السباحة والغوص (في علاقة الشعر بالسينما) | عبيد عباس

عبيد عباس

شاعر وكاتب مصري

   يقول ألفريد هيتشكوك، المخرج والمنتِج البريطاني الشهير: “إن السينما هي الواقع بعد أن ننزع عنه المُمِلّ”، أي أنها المختلف المدهش من الواقع. ولأنني مؤمِنٌّ أنّ الشعر -مع اتفاقي مع لويس بورخيس في أنه (يُعْرَف ولا يُعرَّف)- هو الكلام الجميل المختلف، فكأنهما؛ أي السينما والشعر، بارتفاعهما عن العاديّ المُتوقَّع، يجتمعان في منطقة خاصة من الجمال المدهش المختلف يمكن أنْ نُسَمِّيها “سينما شعرية” أو “قصيدة سينمائية”.

غير أنني، وأنا أقول هذا الكلام، لا بد أن أضع بين قوسين ملاحظتين مهمتين؛ الأولى أنني لا أعتقد في القول بتداخُل الأجناس، لأن التداخل ذاته من طبيعة أيّ جنس أدبي أو فني، فلا وجود للقصيدة “الخام” التي تخلو تمامًا من السرد أو الصورة أو الدراما، كما لا توجد سينما “خام” خالية تمامًا مما يُمَيِّز القصة أو الشعر أو المسرح؛ وعليه فإن كلامنا عن علاقة الشعر بالسينما أو العكس سيكون في حدود أدوات هذا الفن، الشعر كشعر والسينما كسينما، فلا تخلو السينما من الشعرية ولا يخلو الشعر من الصورة، وكأن كلًّا منهما بالنسبة للآخر كالجبل بالنسبة للوادي، فلا نسمِّي الأرض المنبسطة واديًا من دون وجود جبل مجاور، أو كأن كلًّا منهما يمثل الروح للآخر، ولو جاز لنا أن نُشَبِّه السينما في سيْرِها السردي الطبيعي بالسباحة مع أو ضد الواقع الموضوعي، فإنَّ الشِّعر يُشبه الغَوْصَ فيه، ولذلك فإن السينما الشعرية تكون أعمق في سيرها من السينما في شكلها التقليدي كناقلٍ للواقع.

   الملاحظة الثانية هي أنني عندما أتحدَّثُ عن علاقة الشعر بالسينما، أو العكس، فلا أقصد القصيدة أو الجزء من القصيدة الذي يصْلُح أن يتحوَّلَ إلى سينما، ولا المشهد السينمائي الذي يمكن ترجمتُه شعرًا، ولكنني أقصد هذه المنطقة الجمالية التي تعلو على الكلام والصورة، تعلو لتجمعهما معًا في خلق الدهشة واللذة داخل المُتلقِّي. في هذه المنطقة يرتفع الشعر عن الكلام الخبري، وترتفع الصورة عن مجرد نقل الواقع، لإعطاء دلالات جديدة نابعةٍ من روح الفنان ومخاطبةٍ روح المتلقي، وأقول روحه لا عقله؛ لأنها غير مُتَعلِّقَة بالصواب والخطأ ولا بـ”يجب ولا يجب”، ولكن بالجمال المحض، لينتُجَ عنه -بعد إنتاج اللذة والدهشة وترقية الذوق وهذا هو الأساس- تفجيرُ الأسئلة التي تُحَرِّك الوعي أو تُغَيِّره.

   ونلاحظ أن السينما، من دون وجودها في هذه المنطقة الخاصة الناتجة عن هذا التلاقُح، لا تزيد عن أن تكون مُهَرِّجًا دوره محصور فقط في التسلية والترفيه، كذلك الشعر لا يزيد دوره عن دور  المطرب أو الخطيب، لنؤكِّد أنَّ الفن، أيَّ فن، كما يخلق الوعي ويُرَقِّي الذوق قد يُصْبِح أحد عوامل التغييب والهدم والتدمير.

   كشاعرٍ متذوِّق للسينما أجدُني، رغمًا عني، لا أقرأ الشعر إلا كمُشاهِد سينما، ولا أُشاهِد السينما إلا كقارئ شعر، فلا أستطيع وأنا أقرأ قوْلَ بشَّار بن بُرْد، مثلًا، وهو يصف صوت خروج السهم من القوس: “إذا رزَمَتْ أَنَّتْ وأَنَّ لها الصدى .. أنينَ مريضٍ للمريضِ يُجاوِبُهْ”، إلَّا أنْ أُغْمِضَ عينيَّ لأرى مشهدًا كاملًا لكائنٍ ما يُمَثِّل القوسَ المريضة التي تئِنُّ فيرُدّ عليها الصدى متجسدًا في كائنٍ آخر مريضٍ، بل وأكاد أسمع أنين القوس وأنين صداها.

   كذلك لا أستطيع أن أرى قبضة “قناوي” المُعَلَّقَة في الهواء، في فيلم “باب الحديد” في مشهد الختام بعد أن اختَطَفَ، هو ككائن من عالم الأحلام، “هَنُّومة”/حُلْمَهُ البعيد، بسكِّينه المرتعشة العاجزة عن الفعل، إلَّا أنْ أقرأ هذه الجملة الصامتة التي تصف محاولة هذا الكائن الحالم أو المريض النفسي الفاشلة للدفاع عن حلمه، وأقول «محاولة فاشلة» لأنها نابعة من عالم الحُلْم الهَشّ في مقابل الواقع الموضوعي القويّ الشَّرِس.

   وإذا كان الكلام في القصيدة يستطيع أن ينقل لنا مشهدًا سينمائيًّا كاملًا، فانظر، مثلًا، إلى تلك الصورة البديعة التي يصنعها المتنبي عندما يصف جيش سيف الدولة وهو يطارد جيش عدوِّه، فالجيشُ من فرْطِ سرعته سحابٌ يطير في السماء، غير أنه وهو يمرُّ بالبلاد يمتنع عن الإمطار عند مروره بـ”حِصْن الرَّان”، وهذا الامتناع ليس بُخلًا، ولكن لأنه يكتشف أن هذا الحصن من أملاك سيف الدولة، ولأنَّ مطر السحاب، في هذه الحالة فقط، ليس ماءً ولكنَّه نِقَمٌ، بعد ذلك نرى الأرض -أسفل السحاب- وكأنها انحازت إلى عدوِّه فأصبحت تعدو معه، ولأنها ليس لها نهاية فكذلك السحاب/الجيش ليس له نهاية، ليستمرَّ المتنبي في هذا المشهد السينمائي، مستغِلًّا الجناس التام للفظة “عَلَم”، بمعنى الراية وبمعنى الجبل، فيجعل الأرض وهي تجري أسفل السحاب: إذا مضى منها عَلَمٌ -أيْ جبل- جاء بعده عَلَمٌ آخر. والأمر نفسه مع هذا الجيش الطائر: إذا مضى عَلَمٌ -أيْ راية- منه جاء عَلَمٌ آخر.

يقول المتنبي:

سُحْبٌ تَمُرُّ بِحِصنِ الرَّانِ مُمسِكَةً

وَما بِها البُخْلُ لَوْلا أَنَّها نِقَمُ

جَيشٌ كَأَنَّكَ في أَرضٍ تُطاوِلُهُ

فَالأَرضُ لا أُمَمٌ وَالجَيشُ لا أَمَمُ

إِذا مَضى عَلَمٌ مِنها بَدا عَلَمٌ

وَإِن مَضى عَلَمٌ مِنهُ بَدا عَلَمُ

   أقول إذا كان الكلام، في القصيدة، يستطيع أن ينقل لنا مشهدًا سينمائيًّا كاملًا، فإن المشهد السينمائي كذلك يستطيع أن يقول جملةً شعريةً من دون كلام. انظر، مثلًا، إلى تلك الصورة التي يصنعها المخرج السويدي إنغمار برغمان في فيلمه العظيم “الختم السابع”، والذي يحكي عن فارس صليبي عائد من إحدى الحملات الصليبية، نذر كل حياته للبحث عن الله والحقيقة، يُصَوِّر المشهد مُهرِّجًا ينظر باندهاش وبلاهة إلى أبطال الفيلم فوق الجبل والموت يجرُّهم بحبل طويل كرمز لانشغالهم بتفسير الحياة، لا بإحيائها. فهذا المهرج هو الذي يعيش الحياة ولا يسأل، يندهش من هؤلاء المُعَذَّبين الذين أهدَروا الحياة في البحث عن معناها.

   في تلك المنطقة الخاصة، من اجتماع الشعر بالسينما لخلْق ذلك الكائن الجديد، نرى الجميل المختلف الذي يصنع الدهشة بإلقائه الضوء المفاجئ على “ما يجب” الذي نشعر أننا نفهمه ولا نستطيع التعبير عنه، ليغمسنا في شعورٍ طاغٍ بلذة الجمال والاكتشاف. في فيلم النمساوي مايكل هاينيكي “حب” أو “amour” يقفز المخرج بهذا المنطق الشعري على التعريف المألوف للحب، حيث كلنا يعرف أن كلمة “أحبك” لا تعني أكثر من “أنا أريدك”، “أريدك قريبةً”، “أفديكِ بنفسي” وغيرها، ليقول “أنا أقتلك”…! دون أن تكون دلالة القتل أو الموت مُحمَّلَةً بالكُرْه والغضب، ولكن بالرحمة والشفقة والحب الشديد الذي يجعل ذلك الكهل المُتقاعِد الذي يعيش مع زوجته المصابة بسكتة دماغية، والتي -بعد أن فقد كل السبل إلى تخفيف الألم عنها- لا يجد أمامه سوى أن يقتلها، نعم يقتلها ليرحمها من العذاب، عذاب الحياة، في هذا الفيلم الصورة وحدها هي التي تتكلَّم، بل لا توجد موسيقى تصويرية. الفيلم عبارة عن كاميرا موجودة في شقة العجوزين ترصد إيقاع حياتهما الثابت المُمِلّ، وكأن المخرج عامدًا أجلسنا داخل هذه الشقة لنحمل مشاعر البطل نفسها، حيث لا كلام ولا حلول، لا شيء سوى تلك الجملة المشهدية الطويلة الصامتة التي تنتهي بذلك الانحراف الفني غير المتوقع ليتحوَّل العاديّ إلى شِعريّ عندما نفهم -من غير كلام- أنَّ القتل يمكن أن يكون مرادفًا للحب؛ وأن البقاء حيًّا، للبطل، في هذه الحياة الخالية من الحبيب هي أكبر تضحية من أجل الآخر، وأن الموت، ما دام أصبح المرادف الوحيد للشفاء من الألم، فهو الهدية التي نقدمها لمن نحبهم.

   وختامًا .. ربما لأنني شاعر، لا أنظر إلى الشعر كنوع أدبيٍّ أو فنيِّ مجاوِرٍ للأنواع الأخرى، ولكن أنظر إليه -وكلامي عن الشعر في جوهره لا في صورته الكلامية، بمعنى الشعري الذي هو نقيض العلمي لا المنظوم الذي هو نقيض المنثور- على أنه أبو الفنون، أو هو غاية أعلى لكل الفنون، يتفرَّع، لا أقول في الفنون الرفيعة كلها، بل في كل شيء يُجَسِّد وعي الإنسان الجمالي بالعالم.