هَوَسُ الخلود عند دِعْبِل الخُزاعِي | أحمد عايد

أحمد عايد

شاعر وكاتب من مصر

هَوَسُ الخلود عند دِعْبِل الخُزاعِي

أحمد عايد

شاعر وكاتب من مصر

 

تنتشر آراء كثيرة حول نشأة الفنون ولماذا اخترعها الإنسان. ولعلَّ أشهرها يزعم أن الإنسان اخترع الفنون ليقاوِم الفناء؛ فالفنَّان لا يريدُ أن يموتَ كالآخرين، “كأنَّهم مِن هوان الخَطب ما وُجِدوا”[1]، وإنما يريد أن يتردَّد اسمه دائمًا أبدًا، كأنَّ لسان حالهم جميعًا:

وما الدَّهر إِلَّا مِن رواة قصائدي * إذا قلتُ شِعرًا أصبح الدَّهرُ مُنشِدا[2].

ويرجع هذا إلى اعتقاد الفنَّانين أنَّ بهم لمسةً ألوهيَّةً، بوصفهم خلَّاقين ومُبدعين، وبالتَّالي فمن حقهم ألَّا يموت ذِكرهم كبقية الناس.. حتَّى ولو اشتركوا معهم في موت الجسد.

ومنذ كتب هوميروس ملاحِمَه، والشُّعراء مشغولون بالخلود، لا يريدون أن يضيع ما بذلوه في قصائدهم من وقتٍ وجهدٍ هباءً، ولا يريدون أن يمروا على الدنيا مرور العابر.. ومن هؤلاء دِعْبِل الخُزاعي (ت. 246 هـ).

وُلد دِعْبِل لأُسرة شعراء، فجدُّه رَزين شاعرٌ، وأبوه عليٌّ شاعرٌ، وأخوه رَزين بن عليّ شاعرٌ، والحُسين ابنُهُ شاعرٌ، وابن عمه مُحمَّد بن عبد الله بن رَزين المعروف بأبي الشِّيص شاعرٌ.

وعلى الرغم من هذا، فقد تتلمذ على يد مُسْلِم بن الوليد المعروف بـ”صريع الغواني” أحد كبار شُعراء العرب، ويحكي دِعْبِل عن نفْسه قائلًا: “ما زلتُ أقول الشِّعر وأعرضه على مُسْلمٍ، فيقول لي: اكتمْ هذا. حتَّى قلتُ:

أين الشَّبابُ؟ وأيَّةً سلكا؟ * لا.. أين يطلبُ؟ ضلَّ، بل هلكا.

فلمَّا أنشدتُهُ هذه القصيدة، قال: اذهب الآن فأظهِرْ شِعرَك كيف شئتَ لِمَن شئتَ”[3].

وهي من قصيدته التي يقولُ فيها:

لا تعجبي يا سَلْمُ مِن رَجُلٍ * ضَحِكَ المَشيبُ برأسِهِ، فبكَى

لا تأخُذا بظُلامتي أحدًا * قلبي وطرفي في دمي اشتبكا[4]

وهي الأبيات التي غنَّاها أحد المُغنِّين بين يدَي الخليفة الرَّشيد، فطرب لها، وسأل عن صاحبها، فلما أُخبر بأنها لدِعْبِل، أمر بإحضاره، فأنشده دِعْبِل إياها، فأعطاه الرشيد عليها عشرة آلاف درهم، فاشتُهر بين الناس. وظلَّ يفخرُ بهذه القصيدة: “أنا ابن قولي لا تعجبي يا سَلْمُ مِن رجلٍ ضحِكَ المشيبُ برأسِهِ؛ فبكى”، ويعني أنه عُرِفَ بهذا البيت[5]. ولعلَّ هذا الاحتفاء البالغ بأوَّل قصيدةٍ معلنة لدِعْبِل جعله يعتقد أنَّه مؤهَّل لما ينتظر الشعراء من الخلود.

ويبدو لنا من عدم ركونه إلى ميراث أُسرته الشِّعري، ومن تتلمذِهِ على يدَي مُسلم أنه يعي جيدًا أن الشِّعر صنعةٌ تحتاج إلى الإتقان؛ لأنَّ هذا الإتقان أحد أسرار خلود الشِّعر، وهو ما تُشير إليه أبياتُهُ التالية:

نَعَوني، ولمَّا ينعني غيرُ شامتٍ * وغيرُ عدوٍّ قد أُصيبَتْ مقاتلُهْ

يقولون: إنْ ذاق الرَّدَى، مات شِعرُهُ * وهيهاتَ عُمرُ الشِّعر طالت طوائلُهْ

وهَبْ شِعرَهُ إن مات مات، فأينَ ما * تَحمَّلَهُ الرَّاوونَ، والخطُّ ناقلُهْ

سأقضي ببيتٍ يحمَدُ النَّاسُ أَمرَهُ * ويكثرُ من أهل الرِّواية ناقلُهْ

يموتُ رديءُ الشِّعر مِن قبلِ أهلِهِ * وجيِّدُهُ يبقى وإنْ ماتَ قائلُهْ[6]

وقد كان دِعْبل “مِن مشاهير الشِّيعة، وقصيدته التَّائية في أهل البيت من أحسن الشِّعر وأسنى المدائح”[7]. ولذا اهتم الشيعة بشِعره، وقد جمعه الشيخ محمد السماوي[8]، وكذلك عبد الصاحب عمران الدجيلي[9]، وضياء حسين الأعلمي أيضًا[10].

والقصيدة المشار إليها، هي كما وصفها ياقوت حقًّا، وقد اهتم بها الشيعة، حتى أُفردت بالشَّرح، وممَّن شرحها الميرزا محمد كمال الدين بن محمد معين الدولة من أعلام القرن الثاني عشر الهجري[11]، ومحمد لطف زاده[12]، والعلَّامة محمد باقر بن محمد تقي مجلسي[13]. يقول فيها:

مدارسُ آياتٍ خلتْ من تلاوةٍ * ومنزلُ وحيٍ مقفر العَرَصَاتِ

لآل رسول الله بالخَيف من مِنًى * وبالركن والتعريف والجمراتِ

ديارُ عليٍّ والحُسين وجعفرٍ * وحمزةَ والسَّجَّاد ذي النَّفَثَاتِ

ومنها:

ملامَكَ في أهل النَّبي؛ فإنهم * أحبَّايَ ما عاشوا وأهل ثقاتي

تخيَّرتُهم رُشدًا لأمري؛ لأنَّهم * على كلِّ حالٍ خيرةُ الخِيَراتِ

ولما أتمها، قصد بها أبا علي ابن موسى بن الرضا بخُراسان، فأعطاه عشرة آلاف درهم وخلع عليه بُردة من ثيابه، فأعطاه أهل قُمٍّ بها ثلاثين ألف درهم، فلم يبعها، فقطعوا عليه الطريق ليأخذوها، فقال لهم: إنها تُراد لله عز وجل، وهي مُحرَّمةٌ عليكم. فدفعوا له ثلاثين ألف درهم، فحلف ألَّا يبيعها أو يعطوه بعضَها ليكون في كفنه، فأعطوه كُمًّا واحدًا، فكان في أكفانه. ويُقال إنه كتب القصيدة في ثوب وأحرم فيه، وأوصى بأن يكون في أكفانه[14].

وقد كان دِعْبِلٌ “هجَّاء خبيث اللسان، لم يسلمْ عليه أحدٌ من الخلفاء ولا من وزرائهم ولا أولادهم ولا ذو نباهة، أحسن إليه أو لم يحسن، ولا أفلت منه كبيرُ أحدٍ”[15]. حتَّى أنه هجا أخاه رَزينًا، وامرأته، وأستاذه مسلم بن الوليد، بل وهجا الخليفة الرشَّيد بعدما مات؛ غير معتبرٍ بكونه أول مَن أعطاه على شِعره وشهره بين الناس، وأحمد بن أبي دؤاد الذي أنفق على دِعْبِل جزيلًا. وقد لامه في ذلك أبو خالدٍ الخزاعي الأسلمي: “ويحك! قد هجوتَ الخلفاء والوزراء والقوَّاد، ووترتَ الناس جميعًا، فأنت دهرَكَ هاربٌ خائفٌ، لو كففتَ عن هذا، وصرفتَ هذا الشر عن نفسك!”، فقال دِعْبِل: “ويحك! إني تأملتُ ما تقول، فوجدتُ أكثر الناس لا يُنتفع بهم إلَّا على الرهبة، ولا يُبالى بالشاعر وإن كان مجيدًا إذا لم يُخَفْ شرُّه، ولَمَن يتقيك على عِرضه أكثر ممَّن يرغبُ إليك في تشريفه. وعيوب الناس أكثر من محاسنهم، وليس كلّ مَن شرَّفتَهُ شَرُف، ولا كلّ مَن وصفتَه بالجود والمجد والشجاعة ولم يكن ذلك فيه انتفع بقولك، فإذا رآك قد أوجعتَ عِرض غيره وفضحته، اتقاك على نفسه وخاف من مثل ما جرى على الآخر. ويحك! يا أبا خالدٍ، إنَّ الهجاء المقذع آخذٌ بِضَبع الشاعر من المديح المضرع”[16].

بل بلغ به الأمر أنه كتب هجاءً بلا اسم معيَّن، وقد حكى ذلك أحمد بن أبي كامل: “كان دِعْبِل يُنشدني كثيرًا هجاءً قاله، فأقول له: فيمن هذا فيقول: ما استحقه أحدٌ بعينه، وليس له صاحب. فإذا وَجِد على رَجلٍ، جعل ذلك الشِّعر فيه، وذكر اسمه فيه”[17].

لكنّ اللافت حقًّا أننا لا نعرف اسم دِعْبِل الحقيقي على سبيل الجزم، وقد زعم بعضهم أن اسمه محمد، ويُكنى أبا عليّ، واختلفوا في سبب تسميته “دِعْبِل”، واختلفوا في معنى لقبه: الناقة التي معها ولدُها، والبعير المُسن.. إلخ. وقد ألَّف كتاب طبقات الشُّعراء، وكتاب الواحدة، وترك ديوانًا كبيرًا، يدلُّ على ذلك قول الجاحظ: “سمعتُ دِعْبِل بن عليّ يقول: مكثتُ ستين سنةً ليس من يوم ذرَّ شارقه إلَّا وأنا أقول فيه شِعرًا”[18]. وقد ذكر ابن النديم أن الصولي عمل ديوان دِعْبِل في نحو ثلاثمئة ورقة[19]. وجاء في تراجم الشعراء أنه كان عند ابنه الحُسين من شعر أبيه ست مجلدات ضخمة، في كل مجلدة ثلاثمئة ورقة[20].

وقد أدرك دِعْبِلٌ شُهرتَهُ في حياته، يحكي أبو ناجية أنه كان معه في شهرزور، فدعاه رجل إلى منزله، وعنده قَينةٌ محسنة، فغنت الجارية بشعر دعبل: “أين الشَّبابُ؟ وأيَّةً سلكا؟”، فارتاح دِعْبِل لهذا الشِّعر، وقال: “قد قلتُ هذا الشِّعر منذ سبعين سنةً”[21].

وممَّا يلفت أيضًا أن نقرأ لدِعْبِل ملاحظة على عمرو بن نصر القصافي، يقول فيها: “قال القصافيُّ الشِّعر ستين سنةً، فلم يُعرف له إلَّا بيتٌ”[22].

ولنا أن نسأل بعد ذلك: هل أدرك دِعْبِلٌ حقًّا الخلودَ بشِعره؟ وإجابة هذا السُّؤال يكفلها الزمان، على وقع صوت دِعْبِل:

إنَّي إذا قلتُ بيتًا، ماتَ قائلُهُ، * ومَن يُقالُ بِهِ، والبيتُ لم يَمُتِ[23]

 

 

[1] شطر بيت لأحمد شوقي، ديوانه، ج 3 ص 63.

[2] ديوان المتنبي، ص 361.

[3] أبو الفرَج الأصفهاني، الأغاني، ج 20 ص 157.

[4] ديوان دعبل الخزاعي، صنعة د. محمد يوسف نجم، ص 117، 118.

[5] الأغاني، ج 20 ص 125.

[6] ديوانه ص 123، 124. وأمالي القالي، ج 3 ص 111.

[7] ياقوت الحموي، معجم الأدباء، ج 11 ص 102، 103.

[8] لا يزال مخطوطًا، أشار إليه د. محمد يوسف نجم في نشرته لديوان دِعْبِل.

[9] نشرته دار الكتاب اللبناني- بيروت.

[10] نشرته مؤسسة النور للمطبوعات- بيروت- لبنان.

[11] نشرته مؤسسة البلاغ.

[12] نشرته دار المجتبى بقُم.

[13] متوفر على اليوتيوب.

[14] معجم الأدباء، ج 11 ص 103.

[15] الأغاني، ج 20 ص 120.

[16] الأغاني، ج 20 ص 125.

[17] الأغاني، ج 20 ص 129.

[18] الأغاني، ج 20 ص 151.

[19] الفهرست، ص 161.

[20] د. محمد يوسف نجم، مقدمة ديوان دعبل، ص 6.

[21] لأغاني، ج 20 ص 127.

[22] المرزباني، معجم الشعراء، ص 34.

[23] ديوان دِعْبِل، ص 48.