
أ.د. صلوح السريحي
أستاذ الأدب والنقد بجامعة الملك عبد العزيز
عضو مؤسس مجلس أمناء أكاديمية الشعر العربي
الشعر فن وعلم وصناعة وإعلام وإعلان. كما أنه وعاء المعرفة والحكمة والفلسفة على الرغم ما بينهما من جدلية واختلاف، فهو فن غنائي يتسامر عليه العرب يجمع بين المتعة والفائدة، ينشدونه في أفراحهم واتراحهم، وهو ديوانهم الذي يحمل لغتهم، ويسجل أيامهم ووقائعهم حتى صار سجلًا معرفيًا لهم فهو كما قال أبو عمرو بن العلاء في حديثه عن العرب والشعر:” يقيد مآثرهم، ويُفخّم شأنهم، ويُهوّل على عدوهم ومن غزاهم، ويُهيِّب من فرسانهم، ويُخوّف من كثرة عددهم، ويهابهم شاعر غيرهم” وهو مصدرٌ من مصادر التاريخ عند مؤرخي العرب، وشاهدٌ عند النحاة وأهل اللغة والمفسرين للقرآن الكريم. هو علمٌ كما قال ابن الخطاب ” كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه” وهو ديوان العرب كما قال ابن عباس “الشعر ديوان العرب فإذا خفي علينا الحرف في القرآن الذي أنزله الله بلغة العرب رجعنا إلى ديوانها فالتمسنا معرفة ذلك”. كما أن للشعر دور أخلاقي تربوي فهو الذي يسن المكارم ويدل على المحامد؛ لذا قال أبو بكر “علموا أولادكم الشعر فإنه يُعلمهم مكارم الأخلاق” لذا أوصى به عمر فقال: ” تحفظوا الأشعار، وطالعوا الأخبار فإن الشعر يدعوا إلى مكارم الأخلاق ويُعلّم محاسن الأعمال ويبعث على جليل الفعال ويفتق الفطنة ويشحذ القريحة وينهي عن الأخلاق الدنيئة ويزجر عن مواقعة الريب ويحضّ على معالي الرتب”وبهذا كان للشعر سلطان وسطوة على النفوس تربيةً وتهذيبًا واصلاحًا وتقويمًا،
وعلى الرغم من ارتباط الشعر بالعاطفة إلا أنه أرتبط أيضًا بالكون وأسالته وقضاياه فكان وعاءً للحكمة والفلسفة والمنطق على رغم ما بينهما من جدلية واختلاف لاستناد الأول منهما -الشعر- على العاطفة، واستناد الثاني- الفلسفة- على العقل إلا أن كلا منهما استوعب الأخر فَوجِد شعراء فلاسفة حكماء، كما وجد فلاسفة شعراء، وبذلك التحم الشعر بالحكمة والفلسفة وأرتبط بالكون وأسالته كما أرتبط بالإنسان وحضوره وبالإنسان وعواطفه أي أرتبط بالعاطفة والعقل معًا، فكان لنا شعر الفارابي وابن سينا وابن رشد وزهير والمتنبي والمعري الذي كتبوا فلسفتهم عن الحياة والكون في قوالب شعرية تحكي نظرة من الدهشة والشعور بالغربة والحيرة أمام التساؤلات التي تغيب عنها الإجابة حتى تمثلت لنا من خلال إبداعهم فلسفة شعرية مدهشة
ولأهمية الشعر وقيمته فقد بقي خالدًا في ذاته ومخلدًا للمحامد والمآثر فهو الحامل لقافية مثل حد السنان:
فَإِنِّي لذُو مرّة مرّة إِذا ركبت حَالَة حَالهَا
أقدم بالزجر قبل الْوَعيد لتنهى الْقَبَائِل جهالها
وقافية مثل حد السنان تبقى وَيذْهب من قَالَهَا
تجودت فِي مجْلِس وَاحِد قراها وَتِسْعين أَمْثَالهَا
ولكن من قالها لم يذهب وإنما خلده شعره وإنشاده وتغنيه، وخلدته قافيته فكان لسانها الحامل لتراثنا والحافظ لهويتنا ولغتنا وثقافتنا وتاريخنا، نجد هذا اللسان عند أمرئ القيس وطرفة والأعشى والمتنبي وأبي تمام والبحتري، كما نجده في عصرنا الحاضر عند حافظ إبراهيم وأحمد شوقي ونزار قباني وبدر شاكر السياب وغازي القصيبي والثبيتي والقرطوبي وسيف الرحبي.
وهكذا غدى الشعر وعاء للمعرفة وركيزة تبنى عليها المعرفة، ووسيلة لصناعة المعرفة والوعي بها والتعريف بقيمتها. وبذلك فإن الشعر بحثا عن المعرفة وفي المعرفة، أرتبط بالإنسان وحضوره وحافظ على قيمه وإرثه وهويته.
البيان والتبيين، الجاحظ عثمان بن عمرو، تحقيق وشرح عبد السلام هارون، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الرابعة، ص 76
طبقات فحول الشعراء، لابن سلام الجمحي، قرأه وشرحه محمود محمد شاكر، دار المدني بجدة، 1/24.
الموافقات، الشاطبي: أبو إسحاق إبراهيم بن موسى، تحقيق أبو عبيدة مشهور بن حسن، دار بن عفان، الطبعة الأولى، ت 1417هـ، ج2 ص 88
بتصرّف عن كتاب المظفر العلوي، نضرة الإغريض في نصرة القريض، تحقيق د. فهمي عارف، مجمع اللغة العربية بدمشق 1976م، ص 375.
السابق
شرح ديوان الحماسة لأبي تمام، الخطيب التبريزي: أبو زكريا يحي بن علي، منشورات محمد علي بيضون، دار الكتب العلمية، بيروت، ج1، ص 39