إطلالة على المشهد الشعري في سلطنة عمان | أ.د أحمد الصغيــر

أ.د أحمد الصغير

ناقد وأكاديمي مصري

تقف قصيدة الحداثة في سلطنة عُمَان موقفًا لافتًا، حيث أغنى الشعراء العمانيون الساحة الشعرية العربية داخل عمان، وخارجها، بقصائدهم الحداثية التي تحفر بقوة مكانًا خاصًّا لها بين أنواع شعرية أخرى. جاءت هذه القراءة مهتمة بالمشهد الشعري العماني من خلال مجموعة من الشعراء (سيف الرحبي، سماء عيسى، هلال الحجري، حسن المطروشي)، لما يمثلونه من قدرة جمالية ومعرفية في البناء الشعري الحديث.

أعتقدُ أن قصيدة الحداثة في عمان أكثر عمقًا وإيغالًا نحو الذات من جهة، والواقع من جهة أخرى، فهي لم تحفل بالرومانسية بشكل واسع، لكن كان جُلُّ همِّها الجنوح نحو الذات بأشكالها المختلفة. ومن ثم فإنها تمثِّل حالة شعرية ذاتية خاصة، ولونًا من ألوان الشعر الذاتي والمعرفي في حركة الحداثة العربية، وفي ظني أن هذا اللون له سِماته ومعاييره الجمالية التي ينبغي مقاربتها مقاربة جوَّانية، وأن نتعايش مع هذه النصوص بطريقة مغامرة معها، هذه المغامرة التي تتطلب النظر في جواهر الأشياء وبواطنها، لا إلى أنماطها وأشكالها الخارجية؛ فقصيدة الحداثة/قصيدة النثر، هي ــأيضًاــ عالم بلا حدود.. لا تقبل الحواجز أو المعايير المسبقة التي ألِفَها النقاد التقليديون، فالكتابة في نوع أدبى جديد، هي نوع من المغامرة والتمرد على السائد والمألوف، وكسر حاجز التبعية، بل هي التجاوز الفعلي لحركات الواقع، بل هي رصد دقيق لعوالم شعرية واسعة، تحتاج إلى من يطفو بها على سطح الكتابة.

  • الموروث الشعري:

  اتكأ الشاعر العماني الحديث على الموروث الديني الذي يعتمد على مجموعة من الأنساق الثقافية التي أسهمت في تكوُّنِه، ومن ثم فقد لاحظنا أن القصيدة العمانية الحديثة اعتمدت على توظيف التراث الديني بأشكاله المتعددة، ولذلك نلاحظ النسق القصصي في توظيف النص القرآني، وتجلى ذلك في استلهام قصة النبي يوسف عليه السلام في شعر حسن المطروشي، يقول:

    وما كان أصْغَرَ إخْوَتِهِ،
    كَيْ يُدَلِّلَهُ الأَبُ،
    ما كان أَجْمَلَهُمْ،
    كَيْ تُشَبِّهَهُ أُمُّهُ بالْغَزالْ،
    وما افْتَقَدوهُ مِنَ البيتِ…

يتجلى في المقطع السابق توظيف الشاعر لقصة النبي يوسف عليه السلام، من خلال اعتماده على نسق المحبة الأبوية في الموروث الديني، حيث تذكر الروايات محبة النبي يعقوب لابنه يوسف مما أدى إلى لجوء إخوة يوسف إلى المكر به وإلقائه في غيابات الجب، للتخلص منه، وهذا النسق يستدعي نسقًا نقيضًا مضمرًا وهو نسق الكراهية التي تملكت نفوس الإخوة، ففعل التدليل الذي يشير إليه النص الشعري، بمثابة الموروث الديني الذي اتخذه المطروشي للتعبير عن جمال يوسف الذي كان سببًا فيما حدث له، بل يكشف النص الشعري عن دلالة التدليل الثقافي في الخبر الذي جاء في النص عن حديث يعقوب ليوسف من محبة ودلال، ولم يكن هو الأصغر، مما يمنح المتلقي سؤالًا لماذا يوسف؟ وكأن يعقوب النبي يدرك أن يوسف هو النبي القادم، وأنه سيكون له شأن كبير في المستقبل.

تتجلى أصوات الشعراء القدامى في القصيدة العمانية الحديثة، لما يمثلونه من أثر واضح في بنية الشعر العربي من المحيط إلى الخليج، فقد انفتحت القصيدة محتفيةً بأصوات شعرية ذات أثر بالغ في مسيرة الشعر العربي، حيث راح شعراء الحداثة العمانية يستلهمون نصوص أبي الطيب المتنبي، وأبي نواس، والبحتري، والشنفرى، وغيرهم من الشعراء، ولكن يمكننا أن نطرح السؤال الآتي: لماذا يلجأ الشاعر العماني تحديدًا إلى استدعاء قصيدة قديمة في قصيدته الحديثة؟  ويمكننا أن نزعم أن القصيدة الحديثة هي امتداد طبيعي تاريخي، لما قدمته القصيدة العربية القديمة، بل خرجت من رحمها الشعري القديم الذي تتوالد عنه الأجيال، لتمتح من نبعها، فيقول سيف الرحبي مستدعيًا صوت المتنبي: 

لا أريد أن أكذِّب أحدًا

أو أصدق شيئًا

سأنام ملء جفوني

عن شوارد الحروب والجوارح

سأنزع الخناجر المسمومة من جسدي

سأصفِّي روحي من دويِّ الذكريات

لتحلِّق خارج الأزمنة والمُدن،

خفيفةً، مرحةً..

كروح بحَّارٍ تجاوزَ خطر العاصفةِ!

    تتبدى صورة المتنبي بشكل مكتنز في قصيدة سيف الرحبي من خلال قوله: سأنام ملء جفوني عن شوارد الحروب والجوارح، فاستبدل الشعر بالحرب واستبدل الناس بالجوارح، حيث يقول: المتنبي:

أنام ملء جفوني عن شواردها

ويسهر الخلق جرَّاها ويختصمُ

فمن الملاحظ استعادة المتنبي المغامر الثائر الذي يضرب في كل فجٍّ بسهم، ليرسم عراك اللغويين حول قصيدة المتنبي وشواردها، بينما جاء الأمر مناقضًا عند سيف الرحبي، فالقصيدة تشير إلى الاغتراب الذاتي عن الحياة، على الرغم من الحروب والجوارح والموت والقتل المباشر، وانتهاك الحريات، والمعارك الصغيرة بين الشخوص في مجتمعنا العربي، وكأن الشوارد هي ما يشغل عقل الشاعر عبر الزمان والمكان. فيلتقي المتنبي وسيف الرحبي في الخروج إلى حياة البراح وتصفية القلب من ذكريات الماضي، لتلقى الذات في الكون الأكبر وتفاصيل الزمن والمدن، حيث تبحث الروح عن مرح المغامر عبر البحار، فقد تجاوز الشاعر العاصفة وانتهت الشوارد في نفسه لكنها لن تنتهي في الحياة. 

 يقول الشاعر سماء عيسى مستدعيًا موقف المتنبي من المنفى الداخلي:

   ظلِّلي 
   يا نجومَ المنفى
   رفاتَ أنبيائنا
   ظلِّلينا
!

تبدو صورة المنفى الداخلي واضحة في شعر سماء عيسى، حيث يمثل اغترابًا ذاتيًا في داخل الوطن، حيث تعيش الذات في عالم لا يتناسب مع ما تحلم به، بل كل ما يشغلها هو أن تشعر بحركية الروح في الحياة ومرحها، لكنها تجد نفسها مكبَّلةً بالغياب والألم والقيود، فالشاعر سماء عيسى يتناص فنيًّا مع قول أبي الطيب المتنبي:

ما مقامي بأرض نخلة إلَّا

كمقامِ المسيح بين اليهودِ
أنا في أمَّةٍ تداركها اللَّــه

غريبٌ كصالحٍ في ثَمودِ!

لا شك أن إحساس الذات الشاعرة بالغربة والنفي الداخلي والتهميش يسهم في انزوائها وموتها موتًا غير مباشر في الحقيقة، وكأنها تموت في وطنها جريحة، فتلم جراحاتها الذاتية، فأصبح المنفى هو الروح التي تميل إلى الذات لتضفي عليها ملامحها في المنفى، فتخاطب الذات نجوم المنفى كي تظللها وتحنو عليها، فتصبح النجوم نسقًا ثقافيًا ظاهرًا في بنية النص الشعري، لما تحمله من علامات على الحضور والغياب في آن واحد، ومن ثم تقف الذات الشاعرة في ظل النجوم مستمدةً منها نسيج الحياة.

يقول الشاعر هلال الحجري، مستدعيًا صوت الشنفرى:

عِمْ صباحًا أيها الشنفرى

أيها الصعلوك النبيل

يا صديقَ الذئابِ وبناتِ آوى

سيد القفار في الربع الخالي

رسول الرؤيا ونبي الثورة!

   اتكأ الشاعر هلال الحجري في القصيدة السابقة على استدعاء سيرة الشنفرى أمير شعراء الصعاليك في التراث العربي، حيث يستمد من صوته معالم الثورة على المجتمع والرفض والتمرد على العادات والتقاليد، وبناء مركزية للمهمَّشين الذين يحاولون الحفر وراء هدم تقاليد وبناء أخرى، فقد يعتمد النص الشعري عند الحجري على أنساق ثقافية مضمرة ومعلنة من خلال حديثه عن (الشنفرى، الربع الخالي، بنات آوى، نبي الثورة، رسول الرؤيا) فتبدو لي هذه النسقية محمولة بشحنات تراثية وثقافية متنوعة فتبدو صورة الشنفرى، وما ترسمه عنه كتب الأخبار مع أصدقائه الصعاليك، تأبط شرا، وعروة بن الورد وغيرهم، وأنهم كانوا يقطعون الطرق في صحراء الربع الخالي ويأخذون من الأغنياء من أجل مساعدة الفقراء، كما حفلت القصيدة العربية الحديثة باستلهام أصوات الصعاليك في لحظات الثورة والتمرد، وانتشار الضيق وشظف العيش، وغياب العدالة الإنسانية. فقصيدة هلال الحجري تحمل رؤية اجتماعية شديدة الاقتراب من واقعنا العربي، حيث يأكل القوي الضعيف، وينتصر الحق على الباطل، مما أدى إلى بروز شعراء الصعاليك في متن القصيدة الحديثة بوصفهم رمزًا ضد النظام الاجتماعي البائس في الثقافة العربية.

  • الموروث الشعبي:

  تتجلى أصوات الموروث الشعبي في القصيدة العمانية الحديثة، لما يمثله التراث الشعبي من حضور لافت في بنية القصيدة الحديثة ومن ثم نلاحظ اعتماد الشاعر على الحكاية الشعبية من خلال الحديث عن القمر والنجوم والأساطير والخرافات الشعبية وغيرها، حيث صارت جزءًا من عناصر البناء الفني في القصيدة العربية الحديثة، حيث يمثل الموروث الشعبي المرجعية الأولى للثقافة الشعبية التي اتكأ عليها النقاد والباحثون في صياغة المفاهيم العلمية في شتى المجالات الإنسانية، وقد تجلَّى المورث  الشعبي من خلال نسق الأسطورة الشعبية في شعر سماء عيسى، فيقول:

القمر أكثر صفاءً كحزن الأنبياء
وروحي التي حملها اللّه
على طيفٍ من النار
هل تعيدها إليَّ
عصافير البحر
أسمعها تناديني
كأرملة ذوى الدهر بها في الهجير!

     يرتكز الشاعر سماء عيسى على بنية النسق الثقافي من خلال حضور الأسطورة الشعبية للقمر الذي يضيء الكون ليلًا، ففي قول الذات الشعبية وجهة كالبدر والقمر والطيف، وكأن القمر هو المحرك الأساس للأسطورة، فيمثل القمر في صفائه حزنًا كحزن الأنبياء والمرسلين الحزانى والمكلومين، حيث يصور الشاعر القمر بالروح التي حملها الله في جسد العاشق، وقد ربط بين القمر وعصافير البحر الهائمة التي تبحث عن ملجأ ومأوى، يحميها من هجير الصحراء وجبروتها وقسوتها التي تكشف عن صخبها في أوج الليل والنهار، ثم يستند على نسق المرأة التي جاءت في صورة أرملة تقاسي من جراء هزائم الزمن والنكبات، يبدو لنا أن الشاعر أضاء الروح باستدعائه من موروثنا الشعبي صورة القمر والعلائق الميثيولوجية بينه وبين المرأة والروح والأنبياء والموت.

الشاعر سيف الرحبي

 

الشاعر سماء عيسى

 

الشاعر هلال الحجري

 

الشاعر حسن المطروشي

0
    0
    سلة المشتريات
    السلة فارغة