رَجْعُ الجبالِ القصيَّة قراءة في ملامح الشعر في اليمن | د. عبد العزيز الزراعي

د. عبد العزيز الزراعي

شاعر وأكاديمي يمني

    تحضرُ اليمنُ في الصفحة الأولى في مدونة الثقافة العربية عبر كل حقبها التاريخية حتى ليتيقن المرء أنها هي المتن كله، وتغيب عن تلك المدونة حتى ليظن المرء أنها سقطت منها سهوًا أو عمدًا، أو أن اليمن -لأسبابها الخاصة الجغرافية والثقافية والتاريخية- قد صنعت لها مدونةً أخرى تخصُّها ولا تخصُّ سواها.

     لقد وقَفت جبال اليمن وتضاريسها الصعبة دائمًا حاجزًا مانعًا لصدى صوتِ إنسانها ومبدعها  من أن يسمعه الآخرون سريعًا، وفي الآن ذاته ضمنت تلك الجبال رجع صدى لأصحابها خاصًا مميزًا واضحًا لا يداخله صخبُ العالم ولا أصوات ضجيجه من خلف الرمل والبحر. الجبال التي قال عنها اليماني الراحل محمد حسين هيثم (ت:2007م):

الجبالُ البعيدةُ ما خطبُها

خبَّأتْ وقتَنا وارتَدَتْ زمنًا لا يُطالْ

الجبالُ البعيدةُ

هل تَذْهلُ الآنَ

عن خطوةٍ في نهارٍ فسيحْ

عن مدىً للنزالْ

الجبالُ البعيدةُ

تذهبُ في كل ريحْ

وتبزغُ في غصةٍ في السؤالْ

الجبالُ

الجبالُ

الجبالْ

    هذه الطبيعة الصعبة والمتنوعة والغامضة بدورها كيَّفتْ إنسانًا يشبهها، فمثَّلتْ وإنسانها تحديًا أمام مطامع الغزاة؛ وجعلت اليمن نتوءًا أو جيبًا جغرافيًا وثقافيًا يصعب احتلاله أو ضمه لأي مركز سياسي  سواء من الدول الإسلامية المتعاقبة أو الغزو الأوربي. وتبعًا لذلك كانت موجات التأثر والتأثير والامِّحاء في الآخر بطيئة ومحدودة، وهذا بقدر ما جعل اليمن يطور خصوصيات ثقافية مميزة وأحيانًا مغايرة للسائد العربي والمحيط المجاور، جعلها غامضة ومجهولة وقد تبدو غائبةً لمن اعتاد السائد العربي.

    إن الوضعية البنيوية لليمن كمكان ومناخ وإنسان جعلته منذ القدم في معزل إلى حد ما، يبتكر حلوله الخاصة والمغايرة، مطورًا طُرقًا مغايرة في الحضارة، كالكتابة المسندية وأدوات الري والزراعة كالسدود والمدرجات، وأدوات البناء، وأدوات الحرب والدفاع والملابس، والأطعمة، والتطبيب، تتسم كلها بتطويع الإنسان اليمني لهذه الطبيعة الصخرية، إنها حياة تشبه الحفر في جدار من الجغرافيا والعادات والتقاليد حسب تعبير المقالح:

سنظلُّ نحفرُ في الجدارْ

إمَّا وجدنا ثغرةً للضوء أو متْنا على وجه الجدارْ

   وهذا لا شك تركَ أثرَه على جملة فنونه من غناءٍ وشعر ورقص وفلكلور قديمًا وحديثًا.

      في العصر الحديث وكعادتها، صنعت هذه الأرضية الإيكولوجية والديموغرافية لليمن واقعًا سياسيًا مغايرًا لبقية الأقطار العربية، فبسبب جغرافيتها المتوزعة بين الجبل والبحر والسهل عرفت اليمن في مطلع القرن التاسع عشر أول تجزئة لأبناء شعبها حيث اقتطعت بريطانيا الجزء الجنوبي من الوطن المطل على البحر وظلت تحتله وتستغله حتى قيام ثورة الاستقلال عام 1963، واقتطع العثمانيون الجزء الشمالي وظلوا يحكمونه بالحديد والنار حتى انهزام الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، وتسليمه لسلطة محلية ملكية دكتاتورية لا تقل عنها تخلفًا وظلمًا،  وفي اللحظة التي كان أتباع شوقي وحافظ مهمومين ببعث القصيدة العمودية ومواجهة أنصار التجديد في مصر كان الشاعر اليمني محمد الزبيري ورفاقه إبراهيم الحضرانيوزيد الموشكي وأحمد الشامي وغيرهم، وقد أُعْدِمَ بعضهم وزُجَّ ببقيتهم في السجون،  كانوا مهمومين بفك قيودهم من سجن إمام اليمن إثر قيامهم (1948م) بالثورة الدستورية على والده الإمام يحيى، كانوا مهمومين ببعث شعبهما من مرقده لا بشكل القصيدة، لذا جاءت نصوصهم مغايرة لشعر الإحياء العربي في لغتها وصورها وعاطفتها؛ لأنها معجونة بالخوف والقلق والوعي الوطني والتوق إلى الحرية، فهذا الزبيري يقول وقد فرَّ إلى المنفى:

عُمُرٌ في دقيقةٍ مستعادٌ

ودهورٌ مطلةٌ في ثواني

طاردتني البلادُ تستنبط الخالصَ

من منطقي ومن وجداني

كلما نلتُ لذةً أنذرتني

فتلفَّتُّ خيفةً من زماني

وإذا رمتُ بسمةً لاحَ مرأى

وطني فاستفزَّني ونهاني

    وهذا الحضراني يقول وهو في ساحة الإعدام وقد قُتِلَ رفاقُهُ أمامَه:

ووالله ما خفتُ المنايا وهذه    

طلائعُها مني بمرأى ومسمعِ

ولكنَّ حقًا في ضميري لأمتي

أخافُ إذا ما متُّ من موتِهِ معي

     هكذا تُولَدُ شعرية اليمني مباغتةً كالحياة أو كالموت، تمامًا كما عبر عنها  البردوني:

لهذا أغامر أبدو غريبًا

على العرف كالمولدِ المرتجلْ

وأدري وأدري بأني إليه

أخوضُ دمي والردى والوَحَلْ

    يعيش اليماني حياته وقصيدته ارتجالًا (كجلمود صخر حطَّهُ السيلُ من عَلٍ) أو كبرق ناهض من مزاج الأساطير، أو كرمح، كما قال أحمد العواضي:

فاجأتني القصيدةُ هذا الصباحْ

نَهَضَتْ من مزاج الأساطير

قامتُها كلما اقتربَتْ كطويل الرماحْ

وأنا متعبٌ

مثل خَلْقٍ كثيرين

مَسَّهُمُ الضرُّ

واختنقوا في قفار الكلامِ المباحْ

 يولد الشاعر اليمني مهمومًا وحكيمًا وشيخًا أكثر مما يجب، يقول البردوني:

ماذا أتعجَبُ من شيبي على صغري

إني ولدتُ عجوزًا كيف تعتجبُ

واليوم أذوي وطيشُ الفنِّ يعزفني

والأربعون على خدَّيَّ تلتهبُ

كذا إذا ابيضَّ إيناعُ الحياةِ على

وجْهِ الأديبِ أضاء الفكر والأدبُ

 

الستينات والسبعينات (الثورة تجاور الأشكال الشعرية):

    وربما لم تُعْرَفْ ثورةٌ عربيةٌ عبر شعرائها كما عُرِفَتِ الثورةُ اليمنيةُ في ستينيَّات القرن العشرين وسبعينيّاته عبر شاعريها الكبيرين عبد العزيز المقالح وعبد الله البردوني.   فبعد نضال كبير وأسطوري من قبل أبناء اليمن الأحرار تم تحرير الجزء الشمالي والجزء الجنوبي. وإقامة نظامين وطنيين جمهوريين.

وقد مثَّلَ تجاورُ حداثة البردوني في قصيدة العمود وحداثة المقالح -وهما الصديقان الثائران- مفهومَ التجاور المدرسي وصداقة الأشكال الشعرية مبكرًا في صنعاء، ما يعني أن الحداثة ولدت في اليمن مرتبطةً بالثورة والتغيير المجتمعي،  أي بالمضامين لا بالأشكال.

أضف إلى ذلك صوتًا شعريًا آخر هو صوت قصيدة النثر الذي حَمَلَ لواءَهُ صديقهما  الشاعرُ الكبير عبد اللطيف الربيع، الذي لم يظفر بالشهرة التي ظفر بها صديقاه؛ لأسباب ربما تعود لقلة ما كتب، ومزاجه الحاد، والشكل الشعري الذي اجترأ عليه وهو قصيدة النثر التي لم تكن بعد مألوفةً حتى في حواضرها العربية بيروت والقاهرة، وربما بسبب أفكاره الإشكالية وطريقة معالجاته المغايرة، أضف إلى ذلك انتماءه لأيدلوجية اليسار ، وانشغاله بالصحافة السياسية والعمل الإداري والهندسي، وأخيرًا أخفى صوتَه موتُهُ المبكر والمفاجئ والغامض(1993م) وهو في عمر الأربعينات.  امتلك الربيع وعيًا حداثيًا متجاوزًا بحكم تكوينه العلمي في القاهرة أولًا ثم دراسته العليا في المجر وبريطانيا في مجال الهندسة المعمارية والتخطيط الحضري، وكان فوق ذلك حاصلًا على دبلوم عالٍ في  الفن التشكيلي من بريطانيا، ويمكن وصفه بالأب الحقيقي لقصيدة النثر في اليمن ولحداثة فريدة ومتميزة جديرة بأن تُدْرَسَ وتُعرَف.  

أصدر الربيع ديوانيه الوحيدين في العام ذاته(1986م) الأول بعنوان (الكفن الجسد) والثاني بعنوان (فازعة). زاوج فيهما بين قصيدة النثر والتفعيلة.

تتسم كتابة الربيع بالعمق والتكثيف واقتصاد عبارتها، وهذا يعكس سمة الإنسان اليمني في تكثيف المنطوق بما ينسجم ذلك مع نزعته الحكيمة وعاداته الشفاهية:

لأني لم أحاربْ

أُخِذتُ أسيرَ حربٍ قادمة

على صعيد آخر تعكس شعرية الربيع حنينه القروي، هو القادم من مدينة القاهرة وبودابست، وكأن اليمني يرى العالم دومًا من قَمَرِيَّته، يقتبس من العالم ما يمكن توطينه ثقافيًا وغرسه في حقوله:

فازعةْ

 أجلسُ الآن

مستمعًا صمتَها

حين داهمَ جربتَها السَّيلُ

كانتْ هي السدَّ

مدَّتْ تضاريسَها

ثم سمَّتْ بأحزانِها

جبلًا

فنما حصنُ كحلانْ

وبسخرية شعرية لاذعة، تشير أكثر مما تقول، تشتبك شعريةُ الربيع بلحظته السياسية والاجتماعية ووعيه الحاد بتغيرات زمنه ناقدًا طفرة النفط التي ظهرت في اليمن وكانت أحد أسباب احتراب مكوناته السياسية:

في الأولِ كان النهرُ

نضبَ النهرُ فحفروا آبارًا

نضبَ البئرُ فاكتشفوا النفطَ

تدفَّقَ النفطُ فحفروا مقابرَ جماعيةً

تدفقتِ المقابرُ

فنضبَ الوطنُ

وتستند هذه الشعرية على وعي سينمائي يرصد اليومي والخاص وينمذجه من أجل التهكم من العام والكلي المتمثل في مظاهر البيروقراطية واستعباد الإنسان في روتين الوظيفة الحكومية العامة، بشكل يذكرنا بوعي تيار القصة الجديدة عند كافكا في قصة المسخ، ونيكولاي قوقل في قصة المعطف، هذا ما نلمسه في نص عبد اللطيف الربيع (جثث الساعة السابعة):

كلما دَقَتِ الساعةُ السابعة

ينهض النومُ من نومِهِ

ويقومُ ليغسلَ أحشاءه في الصباح

ويَحْلِقَ أحلامه شفرةً شفرةً

ويودعني حين أخرج من داخلي كالفقاعة

تَلبسني ربطةُ العنق المنتقاة

تهندمني الجزمة اللامعة

أتدحرج يختارني شارعٌ لا يؤدي إلى..

و(إلى) لا تؤدي إلى..

وأنا الآن أبحث عن سلة كالوظيفة

أبحث عن سلة فارغة!

 

الثمانينيّات: هيمنة التفعيلة وقصيدة النثر

في نهاية السبعينيّات تتسع المدنية والرفاهية قليلًا ويذوق الناس أولى ثمار خيرات الثورتين، وللأسف تتسع معها  دائرة الصراع بين الشطرين اليمنيين الذي هو صدى صراعات المعسكرين الشرقي والغربي، ومعها تتسع وتتبازغ  كوكبة من شعراء الثمانينيّات وكان اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين هو المؤسسة اليمنية الوحيدة الوحدوية تمثل الشطرين في المحافل الدولية وهي المظلة الكبيرة التي يجتمع تحتها أدباء اليمن من كلا الشطرين، هنا برزت أسماء شعراء كبار مثل عبد الودود سيف وأحمد قاسم دماج وعبد الكريم الرازحي، أحمد العواضي، محمد حسين هيثم، شوقي شفيق عبد الرحمن فخري، عبد الله قاضي وآخرون. وظهر شعراء عمود جيدون لكن عمودهم لم يبلغ ذرى ما قدمه البردوني الذي بلغ ذروة توهجه وشهرته في هذه المرحلة.

  ويمكننا هنا الإشارة إلى بعض سمات بارزة في خطاب شعراء هذه المرحلة أهمها الرمزية والقناع التي كانت تُبْطِن حذرًا أمنيًا نتيجة الصراع الأيدلوجي بين طبقات المجتمع والقبضة الأمنية للسلطات، فضلًا عن ظواهر التصفيات لبعض قيادات الأحزاب، كما نلمحه في هذا المقطع من نص( هذه الرأس)  لمحمد حسين هيثم:

هذه الرأس

ثمرة

أم طائر

أم طبق معدني

أم قصيدة نثر

هذه الرأس

لا أعرف كيف تستخدم

غير أنني  كل يوم

أطور طُرقًا  للحفاظ عليها

هذه الرأس

رأسي

ولقد استحققتُها بجدارة

لم يقل لي أحدٌ لماذا

لكني أستحقها فعلًا

لأنها رأسي

وعليَّ أن أقطع بها أطول مسافة ممكنة

أن أمضي بها بعيدًا قبل أن تسقط من تلقاء نفسها!

 

وقد يلجأ شاعر الثمانينيّات إلى الاستعانة بالمعجم الصوفي أحيانًا، وتكرار لفظة القات بوصفه معادلًا موضوعيًا لمحاولة النسيان والبحث عن الإشراق الصوفي، كمحاولة لإدانة الحرب بين الإخوة، كما في نصوص أحمد العواضي:

قلتُ يا صاحبي

لستُ بحرًا

ولكنَّ هذا الزمان الجديدْ

مالحٌ في فمي

كل يوم على ورق القات أحنو

فيشرق حزني

ويأخذ هذا الزمانُ دمي!

 

التسعينيَّات/ زمن الوحدة اليمنية:  (قصيدة النثر: الانفجار الشعري العظيم).

     في التسعينيَّات، وكعادتها اليمن في اقتراح حلولها وارتجالها على غير مثال، قرر النظامان السياسيان الاشتراكي في الجنوب ونظام صنعاء الليبرالي المختلط من قوى يسار وعسكر وقوى يمين ديني وقبلي، قررا الدخول في وحدة اندماجية وبدء مرحلة جديدة وفارقة من التعددية الحزبية والفكرية، في لحظة لم تخطر على بال أكبر المتشائمين من نظرية الحتمية التاريخية فوكوياما صاحب نظرية (نهاية التاريخ). إذ لم تكن الوحدة بين الشطرين مجرد وحدة بين نظامين سياسيين بل جمع بين بنائين فوقيين وواقعين اقتصاديين متباينين، ولأول مرة يجتمعان في مؤسسات واحدة وجهًا لوجه، فحدث الاحتكاك والتأثير والتأثر بين قوى اليسار وقوى اليمين، هذه الوحدة أحدثت تقاربًا وجدلًا بين تيار الحداثة وتيار المحافظة، فلم يعد الحداثي مغرقًا في شكلانيته ولا المحافظ مغرقًا في كلاسيكيته، ومن هنا تشكَّلَتْ ملامح حداثة شعرية متوازنة لا تعادي شكلًا شعريًا، وهو ما وصفه النقاد بشعرية التجاور كما فعل الناقد علوان الجيلاني في توصيفه للشعر التسعيني في كتابه (أصوات متجاورة).

      وبرغم الانتكاسة التي حدثت عقب اختلاف النظامين وبدء حرب الانفصال في 1994م، كان كل شيء في مياه الثقافة قد تغير وتبدل، حينها تدفقت موجة الشعر التسعيني، بشكل لم تشهده اليمن من قبل ولا بعد، سواء في عددهم أو تميز موهبتهم العالية وثقافتهم الواسعة وحساسيتهم الشعرية المفرطة، أسماء يصعب حصرها، منهم على سبيل التمثيل: علي المقري، أحمد الزراعي، علوان الجيلاني، عبد الناصر مجلي، عبد الرحمن الحجري، أحمد السلامي، طه الجند، محمد المنصور، محمد العديني، نبيلة الزبير، ابتسام المتوكل، هدى العطاس، فاطمة العشبي، هدى ابلان، محمد الشيباني، محيي الدين جرمة، فتحي أبو النصر، الحارث بن الفضل، إسماعيل مخاوي، جميل مفرح، عبد المجيد التركي، محمد القعود، والقائمة تطول.  

إن ما حدث لأحلام الشعراء وتطلعاتهم إلى الوطن الكبير والمشروع القومي بعد حرب الانفصال وهزيمة اليسار كان أشبه بما حدث بعد نكسة حزيران على المستوى العربي، يقول الشاعر أحمد الزراعي:

رأيتُ بيتي في غبار المدى

حكايةً مكتوبةً من دمي

كانت جبالي تنحني رُكَّعًا

وكان صوتي ميتًا في فمي

اتسمت الشعرية اليمنية في هذه اللحظة بالحدة وإعادة تعريف الأشياء، كما في شعرية محيي الدين جرمة:

يدٌ لا تقطفُ الوردَ حديقة

يدٌ لا تصفق وطنٌ

غير أن القاعة فارغةٌ إلا من التصفيق!

اتسمت بعض تجاربها بالسخرية اللاذعة وتدوين الهامشي ومخاطبة الأصدقاء وكأنها استمرار لأحاديث لم تكتمل في مقيل الاتحاد أو في مقاهي الشاي أو تشفير للرفاق، أو خطاب لآخر معروف للجميع ومُتواطَأ على عدم ذكره كما في تجربة طه الجند:

دُلُّوني على مسلكٍ يفضي إلى الغنى

أطفالي يروني قادرًا على مطالبهم

والقفزِ بهم إلى النعيم

دلُّوني لن تندموا

فأنا طيبٌ وفقيرٌ

كلُّنا سيئون بما يكفي

لا ترشدونا إلى الصواب

نحن أصدقاء الرذيلة أحيانًا

أما أنتم فأبناؤها المدللون!

وبعض التجارب بدا خطابًا فلسفيًا بلغةٍ أقرب للتصوف والعرفان يرثي حضارة الإنسان برمتها، ويرثي الكوكب ويشعرنه كما في تجربة أحمد الزراعي:

بروق تلمع في ذروة جبل قصي

وشاعرٌ يسحبُ الجبلَ إلى عينيهِ

تاركًا أوراقَهُ بيضاءَ

لهواءٍ يتدحرجُ إليها

تاركًا قلمَهُ الوحيدَ

في فراغِ العالم

وبعضها تجارب فنتازية  تعبر عن قلق الكائن المتمدن الذي صرناه كما في تجربة أحمد السلامي:

لا فِراشَ لروحي المعلقة مهما اضْطَجَعْتُ

الجدّاتُ تموت وجلودنا تتجعدُ

مثل أرض زراعية

أهملها الأهل

تركوها ليقودوا سيارات الأجرة

في طريق تبيع الخمر للنادمين

ونحن دون أن ننتبه أكلنا نصف دجاج المدينة

وغدونا ثعالب ترتدي النظارات!

كانت التسعينيَّات لحظة الأحداث الكبرى والمتسارعة سياسيًا وفكريًا واجتماعيًا في اليمن، وكانت قصيدة النثر تعبيرًا فنيًا وموضوعيًا عمَّا آلت إليه الأوضاع في اليمن، لم تكن معركتهم مع الشكل كما في بلدان أخرى، لقد امتلكت القصيدة التسعينية شكلها لأنها امتلكت حاملتها الموضوعية لذا لم يجرؤ أحد أو يفكر في تسخيفها او التقليل من حضورها، كانت هي التجلي الخالص للحظة والأكثر إقناعًا وسخرية ونقدًا للواقع. في الوقت ذاته ولدت هذه الأحداث غنائية عالية لدى هذا الجيل فاقتحموا بالعمود مناطق صوفية غمرت معجمه وخلصت العمود من كلاسيكة المضمون، وهي ملاحظة رصدها الشاعر والناقد علوان الجيلاني في كتابه أصوات متجاورة، وننمذج لها هنا بعموديات أحمد الزراعي، وعموديات الشاعر علوان الجيلاني:

مدارُ حزني على الآفاق مسفوحُ

عن كوكبٍ يصطفيني تبحثُ الروحُ

أنا المُعَنَّى بترتيبِ الفضاء لمنْ

غابت وشباكُها في القلبِ مفتوحُ

هذه العمودية التسعينية التي تتسم بأناقة العبارة والغنائية العالية والمعجم الصوفي إلى جانب عموديات فيصل البريهي والحارث بن الفضل الشميري، وجميل مفرح وغيرهم، إضافة إلى عوامل أخرى، ستؤسس لازدهار العمود الجديد في جيل ما بعد الألفين في اليمن، والذي سنخصه بوقفة خاصة تتأمل خصائصه الفنية والموضوعية وأسماءه وعوامل ازدهاره.