“حربُ أخي” لِطالب عبد العزيز .. سكينةُ العنوانِ وغَلَيانُ المقاصِد | عبود الجابري

عبود الجابري

شاعر وكاتب ومترجم عراقي

(حربُ أخي)

قم أخي.. لقد انتهت الحرب

وأخذوا دبابتك إلى مصهر الحديد

لكنَّ بندقيتك ما زالت على الجبل

وها قد أتت الرمال على بسالتك أخيرًا

الفلاح يزرع حقله الذي سقطت فيه

لأن الأشجار التي زرعتها أنت

ماتت أيضًا

أمَّا الجبل الذي آليتَ

ألَّا تُبارِحَهُ حيًّا

تدفق الأعداء إلى قمته

وأنزلوا من ثلوجه

رايتك الصابرة

في كل مرَّة ٍ

قبل سقوطك الأخير

يسلب الأعداء بدلتك وبهاءك

ومهما كنت ميتًا يا أخي

كانوا يُفَتِّتون جثتك بالرصاص

وحتى في ميتتك الأخيرة

حين كان الدود يسقط من محجريك

وفتحة فؤادك الكبير

كانوا يظنونك تكذب

وأنك ما زلت كابوسهم المستمر

قم يا أخي لقد انتهت الحرب

وها قد تسوَّر الأطفال الحديقة

والكرات التي كنت تراها

من نارٍ ومعدن،

بردت، وهاهم يتقاذفونها

بين أقدامهم

إلَّا الكرة التي سقطت قربها

تلك التي أحالت جسدك رفيفًا.

نحن هنا في القرية

بلا حربٍ ولا أعداء

أفق من هزازاتٍ نديَّة

يتشكل توًّا تحت وسائدنا

وقد نسينا بعض جراحنا

وقد نطعم بعض خناجرنا بغضاءنا

القديمة

لكنَّ جُلَّ ما نريده

أن لا تنبح كلابنا إلَّا ضيفًا

أمّي ما زالت في فراشها

أحدثها عن طولك وعضدك القويّ

ويطربها كثيرًا

أنهم لم يجدوا حذاءً على مقاسك

كانت تسألني

على أيِّ جنبيك كنت تنام

أوحشني أن أقول لها

إنك لم تنم منذ أعوام سبعة

وإن الشظية التي هشَّمت أضلاعك

كانت من مدفع مارد وقوي

وقد فركت فتوَّتَك كلها

وإني تركت الشمس

تغرب على أسمائك وأحلامك

وإني ضننت على جسدي النثار

الذي صِرْته

وإن المسافة بين حياتك

وموتك ستة أطفال..

 

*من ديوان تأريخ الأسى

 

طالب عبد العزيز، شاعر عراقي يعمل في الشعر، والشعر يعمل لديه. كلاهما يشتغلان بدأب على تقديم ما هو مغاير لافت للأنظار والأسماع وبقية الحواس. صدرت له في الشعر والنثر أكثر من عشرة عناوين، آخرها ديوان شعري يحمل عنوان “مديح علبة الألوان”.

نشر في عام 1993 قصيدته الشهيرة (حرب أخي)، وهي مرثية كتبها عند استشهاد أخيه، وأحدثت صخبًا مكتومًا في ضمائر المتلقين، كونها كانت ضربًا من الأدب المقاوِم الرافض لفكرة الحرب ولكن بأسلوب موارب يقف على عتبة يتناصفها الخوف من بطش النظام الحاكم، والدهشة التي قوبِلَتْ بها القصيدة. كما أنها لسان واحد ينوب عن ملايين المكلومين بأبنائهم وإخوتهم، ما جعل القصيدة تنتشر كما لو أنها دعاء مبارك، وفي الوقت ذاته لم تحظ القصيدة بتناول نقدي يوازي أهميتها حين صدورها، كون النبش في ترابها اللغوي يمكن له أن يقود المنقِّبين إلى العثور على ما يدين الشاعر ومن يتجرَّأُ على التحليل النقدي للقصيدة.

“وما يثير الاستغراب فعلًا أن القصيدة لم تلقَ الرفض من الرقيب الذي كانت تضعه الدولة للحيلولةِ دون نشر أي شيء تراه غير متوافق معها، على الرغم من أن الشاعر يعلن وبقوة ليس رفضه للحرب فقط وإنما تأكيده وبإصرار أن هذه الحرب كانت عبثية، والدليل على ذلك عنوان القصيدة، فهو كأنما يريد القول أن هذه الحرب كانت حرب أخي.. لذا فقد خسر حياته بسببها. بينما رجع الآخرون إلى حياتهم الطبيعية لأنها لم تكن حربهم، وهذه سخرية مريرة يمررها الشاعر حتى على رقباء الطبع في تلك الحقبة الصعبة والقاسية من حياة العراق”(1).

قصيدةُ “حرب أخي” مرثيةٌ عميقةٌ تحمِلُ قارئَها في رحلةٍ حِسِّيةٍ عبرَ أروقةِ الذاكرةِ وما خلَّفتْهُ الحربُ من فقدٍ وأثرٍ مدمِّرٍ على النفسِ؛ من خلال عددٍ قليلٍ من الصورِ المرهقةِ، لتجسيدِ حزنِ الأخِ العميقِ على رحيلِ شقيقهِ، ورغمَ انتهاءِ الحربِ بمعناها المادّي، إلّّا أنَّ آثارها العاطفية ظلَّتْ حيَّةً ومحفورةً في الحقولِ الصامتة، تَحتَ الغطاءِ الذي تتدثَّرُ بهِ الأمَّهات، وفي الجسد المشوَّهِ للشاعِر، وحتَّى في كلماتِ التذكُّر ذاتها.

وتفرُّد القصيدة يعزى إلى تجاوزِها للانتماءاتِ السياسيَّةِ أو الوطنيَّة، فهي صرخةٌ يتردَّدُ صداها بينَ مختلفِ جدران الثقافات، من حيث تناولها للصدمةِ التي يخلِّفُها العنفُ وقداسةُ الذكرى التي تَحملُها الأرواحُ، والخرابُ الهادئُ الذي يَلي زمنَ البطولاتِ المزعومة. لم تتوقَّفِ القصيدةُ عندَ فكرةِ الاحتجاجِ على الحربِ واستنكارِ مآلاتِها فحسبْ، وإنَّما تتعمَّقُ في التأمُّلِ الفلسفيِّ حولَ الأثرِ الذي يتركهُ العنفُ في الحياة من ذكرياتٍ؛ وصولًا إلى الطريقةِ التي يُفهَم بِها الموتُ نفسه.

تُستهلُّ القصيدةُ بمطلعٍ يحملُ قدرًا من المفارقةِ: “قم أخي، لقد انتهت الحرب”، وذلك يمنحُ النصَّ طابعًا منَ السخريةِ والتهكُّمِ الموجِع،  فعلى الرغم من أنَّ الحربَ قد تكونُ “انتهتْ” وفقًا لتعريفها الجيوسياسي، إلَّا أنَّها تبقى نابضةً في الذاكرةِ وفي بقايا أجسادِ الموتى. إنَّ الدعوةَ للنهوضِ هنا ليستْ أملًا صادقًا بقدْرِ ما هيَ صيحةٌ يائِسةٌ، تُعبِّرُ عن حالةٍ من عدمِ التصديقِ، العجزِ، والثِّقَلِ الذي يَحمِلُهُ غيابُ الأخِ في اللحظةِ الراهنة. تظهرُ الحربُ في هذا السياقِ ليسَ كحدَثٍ محدودٍ زمنيًّا، بل كظاهرةٍ تمتدُّ آثارها إلى ما بعدَ نهايتِها المفترضةِ، تتخلل زمن السلام، والأرض، وتعبث بألعاب الطفولة وأحلامها، لتترك وراءها تشوهات لا سبيل إلى تجاهلها.

فيما تحمل عبارة “لقد أخذوا دبابتك إلى مصهر الحديد” دلالة عميقة على تجريدِ البطولة من طابعِها الشخصيِّ، كونَ حياةِ الجندي، رغم ما تحمله من تقدير، تُختزل في النهاية إلى مجرد حطام معدني ، بينما توحي جملة “لكنَّ بندقيتك ما زالت على الجبل”، برمزية تشير إلى التخلي عن المهمة أو الواجب لم يكتمل، وربما تعكس رفض الجبل للعنف الذي يولِّده البشر. ومع ذلك، يبقى هذا التخلي ذاته مرتبطًا بجانب من جوانب استشهاد الأخ، ما يعمق المعاني المرتبطة بالتضحية والمفارقة الإنسانية.

الطبيعة في القصيدةِ لا تبدو سلبيَّةً أو مُرمَّمة؛ إنَّها مجروحةٌ ومتواطئة، “وها قد أتت الرمال على بسالتك أخيرًا، الفلّاح يزرع حقله الذي سقطت فيه”، تُوحي بدفن الجسد والمُثلِ العليا من خلال توظيف الرمال، التي ترمز تقليديًا إلى الزمن والزوال، فالبطولة هنا تبتلع نفسها، وتحذو الأشجار حذوها “لأن الأشجار التي زرعتَها أنتَ ماتتْ أيضًا”، كدلالة على المحو الشامل الذي اقترفته الحرب بحق المخلوقات.

لعلَّ أكثر أجزاء القصيدة تأثيرًا يكمن في التباين بين الماضي الذي مزَّقتْه الحربُ وحاضر ما بعدَ الحرب، فالأطفال يلعبون الآنَ بما كانَ في السابقِ أدواتِ موت:

“والكرات التي كنت تراها من نارٍ ومعدن،

بردت،

وهاهم يتقاذفونها بين أقدامهم”.

هذا التحول من الأسلحة إلى الألعاب جميل ومُرعب في آنٍ واحد، فهو يمثل السلام والصمود من جهةٍ، ومن جهة أخرى، يُقلل من شأن وحشيةِ الحرب، مُختزلًا إيِّاها إلى جماليَّاتٍ ناشزةٍ، يكسرُ نشازَها المقطعُ الذي يقولُ فيهِ” إلَّا الكرة التي سقطتَ قربها تلكَ التي أحالت جسدك رفيفًا”، في توصيف شعري للموت، مستعيرًا بذلك وظيفة الأجنحة في وصف عروج الروح إلى السماء، بينما تمثُلُ الأمُّ في مشهد الموت أسوةً ببقية الثواكل، متمسكةً بذكرياتِ وأساطيرِ ابنها: “ويطربُها كثيرًا أنَّهم لم يَجدوا حذاءً على مقاسِك”.

افتخارًا بتفرُّدِ ولدها، وربما بالاستثناءِ الإلهي في أن يكون الشهيد -حرفيًّا ومجازيًّا– أكبرَ من العالم، بينما يعاد تصوير التأقلم الذي تلوذ به الأمهات الملتاعات في السؤال عن الشهيد كما لو كان على قيد الحياة: “كانت تسألني على أيِّ جنبيك كنت تنام، أوحشني أن أقول لها إنك لم تنم منذ أعوام سبعة”، حيث يعبِّر هذا السؤال وإجابته المضمرة عن الغياب الجسدي والسلام المبدد الذي يحرم منه الأحياء والأموات على حدٍّ سواء.

نبرةُ القصيدةِ رثائيَّةٌ، رقيقةٌ، مريرةٌ، وتأمُّليَّةٌ، تحملُ أصداءً من التراث الشعري العربي، لا سيَّما في تكرارها، واستحضارها للموتى، ومزجها بين الصور الطبيعية والجسد والعاطفة، فلا توجد فيها قافية صارمة أو بنية وزنية، ما يعكس تشتت الحالة العاطفية للمتحدث،  وبدت سلسةً، تُشبِهُ اعترافًا عفويًّا، لكنّها متجذِّرةٌ في صور دقيقة وقاطعة.

يمكن قراءة هذه القصيدة في سياق أي صراع حديث -شرق أوسطي، أو أوروبي شرقي، أو أفريقي- لكن قوتها تكمن في عالميَّتِها، فهي لا تُسمّي الحربَ، أو العدوَّ، أو الأيديولوجيا، وهذا الغياب يُتيحُ للقصيدة أن تكونَ بمثابةِ لوحةٍ لتاريخِ القرّاءِ وصدماتِهم.

حربُ أخي” تأمُّلٌ عميقٌ في بقايا العنفِ وثمنِ التضحياتِ، وما يجعلُ هذهِ القصيدةَ استثنائيَّةً هو دمجُها بينَ الشخصيِّ والسياسيِّ والغنائيِّ، فهيَ لا تُمجِّدُ الاستشهادَ، لكنَّها لا تَذمُّهُ، بل تسعى إلى إضفاءِ طابعٍ إنسانيٍّ على الخسارةِ في عصرٍ غالبًا ما يُغفِل هويَّة الخاسر.

___________________

(1) د.حذام بدر حسني، (سيرة الحرب في الشعر العراقي المعاصر).

0
    0
    سلة المشتريات
    السلة فارغة