول إيلوار، هانز أرب، سيسيل سوفاج، وآخرون.

مثقفو باريس الذين انفصلوا بين سوريالية ودادائية وما بعدها، ويبدو فيها في الصف الخلفي من اليسار: بول إيلوار، جان آب، إيف تانغوي، رينيه كرفيل. وفي الأمام من اليسار: تريستان تزارا، أندريه بروتون، سلفادور دالي، ماكس آرنت، مان راي. باريس 1933. تصوير: آنا ريوكين
كان البيان عبارة عن خليط من الدادائية وما قبلها ومن مناهضي الحركة البليغين، وقد تضمن العرض المسرحي هذا لأول مرة الموسيقا والتشكيل والشعر والمسرح والرقص، جنبًا إلى جنب، بل عرضت السينما داخل العرض والمسرح داخل المسرح، فكانت الموسيقا لجورج أوريك وداريوس ميلهاود وإيغور سترافينسكي، وعرضت أفلام لمان راي وتشارلز شيلر وهانز ريختر، بالإضافة إلى مسرحية أخرى لريبيمون ديسين “انفخ أنفك”، كما كانت هناك قراءات من كتابات هيراند، وزدانيفيتش، وكوكتو وفيليب سوبو، بالإضافة إلى معروضات لأعمال التصميم لسونيا ديلوناي ودوسبرج.
لعله من هنا، من هذا العمل التجريبي، بدأت تتشاكل الأزياء وتُفَسَّر شعريًّا، وللحديث بقية.

شعر الأطفال | د. الضوي محمد الضوي

د. الضوي محمد الضوي

شاعر وأكاديمي مصري

أول ما يتبادر إلى الأذهان في موضوع شعر الأطفال، هو الأغاني التي درجنا على غنائها للأطفال في مختلف بيئاتنا العربية (بِعَدِّ الأغنية ضربًا من الشعر) فيطربون لها ويأنسون بها، ويطلبونها وإن لم يعرفوا لها معنى، إنما يؤنسهم منها إيقاعها، وهكذا نجد كل ما يطربون له وطربنا له ونحن في أعمارهم، من الأغاني الشعبية، أو الأناشيد التي درسناها في المدارس، ظاهر الإيقاع، مُطرِبًا، حتى يكاد يتفق كل المعنيين بشعر الأطفال، تأليفًا وتنظيرًا، على أن شعر الأطفال لا بد فيه من الانتظام الإيقاعي الجليّ، لكن هل يكون الشعر شعرًا بالإيقاع الصوتي وحده؟ وهل قبول الأطفال في بيئاتنا العربية لتلك الأغاني والأناشيد التي يكون بعضها بلا معنى واضح لهم، يجعلنا نظن أنه يكفي في شعر الأطفال أن ننظم لهم نشيدًا أو مقطعًا مُوَقَّعًا فهموا معناه أو لم يفهموه؟
إجابةً عن هذا السؤال يجب أن نشير إلى أن الشعر يستمد ماهيته –وفقًا للبنيويّ الفرنسي جون كوين- من واقع مغايرته للكلام اليومي، على مستويين: الصوت والمعنى، فمن جهة الصوت يتضمن الشعر نظامًا إيقاعيًا معينًا (هو الأوزان الشعرية) لا يتوفر هذا النظام للمحاورات اليومية (التي تمثل المستوى الأوَّلي أو القياسي من اللغة)، ومن جهة المعنى أو الدلالة يقوم الشعر على الحضور الكثيف للتخييل، وما تعلق به من قيم بلاغية متنوعة، تحضر في الشعر الحضور ذاته. وهي أمور لا تتوفَّر أيضًا للكلام اليومي.
وهذا يجعل الوظيفة الأساسية للغة في الشعر وظيفة جمالية تركِّز أولًا على بنية النص نفسه، لا على مُؤَدَّاه المعرفي، ذلك المُؤَدَّى الذي هو هدف اللغة في مستواها الأولي (المحاورات اليومية).
فإذا انتقلنا إلى شكل خاص من أشكال الشعر، وهو الشعر المقدم للأطفال، فباختلاف المتلقي (الطفل) عن المتلقي (الإنسان البالغ) يجب أن نعيد تعريف ماهية الشعر ودوره.
فمن جهة الماهية: نجد أن الشعر الموجه للأطفال لا ييبقى مرتكزًا إلى رافديّ الصوت والمعنى على النحو نفسه، فلا اختلاف بين شعر الكبار وشعر الأطفال على مستوى الصوت، إذ حبَّذا النص الموزون إيقاعيًا المقفَّى تقفية جلية إذا كان مقدَّمًا للأطفال (مع تواتر استعمال شعراء شعر الأطفال لبعض الأوزان والأنماط الإيقاعية الخفيفة السريعة التي تناسب الأطفال، كالأوزان البسيطة التي تتألف من تفعيلة واحدة تتكرر مثل بحور الكامل والرجز والرمل والمتقارب والمتدارك، ومجزوءات هذه البحور ومشطوراتها خاصة) لما بين الإيقاع ونفسية الطفل من تواؤم فطري واتساق نفسي وجمالي، إذ للطفل بنية جسمية تُؤْثِرُ الحركة والنشاط واللعب وهذا يُعَزِّزُه الإيقاع وترديد النصوص الموقَّعة، لكن على مستوى المعنى: لا يبقى الشعر مستمدًا شعريته من الحضور الكثيف للتخييل والقيم البلاغية المتعلقة به، إذ يجب أن يقل فيه ذلك التكثيف التخييلي، وأن يُهذَّب ما يرد في هذه النصوص منه تهذيبًا يجعله مناسبًا لوعي الطفل، من حيث طبيعة بناء الجملة التخييلية، وتكوينات ما يرد فيها من خيال مُركَّب، بحيث يبقى بسيطًا، ملائمًا لطبيعة المرحلة السِّنيَّة المقدم لها النص.
ومن جهة دور الشعر: ففي الوقت الذي يؤدي فيه الشعر عمومٍا دورًا جماليًا، يكون على شعر الأطفال أن يؤدي دورًا مزدوجًا، جماليًا ومعرفيًا في آن. لأن الشعر الموجّه للكبار شعر موجّه لشخص لا يبتغي المعرفة في النصوص الشعرية، بقدر ما يبتغي منها بناءها الجمالي، لكن الطفل يُتوسّل إلى نقل المعرفة له بوسائط عدّة منها الأدب الذي يندرج الشعر تحت مظلته.
إذ يجب لشعر الأطفال علاوة على البناء الجمالي أن يتوجه من جهة مضمونه صوب غاية معرفية، بل قد يغلب المضمون المعرفي على المؤدَّى الجمالي، مع مراعاة ألا ينحدر الصوغ الشعري إلى المستوى الإخباري للغة الكلام اليومي، ولا يتجرد ليتماهى مع الوظيفة الجمالية تماهيًا كاملًا يغفل البعد المعرفي والتعليمي للشعر الموجَّه للأطفال.
وبذلك يكون المضمون المعرفي أو التعليمي أصلًا في شعر الأطفال، من ذلك التعريف بالعالم بمختلف شؤونه ومكوناته مما يجهله الطفل وتضيف إليه معرفته أبعادًا معلوماتية وإدراكية جديدة، كتعريفه بالطبيعة المحيطة به، والمشاعر، والآخرين، وبتفاصيل الحياة البسيطة والمدهشة، لكن يجب أن يكون كل هذا مصوغًا جماليًّا على نحو يحول كل هذه المضامين المعرفية إلى لوحات تزخر بالجمال محققًا قدرًا من التوازن بين المعرفي والجمالي (هادي نعمان الهيتي: أدب الأطفال- فلسفته، فنونه، وسائطه، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1986م، ص209).
والشاعر إذ يكتب شعرًا للأطفال يجب وفقًا لتلك الغاية المعرفية أن يستحضر مجموعة من الأهداف يرجو أن يحققها نصه –بعضها أو كلها- منها ما يعمق صلة الطفل بمادة تكوين الأدب وهي اللغة، كإثراء حصيلته اللغوية من المفردات والتراكيب وإكسابه مهارات لغوية جديدة، ومن تلك الأهداف ما يعمق قدراته الذهنية والنفسية العامة، كتنمية قدرته على التخيل وعلى الحفظ، بالإضافة إلى تحفيز عواطفه المختلفة، وتخفيف التوترات النفسية، وإمداده بالمعلومات المتنوعة، والقيم النافعة والمقبولة مجتمعيًا من خلال بثها عبر النصوص الشعرية المقدمة له، كذلك توطيد صلة الطفل بالأدب بوصفه منتجًا جماليًّا، مما يرغِّب الطفل نفسيًّا في الجمال وتذوُّقه، فيصبح هذا أصيلًا في تكوينه النفسي والمعرفي (كامل علي: مدى تحقيق أدب الأطفال المتضمن في كتب لغتنا العربية للصفوف الأساسية الثلاثة الأولى في الأردن لأهداف هذا الأدب، بحث منشور بمجلة بحوث التربية النوعية- جامعة المنصورة- مصر، عدد (31) يوليو 2013م، ص80).

وإذا جئنا إلى الحديث عن تاريخ شعر الأطفال في الأدب العربي، فشعر الأطفال حديث نسبيًا في أدبنا، استقاه الشعراء العرب في القرن التاسع عشر من مطالعتهم للآداب الأوروبية خاصة كتاب (حكايات لافوتين) الذي ألفه الشاعر الفرنسي جان دي لافونتين.
فمن الطلائع الأولى لشعراء الأطفال العرب في مصر محمد عثمان جلال (1828-1898) وإبراهيم العرب (1863-1927)، وأحمد شوقي (1868-1932) ومحمد الهراوي (1885 – 1939) وفي الأقطار العربية الأخرى الشاعر العراقي معروف الرصافي (1877– 1945) والشاعر اللبناني جبران النحاس (1882-1954) وغيرهم.
فقد صدر لمحمد عثمان جلال (وهو الأسبق تاريخيًا)(6) كتاب (العيون اليواقظ في الأمثال والمواعظ) وهو ترجمة لمقطوعات شعرية لحكايات لافونتين، وقد قررت نظارة المعارف المصرية كتاب (العيون اليواقظ) على الناشئة في المدارس عام 1894م، كما قررت نظارة المعارف لإبراهيم عرب كتابه (آداب العرب) عام 1911، وهو كتاب يضم مقطوعات وأقاصيص وحكايات ومواعظ من الشعر للأطفال، وقد أصدر شوقي عام 1898 الطبعة الأولى من ديوانه الشوقيات متضمنًا عددًا من المقطوعات الشعرية الموجهة للأطفال متأثرا أيضًا بحكايات لافونتين الشعرية على لسان الحيوانات (أحمد نجيب: من بحث بعنوان “ريادة شعر الأطفال بين شوقي والهراوي” منشور في كتاب لمجموعة من المؤلفين بعنوان “حول شعر الأطفال”، الهيئة المصرية للكتاب، القاهرة 1989م، ص83 وما بعدها).
كما صدر لمحمد الهراوي –وهو أجودهم وأنضجهم شعرًا للأطفال- سلسلة «سمير الطفل» للبنين والبنات من منشورات لجنة التأليف والترجمة والنشر بمصر. والتي منها سمير الطفل للبنين، في ثلاثة أجزاء، وسمير الطفل للبنات في ثلاثة أجزاء، عام 1923. كذلك له كتاب في أغاني الأطفال مزود بالعلامات الموسيقية والصور الملونة بعنوان: «شمس الضحى» – صدر بالقاهرة عام 1938. كما راحت جماعة أبولو الأدبية في مصر تنشر في مجلتها الأدبية (التي صدرت بين عامي 1932 و1934) تحت باب “شعر الأطفال” قصائد لشعراء منهم الصاوي محمد شعلان وبركة محمد وعلي عبد العظيم وكامل كيلاني (هادي نعمان الهيتي: السابق، ص212).
ومن الشعراء العرب الذين كتبوا شعرًا للأطفال الشاعر العراقي معروف الرصافي (1877– 1945) الذي صدر ديوانه عام 1910م متضمنًا عددًا من القصائد الموجَّهة للأطفال، والشاعر اللبناني جبران النحاس (1882 -1954) الذي أصدر ديوان (تطريب العندليب) عام (1940) عن دار البصير بالإسكندرية بمصر، وفيه مختارات من تعريب حكايات لافونتين وغيرها. ومنهم أيضًا الشاعر السوري سليمان العيسى (1921-2013) الذي كتب عددًا كبيرًا من الدواوين الشعرية والمسرحيات الشعرية المقدمة للأطفال منها: ديوان الأطفال، صدر في دمشق عام 1969، والمستقبل (مسرحية شعرية للأطفال) / دمشق عام 1969. والنهر (مسرحية شعرية للأطفال) / دمشق 1969. وأناشيد للصغار / دمشق 1970، والصيف والطلائع (شعر للأطفال) / دمشق 1970، وغيرها.
ومن واقع ما تتبَّعناه من محاولات الرواد، فإن حكايات لافونتين التي كانت عبارة عن مقطوعات من الشعر القصصي على لسان الحيوانات، كان لها أثر بالغ في نشأة شعر الأطفال في الأدب العربي الحديث، إذ بدأت معالجة الشعراء لهذا الشعر ترجمةً لحكايات لافونتين، ومنه انطلق من جاءوا بعدهم في كتابة هذا الشعر، لعلَّ هذا يُفَسِّر لنا غلبة الشعر القصصي على النصوص الشعرية المقدمة للأطفال في أدبنا العربي الحديث، يُضاف إلى هذا السبب ميل الطفل عادةً إلى الاستماع إلى الحكايات وتتبع تناميها وحبكاتها ومفاجآتها، بالإضافة إلى ما يوفره الصوغ الشعري من إيقاع مطرب، وخيال مدهش، كل هذا يجعل الشعر القصصي هو الأقرب إلى وعي الطفل وتفضيله الجمالي، ومن ثم الأكثر شيوعًا فيما يكتبه شعراء شعر الأطفال العرب.
يُضاف إلى هذا أنواع أخرى من الشعر المقدم للأطفال، فشعر الأطفال قد يكون أغنية أو نشيدًا أو أوبريت أو استعراض غنائي أو مسرحية شعرية أو قصة غنائية، وغير ذلك من الأشكال الشعرية المختلفة (أحمد نجيب: أدب الأطفال علم وفن، دار الفكر العربي، القاهرة، 1991م، ص، ص150).
ولم يتوقف شعر الأطفال في أدبنا العربي الحديث عند الرواد، بل تتابعت أجيال كثيرة في مختلف ربوع وطننا العربي من الشعراء الذين يكتبون هذا اللون الشعري، من أمثال أحمد سويلم وأحمد فضل شبلول وأحمد بخيت (مصر) وفاضل جمال علي (فلسطين) وفارق سلّوم (العراق)، وغيرهم، وقد حفَّز استمرار هذه الأجيال في كتابة شعر الأطفال وجود دوريات مخصصة للكتابة للأطفال، مثل “العربي الصغير” تصدر في دولة الكويت، و”قطر الندى” تصدر في مصر، وغيرها، بالإضافة إلى انتشار المسابقات الأدبية المخصصة لهذا اللون في مختلف الدول العربية.
ختامًا؛ يجب لشعر الأطفال أن يكون متَّسِمًا بسماتٍ أساسية، منها: أن يتلاءم شعر الأطفال شكلًا ومضمونًا مع مستويات نمو الأطفال الأدبي والعقلي والعاطفي والاجتماعي، لأن لكل مرحلة من مراحل الطفولة ما يناسبها من الشعر، كذلك أن تكون لغة الشعر لغة عربية فصيحة بسيطة، وأن تتوفر فيه الجاذبية التي تدعو الأطفال إلى التعاطف مع إيقاعاته وأفكاره وما ينطوي عليه من الانفعالات، من خلال الحيوية التي يضيفها الشاعر، والصور الحسيَّة والذهنية التي يرسمها، والصيغ الطلبية كالاستفهام والنداء التي يدخلها، فتجعل الطفل أكثر انجذابًا، وأن تكشف كل مقطوعة شعرية فكرة أو جانبًا من جوانب الجمال في الحياة والطبيعة، وأن يتجنب شعر الأطفال العواطف والانفعالات الحادة كالحزن والقلق واليأس وما إلى ذلك (هادي نعمان الهيتي: السابق، ص216).

موريتانيا.. بلد المليون شاعر | داود جاه

داود جاه

شاعر وكاتب موريتاني

«ونحن رَكْبٌ من الأشرافِ مُنْتَظِمٌ
أجَلُّ ذا العصْرِ قدرًا دونَ أدنانا
قدِ اتَّخَذْنا ظُهورَ العِيسِ مدرسةً
بها نُبَيِّنُ دينَ الله تبيانا».

هذا المدخل النظميُّ الوَثَّاب ليس مجرد استنطاق فرديٍّ للمكنونات الشاعرة، وتداعياتها العاطفية التي قد تتوارى أحيانًا خلفَ صيغة جماعية في محاولة ماكرة للاختباء والمخاتلة ولِبْس أقنعةٍ لغويةٍ شهباء والانخراط في الزحام، بقدر ما هو اصطفافٌ علنيٌّ مع رغبةِ الجماعة، وتمثُّلاتِها عن الذات؛ الذات الموريتانية المهمومة برأي الآخر ونظرتهِ، والمنشغلة دومًا بالتقاط الأصداء وتنقيَتِها من الشوائبِ.
الموريتانيُّ -بطبيعة الحال- لا يرضى أن يكون أقلَّ حيّزًا من صحرائه الهائمة على وجهها، تلك التي تمتدُّ أبعدَ كلما تحدَّثَ عنها راعٍ، أو استدعاها مغتربٌ في إحدى لياليه الشاتية. وهذا سرُّ “دراعتنا” ومقاسها الكهنوتيّ الفضفاض، إنَّها ليست مجرد قماشٍ لستر العورة وتورية الجسد عن الملأ، بل هيَ موقفٌ راديكاليٌ من العُريْ وأزمنته القاحلة، وملامحه المُنكَّسة الشبيهة بالدُّودْ.
حتى الموائد التي نقدمها للأضياف، لا بد أن تكون عامرة زاخرة بكلِّ ما هو لذيذ وفائض عن الحاجة، لا ليأكلوا فحسب، بل ليظل الطعام إلى الأبد. هكذا نتعامل مع الأشياء من حولنا، نخيطها على مقاس صحرائنا، ونوَشّيها من أعماقِنا عاطفةً جيّاشةً، ولغةً مصفَّحةً هائلةً عصيَّةً على الاختراق، ولنا طريقتنا أيضًا في السهر والبكاء، وعندنا ضاربٌ يشدو فيطربنا: «يا دارَ هندٍ بذاتِ الجزعِ حُيِّيتِ».
الشيء الوحيد الذي فشلنا في التعامل معه هو الزمن. علاقتنا به سيئة لدرجة أننا في المحكيّ نقول بكلِّ مجانيَّة: أنا ذاهبٌ لقتل الوقت مع أصدقائي!
هذا الأمر مُتَقَبَّلٌ جدًا. لقد خطر ببالي ذات مرة أن أقول لزوجة نيكوس كَزَنْتزاكيس حين صرَّحَتْ بلُغَةٍ موجعة -في تقريره إلى غريكو- عن رغبته في النزول إلى الشارع لتَسَوُّلِ نصف ساعة من العابرين، ليُكْمِلَ المؤجَّل من أعماله.. أن أقول لها: كُنَّا سنعطيه أنصاف أعمارنا ونقتل الباقي مع الأصدقاء. أو بالأحرى أن أقول ذلك لذائقتي، التي تنهنهتْ مرارًا وهي تتحسَّسُ مواجع أرملةِ كاتبِ رواية “زوربا” عبر مذكراته العجيبة.
فجأةً شعرتُ بمهمازٍ لغويٍّ وخَّازٍ يُنَبِّهُني إلى زمنٍ آخر استعضنا به عن البُعد الرابع، وهو الشعر. الشعر هو زمنُنا الاعتياديُّ والمُتَنَفَّسُ الوحيد في ذلك العالم المكشوف على غرائبيةٍ سادرةٍ في الشجنِ والحنين. حتى تلك المسكينة حين مات عشيقها قالت شعرًا من شطرين فقط:
“سَعْدَكْ يالقبِر
رايح لكْ أحمد معطَّر”.
يا لَحَظِّكَ أيها القبر، الليلةَ ينزلك أحمد بعطرهِ الأخَّاذ!
لم يكن مسموحًا لها بقول أكثر من ذلك، فالمرأة عندنا -خاصةً في ذلك الزمن- لا تملك الحق في أكثر من شطرين، وهذا النمط الشعريّ اسمه “التبراع”، وهو خاصٌ بالنساء فقط. ولم يكن لائقًا بها التصريح باسم معشوقِها، لكنَّها فعلتْ خروجًا على المعتاد، وانسلاخًا من الأعراف وما تُمليه الوصاية على النساء.
لكن متى بدأنا نقول الشعر؟!
هذا السؤال مباغت، فلا أحد يعرف متى وصل الشِعر إلى الدنيا، ولا أين ولِدَ أول شاعر، ولا كيف مات. كل ما نعرفه أننا في موريتانيا عرفنا الشعر منذ سنواتٍ بعيدة على يد ولد الرازكة المتوفَى عام 1731. وعرفنا لقب “المليون شاعر” عام 1967، وذلك حين زارت مجلة «العربي الكويتية» البلد لكتابة تقرير عن الحالة الوطنية الناشئة آنذاك، أي بعد مرور سبع سنوات على استقلالنا وتحوُّلنا من شنقيط إلى جمهورية إسلامية تضمُّ إثنيّاتٍ شتَّى وثقافات متنوعة، تمتد من النهر إلى الصحراء الفسيحة.
والدافع إلى إطلاق هذا اللقب التدليليِّ هو انبهار وفد المجلة، من هذا التدفق اللفظيِّ الموزون وهذا التلقي الجماعيّ للشعرِ، فحتى رُعاة الإبل يُفسِحون أرواحَهم قصائدَ لتزجية الوقتِ، وملامسة الأشجار في أصدائهم المبحوحة، ولياليهم المرتجلة الوحيدة، الغارقة المَهبَ، وهنا أقصد بالشعر (الكلام الموزون المُقَفَّى الدَّالّ على معنى)، فالموريتانيون ينظِمون كلَّ شيءٍ، حتى العلوم الشرعية والمتون الفقهية والنحو والصرف تجدها منظومة ومُقفَّاة. وهذه الذاكرة النظمية تتحكم في الذائقة الجماعية التي لم تتصالح بعدُ مع النصوص المفككة غير العمودية؛ نصوص التفعيلة والنثر.
لا زالت الذائقة الموريتانية تتعامل مع التفعيلة بسخريةٍ بالغةٍ، وتعتبرها مجردَ انفصامٍ ذهنيٍّ وتهريجٍ مبالغٍ فيه يستدعي الضحك والتنكيت. كلُّ نَصٍّ غير مجَعَّدٍ وشاحب الملامح وغير طلليٍّ هو فشلٌ فادحٌ وسرطانٌ يدبُّ في المجد العربيّ التليد.
«إذا الشِّعْرُ لم يَهْززكَ عند سماعِهِ
فليسَ حَريًّا أنْ يُقالَ لهُ: شِعْرُ».
وهذا لا يعني أنَّ استثناءاتٍ مباغتةً، لم تَطَلْ المشهد الشعريّ هناكَ، ففي بداية القرن التاسع عشر برز صوتٌ شعريٌ ناشزٌ عن السائد والعموميّ، مُحاوِلًا شَقَّ طريقٍ بعيدٍ عن المتناول والمكرور من تجارب الأسلاف، لكنَّهُ صوتٌ خديجٌ لم يستمر، صرخ مرةً واحدةً ثمَّ سكَتَ بعدها إلى الأبد، أيْ أنه لم يُضِفْ غير تلكَ الاستجدائية الشعرية، التي تعتبر الملمح الحداثيّ الأول في القصيدة الموريتانية:
«يا معشَرَ البُلَغَاءِ هل مِنْ لَوذعيْ
يُهْدِي حِجاهُ لمقصدٍ لم يُبدعِ
إنِّي هَمَمْتُ بأنْ أقولَ قصيدةً
بِكرًا فأعياني وجودُ المطلعِ».
هذا الصوت الكلاسيكيّ هو سيدي محمد بن الشيخ سيديا، الذي يعتبر الداعي الأول إلى خلع اللُبسِ اللغويّ المتقشف، والتزيّي بمطلع جديد ناعمٍ، لا يبكي طللًا، ولا يقتاتُ على جثثِ النصوصِ السالفة. بعده انقطع النداء الذي لم يستمرّ طويلًا، لأنَّه غير مبنيٍّ على موقف جذريٍّ من الكِلس، والمعلَّقات، بقدر ما هو صيحةٌ فطريَّةٌ ومزاجٌ مؤقت.
ثم استمر الحال على ما هو عليه، حتى برزت أصوات شعرية في القرن العشرين، بمزاج مختلف، وتأوُّهاتٍ حالمةٍ، ولغةٍ ملساء جديدة على الفضاء هناك. من ضمن هذه الأصوات الشاعر أحمد ولد عبد القادر، المولود عام 1941 والذي مخَرَت سفينته عباب ذلك البحر الشعريّ الهائج، مُعْلِنًا عن رحابةِ الفنِّ وسعَتِه المدهشة بنصِّه “السفين” المقرر في المنهج الدراسيّ للصف السابع:
“رحلنا كما كان آباؤنا يرحلون..
وها نحن نُبْحِر،‏
كما كان أجدادُنا يُبْحِرون..‏
تقول لنا ضاربة الرمل:‏
– واعجبا..‏
سفينتكم رفعت كل المراسي…”.
مع ذلك لم ينكشف على الشأن المَحليّ بعمق، بل ظلَّ طافيًا على السطح، منشغلًا بالقضايا القومية، والنزعة العروبية خارج الجغرافيا الموريتانية، وبمقدوري الجزم أنّ الصوت الشِعريّ الخلَّاق، الذي حلَّق بالقصيدة الموريتانية بعيدًا، وبيَّأها مع الواقع بما تقتضيه المرحلة آنذاك؛ هو الشاعر والناقد محمد ولد عبدي 1964-2014 الذي قضى نصف عمره في الإمارات العربية المتحدة، متنقلًا بينها. هذا الرجل لم يكتفِ بكتابة الشعر فحسب، بل ذهب أبعد من ذلك، لقد استعاد الشخوص التاريخية من ركامِ الماضي، واحتفى بالمفردات الشعبية، وانفَتَحَ على مناطق إبداعية في قصيدة التفعيلة غير مطروقة في الفضاء العربي عامةً والفضاء الموريتاني على وجه الخصوص. كان يقدم نفسه كرابع ثلاثة رموز شعبية استدعاها من التراث الموريتاني العتيق: محمد ولد الطلبة اليعقوبي، ومحمود مسومة، ومحمد ولد أمسيكه).
لم يقتصر التجريب عليه -يقينًا- رغم إسهاماته الجبّارة، فقد ظلتْ أصوات أخرى تتسلل إلى المشهد، وتراوغ الذائقة بنصوص تنتمي لليوميّ بتفاصيله المتناقضة، منها ما استمرَّ ومنها ما تلاشى وهم الأكثرية، فقد فرقتهم الحياة، ووزعتهم على أمزجتها المتقلبة. أقصدُ أنَّ أنديةً أدبيةً تفكَّكتْ رغم الضجة التي أحدثتها في السنوات الأخيرة، والقيمة الفنية التي أضافتها، والنص الحداثيّ الذي مكَّنَتْهُ من صعود المنابر، ومنها: نادي القصيد الموريتاني ونادي دهشة. هذان الناديان ضمَّا خلال السنوات العشر الماضية أبرز الأسماء الشعرية الشبابيّة التي انفردت عن الكورالْ الجماعيّ بقصائد ذات طابع محليّ، تُحاور العالم بسمتٍ موريتانيٍّ ولغةٍ عالمة، رغم ضآلة حظِّها من الإعلام.
والحق أن الناديينِ لم يعد لهما حضورٌ في المشهد، لكنَّ أفرادًا من المؤسِّسين لا زالوا متشبِّثين بذواتهم الشاعرة ومشروعاتهم الإبداعية الفذَّة، أذكر منهم: الشيخ نوح، مولاي علي الحسن، جكيتى الشيخ سك، محمد المأمون محمد، محمد ولد أدومو، عثمان بون عمر لي، والخليل محمد).
أما عن الأصوات النسائية، فليس ثمة الكثير لذِكْرِه، فلا زالت تتربع على العرش منذ تسعينيات القرن الماضي الدكتورة مباركة بنت البراء. ويمكن القول، إنَّ أصواتًا هامسةً ولجتْ النصَّ النسائيّ ثم اختفتْ لأسباب اجتماعية تمانع حضور المرأة في المنابر الثقافية، والشعر على وجه التحديد، لأنه في الذهنية المحليَّة ينقص من أنوثة المرأة ويدفعها إلى الاستفحال والخشونة: “الشعراء ماسخين” هكذا يقولون باللهجة الحسّانية، وينبغي استثناء السالكة بنت المخطار التي توارت عن المشهد برغبةٍ منها لتتفرغ لمشروعات حياتية أخرى، رغم سعة صدر محيطها.
أما عن النقد فلم يستطع مواكبة القصيدة الموريتانية لأسباب اجتماعية بحتة، ومخاوف سلالية تتهرب من استياء الحاضنة والجهة. كلُّ شاعر هناك يمثِّل جهته، أو حاضنته الاجتماعية، وكلُّ نقدٍ موجَّه لشاعر هو سهمٌ يخترق جسد الحاضنة؛ قبيلةً كانت أم جهةً.
وهذا هو سرُّ الاحتشاد والتصويت المكثف في المسابقات التلفزيونية -أمير الشعراء على سبيل المثال-
لأن اللقب ليس للشاعر، ولا لموريتانيا، بل لتاريخ الأسلاف وأمجادهم التليدة: “هي الأرضُ شعبٌ، هو الشعبُ أرضٌ، هما الشعر…!”.

جوائز الشعراء .. بين قُبَّة النابغة واستديوهات الفضائيات | عماد بابكر

عماد بابكر

شاعر وكاتب سوداني

نظّمت دارة الشعر العربي بالفجيرة جلسةً أدبيةً بعنوان “قيم وشيم في أشعار العرب”، في مقر بيت الفلسفة بالإمارة.

واستضافت الجلسة الدكتور فيصل الشهراني باحث وأكاديمي من المملكة العربية السعودية، والدكتورة مريم الهاشمي ناقدة وأكاديمية من دولة الإمارات، حيث سلطت الجلسة الضوء على القيم ومكارم الأخلاق التي عُرف بها العرب وتجسّدت في أجمل قصائد الشعراء عبر العصور.

واستعرضت الجلسة القصص التي وردت في التراث العربي ودواوين العرب عن القيم الأصيلة والأخلاق الكريمة التي شكّلت مظهرًا هامًّا من مظاهر الحياة الاجتماعية اليومية وارتبطت بقصائد الشعراء وحكايات العرب.

حضر الجلسة جمع من الشعراء والأدباء والمهتمين.

“لك مئة ألف درهم”.. لك أن تتصوَّر كم مجلسًا لأمير أو خليفة انفَضَّ بأُعطيات للشعراء، لكن هذا المشهد سبقته تجارب كثيرة عجمت عود الشاعر وصقلت موهبته، وقد يُخالطه عرضُ شِعْرِه على أهل اللغة والذائقة، ثم يُصلِح من شأن عباءته مثلما يُصْلِح الآن شاعرٌ ربطةَ عنقِهِ وبدلته في انتظار أن يدعوه المذيع لمسرح التتويج في ختام سباق طويل.

الجائزة

      شكَّلت الجوائز الأدبية ملمحًا لافتًا من ملامح هذا العصر، فما من مدينة من الحواضر المهتمة بالفعل الثقافي إلا ولها جائزة أو جوائز، تختلف آليات عملها وضروب اهتمامها، كما تختلف قيمها المالية والأدبية، وتستحوذ الجوائز الشعرية في العالم العربي على اهتمام ورعاية ومتابعة لأخبارها ولمجريات التسابق والمُتَوَّجين بها نهاية الأمر. وهذا أمرٌ مفهومٌ ومتوقعٌ للعارف بأثر هذه الجوائز على الشعر والشعراء، ولمكانة الشعر في الثقافة العربية.

      يقول ابن منظور في «لسان العرب» في باب الجيم:” الجائزة: العطية” مُورِدًا عددًا من الأقوال، ورادًّا الكلمة لأكثر من أصل، وهي في حاضرنا لا تبعد عن الأصل المعجمي وإنْ تطورت الدلالة تطورَ الحياة وتَغَيُّرَها. ويذهب الكثير من أهل الأدب إلى كون الجوائز تطورًا طبيعيًا اقتضته حركة الأيام للأعطيات التي يبذلها الممدوح للشاعر في الماضي، ولئن كان المشهد الختامي عطاءً تتحدث به الناس؛ فلقد جاز الشاعر المادح مراحل سابقة من منافسة بين الشعراء، ومحاولات متكررة لصناعة اسمه، ذلك الاسم الذي سيرفع اسمًا آخر بمدحه، فيبقى الاسمُ وصاحِبُه قد فارق. ومن مشهور ما يدلُّ على ذلك ما كان بين سيدنا عُمَر بن الخطاب وابنة هَرِم بن سِنان وقد وفدت عليه في خلافته، فقال لها: “ما الذي أعطى أبوكِ زهيرًا حتى قابلَهُ من المديح بما قد سار فيه؟”، فقالت: ما أعطى هرِمُ زهيرًا قد نُسي!”، فقال: “ولكنَّ ما أعطاكم زهير لا يُنْسَى”.

 

زهرات مختلفات

             أعلى سيدنا عمر في مقالته لابنة هرِم بن سِنان من دور الكلمة وقدر الشاعر، وكان رضي الله عنه مقدِّمًا لزهير في الشعراء، ولقد مدح زهير هرِمَ بن سنان فأجاد، وأعطى هَرِم لزهير فأغدق، وكان كل واحد منهما للآخر معينًا، وكان كلاهما بصاحبه جديرًا، ثم ها هو صاحب “البُرْدَة” الإمام شرف الدين البوصيري يجمعهما في شطرٍ واحدٍ:

وَلَمْ أُرِدْ زَهْرَةَ الدُّنْيَا الَّتيِ اقْتَطَفَتْ
يَدَا زُهَيْرٍ بِمَا أَثْنَى عَلَى هَرِمِ

    إن البوصيري يريد مثوبةَ قصيدته في آخرته، كما صرَّح في البيت ذاكرًا ما نالَهُ زهير من أعطيات هَرِم (زهرة الدنيا)، البوصيري يرى زهيرًا قد نال نظيرَ قصيدِه، وسيدنا عمر يقول: “ولكن ما أعطاكم زهير لا يُنسَى”، ولقد أخذ هذا وأخذ ذاك، وأعطى هذا وأعطى ذاك، في علاقةٍ تبادليةٍ الشاهدُ فيها هاهنا خبر معين، وفي أخبار العرب الكثير مما يصلح الاستشهاد به فيما كان من تبادل الفائدة بين المادحين والممدوحين، وهي كذلك سارية اليوم فيما تقوم به الجوائز.

      وليست زهرات الدنيا (الجوائز) مالًا يأخذه الحاصل عليها فحسب، وإنما فيها الإضافة الأدبية والقوة الدافعة للشاعر في سماء الشهرة والنجوميةـ فالفوز بجائزة ذات قيمة يسلط الضوء على الشاعر ويفتح الباب أمامه للمشاركة في كبير المهرجانات، وسرعان ما تجعله مطلوبًا في أمسيات الشعر، وتلفت نظر النقاد والمهتمين إليه، وجمهور الشعر ومحبيه في الوقت ذاته، وعلى الضفة الأخرى تمنح الجائزة مانحَها سمعةً حسنةً، وقوةً ناعمةً يُعْتَدُّ بها في موازين الدول الحديثة، خاصةً إنْ هو أخذ الأمرَ بحقِّه، وأحسن إدارته ولم يُفَرِّط فيما هو فنيّ، واستطاع أن يجمع بين القيمة المالية والثقل الفني.

 

صكُّ الدخول

         لعل من أهم شروط الثِّقَل الفني أن يكون الناظر في القصيدة (لجان التحكيم) من أهل المعرفة والتخصص والنظر الثاقب، ولا ترتفع قيمة الجائزة الفنية إلا بمثل هؤلاء، وحسب الشاعر في زمانٍ مضى أن يستحسن شِعرَه المُقَدَّمون في الشعر والمعتدُّ برأيهم فيه، مثلما كان الشعراء يأملون في الخروج من خيمة النابغة الذبياني بقولٍ منه يُعلي من شأنهم. ولقد كان إنشاد الشعر في مجالس العِليَة الممدوحة شهادةً في حدِّ ذاتِه على قدرة الشاعر وعلو مكانته، فالمورِد العَذْب كثيرُ الزحام، كما أن هؤلاء ذاتهم إن لم يكونوا شعراء فهم بالشعر عارفون، ومن ذلك خبرُ حسَّان بن ثابت  الذي يرويه عندما أتى جبلةَ بن الْأَيْهَم الغسّاني وجلس بَين يديْه، وعن يمينه رجلٌ لَهُ ضفيرتان وَعَن يسَاره رجلٌ لا يعرفه حسان، فقال جبلة: أتعرف هذَيْن؟ -وكانا النَّابغة الذبيانيّ وعلقمة بن عبدة- فإِن شِئْت استنشدتَهُما وسمعتَ منهما ثمَّ إن شِئت أن تُنْشِد بعدهمَا أنشدْتَ، وإِن شئْتَ أن تسكتَ سكتَّ!

فأنشد النَّابِغَة: 

كِليني لِهَمٍّ يا أُمَيْمَةُ ناصِبِ … وليلٍ أُقاسِيهِ بَطيء الْكَوَاكِبِ

قال حسان: فَذهب نصفي.

 ثمَّ قَالَ جبلة لعلقمة: أنْشِد.. فَأَنْشدَ

طحا بك قلبٌ فِي الحسان طروب … بُعَيْد الشّبابِ عَصْرَ حَانَ مشيبُ

فَيقول حسان فذهب نصفي الآخر، فَقَالَ لي: أَنْت أعلم الْآن إِنْ شِئْتَ سَكَتَّ وَإِنْ شِئْتَ أنشدتَ.

فتشدَّد حسانُ وأنشد، وأُعطيَ ثلاثمئة دينار، وكُسيَ… والخبرُ طويل.

ولكم كانت مجالس الأمراء والخلفاء مجالسًا لأهل اللغة والعلم والشعراء، لا يُنْشِدُ فيها إلا من اختُبِرَ، ولا يجلس فيها من الشعراء إلا مَنْ لانَ له الشِّعْرُ وأذْعَنَ.

 

بوصلة

      مع طبيعة المجالس المعمورة بالعلماء وأهل اللغة، بدأت تتحدَّد مسارات العبور لكسب الأعطيات (الجوائز) والتي تمرُّ عبر بوابة أهل اللغة والأدب وما صاغوه من ذائقة جمعية تشمل الممدوح فيمن تشمل، الأمر الذي شكَّل ضغطًا جديدًا على الشاعر، فإمَّا أن تكون متجاوِزًا كالمتنبي الذي يجعل الآخرين في ركابه، أو أن تكون قصيدتك موائِمَةً لصانعي هذه الذائقة. في كتابه «تاريخ الأدب العربي» يتحدث العلّامة شوقي ضيف عن العصر العباسي وما شكَّل من ذائقة: “أصبح اللغويون سدنةَ الشعر فى هذا العصر وحُرَّاسَه، فمن نوَّهوا به طار اسمه، ومن لوَّحوا فى وجهه خمل وغدا نسيًا منسيًّا. ويلقانا كثيرٌ من الشعراء يَعرضون عليهم أشعارهم قبل إنشادها فى المحافل العظام، فإنْ استحسنوها مضوا فأنشدوها، وإنْ لم يستحسِنوها ذهبوا يُعاودون الكَرَّة بصُنع قصائد جديدة آمِلين أن تظفر باستحسانهم”، ثم يُورِدُ شواهدَ وبعضَ أخبارِ مَنْ عرَضَ قصيدَهُ من الشعراء على أهل اللغة. وبذا تكون الأعطيات قد حدَّدَتْ ذائقةً معينةً، وقبلها أغراضًا بعينها من قبيل: (المدح، الهجاء، الرثاء) ويكون فَلَكُها الممدوح، وهذا ما جعل شاعرًا مثل ذي الرِّمَة لا يُؤبَهُ له رغم استحسان معاصريه لشِعْرِه، وقد سأل ذي الرِّمَة الفرزدق: “كيف تسمع يا أبا فراس؟!”، قال: “أسمع حسنًا”. قال: “فما لي لا أعَدُّ في الفحول من الشعراء؟!”. قال: “يمْنَعُكَ من ذلك ويُباعِدُكَ ذِكْرُكَ الأبعار وبكاؤك الديار”.

   ثم لما استعجم الأمراء وجهِلوا الشعر، بارت تجارة الشعراء، فترك الشعرَ بعضُهم، وانصرف بعضٌ إلى أغراض أخرى، يقول العلّامة عبد الله الطيب في كتابه البديع «المرشد» في حديثه عن قصيدة المدح “لما كسدت أخذ الشعراء في مسالك من النظم كالمقامات والألغاز والأوصاف البديعية الزخارف، حتى نهضت قصيدة المدح النبوي فكانت هي سيدة مجال الشعر”.

أخذٌ وعطاء

لئن تكن الجوائز حدَّدت بوصلة الاتجاه الغالب للشعر في غالب الأوقات، وجعلت من تياره مارًّا بقنوات معينة، المتماهون معها أكثر من المتمردين عليها، فلقد جعلت الشعر مطلوبًا، والشعراء وأخبارهم محلَّ اهتمام، حتى ارتبطت القيمة الفنية للشعر -بدرجة ملحوظة- بما يناله الشعراء، وكذا تفعل الجوائز الآن.

السباحة والغوص (في علاقة الشعر بالسينما) | عبيد عباس

عبيد عباس

شاعر وكاتب مصري

   يقول ألفريد هيتشكوك، المخرج والمنتِج البريطاني الشهير: “إن السينما هي الواقع بعد أن ننزع عنه المُمِلّ”، أي أنها المختلف المدهش من الواقع. ولأنني مؤمِنٌّ أنّ الشعر -مع اتفاقي مع لويس بورخيس في أنه (يُعْرَف ولا يُعرَّف)- هو الكلام الجميل المختلف، فكأنهما؛ أي السينما والشعر، بارتفاعهما عن العاديّ المُتوقَّع، يجتمعان في منطقة خاصة من الجمال المدهش المختلف يمكن أنْ نُسَمِّيها “سينما شعرية” أو “قصيدة سينمائية”.

غير أنني، وأنا أقول هذا الكلام، لا بد أن أضع بين قوسين ملاحظتين مهمتين؛ الأولى أنني لا أعتقد في القول بتداخُل الأجناس، لأن التداخل ذاته من طبيعة أيّ جنس أدبي أو فني، فلا وجود للقصيدة “الخام” التي تخلو تمامًا من السرد أو الصورة أو الدراما، كما لا توجد سينما “خام” خالية تمامًا مما يُمَيِّز القصة أو الشعر أو المسرح؛ وعليه فإن كلامنا عن علاقة الشعر بالسينما أو العكس سيكون في حدود أدوات هذا الفن، الشعر كشعر والسينما كسينما، فلا تخلو السينما من الشعرية ولا يخلو الشعر من الصورة، وكأن كلًّا منهما بالنسبة للآخر كالجبل بالنسبة للوادي، فلا نسمِّي الأرض المنبسطة واديًا من دون وجود جبل مجاور، أو كأن كلًّا منهما يمثل الروح للآخر، ولو جاز لنا أن نُشَبِّه السينما في سيْرِها السردي الطبيعي بالسباحة مع أو ضد الواقع الموضوعي، فإنَّ الشِّعر يُشبه الغَوْصَ فيه، ولذلك فإن السينما الشعرية تكون أعمق في سيرها من السينما في شكلها التقليدي كناقلٍ للواقع.

   الملاحظة الثانية هي أنني عندما أتحدَّثُ عن علاقة الشعر بالسينما، أو العكس، فلا أقصد القصيدة أو الجزء من القصيدة الذي يصْلُح أن يتحوَّلَ إلى سينما، ولا المشهد السينمائي الذي يمكن ترجمتُه شعرًا، ولكنني أقصد هذه المنطقة الجمالية التي تعلو على الكلام والصورة، تعلو لتجمعهما معًا في خلق الدهشة واللذة داخل المُتلقِّي. في هذه المنطقة يرتفع الشعر عن الكلام الخبري، وترتفع الصورة عن مجرد نقل الواقع، لإعطاء دلالات جديدة نابعةٍ من روح الفنان ومخاطبةٍ روح المتلقي، وأقول روحه لا عقله؛ لأنها غير مُتَعلِّقَة بالصواب والخطأ ولا بـ”يجب ولا يجب”، ولكن بالجمال المحض، لينتُجَ عنه -بعد إنتاج اللذة والدهشة وترقية الذوق وهذا هو الأساس- تفجيرُ الأسئلة التي تُحَرِّك الوعي أو تُغَيِّره.

   ونلاحظ أن السينما، من دون وجودها في هذه المنطقة الخاصة الناتجة عن هذا التلاقُح، لا تزيد عن أن تكون مُهَرِّجًا دوره محصور فقط في التسلية والترفيه، كذلك الشعر لا يزيد دوره عن دور  المطرب أو الخطيب، لنؤكِّد أنَّ الفن، أيَّ فن، كما يخلق الوعي ويُرَقِّي الذوق قد يُصْبِح أحد عوامل التغييب والهدم والتدمير.

   كشاعرٍ متذوِّق للسينما أجدُني، رغمًا عني، لا أقرأ الشعر إلا كمُشاهِد سينما، ولا أُشاهِد السينما إلا كقارئ شعر، فلا أستطيع وأنا أقرأ قوْلَ بشَّار بن بُرْد، مثلًا، وهو يصف صوت خروج السهم من القوس: “إذا رزَمَتْ أَنَّتْ وأَنَّ لها الصدى .. أنينَ مريضٍ للمريضِ يُجاوِبُهْ”، إلَّا أنْ أُغْمِضَ عينيَّ لأرى مشهدًا كاملًا لكائنٍ ما يُمَثِّل القوسَ المريضة التي تئِنُّ فيرُدّ عليها الصدى متجسدًا في كائنٍ آخر مريضٍ، بل وأكاد أسمع أنين القوس وأنين صداها.

   كذلك لا أستطيع أن أرى قبضة “قناوي” المُعَلَّقَة في الهواء، في فيلم “باب الحديد” في مشهد الختام بعد أن اختَطَفَ، هو ككائن من عالم الأحلام، “هَنُّومة”/حُلْمَهُ البعيد، بسكِّينه المرتعشة العاجزة عن الفعل، إلَّا أنْ أقرأ هذه الجملة الصامتة التي تصف محاولة هذا الكائن الحالم أو المريض النفسي الفاشلة للدفاع عن حلمه، وأقول «محاولة فاشلة» لأنها نابعة من عالم الحُلْم الهَشّ في مقابل الواقع الموضوعي القويّ الشَّرِس.

   وإذا كان الكلام في القصيدة يستطيع أن ينقل لنا مشهدًا سينمائيًّا كاملًا، فانظر، مثلًا، إلى تلك الصورة البديعة التي يصنعها المتنبي عندما يصف جيش سيف الدولة وهو يطارد جيش عدوِّه، فالجيشُ من فرْطِ سرعته سحابٌ يطير في السماء، غير أنه وهو يمرُّ بالبلاد يمتنع عن الإمطار عند مروره بـ”حِصْن الرَّان”، وهذا الامتناع ليس بُخلًا، ولكن لأنه يكتشف أن هذا الحصن من أملاك سيف الدولة، ولأنَّ مطر السحاب، في هذه الحالة فقط، ليس ماءً ولكنَّه نِقَمٌ، بعد ذلك نرى الأرض -أسفل السحاب- وكأنها انحازت إلى عدوِّه فأصبحت تعدو معه، ولأنها ليس لها نهاية فكذلك السحاب/الجيش ليس له نهاية، ليستمرَّ المتنبي في هذا المشهد السينمائي، مستغِلًّا الجناس التام للفظة “عَلَم”، بمعنى الراية وبمعنى الجبل، فيجعل الأرض وهي تجري أسفل السحاب: إذا مضى منها عَلَمٌ -أيْ جبل- جاء بعده عَلَمٌ آخر. والأمر نفسه مع هذا الجيش الطائر: إذا مضى عَلَمٌ -أيْ راية- منه جاء عَلَمٌ آخر.

يقول المتنبي:

سُحْبٌ تَمُرُّ بِحِصنِ الرَّانِ مُمسِكَةً

وَما بِها البُخْلُ لَوْلا أَنَّها نِقَمُ

جَيشٌ كَأَنَّكَ في أَرضٍ تُطاوِلُهُ

فَالأَرضُ لا أُمَمٌ وَالجَيشُ لا أَمَمُ

إِذا مَضى عَلَمٌ مِنها بَدا عَلَمٌ

وَإِن مَضى عَلَمٌ مِنهُ بَدا عَلَمُ

   أقول إذا كان الكلام، في القصيدة، يستطيع أن ينقل لنا مشهدًا سينمائيًّا كاملًا، فإن المشهد السينمائي كذلك يستطيع أن يقول جملةً شعريةً من دون كلام. انظر، مثلًا، إلى تلك الصورة التي يصنعها المخرج السويدي إنغمار برغمان في فيلمه العظيم “الختم السابع”، والذي يحكي عن فارس صليبي عائد من إحدى الحملات الصليبية، نذر كل حياته للبحث عن الله والحقيقة، يُصَوِّر المشهد مُهرِّجًا ينظر باندهاش وبلاهة إلى أبطال الفيلم فوق الجبل والموت يجرُّهم بحبل طويل كرمز لانشغالهم بتفسير الحياة، لا بإحيائها. فهذا المهرج هو الذي يعيش الحياة ولا يسأل، يندهش من هؤلاء المُعَذَّبين الذين أهدَروا الحياة في البحث عن معناها.

   في تلك المنطقة الخاصة، من اجتماع الشعر بالسينما لخلْق ذلك الكائن الجديد، نرى الجميل المختلف الذي يصنع الدهشة بإلقائه الضوء المفاجئ على “ما يجب” الذي نشعر أننا نفهمه ولا نستطيع التعبير عنه، ليغمسنا في شعورٍ طاغٍ بلذة الجمال والاكتشاف. في فيلم النمساوي مايكل هاينيكي “حب” أو “amour” يقفز المخرج بهذا المنطق الشعري على التعريف المألوف للحب، حيث كلنا يعرف أن كلمة “أحبك” لا تعني أكثر من “أنا أريدك”، “أريدك قريبةً”، “أفديكِ بنفسي” وغيرها، ليقول “أنا أقتلك”…! دون أن تكون دلالة القتل أو الموت مُحمَّلَةً بالكُرْه والغضب، ولكن بالرحمة والشفقة والحب الشديد الذي يجعل ذلك الكهل المُتقاعِد الذي يعيش مع زوجته المصابة بسكتة دماغية، والتي -بعد أن فقد كل السبل إلى تخفيف الألم عنها- لا يجد أمامه سوى أن يقتلها، نعم يقتلها ليرحمها من العذاب، عذاب الحياة، في هذا الفيلم الصورة وحدها هي التي تتكلَّم، بل لا توجد موسيقى تصويرية. الفيلم عبارة عن كاميرا موجودة في شقة العجوزين ترصد إيقاع حياتهما الثابت المُمِلّ، وكأن المخرج عامدًا أجلسنا داخل هذه الشقة لنحمل مشاعر البطل نفسها، حيث لا كلام ولا حلول، لا شيء سوى تلك الجملة المشهدية الطويلة الصامتة التي تنتهي بذلك الانحراف الفني غير المتوقع ليتحوَّل العاديّ إلى شِعريّ عندما نفهم -من غير كلام- أنَّ القتل يمكن أن يكون مرادفًا للحب؛ وأن البقاء حيًّا، للبطل، في هذه الحياة الخالية من الحبيب هي أكبر تضحية من أجل الآخر، وأن الموت، ما دام أصبح المرادف الوحيد للشفاء من الألم، فهو الهدية التي نقدمها لمن نحبهم.

   وختامًا .. ربما لأنني شاعر، لا أنظر إلى الشعر كنوع أدبيٍّ أو فنيِّ مجاوِرٍ للأنواع الأخرى، ولكن أنظر إليه -وكلامي عن الشعر في جوهره لا في صورته الكلامية، بمعنى الشعري الذي هو نقيض العلمي لا المنظوم الذي هو نقيض المنثور- على أنه أبو الفنون، أو هو غاية أعلى لكل الفنون، يتفرَّع، لا أقول في الفنون الرفيعة كلها، بل في كل شيء يُجَسِّد وعي الإنسان الجمالي بالعالم.