
الشعر ضد الجريمة.. كيف تغسل المهرجانات الشعرية العالمية أرواح المدن؟ | طارق الطيب

طارق الطيب
شاعر وكاتب - النمسا
في عام 2002، وكنت قد استقررت في فيينا منذ 18 سنة، وصلتني دعوة أدبية لحضور مهرجان شعري اسمه (مهرجان ستروجا الدولي للشعر). لم أعرف وقتها أين تقع ستروجا، ولم أسمع في ذاك الوقت باسم هذا المهرجان.
سوف أسرد هنا بعضًا من ملامح هذا المهرجان واثنين غيره وهما الأبرز، دون اللجوء إلى مقارنات بيننا في العالم العربي وبينهم، ودون وضع خلاصة للتجربة؛ فالحكاية وحدها كفيلة بالتأمل والتفكير، وربما التغيير إن أردنا.
عرفت أن “ستروجا” هذه مدينة تقع في شمال مقدونيا الشمالية، وأن فيها واحدًا من أقدم المهرجانات الشعرية العالمية، وأن الاسم الأصلي للمهرجان هو (أمسيات الشعر في ستروجا) الذي تأسس في ستروجا عام 1961، بمشاركة شعراء مقدونيين فقط. في عام 1963 سيتوسَّع ليشمل شعراء من جميع أنحاء جمهورية يوغوسلافيا الاتحادية الاشتراكية السابقة وبحلول عام 1966 سيتحوَّل الحدث إلى مهرجان ثقافي دولي.
أُنشِئت جائزة الإكليل الذهبي الدولية في العام نفسه، وكان روبرت روزديستفينسكي أول من فاز بها. في عام 2003، وبالتعاون الوثيق مع اليونسكو، أنشأ المهرجان جائزة دولية أخرى تُسمى “جُسور ستروجا”، لأفضل كتاب شعري أول لمؤلف شاب.
استضاف المهرجان قرابة 4000 شاعرًا ومترجمًا وكاتب مقال وناقدًا أدبيًا من قرابة 95 دولة حول العالم.
كذلك كرّم المهرجان بعضًا من أبرز الشخصيات الأدبية في العالم، بمن فيهم العديد من الحائزين على جائزة نوبل للآداب، مثل جوزيف برودسكي، وبابلو نيرودا، وشيموس هيني، وليوبولد سيدار سنغور، ويستن هيو أودن، وآلان جينسبيرج، وتوماس ترانسترومر الذي حالفني الحظ بالوجود معه في إحدى نسخ المهرجان في مقدونيا والتعرف عليه بشكل وثيق.
قلت سوف أجرب وألبي الدعوة ولنرى كيف هي هذه المهرجانات الشعرية. لأعرف أيضًا أن هذا المهرجان الأدبي الدولي يقام سنويًا ويستمر ستة أيام ويعد من بين أقدم وأكبر المهرجانات من نوعها في العالم إن لم يكن أقدمها.
وصلت إلى مطار مقدونيا فوجدت بعض الشعراء قد وصلوا قبلي وكان عليَّ أن أنتظر وصول بعض الشاعرات والشعراء الآخرين القادمين من دول مختلفة، ليقلّنا باص صغير به ما يقرب من عشرة شعراء متجهًا نحو فندق عتيق على نهر “درين”، ليستقبلنا مدير المهرجان آنذاك الشاعر المقدوني “بوجوميل جوزيل” الذي يجيد الفرنسية مرحِّبًا، إلى جواره شاعرات وشعراء يعرفنا على بعضنا البعض، مع مجموعة من مترجمات ومترجمين من الشباب الذين يجيدون بعض اللغات الأوروبية، من أجل مرافقة الشعراء طوال اليوم وإزالة معوقات اللغة وضبط مواعيد القراءات والندوات.
كان هذا هو المهرجان الأول لي خارج النمسا. الاحتفاء فيه بالشعراء فوق الخيال. رئيس الجمهورية هو الذي يفتتح هذا المهرجان الشعري العالمي بنفسه، ويُفتح المسـرح الكبير لاستقبال الناس مجانًا، دون حرس وأمن وتضييق وعصبية وخوف وجنون عظمة.
في يوم الافتتاح يُغلق الجسـر الرئيسي في المدينة، لتُنصَب عليه خشبة مسـرح كبيرة يقف عليها الشعراء للقراءة مساء ويقرأ ترجمة الشعر ممثلات وممثلون محترفون في الإلقاء. يخرج الناس بالمئات إلى ضفتي النهر للاحتفال بهذا الأسبوع الجميل وتمتلئ البحيرة بالقوارب الملونة والضفاف بالألوان المفرحة وينقل التلفزيون هذا الحفل على الهواء، وأعلام بلاد المشاركين ترفرف على الضفتين.
في الأيام التالية تتعدد القراءات في أمكنة كثيرة ويقام الطقس الاحتفالي المميز للشاعر ضيف الشرف بأن يزرع بنفسه شتلة شجرة لتنمو في حديقة الشعراء باسمه. هناك شجرة باسم أدونيس وأخرى باسم محمود درويش.
ومن الطرائف التي حدثت لي في زيارتي الأولى في 2002، هو اكتشافي وجود علم ضخم للسودان على ضفة نهر درين، استفسرت من الشاعر “بوجوميل جوزيل” المنظم إن كان بالمدينة مؤتمر سياسي يشارك فيه السودان، لأنني رأيت علمًا كبيرًا للسودان على الضفة. ضحك وقال لي: “إن هذا العلم لك بمناسبة مشاركتك في هذا المهرجان!”، وتابع ضاحكًا: “لقد تعبنا من أجل إيجاد علم لك، وقد أنجزوه لنا سريعًا وخصيصًا من أجلك!”.
من تقليدهم السنوي أيضًا في هذا المهرجان هو نشر سبعة دواوين مترجمة إلى اللغة المقدونية؛ كتاب لشاعر من كل قارة من القارات السبع. وقد حالفني الحظ في 2005 بأن يكون لي ديوان حمل عنوان (حجر أكبر من السماء) من ترجمة الشاعر الكبير “جوزيل”.
استضاف رئيس الجمهورية الشعراء السبعة وقدم لنا مشروبًا احتفاليًا احتفاءً بنا في جو حميمي لطيف ودردشة بلا أبهة ومبالغات.
* * * * *
في أكتوبر من العام الماضي 2024، دُعيتُ للمرة الثانية إلى مهرجان كوستاريكا الدولي للشعر. الدعوة الأولى كانت في 2014. بين هذين المهرجانين على مدى ما يقرب من ربع قرن دُعيت إلى أكثر من خمسين مهرجان ولقاء حول العالم، تستحق حديثًا موسعًا لا يناسبه المكان.
من فضائل مهرجان كوستاريكا أنهم ينشرون ديوانًا مترجمًا إلى اللغة الإسبانية لكل كاتب أجنبي مدعو. وأتذكر أنه من أجمل اللفتات في دعوتي الأولى قبل عشر سنوات، أن من استقبلني في مطار سان خوسيه كان مدير المهرجان بنفسه الشاعر “نوربرتو سالينا”. كنت قد سألته قبل السفر عمَّن سيقلني من المطار، كتب لي: “من سيحضر إليك سيرفع غلاف كتابك عاليًا لتتعرف عليه!” وكانوا قد أرسلوا لي صورة غلاف ديواني قبل وصولي.
الطريف أيضًا أنني لم أنتبه أن من رفع غلاف الديوان في المطار هو مدير المهرجان نفسه، ولم أكن أعرف صورته. حضر بصورة عادية وتواضع كبير ونقلني بسيارته الخاصة الصغيرة.
يبدأ الافتتاح عادة في المسرح الكبير وفي الأيام التالية إلى الجامعة، ثم نتوزع في مجموعات صغيرة على عدة مناطق كعادة البرنامج، لزيارة المدارس في عدد كبير من المحافظات في معظم أنحاء البلاد.
في عام 2014 كان من حظي أن أزور منطقة رائعة مرتفعة وسط الغابات اسمها “مونتيفيرده”. كنت بصحبة سيدة فنانة ومنظمة مرافقة تتحدث الإنجليزية ومعنا مصور محترف. هناك زرت ثلاث مدارس نهارًا وقمت مساءً بلقائين مع الكتاب الكبار في المنطقة، وقد تبرعت سيدة محبة للأدب والفن بإقامتي هناك لثلاثة أيام في بيت جميل منفصل وسط الغابات.
في العام الماضي 2024 قام مدير المهرجان “نوربرتو سالينا” بعمل مسابقات في مدارس الدولة جميعها قبل المهرجان، ليختار أكثر من سبعين شاعرة وشاعرًا أقل من 18 سنة وينشر لهم أنطولوجيا شعرية ضخمة بصورهم وأشعارهم. شاركونا على المسارح وفي المدارس بإلقاء شعرهم الجميل.
يتضمن البرنامج زيارة لأجمل مناطق كوستاريكا في منطقة “تورتوجيرو” العظيمة على البحر الكاريبي لثلاثة أيام، بدعوة دائمة من مدير المنتجع، للشاعرات والشعراء الشابات والشباب الفائزين في الأنطولوجيا صحبة أمهاتهم. وتمضي الأيام في قراءات ونقاشات ورحلات ورؤية أجمل أمكنة الطبيعة على الإطلاق.
أيضًا من أجمل ما رأيت في دعوتي الأولى لمهرجان كوستاريكا العالمي للشعر في 2014 هو توزيع مقتطفات من أشعار الكتاب في بوسترات كبيرة ملصقة على محطات الباصات العمومية في المدينة تصحبها رسومات لفنانين، ومن يقف في انتظار الباص سوف يقرأ بعض الأشعار لواحد منا مزينة باسمه، وهو إعلان ذكي في الوقت نفسه عن المهرجان الموجود في البلاد.
* * * * *
من المهرجانات الملفتة عالميًا، مهرجان “ميديين” للشعر في كولومبيا. هو واحد من أعرق وأكبر المهرجانات العالمية، يرأسه الشاعر الكبير “فرناندو ريندون” ومن تنسيق “لويس إدواردو ريندون.
في مدينة “مديين” الكولومبية تجلى مثالٌ حيّ لانتصار الشعر وترويضه لمجتمع عاش عقودًا ضحية للعنف والجريمة إلى أن اكتسبت المدينة نفسها اليوم، بعد 35 عامًا من تأسيس المهرجان الدولي للشعر، روحًا أخرى وتغيرت صورتها النمطية في الأذهان.
المهرجان الدولي للشعر في ميديين يقام في مدينة ميديين، وهي ثاني أكبر مدينة في كولومبيا بعد العاصمة بوجوتا. تأسس هذا المهرجان في العام 1991 في تلك المدينة التي اشتهرت لأعوام طويلة بالعنف وبالارتفاع الكبير في معدل الجريمة، وبوجود أشهر كارتل للمخدرات في العالم ظهر عام 1976 من قِبَل بابلو اسكوبار، عُرِف باسم “كارتل ميديين”؛ فظلت المدينة تحت وطأة إرهاب داخلي وزعزعة استقرار. في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات ظهرت العصابات الاجرامية في الأحياء الشعبية ونشط القتلة المرتزقة وانتشـرت عمليات الاختطاف وقتل القضاة والسياسيين وتحولت المدينة لفوضى وخطر.
كانت وفاة بابلو إسكوبار في العام 1993 بمثابة نهاية كارتل ميديين الذي سبَّب آثارًا جانبية امتدت لسنوات من نزوح ولجوء وعدم استقرار، لذا أتى مهرجان ميديين الشعري بفكرة بديلة لهذا الاضطراب والفوضى والعنف؛ تلك السمات التي أساءت لسمعة المدينة لزمن طويل، فأسس الشاعر المعروف فرناندو ريندون هذا المهرجان الذي أصبح من أهم المهرجانات في العالم وأوسعها صيتًا.
حصل المهرجان على جائزة (الحق في العيش) بعد 15 عامًا من تأسيسه، وهي الجائزة المخصصة لتكريم ودعم هؤلاء الذين يقدمون حلولًا عملية ومثالية للتحديات الأكثر إلحاحًا التي تواجهنا اليوم، مؤكدًا أنه عن طريق الفن والشعر وحرية التعبير، يمكن للمجتمع أن يتغير إيجابيًا ويزيل الكثير من الخوف والعنف الراسخ في عمق المجتمع، وتحولت ميديين تدريجيًا لتحمل اسم “مدينة الربيع الأبدي”، مثلما تحمل اسمًا آخرَ جميلًا هو “عاصمة الجبال”.
حضرت مهرجانين تاليين عبر زووم في فترة الكورونا، وفي المهرجان الثالث والثلاثين سافرت للمرة الثانية بدعوة رسمية، وشارك فيه 90 شاعرة وشاعر من 54 دولة.
الملفت في هذه المهرجانات أن صبغة العالمية تنطبق عليها بالفعل وأن الحضور الجماهيري خيالي بالفعل بعدده الضخم جدًا. وبالإضافة للقراءة هناك على مسارح كبيرة يتم توزيع الشعراء في مجموعات صغيرة للطواف في أنحاء البلاد للقراءة أيضًا ضمن شعراء المناطق التي يصلون إليها.
يستمر مهرجان “ميديين” للشعر في كولومبيا لمدة أسبوع. يأتي إليه الجمهور بالآلاف ليستمع إلى الشعراء في “حديقة الأمنيات”، وهو المكان الذي ينطلق منه الافتتاح ويكون فيه الختام. الشباب هم غالبة الحاضرين.
جمهور كولومبيا يعشق الشعر، تربى عليه ويتذوقه ويتفاعل معه ومع كل الأصوات واللغات التي تأتي من كل أنحاء الأرض. يجلسون لساعات طويلة منصتين ثم منتظرين توقيع الشعراء على الأنطولوجيا السنوية الفخمة المطبوعة على ورق مصقول ملون في نحو 340 صفحة، جهزها المهرجان بالسِيَر الذاتية والقصائد بالإسبانية والإنجليزية.
ليس هناك أي خصوصية لشعر دولة أو منطقة في هذا المهرجان، الشعر هناك هو صوت كل العالم، بل بالعكس فالشعر هنا يذيب أي فوارق حدودية أو جغرافية أو إثنية. صحيح أن الشعراء يمثلون بلادهم، لكن الشعر هو بطل الموقف والزمان والمكان. الجملة الشعرية هي الفاصلة وهي المعنى والمراد. البعض يتحصن بنكوص أدبي وفني ويظن أن هذه هي الوطنية الحقة، لكن الوطنية تكمن في إثبات إنسانية التواصل ورقيّ الاندماج. بعدها سيسألك الناس من أين أنت؟
(ريف شمال النمسا، 2025-03-27)