
د. مراد القادري
شاعر وباحث، رئيس بيت الشعر في المغرب.
مُنذُ فترةٍ غير قصيرة، شهِد الوسطُ الثقافي والأدبي العربي حَركةً لافتةً للنّظر، حتى لَيُمْكنُ أنْ نطلقَ عليها صِفة “الظاهِرة”، لأنها لم تَصْدُر عن فردٍ واحد، بل اقتفَى أثرَها عَددٌ من الأفراد، الذين اعتبرُوها سلوكًا عاديًا وضروريًا لبناءِ وضعِهم الأدبي وترتيبِ علاقتهم بذواتهم وبالآخر. أقصدُ بذلك ظاهرة ترحال الشُّعراء وهجرتهم الفرديّة والجماعيّة نحو الرواية.
تفاوتَتِ الرّدُود حول هذه الظاهرة، على أنَّ أغلبيتها نَحَت نحو استِـهجانـها، حيثُ اعتبرَتـها دليلاً وشهادةً تصدُرُ عن الشّعراء أنفسهم بانعِدام اليقين بالشّعروفُقْدانـهم الثّقة في ضرُورته وجَدْواه.
ما سببُ هذه الهجرة؟ أهو ضِيقُ الشّعراء بالبيت الأوّل؛ البيت الذي خوَّل للعرب صِفة أمّة الشعر، البيت الذي ألِفَوا داخلَه ترتيبَ أبياتِ القصيد، ليصير ضاجًّا بالشّدْوِ والصّمت؟ أم أنّ الأمر لا يعدُو أنْ يكون رغبةً من الشّعراء في ارتياد أراضٍ جديدة، وانتحالِ هويّة نصّيّة مُغايرة، ومُصافحة ممارسةٍ إبداعية مختلفة قد تكونُ أقْدرَ على التّعبير عمّا فشل فيه الشّعر؟
كيفما كان الجواب، فنحنُ أمام ظاهرةٍ لا يمكنُ نُكرانُها أو تجاهُلها، تعكسُ تراتبيةً يتخيّلُها البعضُ بين الشِّعر والرّواية، كأنّ بين الاثكة الشّعر، مُولِّين وجُوهَهم نحو الرّواية ومباهِـجِها الماديّة.
يُديمُ هذا الصّنفُ من الشُّعراء التفكير في كيف يـُمكنُه أنْ يوظّفَ مُكتسباتِه الشِّعرية في صوْغٍ روائيٍّ وحِكائيٍّ، سواءٌ بالاغْـتـرافِ من سيرتِه الذاتية، أو بِاسترجاعِ يومياتِه ومُشاهداته الحياتيّة أو عبر توْظيفِ عناصر مقرُوئه المختلفة. المهمّ أنْ ينتسبَ إلى مملكة الرّواية، سيِّدة المقامات الأدبية. والأهمُّ هو أنْ تنجحَ روايتُه في بلُوغ اللائحة الطويلة أو القصيرة أو “المتوسّطة” لأيّ جائزة عربية أو عالمية، لتتوالى عقِب ذلك الحِوارات الصحفيّة، والكِتابات النّقدية والدّعوات لمعارض الكُتب شرقا وغربا.
من جهة أخرى، ثمّة شعراء عبروا من الشعر نحو الرواية دُون قرارٍ مُسبق، وبلا ترتيب سالف. عبورٌ لا واعٍ ومُنفلتٌ من التّصنيف، ومتملِّصٌ حتى من صفة الترحال، لأنّ هذا العبور يكفّ عن أن يكون هجرةً، مادام إقامةً في الشِّعر بصيغةٍ مُغايرة. بمـُوجِب هذا العبور، “انتقل” أصحابُه من الحالة الشّعرية إلى الحالة الرّوائية استجابةً لدعوةِ الكتابة ولا شيء غير الكـتابة، من دون أن يُغادروا مناطقهم الشعريّة. شُعراء غيرُ عابئين بالأسْلاك الشّائكة التي يتصوّرُها البعضُ قائمةً بين الأجناس الأدبية، فالكِتابة عندهم نـهـرٌ واحد، تتفرّعُ مجاريه وسواقيه، فيما يظلُّ منبعُه ومصبُّه واحدًا: إنّه الإبداعُ في اللحظة التي ينتصرُ فيها الأدبُ خارجَ منطقَ الأجناس. ضِمن هذه الخانة، يندرجُ عددٌ من الشُّعراء الذين استمرُّوا في ارتباطٍ عميقٍ بالشِّعر في كتابتهم السردية، مُحتفِظين برُوح الشّاعر داخلهم، مُلتصِقين في سردهم بالشّعْر، ورُوح الشّعْر، مُؤمنين بوحدة الكتابة، مُدركين، في ذات الوقت، للحدود الفاصلة بين الأجناس الأدبية، مُستفيدين من خِبرتهم في كِـتابة الشّعر في تقديم نصٍّ روائيّ له خصوصية جمالية وفنيّة. فالكتابة، عِند هذا الفريق، واحدةٌ، فيما التّعبيرات الفنيّة مُتنوّعة ومتباينة.
بهذا المعنى، تكونُ ظاهرة “تِرحال الشّعراء” متعدّدةَ الأسباب، ولا يمكنُ فهمُها إلا في ظلّ السياقات الثقافية والتدافُع الاجتماعي الذي يؤطّر المناخَ الأدبي في منطقتنا العربية، وباستحضار تبايُن النوايا التي تقف وراءها: نوايا بنفَسٍ جماليّ، وأخرى بنفَسٍ برغماتي. ولأنه لا يمكنُ لنا أنْ نُحاسبَ النوايا أو نُحاكمها، فإنّ مُحصّلة الكلام هو أنّ الحقل الأدبي العربي استفاد كثيرا من ظاهرنين خصومةً أو حربا، مالت كفّتـُها لصالح الرّواية. والحال أنّ نظرةً عابرة إلى حياتِنا الثقافية العربية تكفي لنكتشفَ أنَّ جَذْوَة الشعر ما زالت مُلتهبة، يصْعُبُ إخمادُها أو النَّيْلُ من شُعلتها. فعِلاوةً على وَفْرة الإنتاج الشّعري الذي تطالعُنا به يوميًّا دُور النّشر والمواقع الإليكترونية، ثمة ديناميّة ملحوظة نشهدُها، هنا وهناك، تتجسّدُ في انتظامِ مهرجانات الشّعر، وتواتُرِ الأماسي الشعرية بمختلف لغاتِ الكِتابة من فصيح ونبطي وشعبي، فضلًا عن ظهُورِ أصواتٍ شِعرية جديدة تتلمّسُ الانتسابَ إلى عالم القوْل المدهِش، لتُجدّدَ للشّعر رُوحَه وأنفاسَه وتُواصِلَ معه رحلة الحياة والإبداع.
يبدُو لي أنّ ظاهرة “الشُّعراء الرُّحل” يجبُ أنْ ننظُر إليها تبعًا للخلفيات والنّوايا التي تُحركّ أصحابَها نحو خَوْضِ مُغامرة التِّرحال. فمن جهة، ثمة شُعراء هاجَروا من الشّعر إلى الرّواية عن سبْقِ إصرارٍ وترصّدٍ، بعد أنْ أغرتهم المكاسبُ التي باتت تحفُّ بالرّواية: لوائح طويلة، لوائح قصيرة، جوائز عريضة، مُواكبة نقدية وإعلامية، حقوق تأليف، عقود ترجمة، طلبيات معارض الكتُب، ارتفاع المبيعات…. كلّ ذلك حَفّز هؤلاء الشُّعراء على التّرحال من مملة عبور الشعراء نحو الكتابة السرديّة. عبورٌ يظلُّ حالة صحيّةً ومرغوبًا فيها، لأنها حقّقت التفاعل بين الأجناس الأدبية، وخاصّة بين الجنسين الأدبيين الأكثر استقطابا للكتابة: الشّعر والرواية، وهو ما يمكن رصدُه من خلال وجودِ روح الشّعر وصنعة الشاعر في عدد من الروايات العربية، حتى لتبدو كأنها مولودةٌ من رحم الشعر.
* شاعر وباحث.
رئيس بيت الشعر في المغرب.