أسئلة الغابة: أزمة الشعر النسوي! | د. حنين عمر

د. حنين عمر

شاعرة وكاتبة جزائرية

كما تنمو الغابات الاستوائية المعتمة، تنمو تلك الأسئلة الصَّامتة التي يعرفها الجميع ولا يقولها أحد، وتتمدد أغصانها الشَّائكة لتتشابك مع الحقيقة وتجرح كلَّ من يمد يده إليها، وكأنها تلوِّح بمخاطرة التَّوغل والكشف، ومجازفة البحثِ عن إجابات مجهولة، غير أن نظرة واحدة على المشهد –متى ما اقترنت ببعض الوعي- كافية لاستيعاب أهميَّة أن نتساءل، وأن نبحث، وأن نحاول فهم مختلف الظواهر الموازية للعملية الإبداعية.

ولعلَّ من أكثر الأسئلة التي يتم تفادي الحديث عنها نقديًّا، هي أزمة الشِّعر النسوي –مع تحفظي على المصطلح واضطراري لاستخدامه- ففي حين تعج المدونة النقدية بكثير من الأسماء الشعرية المؤنثة، التي غالبًا ما يتم تفخيم كثيرٍ مِنها من باب المجاملة أو التعاطف، إلا أن تلك القراءات تحتفي غالبًا بتجارب معينة لأسباب معينة، وتغفل أخرى –لأسباب أخرى- سهوًا أو عمدًا، لكنَّها نادرًا ما تغامر بطرح الظواهر المسكوت عنها علنًا، والمُتهامَس حولها سرًّا، والمرتبطة بهذه الفئة الإبداعية. فما هي هذه الظَواهر؟ وما هي هذه الأزمة؟ وما هي هذه الأكَمَة التي لا بد من استقراءِ ما وراءها؟

سأعود في البدء بالذاكرة إلى سنوات بعيدة كنت فيها ما أزال في بداية تجربتي، حينما انتبهت بالمصادفة إلى افتتاحية مجلة ثقافية قديمة، كانت تحتل صدارتها مجموعة من كبار الأدباء والنقاد، أولئك الذين رُتِّبَت صورهم بعناية في أولى صفحاتها، باعتبارهم الأهم والأشهر والأفضل –وقد كانوا كذلك– إلا أنني تساءلت ببراءة يومها: لماذا لا توجد أي صورة نسائية بينهم؟ وكان هذا سؤالًا أشبه بكرة ثلج راحت تتدحرج في وعي فتاة في عشرينياتها وتكبر شيئًا فشيئًا، وتكشَّف لها أنَّ تطابُقَ جينين وراثيين في حمضها النووي، قد يحدد –رغم اجتهادها- مصيرها الشعري المحتَّم.

ولا أنفي هنا أن المجلة العريقة كانت ثريَّة بالمشاركات النِّسائية، غير أن الصُّورة التي كنتُ أبحث عنها لم تكن ضمن القائمة العاديَّة فيها، بل كنت أبحث –وما زلت- عن أسماء نسائية رائدة، تُصَنَّف –ويرجى الانتباه هنا-: مع الجواهري ومحمود درويش وأمل دنقل والفيتوري ونزار قباني وأحمد شوقي و مع أبي تمام وامرئ القيس والمتنبي والقائمة المخيفة تطول…! فلماذا لا يوجد مثلًا مدرسة شعرية نسائية مؤثرة تاريخيًّا في الأجيال اللاحقة؟ ماذا حدث لكثير من التَّجارب التي خفتت بإرادتها، أوتم التعتيم عليها رغمًا عنها؟ ولماذا هناك تقليل من شأن الإبداع النسائي؟ سواء بالإجحاف أو المبالغة، وقبل أن يتم اتهامي بمعاداة الذكورية، وانحيازي للأنثوية، فإنني أحرص أن أؤكد هنا –بشكل قاطع- على كوني حيادية تمامًا في قراءة الظاهرة، وأحمِّل كل ذي حِمْلٍ حِمْلَه، بل قد أذهب أبعد… إلى رفع الظلم عن الرجال الذين لطالما اتُّهِموا بأنهم وحدهم السبب، كوني أؤمن بمقولة مارتن لوثر كينغ: “لا أحد يستطيع أن يقف فوق ظهرك إلا إنْ كنتَ منحنيًا”، وما هدفي في النهاية –ككل من دخلوا غابة الأسئلة- سوى أن أدخل جحيم الوعي، ما دمت غير مرتاحة في جنة الجهل، وما دمت أرى في المعرفة خلاصًا لعقل الإنسان.

ثمَّ لنعد إلى البدايات –سريعًا- وإلى المعطيات التاريخية عن الشعر النسوي، وهو مصطلح سنتفق لأسباب لوجستية على استخدامه في ما يلي، للإشارة إلى (نصوص شعرية تكتبها النساء)، ففي حضارة بلاد ما بين النهرين، يبرز اسم أقدم شاعر معروف على الأرض –ولم أقل هنا “شاعرة” لتأكيد السبق على الجنسين– وهي  إنهيدوانا ابنة الملك سرجون الأكدي، وقد ولدت عام 2286 قبل الميلاد، وتوفيت وهي بعد شابة في الخامسة والثلاثين، لكنها خلال حياتها القصيرة، تركت أثرًا عظيمًا وكتبت نصوصًا خالدة، اتخذت شكلًا خارجيًّا دينيًّا، لكنَّ تأمُّلَ معانيها وصورها وإحالاتها، يُفضي إلى كونها مجرد قناع، أخفَتْ الشاعرة خلفَهُ رؤاها الذاتية، وقصَّتها المأساوية بإسقاطات بارعة، ومع ذلك لم تحظَ نصوصُها للأسف بالاحتفاء نفسه الذي حظيَتْ به ملحمة جلجامش، ولم تترجم أعمالها إلا فيما ندُر، ومثلها أيضًا كثير من الشاعرات اليونانيات كإيرينا ونوسيس وكورينا، والشاعرات الأوروبيات المهمات اللواتي تمَّ التَّعتيم عليهن في مسارات التَّرجمة العربية، فلم تصل منهن سوى أسماء قليلة، أغلبها ليست بأهمية من تمَّ إغفالهن لأسباب إديولوجية!

أما على المستوى العربي، ففي العصر الجاهلي، تظهر أسماء كثيرة جدًّا فُقِدَ أغلبُ أثرها النصِّي ولم يتبقَّ منه سوى أبيات متناثرة، مثل صفية الشيبانية، الشخصية القوية الشجاعة، التي –لسبب مجهول- يُغْفِل كثيرٌ من الدارسين أهميتها السياسية، ولم يُحفَظْ من شعرِها إلا ما ارتبط بمعركة ذي قار، والتي تم تحجيم دورها الكبير فيها، أما أشهرهن وهي الخنساء، فرغم شهرتها الواسعة لم تنل ما ناله مجايلوها من الرجال، كما أن قصتها مع النابغة الذبياني، وإلقاؤها عليه قصيدة في رثاء صخر ليمنحها صكَّ التفوق، فلا يمكن أن تصح ببساطة لأن النابغة الذبياني توفي عام 604م، في حين توفي صخر عام 613م، أي بعد النابغة، فإما أن تكون القصة غير صحيحة، وإما أن يكون النص الذي ألقته مختلفًا، وهو ما يعني أنَّها لم تكن بعد قد اشتهرت ونضجت تجربتها. ولا بد أن نشير هنا إلى معلومة خاطئة حول وفاة أبنائها الأربعة، فالخنساء “السلمية” ليست من مات أبناؤها، إنما “النخعية” -كما أورد الطبري- إضافة إلى أن ابنها الشاعر الشهير عباس بن مرداس توفي بعد معركة القادسية، وابنها الثاني “هارون” توفي أيام الجاهلية في حادثة ثأر.

ولا بد من أن نشير لشيء مهم هنا، وهو ظاهرة الرثاء في العصر الجاهلي، وارتباطه بالمرأة تحديدًا، والذي يعود – برأيي- ببساطة إلى كون المرأة في ذلك الوقت المحفوف بالحروب والنزاعات وقسوة الحياة… كانت لا تصل إلى سن النضج الشعري، إلا وقد تيتَّمت أو ترمَّلت أو أثكلت أو فقدت أخًا… فتشرَّبت بذلك من فلسفة الموت، وأصبحت ترى الحياة عبره، وباتت قصائدها انعكاسًا له، وتعبيرًا عن آلامها الوجودية.

غير أن ذلك لم يكن كافيًا لتُذكَر أي شاعرة في كتاب “المفضليات” مثلًا – الذي كُتِبَ بين 764م و787م، ويعتبر من أول المدوَّنات التي حفِظَتْ إرث العرب الشعري، والذي ضمَّ 67 شاعرًا وقرابة 130 نصًّا، بغياب تام للشعر النسائي، أما كتاب “الأصمعيات” فذُكِرَتْ فيه –ويا للسعادة- شاعرة واحدة فقط هي سُعْدَى بنت الشمردل الجهنية، بقصيدة واحدة من ضمن باقة ضمَّت قرابة 92 نصًّا، ويبدو اسمها أصلًا خيارًا غريبًا، إذ لم تكن من الشاعرات المشهورات مقارنةً بغيرها ممن لم تُذكرن كالخنساء وصفية الشيبانية وهند بنت النعمان، وكان لا بد من انتظار “ديوان الحماسة” لصاحبه الشاعر الشهير أبو تمَّام، ليذكر بعض الشاعرات مثل السلكة أم السليك، وعمرة بنت مرداس، أما “كتاب الحماسة” للبحتري، فخصَّص بابًا لمراثي النساء آخر مؤلَّفِه، وحُقَّ لنا أن نتساءل عن سبب كل ما سبق؟ مثلما حُقَّ لنا أن نتساءل عن سبب كون كل المعلقات قد كتبها شعراء رجال!

أما بدخول العصور الأموية والعباسية وحتى الأندلسية، فقد طرأت تحوُّلات على الحياة الاجتماعية والبيئة الأدبية، وأصبح الشعر النسائي مربوطًا بشكل كبير بالجواري اللواتي كُنَّ يستخدِمْنَهُ كحرية تعبير وأداة تميُّز، فتكونت ظواهر شعرية جديدة، تبدو فيها النصوص أكثر غزارة صوريًّا، وأكثر جرأة موضوعيًّا، ولكنها لم تستطع – للأسف- أن تفرز عدالة من أي نوع بين الجنسين، بل كرَّسَتْ صورة نمطية تضرُّ أكثر مما تنفع، وتسبب ذلك في تبلور صورة  ثانوية عن المرأة الشاعرة.

وأخيرًا، وفي العصر الحديث، لم تتغيَّر الأمور كثيرًا، إذ ظلَّ الشعر النسائي مستبعدًا من الخطوط الأمامية التي رابط عليها شعراء كبار لا يمكن إلا الاعتراف بأهمية تجاربهم واستحقاقهم بجدارة، وبالمقابل لا يمكن أن نتذكر في مواقع الريادة سوى أسماء قليلة، أهمها نازك الملائكة، التي حاولت أن تفتح بابًا لإثبات قدرات المرأة الشاعرة ليس فقط شعريًّا إنما نقديًّا أيضًا، وقد كان من الممكن أن يتحقق ذلك مع الانفتاح واتساع مساحة الحرية التي نالتها النساء في العقود الأخيرة، والتي دحضت حجة القمع الذكوري والسلطة الاجتماعية، باعتبارها الشماعة التي يتم تعليق أسباب الأزمة عليها، لكن العكس هو ما حدث، إذ علا صوت الجعجعة، وغاب الطحين، وكثُرَتْ الشاعرات وقلَّ الشعر، وبدل أن تتصدَّر المشهد أسماء كبيرة تُغَيِّر النظرة النمطية التي تم سَجْنُه فيها، تراجعت سلطة النقد أيضًا، ومنح بعضُهُ شرعيةً لكثير من المواهب المحدودة، من مبدأ التشجيع أو التلميع، في مقابل تحجيم المواهب المميزة، وحصارها أحيانًا ومحاربتها أحيانًا أخرى، بسبب تفشي الظواهر السلبية بشكل أكبر مع دخول عصر وسائل التواصل الاجتماعي التي ضيَّعت مشية الغراب.

وإنني لا أحاول هنا أن أُدينَ المشهد المُدان، والذي نعرف جميعًا ما له وما عليه، بقدر ما أحاول أن أشير إلى موضع الداء لنجد الدواء، فإيجاد حلٍّ يستدعي الاعتراف أولًا بوجود مشكلة كبيرة وواضحة، تتفاقم عبر العصور، وتعطل تطور الشعر العربي وتؤدي إلى إهدار المواهب وتحطيم التجارب، لذا وجب علينا تحليل الظاهرة بشكل أكثر عقلانية، بعيدًا عن الخلافات، ودون أن ننكر وجودها وخطرها، ودون أن يُلقي كل طرف اللوم على الآخر بلا جدوى، وأن نفهم أن الأزمة حاليًا تتجاوز قيمة النص، وجدية الموهبة، وتصل عميقًا إلى مفهوم التلقي، وحيادية النقد، وإعادة إنتاج الوعي وبناء الإنسان، ولن يكون هذا إلا إذا قررنا أن نتوقَّف عن التساؤل بصوت خائف، وقررنا أن ندخل تلك الغابة المعتمة بشجاعة، وأن نقلم أشجارها ونرعى أزهارها، ونُعَبِّد طرقاتها، لنسير بأمان إلى ما بعدها، إلى هناك… إلى قمة التاريخ!

الشِّعر في العصر الرقمي: استخفاف أَمْ إحياء؟ | وئام غداس

وئام غداس

كاتبة تونسية

أنا واحدةٌ ممن بدأوا في كتابة “الشِّعر” على “فيسبوك”، قبل عقد من الزمن، في الوقت الذي كانت الهجمة على هذه الظاهرة الجديدة، من الشعراء والنقاد والمثقفين في أوجها، وفي شكلها الأشدّ قسوة وضراوة. لن أنسى أبدًا طيف العار الذي كان يصاحب نصوصي، ويلازمها، رغم التظاهر بالثقة وعدم الاكتراث. شعوران كان يغذيهما احتفاء الأصدقاء في فيسبوك، وهم غالبًا، إمَّا أشخاص مثلي يحاولون فرض هذا الشكل الجديد في نشر النصوص، أو أشخاص عاديون، ليسوا شعراء، واهتماماتهم لا تضمُّ الشِّعر أو حتى الأدب، ليسوا من النخبة الأدبية -وإن كانوا من نُخَب أخرى-، لكنهم خصوصًا لا يغارون على الشِّعر ولا يرونه ملكية حصرية، قرؤوا كلمات أثَّرت بهم أو تقاطعت مع احدى تجاربهم الحياتية وهذا كل شيء! (لا أحب أن أقفز فوق نوع آخر في هذا الجمهور طبعًا، وهم المعجبون بصاحب/ة النص بقطع النظر عما كتب/ت، ومهما كان ما كتب/ت!).

تستطيع أن تتخيل كيف يكتب شخص، وهو يشعر بالخجل مما يكتبه، ينشر نصَّه على أحد مواقع التواصل، ثم يتمنى أن يختفي من الوجود أو تنشق الأرض وتبتلعه، على الرغم من شعوره العميق أنَّ ما كتبه جيِّد، فأنا أيضًا لست شخصًا قادمًا من بعيد، لقد تنفَّستُ الكتب والأدب شِعرًا ورواية وقصة منذ تعلمت القراءة والكتابة، وأعتبر نفسي مؤهلة لتقييم ما أكتبه تقييمًا سليمًا، لا تنقصه الموضوعية، لكنها سلطة الانتقاد اللاذع، والرفض الأعمى، والعنجهية المركّّبة التي قادتها في ذلك الوقت جيوش من “الكبار” و”المهمين” و”الأكاديميين” و”الفاعلين” و”ذوي التاريخ والمكانة”، أصحاب الدواوين، الذين خبروا معنى المرور بكل تلك المراحل المضنية لتخرج قصائدهم في كتاب ورقي، ومعنى تحقيق شيء من التوافق بين ناشر حساباته تختلف جذريًّا مع حساباته كشاعر، ومعنى النضال حرفيًّا حتى يُقرأ هذا الكتاب وهي الغاية الأساسية من وراء هذه الرحلة العجيبة، والتي لا تتحقق إلا بنسبة ضئيلة جدًا، إن لم تكن معدومة، من جمهور محدود ونخبوي، وهو الجمهور نفسه الذي سيحضر الأمسيات الشِعرية ليسمع هذه القصائد، الأمسيات النادرة والقليلة والتي سيعاني هذا الشاعر ليتلقى دعوة إليها، ويُحارِب ويُحابي ويغضب ويسجِّل المواقف.

لكن الشاعر تعوَّد على ذلك، تعوَّد عليه إلى الحد الذي بات معه انتشار شاعر أو جماهريته -حتى لو كان هو- أمرًا مرعبًا بالنسبة له، ليس هذا فقط، إن النجاح والشهرة ونسب البيع المرتفعة شيء يتنافى وجوهر الشِعر وكتابته، وهذا غالبًا ما يكون الطريق المهيأ للحكم البديهي: أن هذا ليس شاعرًا وما يكتبه ليس شِعرًا، الشِعر توأم اليأس والفقر، ومن ليس له هذان الأخان فهو “لقيط”!

عندما جاءت وسائل التواصل غيَّرت كل شيء، وهذا التغيير في الحقيقة ليس سوى جزءٍ من طبيعة الحياة التي تتقدم على الدوام، فإذا كانت التكنولوجيا والرقمية قد طالت كل جوانب الحياة، فلماذا ستستثني  الشِّعر؟ وهؤلاء الذين استنكروا ذلك، فليتذكروا أن الشعر كان يُلقَى شفاهةً في الأسواق، ثم ذهب إلى المخطوطات الورقية ومن ثم إلى المطبعة، وداخل هذه السيرورة فهو الآن في قلب وسائل التواصل الاجتماعي والوسائط الرقمية، التي باتت تعد ركيزةً عضويةً من ركائز واقعنا الراهن، وما لا يوجد داخلها، لن يوجد في الحياة، هكذا بهذه البساطة. لم يعد الشعر حبيس الكتب والدواوين، بل صار يتنفس في “فيسبوك” و”إنستغرام” و”تويتر” و”تيك توك”، حيث أصبح للشعر شكل جديد، وجمهور جديد، وربما وظيفة جديدة.

هكذا انفجرت تجارب شعرية لا يمكن عدُّها أو حصرها، وخرج الشِّعر من أشخاص عاديين، غير معروفين ولا مكرَّسين، فقط حلُموا بكتابته. لم يعد الشعر حِكرًا على أحدٍ، أصبح لكل شخص الحق أن يكتب وينشر، ما فتح المجال أمام أصوات جديدة متنوعة، من الإجحاف عدم الاعتراف أنَّ كثيرًا منها كان رائعًا. شِعر جاء من أشخاص عاديين وذهب إلى أشخاص مثلهم، ليسوا شعراء، ولا نقادًا، وأحيانًا لا يكونون قراءً متمرِّسين أو متذوقين للأدب، إنها نصوص للجميع، حتى من لا يقرأ الشِعر عادةً. هذا شِعر جديد شرطه ليس الثقافة الأدبية بل الإحساس، إحساس عميق بالأشخاص والأشياء والمواقف، وهذا ما قد يتوفر في بائع خضار على الناصية، ولا يتوفر في شخص درس عشرة سنين في الجامعة وقرأ ألف كتاب! وهنا يحضرني ما قاله الشاعر الفرنسي بول فاليري قبل قرن من هذا الزمن أنّّ: “هنالك شعراء لم يكتبوا قصيدة واحدة في حياتهم، وقتلة لم يسفكوا قطرة واحدة من الدم”.

انتقلنا من زمن كان يُنظر فيه إلى الشعراء كأصوات فنية أو فكرية متميزة، وجزء من النخبة الثقافية، غير المتاحة، إلى شعراء هم أقرب إلى مؤثرين، يُطلق عليهم مثلًا اسم: “الإنستابويترز”، أي شعراء الإنستغرام، يتواجدون بنصوصهم أو هم بأنفسهم في تواصل وتفاعل مباشر ودائم مع قرائهم، ويدخلون السوق التجارية (بيع كتب، منتجات، تعاونات…) شعراء ينشرون نصوصًا قصيرة مرفقة بصورة أو تصميم بسيط لتصل في ثانية إلى آلاف القراء والمتابعين حول العالم بضغطة زر، دون حاجة لدور نشر أو إلى منصات تقليدية. على غرار روبي كور الشاعرة الكندية من أصول هندية، التي برزت على “إنستغرام” بكتابة أبيات قصيرة مع رسومات بسيطة، والتي حقق ديوانها حليب وعسل مبيعات خيالية، ولانج ليف الشاعرة والفنانة النيوزيلندية ذات الأصول الكمبودية، الناشطة بكثافة على مواقع مثل “أنستغرام” و”فيسبوك”، كانت قصائدها ذات الطابع التأملي والرومنسي، مادة مهمَّة لكثير من المترجمين في كل أنحاء العالم، والعالم العربي من ضمنها، ما جعلها تصل بعيدًا بنصوصها، بفضل مواقع التواصل. والشاعر المجهول الذي بات يُعدُّ ظاهرة، والذي يتخذ اسم “أتيكوس” كاسم مستعار، وهو ما أضاف غموضًا جذب جمهور وسائل التواصل إليه. ينشر أتيكوس أبياتًا قصيرة غالبًا بالإنجليزية على “إنستغرام”، تعتمد على الرومانسية والوجودية المبسطة، أسلوبه بسيط، قصير، وصوري، يناسب التصفح السريع. نصوصه هذه تحوَّلت إلى اقتباسات تجوب العالم، وبفضل هذا الانتشار نجح في تحويل نصوصه الرقمية إلى كتب شِعرية بِيعَت منها ملايين النسخ.

لكن “إنستغرام” ليس المنصة الوحيدة، فالكثير من الشعراء العرب والعالميين وجدوا في “فيسبوك” مساحة للتفاعل الحيّ مع قرائهم، وفي “تويتر” مجالًا لتجريب “القصيدة القصيرة” أو “الهايكو الرقمي” في 280 حرف فقط.

في الوقت الذي كانت أهم القضايا الوجودية والفلسفية والسياسية منوطة بالشِّعر، أصبح الشِّعر اليوم يركِّز على مشاعر شخصية ويومية، وتجارب فردية، مثل الحب، والانكسار، والقلق، والشفاء الذاتي، فأصبح الشِعر فنًّا قريبًا جدًا من الناس، ذلك لأنه بات يلامسهم أكثر. إنه فنٌّ عظيم يتكلم عن أشياء بسيطة وعادية في حياتهم، كانت في السابق بالنسبة إليه -أي الشِعر- أمورًا تافهة! وهنا، عند هذه النقطة سيبرز سؤال: من الذي قسَّم الألم الإنساني إلى قضايا كبيرة وأخرى صغيرة؟ ومن قال إنَّ الآلام الفردية، الشخصية جدًّا والأشدّ حميمية يجب أن تتفسَّخ أمام القضايا الجمعية؟!

لغة الشعر الصلبة ذات البناء اللغوي المعقد، والصور البلاغية العميقة، والإحالات الثقافية والتاريخية، المكتوبة في نصوص طويلة أو متوسطة، أصبحت اليوم لغةً سهلةً وبسيطةً ومباشرة، مفهومةً لأي شخص. نحن بصدد نصوص قصيرة، أقرب إلى أن تكون “اقتباسًا”، وهو أمر على الرغم من عيوبه، إلا أنه يجعل قراءة الشعر أمرًا سهلًا ومتاحًا وبالمجان فوق ذلك.

نعم لقد أعادت منصَّات مثل “فيسبوك” و”إنستغرام” و”تيك توك” وغيرها إحياء الشعر لجمهور شابّ كان بعيدًا عنه، لكن هل هذا كل شيء؟

قطعًا لا، ولأكون موضوعية لن أنكر ما يبدو واضحًا، وهو أن كل هذه الإيجابيات لم تأتِ دون سلبيات على الشِعر والشعراء وحتى القراء. إنَّ فَرْضَ هذه المنصَّات الرقمية للإيقاع السريع دفَعَ بعض الشعراء إلى اختصار النصوص واختزالها، وجعل بناءها الشعري أعرجَ، فلم يعد تقريبًا من الممكن التحدث عن قصائد بل عن اقتباسات تصلح للمشاركة السريعة، شكَّلَتْ خطر التسطيح لفنٍّ أول ما يُميِّزه هو العمق. كما سهَّلَتْ السطو والسرقات الأدبية، وانتهاك حقوق الملكية، فهذه الاقتباسات تُلصَق وتُنشر دون الإشارة لصاحبها، بل أكثر من ذلك فهي تُنسَبْ بسهولة لشخص آخر.

أما هاجس الجذب الذي يستبدُّ بكل من يصنع محتوى رقميًا، فلم يستثنِ الشعراء بالطبع، إذْ أصبحت الصورة ضرورة لمرافقة النص الشعري، (ستفهم الآن لماذا أشرتُ في بداية المقال إلى مُعجبي الكاتِب وليس النص، إذْ كثيرٌ من الشعراء، والشاعرات خصوصًا الآن، يُرفقن صورهن الشخصية مع نصوصهن، وهو أغرب ما رأيته بهذا الصدد!) وهو ما نلاحظه بكثافة في منصات كـ”إنستغرام” و”تيك توك”، فتكون الأبيات، غالبًا، مجرد جزء من تصميم أو فيديو، حيث تأخذ الصورة الأهمية الأكبر، ويصبح النصُّ مكمِّلًا لا محوريًّا، فتفقد القصيدة هالتَها، خصوصًا وهي جزءٌ من محتوى آخر ضخم ومتنوع وسريع، يجعل وجود الشِّعر بينها نوعًا من الاستخفاف به. الاستخفاف الذي يبلغ ذروته مع انتشار النصوص الضعيفة، فمع سهولة النشر أصبح الجميع قادرًا على نشر نصوصه دون نقد أو مراجعة أو تحرير، ما خلق فوضى متعلقة بجودة النصوص وتراجع المعايير.

في النهاية، هنالك حقيقة لا يمكن لشيء تغييرها، لا الزمن، ولا تغيُّر الواقع ووسائطه، وهي أن الشعر ملازم للحياة، يستبطن جِلْدَها، ويفتح نوافذ الروح على العالم. الرقمية غيَّرت لِباسَهُ وقواعده، لكنها لا تقدر على إفساده ولا إنقاذه طبعًا، يمكن النظر إلى المسألة على أنها ركَّبت له أجنحة للعبور بعيدًا. التحدي اليوم ليس رفض الرقمية ولا الانصهار الكامل فيها، بل إيجاد توازن يحفظ جوهر الشعر ويستفيد من أدوات العصر. أما الشِعر الضعيف الذي يخشى الكثيرون أن يُسيء إلى قيمة الشعر، وهذه الأقدام الكثيرة التي تتطلع إلى لمس هذا البساط الأحمر المخمليّ، ولو بطرف إصبع واحد، ليست مجرمة. من حق الجميع أن يظنوا أنهم شعراء، في واقع صعب وضاغط كالذي نعيشه، حيث يصبح الذهاب فيه إلى الفنون أفضل من الذهاب إلى البشاعة، حتى تغربل آلة الزمن الشِعر من غيره وهو أمر بدهيٌّ، لا يجب أن يشغل أحدًا، لأنه ليس دوره.

“حربُ أخي” لِطالب عبد العزيز .. سكينةُ العنوانِ وغَلَيانُ المقاصِد | عبود الجابري

عبود الجابري

شاعر وكاتب ومترجم عراقي

(حربُ أخي)

قم أخي.. لقد انتهت الحرب

وأخذوا دبابتك إلى مصهر الحديد

لكنَّ بندقيتك ما زالت على الجبل

وها قد أتت الرمال على بسالتك أخيرًا

الفلاح يزرع حقله الذي سقطت فيه

لأن الأشجار التي زرعتها أنت

ماتت أيضًا

أمَّا الجبل الذي آليتَ

ألَّا تُبارِحَهُ حيًّا

تدفق الأعداء إلى قمته

وأنزلوا من ثلوجه

رايتك الصابرة

في كل مرَّة ٍ

قبل سقوطك الأخير

يسلب الأعداء بدلتك وبهاءك

ومهما كنت ميتًا يا أخي

كانوا يُفَتِّتون جثتك بالرصاص

وحتى في ميتتك الأخيرة

حين كان الدود يسقط من محجريك

وفتحة فؤادك الكبير

كانوا يظنونك تكذب

وأنك ما زلت كابوسهم المستمر

قم يا أخي لقد انتهت الحرب

وها قد تسوَّر الأطفال الحديقة

والكرات التي كنت تراها

من نارٍ ومعدن،

بردت، وهاهم يتقاذفونها

بين أقدامهم

إلَّا الكرة التي سقطت قربها

تلك التي أحالت جسدك رفيفًا.

نحن هنا في القرية

بلا حربٍ ولا أعداء

أفق من هزازاتٍ نديَّة

يتشكل توًّا تحت وسائدنا

وقد نسينا بعض جراحنا

وقد نطعم بعض خناجرنا بغضاءنا

القديمة

لكنَّ جُلَّ ما نريده

أن لا تنبح كلابنا إلَّا ضيفًا

أمّي ما زالت في فراشها

أحدثها عن طولك وعضدك القويّ

ويطربها كثيرًا

أنهم لم يجدوا حذاءً على مقاسك

كانت تسألني

على أيِّ جنبيك كنت تنام

أوحشني أن أقول لها

إنك لم تنم منذ أعوام سبعة

وإن الشظية التي هشَّمت أضلاعك

كانت من مدفع مارد وقوي

وقد فركت فتوَّتَك كلها

وإني تركت الشمس

تغرب على أسمائك وأحلامك

وإني ضننت على جسدي النثار

الذي صِرْته

وإن المسافة بين حياتك

وموتك ستة أطفال..

 

*من ديوان تأريخ الأسى

 

طالب عبد العزيز، شاعر عراقي يعمل في الشعر، والشعر يعمل لديه. كلاهما يشتغلان بدأب على تقديم ما هو مغاير لافت للأنظار والأسماع وبقية الحواس. صدرت له في الشعر والنثر أكثر من عشرة عناوين، آخرها ديوان شعري يحمل عنوان “مديح علبة الألوان”.

نشر في عام 1993 قصيدته الشهيرة (حرب أخي)، وهي مرثية كتبها عند استشهاد أخيه، وأحدثت صخبًا مكتومًا في ضمائر المتلقين، كونها كانت ضربًا من الأدب المقاوِم الرافض لفكرة الحرب ولكن بأسلوب موارب يقف على عتبة يتناصفها الخوف من بطش النظام الحاكم، والدهشة التي قوبِلَتْ بها القصيدة. كما أنها لسان واحد ينوب عن ملايين المكلومين بأبنائهم وإخوتهم، ما جعل القصيدة تنتشر كما لو أنها دعاء مبارك، وفي الوقت ذاته لم تحظ القصيدة بتناول نقدي يوازي أهميتها حين صدورها، كون النبش في ترابها اللغوي يمكن له أن يقود المنقِّبين إلى العثور على ما يدين الشاعر ومن يتجرَّأُ على التحليل النقدي للقصيدة.

“وما يثير الاستغراب فعلًا أن القصيدة لم تلقَ الرفض من الرقيب الذي كانت تضعه الدولة للحيلولةِ دون نشر أي شيء تراه غير متوافق معها، على الرغم من أن الشاعر يعلن وبقوة ليس رفضه للحرب فقط وإنما تأكيده وبإصرار أن هذه الحرب كانت عبثية، والدليل على ذلك عنوان القصيدة، فهو كأنما يريد القول أن هذه الحرب كانت حرب أخي.. لذا فقد خسر حياته بسببها. بينما رجع الآخرون إلى حياتهم الطبيعية لأنها لم تكن حربهم، وهذه سخرية مريرة يمررها الشاعر حتى على رقباء الطبع في تلك الحقبة الصعبة والقاسية من حياة العراق”(1).

قصيدةُ “حرب أخي” مرثيةٌ عميقةٌ تحمِلُ قارئَها في رحلةٍ حِسِّيةٍ عبرَ أروقةِ الذاكرةِ وما خلَّفتْهُ الحربُ من فقدٍ وأثرٍ مدمِّرٍ على النفسِ؛ من خلال عددٍ قليلٍ من الصورِ المرهقةِ، لتجسيدِ حزنِ الأخِ العميقِ على رحيلِ شقيقهِ، ورغمَ انتهاءِ الحربِ بمعناها المادّي، إلّّا أنَّ آثارها العاطفية ظلَّتْ حيَّةً ومحفورةً في الحقولِ الصامتة، تَحتَ الغطاءِ الذي تتدثَّرُ بهِ الأمَّهات، وفي الجسد المشوَّهِ للشاعِر، وحتَّى في كلماتِ التذكُّر ذاتها.

وتفرُّد القصيدة يعزى إلى تجاوزِها للانتماءاتِ السياسيَّةِ أو الوطنيَّة، فهي صرخةٌ يتردَّدُ صداها بينَ مختلفِ جدران الثقافات، من حيث تناولها للصدمةِ التي يخلِّفُها العنفُ وقداسةُ الذكرى التي تَحملُها الأرواحُ، والخرابُ الهادئُ الذي يَلي زمنَ البطولاتِ المزعومة. لم تتوقَّفِ القصيدةُ عندَ فكرةِ الاحتجاجِ على الحربِ واستنكارِ مآلاتِها فحسبْ، وإنَّما تتعمَّقُ في التأمُّلِ الفلسفيِّ حولَ الأثرِ الذي يتركهُ العنفُ في الحياة من ذكرياتٍ؛ وصولًا إلى الطريقةِ التي يُفهَم بِها الموتُ نفسه.

تُستهلُّ القصيدةُ بمطلعٍ يحملُ قدرًا من المفارقةِ: “قم أخي، لقد انتهت الحرب”، وذلك يمنحُ النصَّ طابعًا منَ السخريةِ والتهكُّمِ الموجِع،  فعلى الرغم من أنَّ الحربَ قد تكونُ “انتهتْ” وفقًا لتعريفها الجيوسياسي، إلَّا أنَّها تبقى نابضةً في الذاكرةِ وفي بقايا أجسادِ الموتى. إنَّ الدعوةَ للنهوضِ هنا ليستْ أملًا صادقًا بقدْرِ ما هيَ صيحةٌ يائِسةٌ، تُعبِّرُ عن حالةٍ من عدمِ التصديقِ، العجزِ، والثِّقَلِ الذي يَحمِلُهُ غيابُ الأخِ في اللحظةِ الراهنة. تظهرُ الحربُ في هذا السياقِ ليسَ كحدَثٍ محدودٍ زمنيًّا، بل كظاهرةٍ تمتدُّ آثارها إلى ما بعدَ نهايتِها المفترضةِ، تتخلل زمن السلام، والأرض، وتعبث بألعاب الطفولة وأحلامها، لتترك وراءها تشوهات لا سبيل إلى تجاهلها.

فيما تحمل عبارة “لقد أخذوا دبابتك إلى مصهر الحديد” دلالة عميقة على تجريدِ البطولة من طابعِها الشخصيِّ، كونَ حياةِ الجندي، رغم ما تحمله من تقدير، تُختزل في النهاية إلى مجرد حطام معدني ، بينما توحي جملة “لكنَّ بندقيتك ما زالت على الجبل”، برمزية تشير إلى التخلي عن المهمة أو الواجب لم يكتمل، وربما تعكس رفض الجبل للعنف الذي يولِّده البشر. ومع ذلك، يبقى هذا التخلي ذاته مرتبطًا بجانب من جوانب استشهاد الأخ، ما يعمق المعاني المرتبطة بالتضحية والمفارقة الإنسانية.

الطبيعة في القصيدةِ لا تبدو سلبيَّةً أو مُرمَّمة؛ إنَّها مجروحةٌ ومتواطئة، “وها قد أتت الرمال على بسالتك أخيرًا، الفلّاح يزرع حقله الذي سقطت فيه”، تُوحي بدفن الجسد والمُثلِ العليا من خلال توظيف الرمال، التي ترمز تقليديًا إلى الزمن والزوال، فالبطولة هنا تبتلع نفسها، وتحذو الأشجار حذوها “لأن الأشجار التي زرعتَها أنتَ ماتتْ أيضًا”، كدلالة على المحو الشامل الذي اقترفته الحرب بحق المخلوقات.

لعلَّ أكثر أجزاء القصيدة تأثيرًا يكمن في التباين بين الماضي الذي مزَّقتْه الحربُ وحاضر ما بعدَ الحرب، فالأطفال يلعبون الآنَ بما كانَ في السابقِ أدواتِ موت:

“والكرات التي كنت تراها من نارٍ ومعدن،

بردت،

وهاهم يتقاذفونها بين أقدامهم”.

هذا التحول من الأسلحة إلى الألعاب جميل ومُرعب في آنٍ واحد، فهو يمثل السلام والصمود من جهةٍ، ومن جهة أخرى، يُقلل من شأن وحشيةِ الحرب، مُختزلًا إيِّاها إلى جماليَّاتٍ ناشزةٍ، يكسرُ نشازَها المقطعُ الذي يقولُ فيهِ” إلَّا الكرة التي سقطتَ قربها تلكَ التي أحالت جسدك رفيفًا”، في توصيف شعري للموت، مستعيرًا بذلك وظيفة الأجنحة في وصف عروج الروح إلى السماء، بينما تمثُلُ الأمُّ في مشهد الموت أسوةً ببقية الثواكل، متمسكةً بذكرياتِ وأساطيرِ ابنها: “ويطربُها كثيرًا أنَّهم لم يَجدوا حذاءً على مقاسِك”.

افتخارًا بتفرُّدِ ولدها، وربما بالاستثناءِ الإلهي في أن يكون الشهيد -حرفيًّا ومجازيًّا– أكبرَ من العالم، بينما يعاد تصوير التأقلم الذي تلوذ به الأمهات الملتاعات في السؤال عن الشهيد كما لو كان على قيد الحياة: “كانت تسألني على أيِّ جنبيك كنت تنام، أوحشني أن أقول لها إنك لم تنم منذ أعوام سبعة”، حيث يعبِّر هذا السؤال وإجابته المضمرة عن الغياب الجسدي والسلام المبدد الذي يحرم منه الأحياء والأموات على حدٍّ سواء.

نبرةُ القصيدةِ رثائيَّةٌ، رقيقةٌ، مريرةٌ، وتأمُّليَّةٌ، تحملُ أصداءً من التراث الشعري العربي، لا سيَّما في تكرارها، واستحضارها للموتى، ومزجها بين الصور الطبيعية والجسد والعاطفة، فلا توجد فيها قافية صارمة أو بنية وزنية، ما يعكس تشتت الحالة العاطفية للمتحدث،  وبدت سلسةً، تُشبِهُ اعترافًا عفويًّا، لكنّها متجذِّرةٌ في صور دقيقة وقاطعة.

يمكن قراءة هذه القصيدة في سياق أي صراع حديث -شرق أوسطي، أو أوروبي شرقي، أو أفريقي- لكن قوتها تكمن في عالميَّتِها، فهي لا تُسمّي الحربَ، أو العدوَّ، أو الأيديولوجيا، وهذا الغياب يُتيحُ للقصيدة أن تكونَ بمثابةِ لوحةٍ لتاريخِ القرّاءِ وصدماتِهم.

حربُ أخي” تأمُّلٌ عميقٌ في بقايا العنفِ وثمنِ التضحياتِ، وما يجعلُ هذهِ القصيدةَ استثنائيَّةً هو دمجُها بينَ الشخصيِّ والسياسيِّ والغنائيِّ، فهيَ لا تُمجِّدُ الاستشهادَ، لكنَّها لا تَذمُّهُ، بل تسعى إلى إضفاءِ طابعٍ إنسانيٍّ على الخسارةِ في عصرٍ غالبًا ما يُغفِل هويَّة الخاسر.

___________________

(1) د.حذام بدر حسني، (سيرة الحرب في الشعر العراقي المعاصر).

الذكاء الاصطناعي على مجهر قيس بن الملوّح | محمد ناصر الدين

د. محمد ناصر الدين

شاعر وأكاديمي لبناني

في عصر الذكاء الاصطناعي، يتسلل إلى حياتنا اليومية الكثير من المفاهيم المرتبطة بهذه الثورة الهائلة في عالم الرقمنة والمعلوماتية والأتمتة، ومنها مفهوم «الأفاتار» Avatar -هذا التمثيل الرقمي للذات أو للآخر- حتى صار الواجهة التي نتعامل عبرها مع العالم، ومع أنفسنا أحيانًا في كثير من منصات التواصل الاجتماعي، فهي تتيح لمستخدم الفيسبوك إنشاء شخصية كرتونية تشبهه، تُستخدم في التعليقات، والستوري (story)، والمحادثات، ويتحول الأفاتار في ميتافيرس إلى تمثيل ثلاثي الأبعاد يُستخدم للتجوال داخل العوالم الافتراضية، وحضور الاجتماعات أو الفعاليات الافتراضية عبر هوية رقمية “خفيفة” ومرحة، وفي 2022، أطلق تيك توك ميزة تتيح إنشاء أفاتار يحاكي تعابير وجه المستخدم بشكل مباشر من خلال الكاميرا. لكن، وبعيدًا عن غرابة التقنية، تبدو فكرة الأفاتار قديمة، بل موغلة في المخيلة الإنسانية، وقد صاغها الشعر العربي في صور بديعة قبل أن تولد الخوارزميات بزمن طويل.

في الأساطير الإغريقية، أحبَّ بيغماليون تمثالًا نحته بيديه، وناجى الآلهة أن تبعث فيه الحياة. تدور القصة التي ترِد في كتاب “التحوُّلات” لأوفيد حول نحَّات قبرصي بارع يُدعى بيغماليون، كان مهووسًا بالعثور على المقاييس المتناسقة بلا شائبة تشوبها في الجسد الأنثوي، وفي خضم البحث عن هذا الجسد المكتمل، فقد الإيمان بفكرة المرأة الحقيقية. هرب بيغماليون من الواقع نحو فنِّه، وشرع في نحت تمثال للمرأة التي في خياله، حتى فاقت جمال النساء الحقيقيات في نظره. وبمرور الوقت، وقع في حب التمثال العاجي الذي نحته، وقد سُمِّيَت المرأة “غالاتيا” في روايات لاحقة.

وفي زمننا، يصنع المستخدم تماثيل من بيانات وصور افتراضية، يبرمجها لتشبهه أو لتجسِّد حلمًا لا يجده في واقعه. لكن في الشعر العربي، وقبل أن تعرف البشرية الثورة الرقمية والكاميرا أو الحاسوب أو الواقع الافتراضي، اخترع قيس بن الملوّح نموذجًا فريدًا من الأفاتار: ليلى التي في قلبه، لا التي تمشي على الأرض.

ترد في الجزء العاشر من كتاب “الأغاني” لأبي الفرج الأصفهاني رواية غريبة عن أخبار قيس، مُلَخَّصها أن بعض أصدقائه أرادوا علاجه من جنونه، فأتوا له بليلى خُفيَةً، فلما رأى وجهها قال: «ما لي بها حاجة، إن ليلى التي في قلبي غير هذه«، وترد الرواية ذاتها بصيغة تختلف قليلًا في “نهاية الأرب” للنويري، إذ «سُئِلَ قيس عن ليلى، فقيل له: هذه هي، فقلب ينظر إليها ويقول: اللهم إني أعوذ بك من شرِّ هذه! فقيل له: هذه ليلى! فقال: بل ليلى في قلبي غير هذه!«.

لم تكن هذه قسوة، بل إعلانًا شعريًّا مذهلًا عن موت الجسد أمام خلود الصورة. لم يهِمْ قيس بليلى لأنها كانت امرأة بعينيْ ظبية وبشرة بسواد المسك، بل لأنه نسج منها كيانًا متوهِّجًا في خياله، أفاتارًا شعريًا يتجاوز اللحم والدم نحو الجمال المطلق.

بهذه الجملة العبقرية الفريدة، اخترق قيس بن الملوّح حدود التصور التقليدي للعشق، وأسس لفكرة أنَّ الذات قد لا تتصل بالآخر مباشرة، بل عبر وسيط رمزي يصنعه الخيال، وكأن قيس كان يقول، قبل وقت طويل من ظهور الواقع المعزز أو تقنيات الـواقع الافتراضي (Virtual reality)، إن الإنسان لا يحب الآخر كما هو، بل كما يتخيله ويريده أن يكون.

إنَّ ما فعله قيس، وما دأب عليه الكثير بعده وقبله من شعراء العرب (نتذكر هنا قصة وادي عبقر وشياطين الشعراء، والقدرة على مقارنة هذه الفكرة بالواقع الافتراضي)، لم يكن سوى صياغة متقدمة لما نسميه اليوم بالأفاتار. لكن الفرق الجوهري أن الشعر العربي حرَّر الأفاتار من بُعده التقني البارد، وجعل منه كيانًا مشبعًا بالشعر في قدرته على الابتكار والخلق. فالشاعر لم يصنع الأفاتار ليهرب من العالم، بل ليخلق عالماً أوسع. وفي هذا يكمن التفوق الجمالي والروحي للخيال العربي، إذ حوَّل الصورة إلى مفهوم للتجاوز (Transcendence)، لا إلى مفهوم مبتذل أو مقيد، وفتح من خلالها أفقًا للتأمل على ما لا نهاية له من احتمالات.

وفي المقابل، تبدو الأفاتارات الرقمية اليوم، مهما بدت مبهرة بصريًا، صورة باهتة عن ليلى العامرية في خيال المجنون. فهي مشروطة بالبيانات، محدودة بالإعدادات، وتدور في فلك المستخدم بدل أن تفتح له كونًا من الاحتمالات. أما ليلى قيس، فكانت لا تنتهي، تتجدد كلما سكنت الذاكرة، وتتسع كلما غابت، وتحضر حتى في الأسماء التي تشبه اسمها، ومنها ذلك الليل العربي العميق المفتوح على الصحراء في تعداد الليالي اللامتناهي: «أحبُ من الأسماءِ ما شابه أسمها/ ووافقهُ أو كانَ منهُ مُدانيا

 أَعدُ الليالي ليلةً بعد ليلةٍ/ وقد عشتُ دهراً لا أعدُ اللياليَ».

اليوم، ونحن نصنع “تماثيل ذكية” نكلمها وتكلمنا، ونلبس وجوهًا رقمية تتفاعل بالرموز والإيموجي، يجدر بنا أن نتأمل تجربة قيس. فقد سبقنا هذا الشاعر المجنون إلى اختراع الأفاتار، في لفتة عبقرية قبل ألف سنة من زمن “الذكاء الاصطناعي” من روح ترنو إلى حقيقة أسمى لا تُرى بالعين ولا تُقاس بالخوارزميات.

ولو أمعنَّا النظر أكثر في التراث الشعري العربي، سنعثر على التقاطة مذهلة أخرى لا تقل في مغزاها عن قصة قيس، وهي قصة القصيدة اليتيمة، التي سنوجزها كما وردت لدى القاضي علي بن محسن التنوخي ونشرتها مجلة الهلال المصرية (ج3 السنة 14، 1 ديسمبر 1905، ص174)، إذ ذكروا في سبب نظمها «أن فتاة من بنات أمير من أمراء نجد بارعة الجمال اسمها دعد، كانت شاعرة بليغة، وفيها أنفة. فخطبها من أبيها جماعة كبيرة من كبار الأمراء وهي تأبى الزواج إلا برجل أشعر منها، فاستحث الشعراء قرائحهم ونظموا القصائد فلم یعجبها شيء مما نظموه. وشاع خبرها في أنحاء جزيرة العرب وتحدثوا بها. وکان في تهامة شاعر بلیغ حدثته نفسه أن ينظم قصيدة في سبيل تلك الشاعرة. فنظم تلك القصيدة… وركب ناقته وشخص إلى نجد، فالتقى في طريقه بشاعر شاخص إليها لنفس السبب وقد نظم قصيدة في دعد. فلما اجتمعا باح التهامي لصاحبه بغرضه، وقرأ له قصيدته. فرأى أن قصيدة التهامي أعلى طبقة من قصيدته، وأنه إذا جاء بها إلى دعد أجابته إلى خطبتها. فوسوس له الشيطان أن يقتل صاحبه وينتحل قصيدته فقتله. وحمل القصيدة حتى أتى نجد كذا، ونزل على ذلك الأمير، وأخبره بما حمله على المجيء. فدعا الأمير ابنته فجلست بحيث تسمع وترى. وأخذ الشاعر ينشد القصيدة بصوت عال على جاري عادتهم. فأدركت دعد من لهجته أنه ليس تهامياً، ولكنها سمعت في أثناء إنشاده أبياتاً تدل على أن ناظمها من تهامة. فعلمت بنباهتها وفراستها أن الرجل قتل صاحب القصيدة وانتحل قصيدته. فصاحت بأبيها “اقتلوا هذا، إنه قاتل بعلي”. فقبضوا عليه، واستنطقوه فاعترف»…! قد تبدو القصة عزيزي القارئ من نسيج الحكايات الشعبية، لكن فيها لمحة فكرية عميقة تُعيدنا إلى منتصف القرن العشرين، حين صاغ عالم الرياضيات البريطاني آلان تورينغ ما يُعرف اليوم بـ »اختبار تورينغ«، وهو من أكثر المفاهيم شهرة في الذكاء الاصطناعي.

في اختبار تورينغ، يُطلب من حَكَم بشري أن يتحدث مع طرفين دون أن يراهما: أحدهما إنسان، والآخر آلة. فإذا لم يستطع الحكم تمييز الآلة من الإنسان من خلال الحوار وحده، فإن الآلة “تجتاز” الاختبار وتُعد قادرة على محاكاة الذكاء البشري.

وهنا تظهر عبقرية الالتقاطة: في قصة دعد، نجد شاعرًا قاتلًا منتحلًا يتقمص صوتًا شعريًا ليس له. يقدِّم نفسه على أنه التهامي الشاعر الحقيقي، يقف أمام حَكَم فريد:  دعد، الشاعرة، القارئة، الحاذقة، العارفة بالبيئة والذوق واللسان: تستنطق للقصيدة، وتنصت لِلَّهجة بأدق خفاياها، وتلاحظ المفارقة الدقيقة بين من نظم القصيدة (مفهوم الأصالة) ومن ينسبها لنفسه (مفهوم التقليد والمحاكاة). فتفشل الآلة البشرية (القاتل) في اختبارها وتصرخ الأميرة في وجه الشاعر المزيَّف: “أنت قاتل بَعلي”، لا لأن القصيدة ضعيفة، بل لأنها تفشل في التجسُّد الحقيقي لصاحبها، كما تفشل الآلة المتمثلة بالذكاء الاصطناعي اليوم في كتابة نص واحد يقترب من روح المتنبي الشعرية، أو في رسم لوحة تلامس بألوانها الزرقاء والصفراء عالم فان غوغ في أصالته وابتكاره.

كأن دعد أدَّت نسخة بدائية وفطرية من اختبار تورينغ، دون أن تحتاج إلى برمجة أو خوارزميات، بل اعتمدت على الحدس، والذائقة، والمعرفة الدقيقة بالسياق، وهي أدوات الحُكم الحقيقية حتى في عالم الذكاء الاصطناعي اليوم.

المفارقة الجميلة في قصة دعد، هو أن الآلة ليست مصنوعة من السيليكون، بل من الكذب والحسد، آلة تقمصت صوتًا، ولكنها لم تُحسن أداء الدور حتى النهاية. في زمن تتزايد فيه قدرة الآلات على الكتابة والرسم والمحاورة، تذكّرنا دعد بأن الإنسان، حين يمتلك الذائقة والعقل النقدي، يظل قادرًا على التفريق بين الأصيل والمقلّد، بين الذات والصوت المستعار هي لحظة تورينغ، لكن بنكهة عربية خالصة، كما تذكرنا قصة قيس بجنوح ملكة الخيال لصنع أفاتار أنثوي في قلب الصحراء المرصعة بالنجوم. مستندًا إلى هذا التراث العربي المذهل، يسائل كاتب هذه السطور الروبوتات في سيناريو متخيل في القرن الثلاثين عن الأصالة والروح والتجربة الداخلية التي ينطوي فيها “العالم الأكبر” في الجِرم الصغير، يستنطقها حين تنتصر على صانعيها بما تحدث عنه الباحث الأمريكي نيك بوستروم في كتابه: “الذكاء الفائق” (Superintelligence): «الرجال الآليون/ حين تخلو منّا الأرض/ يقدحون جماجمنا العتيقة/ أيها الحمقى/ كيف اخترعتم الحب/ وكيف وصفتم الوردة؟/ يا بودلير/ ويا هوميروس/ ويا أيها الشاعر المجنون في صحراء العرب/ خذوا الأرض إذا شئتم/ ولكن/ أعيدوا لنا البكاء».

وليد منير.. السبعيني الذي لم يقترب من السراب | عبد الرحمن مقلد

عبد الرحمن مقلد

شاعر وكاتب مصري

صورةٌ وحيدةٌ مرتجفةٌ، مقصوصةٌ من صورةٍ أكبر، ستكون كل حصادك إذا استعنت بمحركات البحث في محاولة للتعرف على ملامح الشاعر المصري وليد منير. لن تجد غير هذه الصورة ولو عمَّقت البحث في مواقع التواصل وغيرها.. فلا صفحة تحمل اسمه ولا حساب خاص ولا ملفات تعريف، وبالأحرى سيكتفي الذكاء الاصطناعي بتقديم تعريف منقول غير وافٍ يعتمد على حفنة المقالات والأخبار والنصوص المتفرقة، والكتابات التأبينية التي تبِعَتْ وفاته عام 2009، إضافة لأسماء بعض كتبه ودواوينه… هذا كل ما سنجده على الإنترنت من تجربة شاعر بارز من جيل السبعينيات، وصاحب تجربة متفردة، شديدة الخصوبة، وافرة المعنى والمبنى.


رحل وليد منير عن عشرة دواوين مؤثرة في مسيرة الشعر المصري، بدأها بـ”الراعي الذي فاجأ السهل”، لتتوالى أعماله المهمة مثل “والنيل أخضر في العيون” (1985)، و”قصائد للبعيد البعيد” (1989)، و”بعض الوقت لدهشة صغيرة” (1994)، و”هذا دمي وهذا قرنفلي“، و”سيرة يد”، و“قيثارة واحدة وأكثر من عازف“، و“طعم قديم للحلم“، و”كمشكاة فيها مصباح“، نهايةً بديوانه الأخير “الروح تعزف الموسيقى“؛ مسيرة شعرية وافية كمًّا وكيفًا لشاعر وأكاديمي لم يعمر في دنيا الله إلا 52 عامًا بين ميلاده عام 1957 ووفاته عام 2009، بعد معاناة مع مرض الكبد.

ماذا لو أضفنا لهذا الرصيد الشعري المتميز لوليد منير، كما يظهر حتى من عنونة دواوينه، رصيده النقدي من الكتب والمقالات والأبحاث، هذا إضافة لمسرحياته، فهو أحد القلائل الذين اقترفوا فن المسرح بين مجايليه.

نحن أمام منجزٍ كبيرٍ. إذًا لماذا لم ينل وليد منير شهرته بين أقرانه؟ لِمَاذا لا يسود شعره بين الناس وهو جدير بأن يحفر عميقًا كتجارب أبناء جيله، ولِمَ أُهيل الرماد على شعره فلم تعد تُطْبع دواوينه أو تخصص له الندوات والملتقيات، ولم يصل اسمه أو قصائده للأجيال الأحدث، فربما لم تسمع باسمه، أو يمر مرور الكرام بما لا يليق بموهبته، هل اختلف حضور شاعرنا في موته عن حياته؟

 

شاعرٌ يُجيد التواري

اعتاد وليد منير على التخفي، وبمحض إرادته، فهو لم يكن ابن الضجيج ولم يكن من الحاضرين بأجسادهم فقط، بالتالي لم تعتد العدسات صورته، ولا وسائل الإعلام والمتابعات الصحفية نشر اسمه، بل فضَّل أن يلزم صومعةً ارتضاها لنفسه تحميه من الضجيج في زمنٍ اضطرم فيه كل شيء.

راهن وليد على شعره وكتبه وأبحاثه، وعلى أن  موهبته فقط ستضمن له مكانته وتحفظ له كرامته، فاكتفى بنشر شعره وأعماله عبر المجلات والدوريات وانصرف إلى حاله وكتابته ومرضه. عرف شاعرنا أن الذي لا يحفظ روحه سيذلُّ جواده، ولن يقفز الحواجز إلى الغوطة الطيبة، كما يقول في ديوانه “طعمٌ قديمٌ للحلم”:

في الرهان الأخير على الموهبةْ،

سوف يقفز فوق السدود حصاني

ليهبط في الغوطةِ الطيبةْ

سوف تكتب عن عبقرية روحي السحابةُ

والأقحوانةُ سوف تقوم بشرح العلاقةِ بين القصيدةِ والتجربةْ

وغداً عندما يسقطُ الكَتَبَةْ

عندما تستعيدُ الكتابةُ أنفاسَها ويروقُ المجازُ لصاحِبِهِ

سوف آخذُكُم لقليلٍ من الوقتِ في رحلةٍ حول قوسِ قُزَح

وأبصِّركم بالكلام الذي سكَبَتْهُ يدي في ضمير القدح

وأقودُ لكم نحو أبعد نجمٍ وراءَ الصدى مرْكَبَةْ..

 

السبعينيَّات المُربِكَة

في السبعينيات الشعرية في مصر، وما تلاها من أجيال تنازعت الشعر معنًى ومبنًى، لم يَعِدْنا وليد منير إلا “بالقليل من الوقت في رحلةٍ حول قوس قزح“، فالافتعال والمعضلات والاشتباكات والسخط وشتم جمهور الشعر أو التذلُّل له بالمقابل، والكلام الواسع، كلها أمور نأى عنها شاعرنا، في زمنٍ سادَهُ “الكَتَبَةْ” بتعبيره، وليس “الكُتَّاب”، والفرق بينهما كبير.

رغم ولع وليد منير بالمغايرة والاختلاف الشعري واستكشاف الجديد غير المأهول من أراضي القصيدة، فلم يكن حسب وصفه مجايله السبعيني محمد سليمان “شاعرًا صاخبًا مُغْرمًا بالتقاليع أو الانقلابات التي هدفها الإثارة ولفت الأنظار، فقد آثر الهدوء والتأمل ومعايشة تجاربه واحتضانها وبلورتها”.

كان يعرفُ أنَّ زمانَهُ لن يوافقه ولن يضمن له مقعده، لذا راهن على غَدٍ لن يمنحنا فيه مع ذلك أكثر من “الكلام الذي سكَبَتْهُ يده في ضمير القدح”، فهل أتى هذا الغد الذي يرضى أن يفتح فيه وليد كنزه، ويسمح أن يمنحنا بعض ضوئه، وقد وضع الحواجز ولم يسمح لأحد بالاقتراب، وهو الذي سبق وقال: 

“ليس من حقِّ أحدْ

أنْ يرى غرفةَ كنزي

فأنا أفتَحُها

وقتما شئتُ/ لِمَنْ شئتُ

وأعطِيهِ من البحر سماءْ

ومن الروح جسدْ”.

بالأحرى لم يأتِ هذا الغد الذي سيُطْرَحُ فيه شعر وليد بين أيدينا وإن بدأ بريقُ فجْرِهِ يلوح مع ولادة جيل شعري أكثر تسامحًا وتجاوبًا مع الأشكال الشعرية كافة. لم يعد الجيل الجديد يعبأ بالصلادة والدفاع المصطنع حول شكل ظنَّته أجيال أقدم المُعَبِّرَ وحده عن الحداثة الشعرية؛ لم يعد الرهان على نص معين رأوا أنه لا بد أن يحلَّ محل الأشكال الأخرى.. بل يسود في الأغلب تسامحٌ شعريٌّ عابرٌ للأشكال.

حاسبت الأجيال الأسبق، التي سيطرت على المشهد الشعري في مصر، وليد منير على تمسُّكِه بشكله التفعيلي، فلم يقاربوا نصَّهُ من الأساس لأنه بالأحرى لا يكتب قصيدة النثر، وفق ما وضعوه من معايير، هذا في الأغلب الأعم، وإلا لماذا لم نَرَ من بين أجيال الثمانينيات والتسعينيات الشعرية في مصر من يكتب عن شعر وليد منير؟

 

غريبٌ لم يقترب من السراب

وليد منير شاعر سبعيني بامتياز نعم؛ وُلِدَ بين شعراء هذا الجيل، ولكننا لو عدنا لفترات مجدهم، لرأينا شاعرنا وهو يأخذ جانبًا بعيدًا في هذا الزمن المربك الذي تقاسمت فيه جماعتا “أصوات” و”إضاءة” بُقَع الضوء الشعرية، وخاضوا معاركهم وتمردهم واقترفاتهم التي تراجعوا عن كثيرٍ منها فيما بعد.

قاد حلمي سالم وعبد المنعم رمضان وغيرهما من شعراء السبعينيات أصحاب التجارب الرغدة والمختلفة والمغايرة مسيرةَ هذا الجيل، باعتبار أن نصَّه انقلاب على ما كتبه السابقون مِن جيلَيْ الرواد، وأرادوا هدم المعبد على قصيدة التفعيلة التي خرجوا من رحِمها، بالأخص القصيدة الستينيَّة وشعراءها أمل دنقل وعبد المعطي حجازي وصلاح عبد الصبور، لذا اشتهر خطابهم وعلا فِعْلُ تمردهم بل وسبق نصَّهم ذاته، في المراحل الأولى على الأقل قبل أن تستوي تجاربهم فيما بعد تخلِّيهم عن خطاب الدوجما.

في ظل هذه الأجواء التمرُّدية على نصِّ الآباء فضَّل وليد منير أن يجدِّد داخل هذا النص. تمسك بالقصيدة الموسيقية الملتزمةِ تفاعيلَ الخليل بن أحمد، وحشد فيها طاقة جديدة مختلفة، وجادل الشكل وحاول أن يعتمد قوته الموسيقية في تحفيز اللغة والمجاز وتوليد المناطق الشعرية المتفجرة، فلا يكون نصه جافًا أو مجرد مقترح شكلي أجوف أو محاولة تجديد غير محسوبة ومُلقاة في الفراغ.

صحيح أن وليد حلَّ مع نفسه معضلة الشكل، وفضَّل النصَّ الموسيقي، حتى في ديوانه الأخير الذي كتبه في قالب قصيدة النثر، لم يبعد فيه عن ميراث الموسيقى، اسمًا ولا شكلًا، لكنَّ شاعر “طعم قديم للحلم” دار دورة واسعة في المعنى، وأحدث انقلابًا ناعمًا حقيقيًّا في داخل قصيدة التفعيلة، فذهب بها إلى أراضٍ جديدة ومواضع بِكْر، وعبر أنهارًا وبحارًا، بل ربما كان أبعد شعراء جيله تطوافًا في الزمن، وفي الأفكار، والتشابك مع الرمزيات، فالقصيدة عنده رحلة في المعرفة والتاريخ والمكان والوجدان والفلسفة والأديان معًا، ولننظر إلى بعض وعود القصيدة وهو القائل:

 

سأقرأُ طاغورَ ثانيةً

وسأعشَقُ أفكارَ بعضِ البشر

 وسأكتبُ عن أنبياءَ قُدَامى

وعن نظرياتٍ اندَثَرتْ وعلومٍ ستأتي

 إنَّ ذلك كافٍ لأنْ أبدأ الآنَ من وردتين

لأنْ أستعيدَ صداقةَ روحي

 لأنْ أتأمَّلَ فارسَ والهندَ والقيروانَ

وأكتشفَ العددَ الذهبيَّ

الذى يستطيعُ اختصارَ حواريَّةِ الكونِ في ذرَّةٍ أو وَتَر

 وسألقَى “براهما”

 وأُصغي إلى كلماتِ “زرادشتَ” عند الغروبِ

 وآكلُ في طبقٍ واحدٍ مع أصحابِ “بوذا”…

 

هكذا طوَّفَ وليد منير في كل مكان خفيفًا من الأعباء التي ربما اصطنع منها البعضُ قضايا يختبئ خلفها، فربما وجدوا في الغموض مهْرَبًا وفي التجريب غير محسوب الخطى ملاذًا من المحاسبة والسؤال، لكن شاعر “مشكاة فيها مصباح” أبى إلا أن يأتي الشعر واضحًا والقضايا ناصعة، وتمسَّك بالعقل، فلم يقترب كما يقول “من السراب الذي برهن عليه الأصدقاء والسكارى الذين أرادوا أنْ يُجَنّ“. أراد النصاعة فذاقَ وشمَّ ولامسَ واستمع بصدق لحركة الكون، وأصغى لروحه، وتحدى الفراغ العميق:

 

طوى كالكواكبِ إثْنَيْ وعشرينِ عامًا

رمى شصَّهُ في البحارِ جميعًا

وأصغى

وذاقَ وشمَّ ولامسَ

لم يقتربْ منهُ هذا السَّراب الذي برهنَ الأصدقاء عليهِ

رأى الأغنياتٍ شظايا

وحِبْرَ الطفولةِ أقنعةً

والمودَّةَ نَصْلًا

رآهم يدورون كالنَّرْدِ فوق الموائدِ موتى تمامًا

ولكنَّهم يزعمون له أنَّهم يخلقون الحياةَ

على هيئة الطَّيرِ

يا للسَّكارى الذين أرادوا له أنْ يُجَنَّ

ويا للسَّكارى الذين انتشوا

عندما كاد يقرضهم نجمةً

لم تزَلْ تتدحرجُ في روحِه

كلُّ هذي الحماقات مِنْ حولِهِ

كلُّ هذي الرَّحى

كلُّ هذي الدَّسائسُ والأحجيات؟!

ويندهشونَ لأنَّ الفتى لم يَزَلْ عاقِلًا

يتحدَّى الفراغَ العميقَ

ويدفعُ عنه غبارَ الجنون…

 

غايَرَ شاعِرُنا طموحاتِ مجايلِيه وتنظيراتهم حول الشعر التي سادت فيها مفردات مثل التشظي، وامتداح الجنون، والهذيان، ونبذ العقل، والهوس، واستتباع النص المفتوح الذي لا يُغلَق أو النص الهندسي المغلق على الأفهام، فلم يَعْلُ صوت وليد منير، في زمن يريد أن تُجَنَّ أولًا ليسمع لك.. يريد أن تنطق بالأحاجي أو بالمفارقة أو تخضع للسلطة وتدخل الحظيرة، وما كان له أن يفعل فيفقد جسارتَهُ وهو يحاسب زمانه الذي لم يتصالح معه ويرفض نمط الحضارة التي استباحت أحلام الطبيين وأساطير البسطاء وساد فيها التُّجَّار والمنتقمون وأصحاب الموضات الكتابية المفتعلة على حساب الصدق والأصالة. فها هو يذهب بنفسه إلى كريستوفر كولومبوس ويرى ما فعل باكتشافه القارة الجديدة أمريكا، وما فعلت بعد ذلك بالعالم، يقول في قصيدته “القارة الأخرى” المنشورة فى مجلة «إبداع» بتاريخ فبراير 1993:

 

لكنَّ صهيلًا ودمًا كانا على مقربةٍ من موكب الغيم

وكانا يستبيحان أساطير رجالٍ بسطاء واسعي الخُطَى

وأحلام نساء طيبات الروح يجمعن البهارات أو السُّكَّر

 لم يعلم بنو آدم أنَّ النار تأتي ذات يوم في يد الفاتح

 كي تشعل في آلهة الأسلاف الأحزان

وتلقي ببقاياهم إلى شاطئ أسبانيا عبيدًا وعرايا

إنه ربٌّ جديدٌ يرث الدنيا

ويختار رعاياه من التُّجَّار والعسكر والبحَّارة المنتقمين..

 

كم أردتُ أن تتسع المساحة أكبر، لننوِّه لجهد وليد منير الشعري ونوفيه حقَّه ناقدًا له حضوره الكبير في الكتابة النقدية، ورصيد من الدراسات المهمة على رأسها كتابه عن مسرح صلاح عبد الصبور: “فضاء الصوت الدرامي”، وكتاب “نقد خطاب الاستشراق”، و”جدلية اللغة والحدث”، و”صورة النبي في الشعرية العربية”، و“رحلة المنفى في الشعر العربي الحديث.. عزلة المكان وتداعيات الذاكرة“، ودراسته “الدوائر المتقاطعة.. بحث في تداخل فن الشعر مع غيره من الفنون”.

كذلك وددنا لو زُرْنا منجزه المسرحي المهم، وعلى رأسه كتابه المسرحي “حفل لتتويج الدهشة“، ولكن الفرص تتوالى، والدعوات لن تتوقف لإنصاف تجربة هذا الشاعر الفذ، على الأقل بإعادة طبع أعماله أو توفيرها، ليكون من حق الأجيال الجديدة أن ترى هذه التجربة، وتحيي الشاعر الذي لم يمتلك شهوة الوصول وإنما انسَجَم في الرحلة ذاتها.

 

أقِفُ على الأرصفة

أرصفة المحطة الحزينة

لا شهوة عندي للوصول

أركب القطار

القطار البعيد كالسهم

وأنزل في منتصف الطريق

سعيدًا

سعيدًا

سعيدًا

أسير في حقول لا أعرفها

وأسهر في قباب

لا عهدَ لي بها

وأُكَلِّمُ الأحجارَ والسواقي…!



واقع الشعر العربي في مالي | عبد المنعم حسن

عبد المنعم حسن محمد

شاعر وكاتب من مالي

يوجد الشعر حيث توجد العربية، هذه اللغة التي تصافح القلوب وتدس في نبضها قصائد خالدة، تَحِلُّ معها حيث حلَّت، وتنمو تلقائيًا في وجدان كل من بدأ يتغنى بالألفاظ الأولى من كلامها المحيط، فهي تستريح على الألسنة موقَّعةً، وتبذر في الأرواح تميمةَ الشعر، فلا يخلو كل سبعة متحدثين بلسانها –أنَّى كانوا– من شاعر واحد على الأقل.

جمهورية مالي ليست مستثناة من القاعدة أعلاه، بل إنني لن أبتعد عن الصواب إذا زعمت أن أكثر الشعراء بالعربية في إفريقيا السمراء –باستثناء السودان– هم الماليّون. وعلى سبيل البداهة، يمكننا الزعم بأن أفضل شعراء إفريقيا غير الناطقة بالعربية من مالي، مع الاعتراف بوجاهة التجارب الشعرية في الأقطار الأخرى من القارة، وليس هذا ادِّعاءً يفتقر إلى البيِّنة، لأن تاريخ مالي وموقعها الاستراتيجي زماناً ومكاناً، شاهد على مدونة ضخمة لشعر عربي رصين أنتجه ماليون عبر أجيال تمتد إلى قرون في الماضي ولا تزال الأجيال الحاضرة تضيف وتُطوّر وتُواكب الصيرورة الطبيعية لنمو الشعر كما في العالم العربي.

قبل أن أفتح نافذة للإطلالة على بستان الشعر العربي الراهن في مالي، لا بد من عرض سريع لتاريخ العربية وشعرها في المنطقة، وهو عرض لن يكلفنا أكثر من العودة إلى ما قبل الاستعمار الفرنسي، حيث تعاقبت على حكم مالي إمبراطوريات وممالك إسلامية، أبرزها إمبراطورية السونغاي، التي امتد حكمها من 1464م إلى 1591م. وقد بلغت أوج ازدهارها في عهد الملك أسكيا محمد، سنة 898 للهجرة، 1493م. والذي حافظ على الإرث الإسلامي الذي غرسه ورعاه الملوك السابقون، وأعاد الوهج لمدينة تمبكتو وآثارها المادية والمعنوية، وهيَّأ المناخ للمثقفين وعلماء العربية، بل أرسل في طلب العالم والفقيه عبد الكريم المغيلي، داعيًا إيَّاه إلى القدوم من تلمسان والانضمام إلى حاشيته في تمبكتو، كما فعل الملك منسى موسى منذ قرون لدى عودته من رحلة الحج الشهيرة، حين اصطحب معه إلى مالي الشاعر أبي إسحاق الساحلي، وهذا من العلماء الذين هاجروا من الأندلس نحو المشرق، وبعد مغادرته الأندلس راح يطوف ويجول في البلدان إلى أن ألقى به التجوال إلى ملاقاة ملك مملكة مالي.

يروي صاحب “الإحاطة” بقوله: «واعلم أن منسى موسى الذي ذكرناه، كان من كبار الملوك كما قلنا، وهو الذي صحبه أبو إسحاق الساحلي، المعروف بالطويجي من شعراء الأندلس، كان قد لقيه في الموسم بعرفة، فحلى بعينه، وحظيت منزلته عنده فصحبه إلى بلاده، وأقام عنده مصحوبًا بالبر والكرامة… وكانت وفاة أبي إسحاق بتمبكتو، يوم الاثنين السابع والعشرين من جمادى الآخرة، سنة سبع وأربعين وسبعمائة»[1]. وعنه يقول: «كان رحمه الله نسيج وحده في الأدب نظمًا ونثرًا، لا يُشَقُّ فيهما غباره، كلام صافي الأديم غزير المائية، أنيق الديباجة موفور المادة، كثير الحلاوة، جامع بين الجزالة والرقة»[2].

تشهد له دالية قرضها في مملكة مالي وأرسلها إلى صديق له في الأندلس، من قصيدة تتقاطر رِقَّةً وتنضج على نار الحنين:

لِمَنِ الرَّكَائِبُ، خُضْنَ رَمْلَ زَرُودِ؟

وَسَرَيْنَ، بَيْنَ تَهَائِمٍ وَنُجُودِ

تَرَكُوكَ، تَسْتَقْرِي الْمَنَازِلَ بَعْدَهُمْ

وَسَرَوْا بِشِلْوِ فُؤَادِكَ الْمَفْؤُودِ

فَبِكُلِّ وَادٍ، أَنْتَ رَائِدُ مَرْبَعٍ

وَبِكُلِّ نَادٍ، أَنْتَ نَاشِدُ غِيدِ 

أوِي إِلَى أَجَمَاتِهِ مُسْتَسْلِمًا

وَأَهَابُ، مَأْوَى شَامِتٍ وحَسُودِ

أَخْشَى الْمَقِيلَ بِظِلّهِ مُسْتَوْفِرًا

وَأَضلُّ، بَيْنَ أَسَاوِدٍ وَأُسُودِ

فالساحلي كما شيَّد صرح تمبكتو الأبرز، وهو الجامع الكبير القائم إلى اليوم، فإنه أثَّر في نفوس معاصريه الماليين وانتشرت بينهم طريقته في قول الشعر، وتوارثوها عبر أجيال، ولعل نشأة كتابة الشعر العربي في غرب إفريقيا كلها تعود جذورها إلى حقبة الساحلي في تمبكتو.

ورغم أن الطابع العام للمنجز الشعري في مالي لا يمتاز عن النمط الكلاسيكي السائد، بل يعد غالبه تقليدًا للشعر العربي القديم، إلا أن جيل اليوم بدأ يلفت النظر بسلوك طرق جديدة وابتكار مضامين متنوعة تعكس خصوصيةً ما، وتترجم الآمال والأشواق والمكونات الثقافية النابعة من إفريقيا عمومًا ومن مالي بصفة خاصة. هذا الاتجاه بالذات يستحق التريث عند الحديث حوله، واستدعاء مقطوعات لشعراء بدأوا في تأثيثه.

الرِّياحُ السّكرى طَغَتْ بالجهاتْ

رنَّ ظِلّي ليوقظَ الطُّرُقاتْ

مثلما…

تنجبُ البحارُ شراعًا

ذاكَ حرفي تسيلُ منهُ الحياةْ

كلَّما…

أربكَ الكلامُ المعاني

مسرحُ الضوءِ يُرضِعَ  الظلماتْ  

وأنا قصَّةٌ ترواغُ سرديّاتها إذ تتيه فيها الرواةْ!

أبيات للشاعر بكري سيسي، من قصيدة بعنوان: «ضوء يجثو على كهف الحدس»، تبرهن على حساسية شعورية ذات تنويعات معاصرة، يلتمس الشاعر مجازاته واستعاراته من الواقع الجديد، وينقل أثرها إلى وجدانه، ليصدره في جمل شعرية تحترم القارئ الحديث، كأنها تقول وبهمس غير مباشر: إن مالي أيضًا حاضرة في العصر الراهن.

ومن شمال مالي، يأتي غناء جارح، يرسله نيابةً عن المكلومين والمعذبين في أتون الحرب العبثية الطاحنة والعمياء، شاعرٌ هادئ النبر، لكنه يصُبُّ في القلوب لغةً كاويةً:

لأن المسا حينَ يأخذُ قبْلِي الـ

ـمدَى آخذُ الأُفقِ للأبدِ

يؤدّي إلى كلِّ شيءٍ ولكنـ

ـنه لا يُؤدِّي إلى المَوعِدِ

لأنِّي القتيلُ الأخيرُ أُلَوِّ..

..حُ للعابرين وما مِن يدِ

نسيتُ.. ولم أدَّخِر غيمةً للطـ

ـطريقِ ولا دمْعةً للغَدِ

فمَن سيُعيدُ لنا الحُلمَ مَن سـ

ـيصُبُّ السرابَ على المَوقِدِ؟

ومن بي يعودُ-إذا انحدر الدر..

..بُ بي في النهاية- للمَولِدِ؟

عسى أن تعودَ الحيَاةُ إلى المهـ

ـدِ أو فكرةٍ بعدُ لم تُولَدِ

فالشاعر محمد خيري، لا يريد أن يتصنَّع غير الألم، كأنه وقَّع ميثاقًا مع الصحراء، سيغرس فيها واحات مواساة، دون ضعف أو ابتزاز للعواطف، رغم أن قصائد الدموع تلك تضع الشاعر الشاب في موضع المؤاخذة، فالعالم يعج بالملهيات وعناصر الإغراء، والطريق إلى الملهى يستدعي إيقاعًا آخر! لكن قصائد خيري تجيء ومعها لافتة تبرق من بعيد: «إنك لا تجني من الشوك العنب».

وها هي واحة تلمع في بيداء مالي، لقصيدة تفعيلة، أبدعها إبراهيم الفهري، وكأنه آلَى على قصائده أن تشعل نجمة في الأفق، يقول:

وعوَّدتُها -كلما لاح لي نهْرُ نسيانها

وجاءت تلوِّح لي-

أن أعودَ إلى نقطةِ البدءِ

حيث أجدِّدُ تجربتي في طقوسِ العذابْ

ولكنني

سوف ألتحفُ اللامبالاةَ هذا المساءَ

وأمضي

لأني تعبتُ من السعيِ خلف السرابْ!

كان الشعر المالي منذ قرون -على غزارته– محدودَ الموضوعات والأغراض، جُلُّه من نظم الفقهاء، أو قصائد معارضة، أو تشطير وتخميس، وكثير منها قصائد تساق للمديح النبوي، لكنه خلال السنوات الأخيرة، وعلى أيدي شباب هذا الجيل حقَّقَ قفزات هائلة، وخرج من ضيق التقليد إلى رحابة الرؤى والتجريب، وصار يعكس صورة الإنسان المالي وبيئته وأساطيره ونسيجه المتنوع، بل مرشحاً أن يمدَّ اللغة العربية بمحتوى فني جديد يحقق لها التمدد والسعة، هذا إذا كان البحر يزيد حين يصبُّ فيه النهر.

وإنه في كل مرة تقام فيها أمسية شعرية في باماكو، تمتلئ القاعة بجمهور متذوق، ومتعطش للقصيدة، وطروب غير ملول، بل منفتح وقابل للتواصل مع القصيدة الحديثة واستنطاق رموزها وغموضها، والإحساس بالطاقة العاطفية الكامنة في صورها وتراكيبها.

كذلك اهتمام عديد من نقاد الأدب في مالي -أمثال البروفيسور هارون المهدي ميغا، والدكتور مامادو دمبيلي– بالشعر الراهن، وتناولهم إيَّاه في الدراسات الأكاديمية، ومناقشتها في جامعات مالي، خير دليل على المكانة المميزة التي يحتلُّها الشعر العربي في مالي.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] الإحاطة في أخبار غرناطة، لسان الدين بن الخطيب، دار الكتب العلمية، جز١، ص ١٧٠.

[2] المصدر نفسه

درويش الذي في بيتي! | د. بروين حبيب

بروين حبيب

كاتبة وإعلامية بحرينية

في إحدى جلسات الصالون الثقافي في بيتي استرعى وجود لوحتين كبيرتين بحجم جدارية معلَّقتين على حيطان الغرفة للشاعر محمود درويش نظَرَ أحد الحاضرين. قال مستغربًا: «حسبتُكِ نزاريَّةَ الهوى، ولم أتوقع أن أرى في بيتك بدل اللوحة لوحتين لمن يتوازى مع نزار قباني في الأسلوب الشعري ولا يتقاطع!».

أجبتُهُ: «أزيدك أن هناك لوحة ثالثة له في مكتبي لتكتمل الثلاثية. وإذا كان شعر نزار قباني عشقي المُعْلَن، فقصائد محمود درويش حديقتي السرية أفيئ إليها بحثًا عن جمالية مختلفة وحساسية شعرية عصيَّة على التقليد رغم وجود كثير من النماذج المستنسخة لها».

إن هذا الشغف الدرويشي ليس طارئًا، بل تمتد جذوره إلى بداية تكويني الأدبي وأنا في بدايات الدراسة الجامعية. وبعكس كثيرين لم أعرف شعر درويش من خلال دواوينه التي كان ينشرها ولا من تسجيلات أمسياته بإلقائه الساحر الآسر، بل كانت بوابتي إلى شعره أغاني مارسيل خليفة، مثل «أحِنُّ إلى خبز أمي» و«وعود من العاصفة» وغيرها من القصائد المغنَّاة التي أصابني بعدوى عشقِها جيلٌ من الشباب البحريني، أسبق من جيلي في الجامعة، كان متأثرًا بفكر اليسار، وعن طريقه عرفنا الفكر الملتزم في الأدب والفن.

أذكر أن أول احتكاك لي بشعر محمود درويش، مقروءًا لا مسموعًا، كان في سهرة ليلة رأس السنة منتصف الثمانينيات في بيت صديقة تنتمي لعائلة فنية، وللغرابة كانت كل أغانينا في تلك السهرة مما نحفظه لمارسيل وماجدة الرومي، فقد كان هذا زمن الشعور القومي والفكر الأممي. يومها أهداني أحد الشباب الحاضرين مجموعتين شعريتين لمحمود درويش، إحداهما بعنوان «حبيبتي تنهض من نومها» والأخرى «مديح الظل العالي»، فكانتا الجسر الذي عبرت عليه من ضفة النهر النزارية إلى الضفة الدرويشية، وحفظت أغلب قصيدة «مديح الظل العالي» مثل كثيرٍ من الشباب نظرًا لغنائيَّتها العالية، ورددتُ كثيرًا من أبياتها مثلما يعلق مطلع أغنية على اللسان فلا نستطيع منه فكاكًا.

ثبَّتَ هذا التحوُّلَ الدرويشي عندي تقديمي لسنتين متتاليتين حفلات فرقة «أجراس» البحرينية، وكانت قصائد درويش الطبق الرئيسي في برنامجهم الغنائي. وبقيت أزور بخفَّة عصفورة حذِرَة حديقتي الدرويشية، فمرةً عبر جدالي مع صديقة كانت مُوْلَعَة بشعرِه مثل ولعي بشعر نزار، وأخرى عبر جديد مارسيل خليفة وماجدة الرومي من قصائده، وثالثة من خلال بحث جامعي يكلفني به أحد الأساتذة عن شعره، ورابعة عن طريق كتاب شاكر النابلسي عنه «مجنون التراب»، فقد سلَّمني مفتاح الدخول إلى ظاهرته الشعرية. أعلنت عشقي لشعر محمود درويش بعد أن كنت أعتبر الإعلان خيانةً لحبي لشعر نزار قباني، وهذا يوم قرأت حوارًا مع محمود درويش على صفحات مجلة «المجلة» يزيِّن صدر الصفحة عنوان بالخط العريض «مَن لم يستفِد من نزار قباني فليرفَعْ إصبعَه».

تأخر لقائي الشخصي بالشاعر محمود درويش، فلم يتيسَّر ذلك إلا قبل رحيله بسنة ونصف، ففي شهر فبراير من سنة 2007 انعقدَتْ في القاهرة الدورة الأولى للملتقى الدولي للشعر العربي، وكانت تحمل اسم الشاعر الكبير صلاح عبد الصبور. وكان نجم الملتقى محمود درويش، وشاءت الأقدار أن أكون مدعوَّةً لها لا بصفتي الإعلامية، بل بصفتي شاعرة تكتب قصيدة النثر، وقد كان برنامجي يومها «نلتقي مع بروين» يلقى استحسانًا بخطِّه الثقافي وضيوفه المتميزين. كما شاءت الأقدار أيضًا أن أكون مقيمةً في الفندق نفسه الذي كان ينزل فيه درويش، فجالسته في بهو الفندق وحادثته وإحساس بالفخر يغمرني أني سأقرأ شعري على المنصة نفسها التي سيُلقي فوقها هو قصائده.

يومئذٍ تكوَّنَ لديَّ انطباعان أثبتت لي الأيام صوابيَّتهما: أوَّلهما ضجر درويش من الحديث عن قصائده الثورية التي صنعت شهرته في البدء، مثل قصيدته ذائعة الصيت «سجِّلْ أنا عربي»، وأذكر أنه كان يرفض في أمسياته الشعرية الأخيرة أن يقرأها حين يطلبها الجمهور منه. وللمفارقة فهو الضجر نفسه الذي كان يستشعره نزار قباني حين يُختصَر في شِعره الغزلي فقط، فلم يكن يريد أن يُختزَل بوصفه «شاعر المرأة» كما لا يريد درويش أن يُختزل أيضًا بوصفه «شاعر الثورة». والانطباع الثاني أنه كائن شديد الاعتداد بنفسه، وكان عقلي طيلة مجالستي له يُجري مقارنةً بين لقائي به ولقائي بنزار قبل سنوات من ذلك في بيته اللندني، فاللقاء بدرويش يشعرك بعنفوان الفلسطيني في حين أن اللقاء بنزار يشعرك بدماثة الشامي. وقد اقترحت عليه يومها أن أستضيفه في برنامجي فوعد خيرًا. ظلت هذه الرغبة في محاورته قائمة وأحببتُ جرَّها من سماء الأماني إلى أرض الواقع حين استضفتُ -بعد لقائي القاهري بمحمود درويش بسنة- الكاتبَ والناقد خيري منصور رحمه الله، وكانت تربطه بمحمود درويش صداقة حميمة، ومنه عرفت الكثير عن محمود درويش، من حبِّه للأناقة في لبسه، وهوايته في جمع الأقلام المميزة، وطريقة تحضيره للقهوة، وعشقه للعزلة، وحين كنت أسأل خيري بفضول الأنثى عن علاقة درويش بالمرأة كان يلوذ بالصمت محافظةً على أسرار صديقه. أحببت من خلال أحاديث خيري الجانب الإنساني من هذا الشاعر الظاهرة، بعد أن تصالحت منذ سنوات طويلة مع جانبه الشعري. وبعد انتهاء تسجيل الحلقة اتصل خيري منصور بصديقه هاتفيًّا وذكَّره بوعده لي أن يكون ضيفي فجدَّد وعدَهُ، وأخبرتُه في تلك المحادثة التليفونية أن ديوانه «في حضرة الغياب» يلازم طاولة سريري فضحك وقال مازحًا: «انتبهي سيُكفِّرونك».

أما لقائي الثاني والأخير بمحمود درويش فرتَّبت الصدفة ظروفَهُ، حيث كان مسافرًا قبل ثلاثة أشهر من وفاته إلى كوريا لتكريمه هناك، وكان لزامًا أن يمر بمطار دبي ترانزيت لبضعة ساعات، فجمعتني معه طاولة عشاء وجلسة جميلة كانت بحضور صديقه خيري منصور والإعلامي المخضرم غسان طهبوب والإعلامية الراحلة نجوى قاسم رحمها الله. يومها دار نقاش بيني وبين نجوى عن استفتاء أجرته مجلة «روتانا» لاختيار أفضل محاوِر تلفزيوني عربي، وحين سألتُه بفضول الإعلامية عمَّن يُفَضِّل من الأسماء الثلاثة المطروحة  حينذاك، قال: «يُعجبني محمود سعد في طريقة حواره وذكائه في إدارة اللقاء». والتفت إليَّ مضيفًا أنه يحسن بي الاهتمام أكثر بتجربتي الشعرية، فالأدب والشعر أبقى من الإعلام، والتلفزيون وحشٌ مخيفٌ أشبه بكائن يحرق من يقترب منه كثيرًا.

في ذلك اللقاء لمست خوف محمود درويش من الوحدة وهو يحدثنا كيف أصبح يوصد باب بيته دون أن يغلقه بالمفتاح، فقد كان موت صديقه معين بسيسو حاضرًا في ذهنه يوم كان من المقرر أن تجمعهما أمسية شعرية مع سميح القاسم في لندن، وأصيب معين بسيسو بنوبة قلبية توفي إثرها في غرفة الفندق، ولم تُكتشف وفاته إلا بعد يوم كامل لأنه كان يضع لافتة «يُرجَى عدم الإزعاج» على باب غرفته.

بعد هذه اللقيا بلا ميعاد توفيَ محمود درويش في هيوستن بأمريكا في 9 أغسطس 2008 بعد إجرائه لعملية القلب المفتوح رحمه الله. ولئن فاتني أن أحاوره في برنامجي رغم موافقته على ذلك، فلم يفتني أنْ أعِدَّ حلقة احتفائيّة به نالت رواجًا كبيرًا، استضفتُ فيها صديقَه المقرَّب خيري منصور رحمه الله، والناقد الصحفي عبده وازن، وقد تزيَّن الاستيديو بجداريات لصوره منها ما صار جزءًا من صالوني الثقافي. 

مضى على رحيل الشاعر الفلسطيني محمود درويش سبعة عشر عامًا، ومع هذا لا يزال صوته الأعلى «في حضرة الغياب». فالشباب يُمسْرِحون قصائده، والموسيقيون يستلهمون من شعره مقطوعاتهم، وليس الثلاثي جبران الوحيد في ذلك. ولا تزال قصيدته تمتلك وحدها مكونات الخلطة السحرية بين الانتشار الجماهيري العريض وبين تقدير النخبة المثقفة، دون أدنى تنازلٍ فنيٍّ. لم يسقط درويش في الغنائية المجانية التقريرية التي تؤدي حتمًا إلى «الجمهور عاوز كده»، ولا في الفصام الذهني المغلَّف بالغموض العبثي الذي انزلقت إليه في أحيان كثيرة القصيدة الحديثة. يكفي أننا حين نقرأ شعر درويش نتأكد فعلًا أن على هذه الأرض ما يستحق الحياة…!

عفيفي مطر .. الشاعر جارُ النبيّ! | محمد المتيم

محمد المتيم

شاعر وكاتب مصري

مرت أمس الذكرى التسعين لميلاد الشاعر المصري الكبير الراحل محمد عفيفي مطر. وما إن تذكر اسم عفيفي مطر في أي منتدى، حتى تجري على الألسنة جملته العربية الشهيرة “هل رجلٌ وضربَتُه تجيء من الوراء؟!”. حتى صار عفيفي الشاعر علامةً صارخةً على الوضوح في الغضب والرضا، غير أن آفتنا العربية أننا لا نعرف لمثقفينا حقهم إلا إذا أوذوا في سبيل فكرتهم، مثلما هي الحال مع عفيفي الذي طحنت عِصيُّ المعتقل والمنفى عظامه!

عاش عفيفي مطر “مُغيَّبًا/منسِيًّا” بفِعل فاعل، فهو المطرود من حفل المؤسسة الرسمية، والمنبوذ -دون إعلان- من أراذل الجماعة الثقافية، تارةً لِلُغَتِه المُلْغِزَة -زعموا- وتارةً لأنه واجَهَ الأصوليَّة الفكريَّة -التي راحت تتمدَّد في الوادي- على طريقته الخاصة، لا على الطريقة المستوردة.

كانوا يمقتونه، وكان يعرف، وكان شريفًا في خصومته؛ فلا “التجريس” شيمَته، ولا التكالُب صِفَته، ومذهبُهُ مذهَبُ الشاعر العربي القديم “أغشى الوغى وأعفُّ عند المغنمِ”. قضى عمره يغشى “الوغى” الثقافي ببصيرةٍ حادَّة، واطِّلاعٍ دؤوب، وينتصر لما يراه حقًا، ولا يخضع للابتزاز من أي سُلطة (سياسية أو ثقافية) تمتَهِن التنابز بالرجعية أو التناجز على صولجان الحداثة!

يُحَدِّثني روائيٌّ مصريٌّ نقلًا عنه، أنه ذات مساء في باريس جمَعَتْ عفيفي جلسة مع شاعر عربي “مشهور” وثلاثة مثقفين فرنسيين، وراح الشاعر العربي يسخر من شخصية “عمر بن الخطاب” فما كان من عفيفي إلا أن رشقه بالكأس التي أمامه!

يمكن للمتصيِّد اتهامُ عفيفي بالعنف بسهولة، لكن في الحقيقة لم يكن سلوكه عدوانيًا ضد الرجل أو مدافعًا عن ابن الخطاب، بقدر ما كان ينقذ ماء الوجه العربي وهو يُراق على موائد باريس تملُّقًا لمستشرقيها لا عن نقاشٍ معرفيٍّ جادٍّ وأصيل!

في مجموعته “ملامح الوجه الأمبيذوقليسي“، يكتب عام 1966:

“الحقُّ قد يُقال مرتين:

فمرةً يقولُهُ العَرّاف

ومرةً يقولُهُ السّيّاف!”.

وعفيفي عرّافٌ صاحب نبوءةٍ قديمةٍ، شرع في قَوْلِها منذ مجموعته “من مجمرة البدايات“، وللسيّافِ أيضًا كلمته البادي أثَرُها على أنف عفيفي الدامي المهشَّم، و”لاظوغلي” شاهدٌ على الموقعة!

في كتابه “حكايات عن ناس طيبين” يكتب الأديب سعيد الكفراوي “شهادة على البكاء في زمن الضحك” يحكي فيها عن زيارته لعفيفي مطر في السجن، يقول:

«ضغط المأمور على جرس فدخل جندي أدى التحية، وطلب منه المأمور أن يُحضر مطر، تداخلت الرؤى أمامي مثل خيوط الدخان، أفقتُ وعفيفي يقف أمامي، خرستُ حين رأيته، كان يتلفع بتلفيعة ريفية، ويطوفُ بوجهه ذلك الحزن الذي أعرف، كأنه فوجِئ بي، أخبرني بعد الإفراج أنه ظن أنهم اعتقلوني أنا أيضًا، كان حزنه ينتقل إليَّ، وأنا مروّع تمامًا وأنا أتأملُ ذلك الجرح الممتد من الجبهة حتى أسفل الأنف، كان جرحًا شريرًا وخائنًا، وأنا كنت أهتف بيني وبين نفسي: لقد عذَّبوه.. يا للعار!».

كان عفيفي عربيًا حتى النخاع، وقصائده -حتى النثرية منها- عربيةٌ خالصةٌ، فعلى مستوى المعجم والأخيلة والنَّفَس الشعريّ هو امتدادٌ لأسلافٍ شعريين لا يتبرَّأ منهم ولا يتعالى عليهم ولا يتورَّط فيهم، رغم ثقافته الموسوعية واطِّلاعه على المنجز الحضاري الأعجمي. وربما كان هذا باب فردانيَّتِه في شعريتنا العربية، وفي الوقت نفسه باب إيغار الصدور عليه، فأثَرُ العِصِيّ “المملوكية” على جسده فاضحٌ لقشرة التحضُّر الزائفة.

دفع الشاعر ثمن كل كلمةٍ قالها بضميرٍ يقِظٍ مستريح، لأن كلمته تخصُّه، فأصحاب الكلمات المستوردة ليسوا بحاجةٍ لتسديد فواتير، فمِنْ “دبدوب رحمة” وحتى عصا عمِّه “معوض في لعبة التحطيب”، كانت كلماته كلها خالصةً له، وهذان الأمران: عربيَّة قصيدته والثمن المدفوع؛ همّا سِرُّ حضوره الآسِر في المواسم الطالعة.

باستعراض مدوَّنَة الشعر العربي لا يخرج تعاطي الشعراء مع شخص النبيّ عن نمط من ثلاثة، إمّا مدحًا للمحاسن والشمائل، وإمَّا تلبُّسًا لقناع النبوَّة من قِبَل الشاعر، على طريقة ثنائية الشاعر/النبيّ، فيُسْقِط الشاعر تجارب النبي من البِشارة والاضطهاد والغربة على تجربته الشخصية، سيّما والتقاطعات متعددة بين النموذجين من حيث مفاهيم: الإلهام/الحاجة لجمهور/الرسالة المُوحاة… إلخ.

والنمط الثالث هو محاورة تجربة النبيّ عبر تقديم قراءة جديدة لها، ومحاولة ضَخِّ رؤى واستنتاجِ تجلياتٍ جديدةٍ للتجربة الروحية القديمة، تتَّسِق مع مفاهيمنا المعاصرة دون افتئات على التجربة، وهذا ما نستَجْليه بوضوحٍ في الإهداء الذي صدّر به عفيفي ديوانه “أنتَ واحِدُها وهي أعضاؤك انتَثَرَتْ”، الذي جاء هكذا:

“جرأةُ إهداءٍ

إلى مُحَمَّد…

سَيّد الأوجُهِ الطالعة

وراية الطلائعِ من كلِ جنسٍ

منفرِطٌ على أكمامِهِ كلُّ دمعٍ

ومفتوحةٌ ممالِكُهُ للجائعينَ

وإيقاعُ نعليهِ كلامُ الحياةِ في جسدِ العالم”.

يرى الناقد د. صلاح فضل في دراسةٍ له، أن عفيفي كان يَعْمَد إلى توريط القارئ في التباسٍ ما بين الشاعر والنبيّ، بيْدَ أنني أرى هذا إدراجًا لعفيفي ضمن النمط الثاني من الشعراء ــ الذي يرتدي الأقنعة!

الإهداء واضح الدلالة بلا التباس، ويُحيل إلى طبيعة إيمانية خاصَّة، تتمثَّل في أن الشاعر عندما يؤمن بالرسول تنفذ بصيرته إلى جوهر الرسالة، ويُترجم بكلمته المعنى الحقيقيّ؛ معنى أن النبوَّات لم تأتِ إلا لتخرج بالناس من ضيق الفئة إلى سعة البشرية، لتواسي الدامعين، وتُطعِم الجوعى، وتصُبَّ الحياة في جسد العالم الذي يحتضر. وما يؤكِّد أن الإهداء لا يسمح بالالتباس، أن عفيفي في مجالسه كان يُصَرِّح باعتبار هذا الإهداء تحدّيًا، لأن الديوان صدر في بغداد في ذروة سطوة حزب البعث الاشتراكي.

كانوا يمقتونه، وكان يعرف. لذلك اعتزلهم في شَمَمٍ وكبرياء، وفيما هو ملفوظٌ منهم أوى إلى ظلال النبيّ، يقرأ التجربة ويُعايشها، ويرمونه بـ”السلفية” ولا يعبأ، وأقرأ من الديوان المذكور قصيدته “امرأةٌ ليس وقتها الآن“، فلا تحضر أمامي غير خديجة، رغم عدم وجود أي ذِكْرٍ مباشرٍ لها، لكن إهداء الديوان الجريء “إلى محمد…”، يرفع حُمَّى التأويل في ذهني إلى أقصى درجاتها، خصوصًا مع عبارات من قبيل:

  • اصدَعْ بما تحلُمُ، الوقتُ أوسعُه مرَّ
  • أربعون من العُمر ولّت، بلادٌ تولَّت
  • أخرجوكَ من الأرض، كانت حواراتُهم لغةً لستَ منها
  • لا تعدُ عيناك عنهم إذا دخلوا الحُلمَ أو خرجوا
  • هل مُخرجوكَ هُمُو من خُطاك أمِ الأرض؟!
  • زمَّلَني الصيفُ والصوفُ تحت فضاء السماوات
  • الخاتمُ العائليُّ مضيءٌ وهذي هي امرأتي
  • لست وحدك فاهجرهمو -حانَ وقتُكَ- هجرًا جميلًا
  • هل ترحلين؟ أراحِلَةُ أنتِ؟
  • ما هَمَّ والوقتُ ليس لنا؟!

 

وعلى امتداد القصيدة تُحيل الشواهد إلى دور خديجة في تجربة النبوَّة، دون ذِكْر خديجة أو النبيّ. لقد عالج عفيفي مركزيَّة المرأة في التجربة برؤية حداثية، وهذا ما كان يُزعج مُتَهدِّلي الكروش على المقاعد الوثيرة منه، أنه ليس رجعيًا ولا ضحلًا كما يتمنَّونه، كان دائمًا يخذلهم بتوقُّد المعرفة في ذهنه، والصدق بين جنبيه.

في سِفْرِه البديع “كتاب النداءات”، وهو ضمن أعماله النثرية، يتحدَّث في فصل “النداء الأعظم” عن خمسةٍ أحدثوا انقلابًا كونيًا غيَّر مجرى التاريخ؛ هم رجلان وامرأة وطفل وعبد، فيقول:

“كانوا خمسةً لم يجتمع مثلهم في مكان أو زمان من قبل أو من بعد، ولم يُحدِثْ خمسةٌ مثلهم انقلابًا كونيًا غيَّرَ جغرافيا النفوس والعقول والقلوب وتاريخ الأرض كما أحدثوا؛ رجلٌ وامرأةٌ هما الوالدان اللذان ينتسب إليهما ألوف الملايين من الأبناء في كل جنس، وأخٌ لهما وَضَعَ على صفحة التاريخ خاتَمَه الممهورَ بالصدق والتصديق والصداقة، وصبيٌّ تقطَّرَتْ في قلبه الحكمة والفطرة الزكيّة المطهَّرَة، وعبدٌ.. ما أعجَبَه من عبد! هو أول من رفع النداء الأعظم، وإلى آخر التاريخ”.

هل عرفتَ الخمسة؟

النبي وخديجة وأبو بكر وعليّ وبلال/العبد الرافع النداء الأعظم. لقد آمن عفيفي مطر بالدين رافعةً حضاريةً، ودافع عنه ضد الاختطاف الأصولي وضد الانسحاق أمام الفكرة الوافدة/الطارئة، وعاش زاهدًا زهدًا حقيقيًا، يأكل من كَسْبِ يده، ولا يقتات على موائد “المماليك العتاةُ الأقدمونَ المُحْدَثونَ (الذين) يتنزَّلونَ خلائفًا من هَيلمان الجوعِ والفوضى”، ومات بعد أن غَسل كفنه بماء زمزم وجفَّفَهُ في الحرم.. فعليه السلام!

رَجْعُ الجبالِ القصيَّة قراءة في ملامح الشعر في اليمن | د. عبد العزيز الزراعي

د. عبد العزيز الزراعي

شاعر وأكاديمي يمني

    تحضرُ اليمنُ في الصفحة الأولى في مدونة الثقافة العربية عبر كل حقبها التاريخية حتى ليتيقن المرء أنها هي المتن كله، وتغيب عن تلك المدونة حتى ليظن المرء أنها سقطت منها سهوًا أو عمدًا، أو أن اليمن -لأسبابها الخاصة الجغرافية والثقافية والتاريخية- قد صنعت لها مدونةً أخرى تخصُّها ولا تخصُّ سواها.

     لقد وقَفت جبال اليمن وتضاريسها الصعبة دائمًا حاجزًا مانعًا لصدى صوتِ إنسانها ومبدعها  من أن يسمعه الآخرون سريعًا، وفي الآن ذاته ضمنت تلك الجبال رجع صدى لأصحابها خاصًا مميزًا واضحًا لا يداخله صخبُ العالم ولا أصوات ضجيجه من خلف الرمل والبحر. الجبال التي قال عنها اليماني الراحل محمد حسين هيثم (ت:2007م):

الجبالُ البعيدةُ ما خطبُها

خبَّأتْ وقتَنا وارتَدَتْ زمنًا لا يُطالْ

الجبالُ البعيدةُ

هل تَذْهلُ الآنَ

عن خطوةٍ في نهارٍ فسيحْ

عن مدىً للنزالْ

الجبالُ البعيدةُ

تذهبُ في كل ريحْ

وتبزغُ في غصةٍ في السؤالْ

الجبالُ

الجبالُ

الجبالْ

    هذه الطبيعة الصعبة والمتنوعة والغامضة بدورها كيَّفتْ إنسانًا يشبهها، فمثَّلتْ وإنسانها تحديًا أمام مطامع الغزاة؛ وجعلت اليمن نتوءًا أو جيبًا جغرافيًا وثقافيًا يصعب احتلاله أو ضمه لأي مركز سياسي  سواء من الدول الإسلامية المتعاقبة أو الغزو الأوربي. وتبعًا لذلك كانت موجات التأثر والتأثير والامِّحاء في الآخر بطيئة ومحدودة، وهذا بقدر ما جعل اليمن يطور خصوصيات ثقافية مميزة وأحيانًا مغايرة للسائد العربي والمحيط المجاور، جعلها غامضة ومجهولة وقد تبدو غائبةً لمن اعتاد السائد العربي.

    إن الوضعية البنيوية لليمن كمكان ومناخ وإنسان جعلته منذ القدم في معزل إلى حد ما، يبتكر حلوله الخاصة والمغايرة، مطورًا طُرقًا مغايرة في الحضارة، كالكتابة المسندية وأدوات الري والزراعة كالسدود والمدرجات، وأدوات البناء، وأدوات الحرب والدفاع والملابس، والأطعمة، والتطبيب، تتسم كلها بتطويع الإنسان اليمني لهذه الطبيعة الصخرية، إنها حياة تشبه الحفر في جدار من الجغرافيا والعادات والتقاليد حسب تعبير المقالح:

سنظلُّ نحفرُ في الجدارْ

إمَّا وجدنا ثغرةً للضوء أو متْنا على وجه الجدارْ

   وهذا لا شك تركَ أثرَه على جملة فنونه من غناءٍ وشعر ورقص وفلكلور قديمًا وحديثًا.

      في العصر الحديث وكعادتها، صنعت هذه الأرضية الإيكولوجية والديموغرافية لليمن واقعًا سياسيًا مغايرًا لبقية الأقطار العربية، فبسبب جغرافيتها المتوزعة بين الجبل والبحر والسهل عرفت اليمن في مطلع القرن التاسع عشر أول تجزئة لأبناء شعبها حيث اقتطعت بريطانيا الجزء الجنوبي من الوطن المطل على البحر وظلت تحتله وتستغله حتى قيام ثورة الاستقلال عام 1963، واقتطع العثمانيون الجزء الشمالي وظلوا يحكمونه بالحديد والنار حتى انهزام الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، وتسليمه لسلطة محلية ملكية دكتاتورية لا تقل عنها تخلفًا وظلمًا،  وفي اللحظة التي كان أتباع شوقي وحافظ مهمومين ببعث القصيدة العمودية ومواجهة أنصار التجديد في مصر كان الشاعر اليمني محمد الزبيري ورفاقه إبراهيم الحضرانيوزيد الموشكي وأحمد الشامي وغيرهم، وقد أُعْدِمَ بعضهم وزُجَّ ببقيتهم في السجون،  كانوا مهمومين بفك قيودهم من سجن إمام اليمن إثر قيامهم (1948م) بالثورة الدستورية على والده الإمام يحيى، كانوا مهمومين ببعث شعبهما من مرقده لا بشكل القصيدة، لذا جاءت نصوصهم مغايرة لشعر الإحياء العربي في لغتها وصورها وعاطفتها؛ لأنها معجونة بالخوف والقلق والوعي الوطني والتوق إلى الحرية، فهذا الزبيري يقول وقد فرَّ إلى المنفى:

عُمُرٌ في دقيقةٍ مستعادٌ

ودهورٌ مطلةٌ في ثواني

طاردتني البلادُ تستنبط الخالصَ

من منطقي ومن وجداني

كلما نلتُ لذةً أنذرتني

فتلفَّتُّ خيفةً من زماني

وإذا رمتُ بسمةً لاحَ مرأى

وطني فاستفزَّني ونهاني

    وهذا الحضراني يقول وهو في ساحة الإعدام وقد قُتِلَ رفاقُهُ أمامَه:

ووالله ما خفتُ المنايا وهذه    

طلائعُها مني بمرأى ومسمعِ

ولكنَّ حقًا في ضميري لأمتي

أخافُ إذا ما متُّ من موتِهِ معي

     هكذا تُولَدُ شعرية اليمني مباغتةً كالحياة أو كالموت، تمامًا كما عبر عنها  البردوني:

لهذا أغامر أبدو غريبًا

على العرف كالمولدِ المرتجلْ

وأدري وأدري بأني إليه

أخوضُ دمي والردى والوَحَلْ

    يعيش اليماني حياته وقصيدته ارتجالًا (كجلمود صخر حطَّهُ السيلُ من عَلٍ) أو كبرق ناهض من مزاج الأساطير، أو كرمح، كما قال أحمد العواضي:

فاجأتني القصيدةُ هذا الصباحْ

نَهَضَتْ من مزاج الأساطير

قامتُها كلما اقتربَتْ كطويل الرماحْ

وأنا متعبٌ

مثل خَلْقٍ كثيرين

مَسَّهُمُ الضرُّ

واختنقوا في قفار الكلامِ المباحْ

 يولد الشاعر اليمني مهمومًا وحكيمًا وشيخًا أكثر مما يجب، يقول البردوني:

ماذا أتعجَبُ من شيبي على صغري

إني ولدتُ عجوزًا كيف تعتجبُ

واليوم أذوي وطيشُ الفنِّ يعزفني

والأربعون على خدَّيَّ تلتهبُ

كذا إذا ابيضَّ إيناعُ الحياةِ على

وجْهِ الأديبِ أضاء الفكر والأدبُ

 

الستينات والسبعينات (الثورة تجاور الأشكال الشعرية):

    وربما لم تُعْرَفْ ثورةٌ عربيةٌ عبر شعرائها كما عُرِفَتِ الثورةُ اليمنيةُ في ستينيَّات القرن العشرين وسبعينيّاته عبر شاعريها الكبيرين عبد العزيز المقالح وعبد الله البردوني.   فبعد نضال كبير وأسطوري من قبل أبناء اليمن الأحرار تم تحرير الجزء الشمالي والجزء الجنوبي. وإقامة نظامين وطنيين جمهوريين.

وقد مثَّلَ تجاورُ حداثة البردوني في قصيدة العمود وحداثة المقالح -وهما الصديقان الثائران- مفهومَ التجاور المدرسي وصداقة الأشكال الشعرية مبكرًا في صنعاء، ما يعني أن الحداثة ولدت في اليمن مرتبطةً بالثورة والتغيير المجتمعي،  أي بالمضامين لا بالأشكال.

أضف إلى ذلك صوتًا شعريًا آخر هو صوت قصيدة النثر الذي حَمَلَ لواءَهُ صديقهما  الشاعرُ الكبير عبد اللطيف الربيع، الذي لم يظفر بالشهرة التي ظفر بها صديقاه؛ لأسباب ربما تعود لقلة ما كتب، ومزاجه الحاد، والشكل الشعري الذي اجترأ عليه وهو قصيدة النثر التي لم تكن بعد مألوفةً حتى في حواضرها العربية بيروت والقاهرة، وربما بسبب أفكاره الإشكالية وطريقة معالجاته المغايرة، أضف إلى ذلك انتماءه لأيدلوجية اليسار ، وانشغاله بالصحافة السياسية والعمل الإداري والهندسي، وأخيرًا أخفى صوتَه موتُهُ المبكر والمفاجئ والغامض(1993م) وهو في عمر الأربعينات.  امتلك الربيع وعيًا حداثيًا متجاوزًا بحكم تكوينه العلمي في القاهرة أولًا ثم دراسته العليا في المجر وبريطانيا في مجال الهندسة المعمارية والتخطيط الحضري، وكان فوق ذلك حاصلًا على دبلوم عالٍ في  الفن التشكيلي من بريطانيا، ويمكن وصفه بالأب الحقيقي لقصيدة النثر في اليمن ولحداثة فريدة ومتميزة جديرة بأن تُدْرَسَ وتُعرَف.  

أصدر الربيع ديوانيه الوحيدين في العام ذاته(1986م) الأول بعنوان (الكفن الجسد) والثاني بعنوان (فازعة). زاوج فيهما بين قصيدة النثر والتفعيلة.

تتسم كتابة الربيع بالعمق والتكثيف واقتصاد عبارتها، وهذا يعكس سمة الإنسان اليمني في تكثيف المنطوق بما ينسجم ذلك مع نزعته الحكيمة وعاداته الشفاهية:

لأني لم أحاربْ

أُخِذتُ أسيرَ حربٍ قادمة

على صعيد آخر تعكس شعرية الربيع حنينه القروي، هو القادم من مدينة القاهرة وبودابست، وكأن اليمني يرى العالم دومًا من قَمَرِيَّته، يقتبس من العالم ما يمكن توطينه ثقافيًا وغرسه في حقوله:

فازعةْ

 أجلسُ الآن

مستمعًا صمتَها

حين داهمَ جربتَها السَّيلُ

كانتْ هي السدَّ

مدَّتْ تضاريسَها

ثم سمَّتْ بأحزانِها

جبلًا

فنما حصنُ كحلانْ

وبسخرية شعرية لاذعة، تشير أكثر مما تقول، تشتبك شعريةُ الربيع بلحظته السياسية والاجتماعية ووعيه الحاد بتغيرات زمنه ناقدًا طفرة النفط التي ظهرت في اليمن وكانت أحد أسباب احتراب مكوناته السياسية:

في الأولِ كان النهرُ

نضبَ النهرُ فحفروا آبارًا

نضبَ البئرُ فاكتشفوا النفطَ

تدفَّقَ النفطُ فحفروا مقابرَ جماعيةً

تدفقتِ المقابرُ

فنضبَ الوطنُ

وتستند هذه الشعرية على وعي سينمائي يرصد اليومي والخاص وينمذجه من أجل التهكم من العام والكلي المتمثل في مظاهر البيروقراطية واستعباد الإنسان في روتين الوظيفة الحكومية العامة، بشكل يذكرنا بوعي تيار القصة الجديدة عند كافكا في قصة المسخ، ونيكولاي قوقل في قصة المعطف، هذا ما نلمسه في نص عبد اللطيف الربيع (جثث الساعة السابعة):

كلما دَقَتِ الساعةُ السابعة

ينهض النومُ من نومِهِ

ويقومُ ليغسلَ أحشاءه في الصباح

ويَحْلِقَ أحلامه شفرةً شفرةً

ويودعني حين أخرج من داخلي كالفقاعة

تَلبسني ربطةُ العنق المنتقاة

تهندمني الجزمة اللامعة

أتدحرج يختارني شارعٌ لا يؤدي إلى..

و(إلى) لا تؤدي إلى..

وأنا الآن أبحث عن سلة كالوظيفة

أبحث عن سلة فارغة!

 

الثمانينيّات: هيمنة التفعيلة وقصيدة النثر

في نهاية السبعينيّات تتسع المدنية والرفاهية قليلًا ويذوق الناس أولى ثمار خيرات الثورتين، وللأسف تتسع معها  دائرة الصراع بين الشطرين اليمنيين الذي هو صدى صراعات المعسكرين الشرقي والغربي، ومعها تتسع وتتبازغ  كوكبة من شعراء الثمانينيّات وكان اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين هو المؤسسة اليمنية الوحيدة الوحدوية تمثل الشطرين في المحافل الدولية وهي المظلة الكبيرة التي يجتمع تحتها أدباء اليمن من كلا الشطرين، هنا برزت أسماء شعراء كبار مثل عبد الودود سيف وأحمد قاسم دماج وعبد الكريم الرازحي، أحمد العواضي، محمد حسين هيثم، شوقي شفيق عبد الرحمن فخري، عبد الله قاضي وآخرون. وظهر شعراء عمود جيدون لكن عمودهم لم يبلغ ذرى ما قدمه البردوني الذي بلغ ذروة توهجه وشهرته في هذه المرحلة.

  ويمكننا هنا الإشارة إلى بعض سمات بارزة في خطاب شعراء هذه المرحلة أهمها الرمزية والقناع التي كانت تُبْطِن حذرًا أمنيًا نتيجة الصراع الأيدلوجي بين طبقات المجتمع والقبضة الأمنية للسلطات، فضلًا عن ظواهر التصفيات لبعض قيادات الأحزاب، كما نلمحه في هذا المقطع من نص( هذه الرأس)  لمحمد حسين هيثم:

هذه الرأس

ثمرة

أم طائر

أم طبق معدني

أم قصيدة نثر

هذه الرأس

لا أعرف كيف تستخدم

غير أنني  كل يوم

أطور طُرقًا  للحفاظ عليها

هذه الرأس

رأسي

ولقد استحققتُها بجدارة

لم يقل لي أحدٌ لماذا

لكني أستحقها فعلًا

لأنها رأسي

وعليَّ أن أقطع بها أطول مسافة ممكنة

أن أمضي بها بعيدًا قبل أن تسقط من تلقاء نفسها!

 

وقد يلجأ شاعر الثمانينيّات إلى الاستعانة بالمعجم الصوفي أحيانًا، وتكرار لفظة القات بوصفه معادلًا موضوعيًا لمحاولة النسيان والبحث عن الإشراق الصوفي، كمحاولة لإدانة الحرب بين الإخوة، كما في نصوص أحمد العواضي:

قلتُ يا صاحبي

لستُ بحرًا

ولكنَّ هذا الزمان الجديدْ

مالحٌ في فمي

كل يوم على ورق القات أحنو

فيشرق حزني

ويأخذ هذا الزمانُ دمي!

 

التسعينيَّات/ زمن الوحدة اليمنية:  (قصيدة النثر: الانفجار الشعري العظيم).

     في التسعينيَّات، وكعادتها اليمن في اقتراح حلولها وارتجالها على غير مثال، قرر النظامان السياسيان الاشتراكي في الجنوب ونظام صنعاء الليبرالي المختلط من قوى يسار وعسكر وقوى يمين ديني وقبلي، قررا الدخول في وحدة اندماجية وبدء مرحلة جديدة وفارقة من التعددية الحزبية والفكرية، في لحظة لم تخطر على بال أكبر المتشائمين من نظرية الحتمية التاريخية فوكوياما صاحب نظرية (نهاية التاريخ). إذ لم تكن الوحدة بين الشطرين مجرد وحدة بين نظامين سياسيين بل جمع بين بنائين فوقيين وواقعين اقتصاديين متباينين، ولأول مرة يجتمعان في مؤسسات واحدة وجهًا لوجه، فحدث الاحتكاك والتأثير والتأثر بين قوى اليسار وقوى اليمين، هذه الوحدة أحدثت تقاربًا وجدلًا بين تيار الحداثة وتيار المحافظة، فلم يعد الحداثي مغرقًا في شكلانيته ولا المحافظ مغرقًا في كلاسيكيته، ومن هنا تشكَّلَتْ ملامح حداثة شعرية متوازنة لا تعادي شكلًا شعريًا، وهو ما وصفه النقاد بشعرية التجاور كما فعل الناقد علوان الجيلاني في توصيفه للشعر التسعيني في كتابه (أصوات متجاورة).

      وبرغم الانتكاسة التي حدثت عقب اختلاف النظامين وبدء حرب الانفصال في 1994م، كان كل شيء في مياه الثقافة قد تغير وتبدل، حينها تدفقت موجة الشعر التسعيني، بشكل لم تشهده اليمن من قبل ولا بعد، سواء في عددهم أو تميز موهبتهم العالية وثقافتهم الواسعة وحساسيتهم الشعرية المفرطة، أسماء يصعب حصرها، منهم على سبيل التمثيل: علي المقري، أحمد الزراعي، علوان الجيلاني، عبد الناصر مجلي، عبد الرحمن الحجري، أحمد السلامي، طه الجند، محمد المنصور، محمد العديني، نبيلة الزبير، ابتسام المتوكل، هدى العطاس، فاطمة العشبي، هدى ابلان، محمد الشيباني، محيي الدين جرمة، فتحي أبو النصر، الحارث بن الفضل، إسماعيل مخاوي، جميل مفرح، عبد المجيد التركي، محمد القعود، والقائمة تطول.  

إن ما حدث لأحلام الشعراء وتطلعاتهم إلى الوطن الكبير والمشروع القومي بعد حرب الانفصال وهزيمة اليسار كان أشبه بما حدث بعد نكسة حزيران على المستوى العربي، يقول الشاعر أحمد الزراعي:

رأيتُ بيتي في غبار المدى

حكايةً مكتوبةً من دمي

كانت جبالي تنحني رُكَّعًا

وكان صوتي ميتًا في فمي

اتسمت الشعرية اليمنية في هذه اللحظة بالحدة وإعادة تعريف الأشياء، كما في شعرية محيي الدين جرمة:

يدٌ لا تقطفُ الوردَ حديقة

يدٌ لا تصفق وطنٌ

غير أن القاعة فارغةٌ إلا من التصفيق!

اتسمت بعض تجاربها بالسخرية اللاذعة وتدوين الهامشي ومخاطبة الأصدقاء وكأنها استمرار لأحاديث لم تكتمل في مقيل الاتحاد أو في مقاهي الشاي أو تشفير للرفاق، أو خطاب لآخر معروف للجميع ومُتواطَأ على عدم ذكره كما في تجربة طه الجند:

دُلُّوني على مسلكٍ يفضي إلى الغنى

أطفالي يروني قادرًا على مطالبهم

والقفزِ بهم إلى النعيم

دلُّوني لن تندموا

فأنا طيبٌ وفقيرٌ

كلُّنا سيئون بما يكفي

لا ترشدونا إلى الصواب

نحن أصدقاء الرذيلة أحيانًا

أما أنتم فأبناؤها المدللون!

وبعض التجارب بدا خطابًا فلسفيًا بلغةٍ أقرب للتصوف والعرفان يرثي حضارة الإنسان برمتها، ويرثي الكوكب ويشعرنه كما في تجربة أحمد الزراعي:

بروق تلمع في ذروة جبل قصي

وشاعرٌ يسحبُ الجبلَ إلى عينيهِ

تاركًا أوراقَهُ بيضاءَ

لهواءٍ يتدحرجُ إليها

تاركًا قلمَهُ الوحيدَ

في فراغِ العالم

وبعضها تجارب فنتازية  تعبر عن قلق الكائن المتمدن الذي صرناه كما في تجربة أحمد السلامي:

لا فِراشَ لروحي المعلقة مهما اضْطَجَعْتُ

الجدّاتُ تموت وجلودنا تتجعدُ

مثل أرض زراعية

أهملها الأهل

تركوها ليقودوا سيارات الأجرة

في طريق تبيع الخمر للنادمين

ونحن دون أن ننتبه أكلنا نصف دجاج المدينة

وغدونا ثعالب ترتدي النظارات!

كانت التسعينيَّات لحظة الأحداث الكبرى والمتسارعة سياسيًا وفكريًا واجتماعيًا في اليمن، وكانت قصيدة النثر تعبيرًا فنيًا وموضوعيًا عمَّا آلت إليه الأوضاع في اليمن، لم تكن معركتهم مع الشكل كما في بلدان أخرى، لقد امتلكت القصيدة التسعينية شكلها لأنها امتلكت حاملتها الموضوعية لذا لم يجرؤ أحد أو يفكر في تسخيفها او التقليل من حضورها، كانت هي التجلي الخالص للحظة والأكثر إقناعًا وسخرية ونقدًا للواقع. في الوقت ذاته ولدت هذه الأحداث غنائية عالية لدى هذا الجيل فاقتحموا بالعمود مناطق صوفية غمرت معجمه وخلصت العمود من كلاسيكة المضمون، وهي ملاحظة رصدها الشاعر والناقد علوان الجيلاني في كتابه أصوات متجاورة، وننمذج لها هنا بعموديات أحمد الزراعي، وعموديات الشاعر علوان الجيلاني:

مدارُ حزني على الآفاق مسفوحُ

عن كوكبٍ يصطفيني تبحثُ الروحُ

أنا المُعَنَّى بترتيبِ الفضاء لمنْ

غابت وشباكُها في القلبِ مفتوحُ

هذه العمودية التسعينية التي تتسم بأناقة العبارة والغنائية العالية والمعجم الصوفي إلى جانب عموديات فيصل البريهي والحارث بن الفضل الشميري، وجميل مفرح وغيرهم، إضافة إلى عوامل أخرى، ستؤسس لازدهار العمود الجديد في جيل ما بعد الألفين في اليمن، والذي سنخصه بوقفة خاصة تتأمل خصائصه الفنية والموضوعية وأسماءه وعوامل ازدهاره.

 

سياحة في «إشراقة» التجاني يوسف بشير

د. أسامة تاج السر

شاعر وأكاديمي سوداني

في الليلِ عُمقٌ، وفي الدُّجَى نَفَقٌ

لو صُبَّ فيه الزَّمانُ، لابتَلَعَهْ

لو مزَّقَ الرَّعدُ مَسْمَعَي أحَدٍ

في عمقِ ذاك الدُّجى، لَمَا سَمِعَهْ

لو أُفرِغَ الفَجْرُ ذو الجوانبِ في

أدنى إناءٍ من عِنْدَه وسِعَهْ

تظلُّ في صدرِه كواكِبُهْ

غرقى، وأمُّ النجومِ مُضطجِعَةْ

تَضِلُّ فيه الحياةُ عالمَها

كما يَضِلُّ الغريبُ مُرتبَعَهْ

 

         لا يُذكر الشِّعْر السودانيّ إلا وحضر التجاني يوسف بشير (1912م ـ 1937م)، بكامل رونقه، على قِصَر عمره الذي لم يتجاوز خمسةً وعشرين عامًا.

         وإذا كان محمد سعيد العباسي (1880م ـ 1963م)، هو باعث نهضة الشعر السودانيّ، وقد نقله بعيدًا عن التقليد الأعمى، مدحًا وتشطيرًا ومجاراةً، إلى شعرٍ حيٍّ فيه شخصيَّة الشاعر وهويَّته المائزة، بثراها السودانيّ ثقافةً وبيئةً وحضارة. فإنَّ التجاني هو باعث التجديد في هذا الشعر، تجديدًا جعله من المقدَّمين في الشعر السودانيّ خاصَّةً، والعربيّ عامَّةً. ويكفي أنْ نعلم أن ديوانه الذي أسماه (إشراقة)، هو أكثر دواوين الشعر السوداني طباعةً، إذ بلغت طبعاته أربع عشْرة طبعة أو يزيد. وتتناول هذه المقالة أهمّ الملامح الأسلوبيَّة والفكريَّة في هذا الديوان.

 

الملمح العَروضيّ العام للديوان وأثره:

 أبدأ من هذه الزاوية، ذات التأثير الأكبر على مشروع التجاني يوسف بشير، إذْ لم يكن العَروض عنده إطارًا خارجيًّا للشعر، بل هو روحه وجوهره، فهو القالب الذي يضبط المعاني والأخيلة واللغة، فمتى اتَّسَع الإطار تهلهل نسج الشعر ووهَى، ومتى ضاق قصَّر الشاعر عن إداراك معانيه. فهو يحيط فكرة الشاعر إحاطة السِّوار بالمِعْصَم، فإنْ ضاقَ السِّوار تورَّمت اليد، وإن اتَّسَع جال وانتفت قيمته. فالشاعر عندما يفكِّر في المعاني، فإنَّما يفكِّر من خلال الوزن، فتتأثر اللغة تأثُّرًا شديدًا بموسيقاه، فتأتي قِطعًا ذات تناسُق إيقاعيٍّ وموسيقيٍّ.

وإذا كان أكثر الشعر العربيِّ غنائيًّا ذاتيًّا، فإنَّ هذه الغنائيَّة تدفع الشاعر إلى تخيُّر الأوزان الرشيقة واضحة النغم، وأخصُّ من البحور: (الطويل، والبسيط، والكامل، والوافر، والرمل، والمتقارب). فهي أكثر دورانًا في الشعر العربيّ من غيرها، إذا أضفنا لها الخفيف، الذي يجانسها ويباينها في الوقت نفسه، فهو وحده الذي يجمع سباعيَّتَيْن من جنس هذه الأوزان (فاعلاتن ومستفعلن)، لا كما في المنسرح. ونجد بحور دائرة المشتبة: (السريع، والمنسرح، والمجتث، والمضارع، والمقتضب)، أقلّ دورانًا إذا قِيسَتْ بغيرها من البحور، يُدانيها في قِلَّتِها المديد والهزج، والخبب.

وإنَّ التعجُّب ليصيب الناقد عندما يعلم أن ديوان (إشراقة)، الذي ضمَّ إحدى وسبعين قصيدة (71)، في طبعاته المتأخرة، قد ضمَّ قصيدتين من الطويل والوافر، وهما من بحور الشعر المقدَّمة، والتي أسرف في تعاطيها المتنبي، وعِلية الشعراء. بينما هما عند التجاني -مجتمعين- يضمان قصيدتين اثنتين لا ثالثة لهما، واحدة في كلّ بحر! ثم يزداد الناقد تعجُّبًا حين يدرك أن أبحُر البسيط والرمل والمتقارب-مجتمعة- قد ضمَّت أربع عشرة قصيدة (14)، ستًّا من البسيط، إحداها من المخلَّع -وهو فرع من المنسرح، ضممناه إلى البسيط جريًا على ما اشتهر عند العروضيّين- وأربعًا من الرمل، ومثلها من المتقارب. وحتى بحر الكامل، وهو سيّد البحور كثرةً، غير مدافَع، كان حظُّ إشراقة منه تسع قصائد، منها الأحذّ، ومنها المجزوء. وكذلك ضمَّ الديوان قصيدتين من مجزوء الرجز. مع خلو الديوان من (المديد، والهزج، والخبب، والمقتضب، والمضارع).

 استأثرت دائرة المشتبه بالكثرة الغالبة من شعر التجاني، من خلال أربعة أبحرٍ، هي: الخفيف (ثلاثون قصيدة)، والسريع (خمس قصائد)، والمجتث (خمس قصائد)، والمنسرح (أربع قصائد)، وهو ما يربو على نصف عدد قصائد الديوان، إذ تبلغ نسبة هذه الدائرة في شعر التجاني 62% من مجموع القصائد! وهي النّسبة التي تكشف لنا بُعدين جوهريّين من أبعاد شعر التجاني يوسف بشير: اللغة، وطريقة التفكير، وهو ما يتَّضِح عند تناولهما.

 

لغة التجاني وثراء معجمه:

عند إنعام النظر في (إشراقة) نجد لغةَ التجاني دقيقةً وموجزةً، إذا وازنَّاها بطبيعة البحور، فهي تشاكل الأوزان ذوات النغم المنزوي الخفيض، وهو ما يُفسِّر قلَّة القصائد ذات الجرس الداوي، والتي تظهر من خلال أبحر (البسيط، والكامل، والوافر، والمتقارب، والطويل، والرَّمل)، ثمّ من خلال مجزوءات البحور. وإن كان الخفيف يقاربُ أكثر هذه البحور في عذوبة موسيقاه، إلا أنَّ التدوير يُخفي كثيرًا من جلجلة الموسيقى، وهي الثيمة التي اتكأ عليها التجاني كثيرًا في خفيفيّاته. وهو ما يدفعنا إلى القول: إنَّ العروض ذو دلالة فكريَّة لغويَّة، وليس  مجرد وزن وإيقاع وإطار خارجيّ، إذ هو القالبُ الذي تنصَبُّ عليه المعاني عاريةً قبل أن تتدثر بالألفاظ.

لغة التجاني ومعجمه:

 والملمح الآخر الأشدّ وضوحًا، هو معجم التجاني المُشبَع بالمعرفة، من خلال كثير من المفردات التي يتنكَّبها شعراء عصره، حتى يشعِرُك من هذه الناحية أنَّه ينتمي إلى عصر غير عصرنا القريب هذا، ونرجِّح افتتانه بالمتنبي وأبي تمام وأبي العلاء المعري، أكثر من افتتانه بغيرهم من الشعراء. وإن كان لي أن أتخيَّر من معجمه بعض الألفاظ المنقرضة عن معجم عصره، فخذ مثلًا: (اطّبى، ربذ، وعثير، وكنهور، وبدِيء، والرِّعان، وصيهود، وصيخود، ومقفقف، وجيْرِ، وأوفاض)، ولئن كانت هذه المفردات جميعها موجودة في المعجم، فقد جلَّاها وشقَّ عنها أصدافها، وجاء بها لتؤدي معانيها بدقَّة متناهية. ومن الشواهد عليها في شعره:

كلّما لجّ في الذهولِ اطَّبَاهُ المِزهرُ الرطبُ في يديه فشاقَهْ

وهي لفظة كثيرة الدوران في شعر التجاني، يكرِّرُها بلذَّة وخشوع أمام الجمال.

ويقول في قصيدة عنوانها (الله):

فتفلَّتُ من يديَّ، وسبَّحتُ بديئًا لأولِ الأشياءِ

وجمع بين وصفين من أوصاف الصحراء في قوله:

أفرغتها وبرغمي أنّها انحدرت     بيضاءَ كالروحِ في سوداءَ صيخودِ

وكم ألوذُ بمن لاذَ الأنامُ به         وأبتغي الظِّلَّ في تيهاءَ صيخودِ

ويأتي بالأوفاض في وصف النيل في قوله:

ملء أوفاضِك الجلالُ فمرحى        بالجلالِ المُفيض من أنسابِك

وفي وصف سرعة النيل يقول:

ربذًا يدفقُ الحياةَ على الوادي ويستنُّ في الكنانة مجرى

وكأنّه عمد إلى إدخال مؤثرات صوتيَّة كما يفعل أهل المسرح، حينما أراد أن يصف المهدي صاحب الثورة، من خلال توالي الحروف وتكرارها في المفردات، حتى لكأنَّك تسمع صوت الريح في الليالي الشاتية، حين يقول في مطلع القصيدة:

في دُجًى مُطبقٍ، ويومٍ دجوجيٍّ وليلٍ مُقفقفٍ مقرورِ

ولعلَّك انتبهت أنَّ أكثر الشواهد جاءت من قصائد من بحر الخفيف، والتدوير يعمرها جميعها، وهو من أهمّ الملامح الأسلوبيَّة التي تُظهر تمكُّن الشاعر من فكرته. وعندما تستشير المعجم عن هذه المفردات جميعها فسيخبرك أنّها أدّت معانيَ لم تكن لتؤدّى بغيرها من المفردات التي تدانيها في المعنى.

الدلالات الصرفيّة وجرأة الاشتقاق:

ولا تكتمل لغة الشاعر إلا من الناحية الصرفيَّة، ومن أخصّ صورها يأتي الاشتقاق. للتجاني جرأةٌ عجيبةٌ في اشتقاقاته. وهي على غرابتها، وخلوّ دواوين معاصريه منها، إلا أنَّها اشتقاقات صحيحة، جاءت لتؤدي معاني قد لا تؤديها الصيغ الأخرى، فكثيرًا ما نراه يعدل عن الصفة المشبَّهة إلى اسم الفاعل، فتجد في شعره من الاشتقاقات مثل: (مائت، وناجس، وساكر، ونغّام). في قوله:

واستفاقوا يا نيلُ، منكَ على نغَّام شجيّ من آلهيّ ربابك

وقوله:

لوددت أني في الطفولة مائتٌ لو كنتُ أسمع بالشباب العاثر

وكذلك تسمعه يقول:

قالوا: احرقوهُ، بل اصلبوهُ، بل انسفُوا للريحِ ناجسَ عظمِه وإهابه

ونختم كلّ ذلك بقوله:

قمْ لمُوحاكَ في الدُّجى بين صحوانَ نديٍّ وبين سهوانَ ساكرْ

 

ومن اجتراحاته في هذا المنحى النَّسَب إلى (آلهة)، فيقول (آلهيّ)، للتفريق الدقيق بين النسب إلى الإله الواحد، والآلهة المتعدِّدة، لا سيما وقد غلب المنهج الرومانتيكيّ على شعره، وكل (آلهيّ) في شعره ذو خصوصيّة بالجمال. ولكثرة ما أتى بهذه اللفظة في شعره، لتظنّنه يقول لك: هذه لفظتي واجتراحي، فأنا أكثِر منها حتَّى تقَرَّ في الشعر! وقد وردت لفظتا (اطّبى، يطّبي)، و(آلِهٌ، وآلهيّ) في أكثر من عشرة مواضع متفرقات بين القصائد!

 

النزعة الفكريّة: بين الفلسفة والتَّصوُّف

استغرق التجاني يوسف بشير في الفلسفة والتَّصوف، وهما أهمّ ملمَحَيْن فكريّين في الديوان، وكلاهما مما يكدُّ الذهن بالتأمل والتأني، بعيدًا عن الاندفاع والتعجّل. وهو ما يتوافق -أيضًا- مع طبيعة الثيمة الإيقاعيّة العروضيّة في شعره، ويدفعه إلى الأوزان كثيرة النغم، دون أن يكون لهذا النغم دويٌّ وهدير، إلا في مجزوءاته.

وأكثر شِعْر التجاني في تفكُّرِه في سرِّ هذا الوجود، بين الإيمان المحض، وبين الشكِّ الذي يحسو روحه حسو الطير من ماء الثماد! وللاستزادة من هذا الجانب، نُحيل إلى قصائده (الله، ودَّعت أمس يقيني، يؤلمني شكِّي، حيرة، الصوفي المعذَّب).

يقول التجاني:

وراحَ يجمعُ أطمارًا مرفَّأةً

مزيقةً عريَتْ منهُنَّ عطفــاهُ

 

حتى أتى جبلَ الأحقابِ وهو بِهِ

أحفَى وأحدَبَ فاستبكى فآســاهُ

 

وقام بين الرِّعانِ البِيضِ ملتَفِتًا

يصيحُ فى الأرضِ من أعماقِ دُنياهُ:

 

فى مَوضِعِ السِّرِّ مِن دُنياي مُتَّسَعٌ

للحــقِّ، أفتأُ يرعاني وأرعاه

 

هنا الحقيقة في جنبِيْ، هنا قبسٌ

من السمواتِ في قلبي، هنا اللهُ