“ابن نوح…” بين أمل دنقل وعارف الساعدي | د. محمود فرغلي

د. محمود فرغلي

شاعر وناقد مصري

     من خصائص القصيدة الحداثية أنها تتعالى على الحدث وتاريخيته، للنجاة من أسْر اللحظة المقيدة للزمان والمكان، فالحدث عرضة دائمًا للتلاشي، إنَّ ما يصدر عن الإنسان من أفعال وأحداث هو دائمًا في حالة تلاشٍ مستمرة، تتفلت مع الزمن، لكنه إمكانية شعرية قائمة من خلال اللفظي، “وهو أمر تفسره الترابطات الممكنة بين ما يتم من خلال الحدث (السلوك الفعلي للكائنات) وما يلتقطه اللفظي ويخزنه (ما يصبح معنى في الكلمات التي تصف وتلتقط التحولات). إن الأول مادة تتم في اللحظة المرئية من الزمن (إنه يصنف الوجود العرضي الذي يختفي باختفاء لحظة وقوعه)، أما الثاني فصياغة رمزية تُجرد وتعمم وتؤبد (إنها مفهوم يتم التقاطه خارج الزمن). إن اللغة في هذه الحالة وفي جميع الحالات أيضًا، لا تصف حدثًا فحسب، إنها بالإضافة إلى ذلك تؤول وتؤبد حالة وتضعها للتداول خارج وجهها الحدثي”[1]، هذا الفصل بين الحادثة وتشعيرها، رغم تلاشي الحدث، نجد أنه يمتلك “قدرة التهامية، سرعان ما تحيط بالنص وتتخلله وتنتشر في نسيجه، مانعةً ظهور العناصر التي تشكل هويته الفنية؛ وتساعد عملية التلقي في ترجيح الحدث خارج النص على أية كيفية تمثيلية له داخل النص، فوقع الحدث أشد قوة وأوضح صورة، وأبلغ تعبيرًا على أية صياغة فنية له، أو صلة به”[2]، ولكيلا نرسل الكلام على عواهنه نتوقف أمام قناع “ابن نوح” لدى كل منأمل دنقل وعارف الساعدي، حيث يمثل قلبُ الحدث أو تغييرُ زاوية الرؤية إليه ضرورةً إبداعيةً؛ حتى يتسنَّى بعثُه باعتباره حدثًا نصيًّا جديدًا، له القدرة على التأثير، ومنفتحًا على تداولية مستمرة، ومرتبطًا بسياقات الحياة والواقع، وقد برز ذلك في اختلاف السياق التاريخي للتجربتين، لذلك نجد التناصات تعبر عن قراءة عميقة لحدث الطوفان من قِبَل الشاعرين، وتعدد زوايا الرؤيا، لوضعه في سياق مُتخيَّل، ليس له من الحدث الرئيس إلا شذرات دالة، ومرتكزات مؤسسة لبناء قصيدة حداثية في إطار ثنائية الاتصال والانفصال.

     تظل قصيدة أمل دنقل سردية أولًا.. غنائية ثانيًا، بل إن الغنائية تتلاشى مع تصاعد النسق السردي، والتقسيم المقطعي والتشكيل البصري للقصيدة، وإن حضرت الغنائية من خلال اللحن الرئيسي (جاءَ طوفانُ نُوحْ) الذي يتكرر بصورة جعلت الغنائية ممسكة بتلابيب التجربة، آزرها في ذلك التقفية الموقعة والدالة، بيْدَ أنَّ وقوف الذات الشاعرة على مسافة من النص من خلال عملية التقنع، وبروز صوت الراوي إلى جوارها، ثم تنوع المنظور كل ذلك جعل السمة السردية حاضرة بقوة الدفع المنبثقة من توالي الأحداث وتصاعدها، لنسيرَ في اتجاه ذروة ثم نهاية دالَّة، فيما تقف قصيدة الساعدي في إطار غنائي أولًا ثم سردي ثانيًا، فلم يتوسَّل بأدوات متنوِّعة في صنع درامية قصيدته، ولا شك أن التشكيل البصري يحفز الطبيعة الإنشادية للقصيدة، فيما لا تبرز الدرامية إلا من خلال السرد وتحوُّله وتعدد الأصوات مع أحادية التشكيل البصري الحاكم لبنية الخطاب مع اتساع المعنى لآفاق إنسانية تفصل الشخصيات عن المرجعية الدينية، وهنا نشير إلى أن الشعر السردي بحكم طبيعته هو في الأصل مادة شعرية تبحث عن تقينات سردية تعضدها وتبرز أبعادًا أخرى من شعريتها، لم يخرج القناع في حالة الساعدي عن غنائيته، مع طول المونولوج الاسترجاعي في القصيدة، وتراجع الحدث فيها بفعل سيطرة الشعر بآلياته المختلفة إيقاعًا ووزنًا وقافيةً على الحدث، والحيلولة دون تنامِيه تناميًا تصاعديًّا، وعدم القدرة على إبراز طبيعة الشخصيات إلا من خلال صوت أحادي دون الدخول في حوارية، تعطي للحدث فاعليته لتتوَلَّد منها الدراما بوصفها العنصر المهيمن كنسق تركيبي حاكم للأنساق الأخرى في القصيدة.

 

الضمير السارد

  الضمائر عكس الأعلام في إمكاناتها التأويلية وفاعليتها السردية من خلال فاعليتها اللغوية، ولذلك التفت النقاد إلى أهميتها ودورها في بناء الجنس الأدبي، كل جنس يلتمس مخططًا للضمائر، ويشير جاكوبسون إلى ترابطها الوثيق مع مختلف الأجناس، ومختلف الوظائف، فالشعر الملحَمِي يتمحور حول ضمير الغائب، ويرتبط الشعر الغنائي بضمير المتكلم، والالتفات بين الضمائر يقوم بوظائف فنية عدة وفقًا لكل جنس، ما نلاحظه هو أن الإحالة الضميرية في النصَّين تجمع بين عائدية داخلية (نصية) وعائدية خارجية (تداولية)، وفي هذا خروج عن المسار السردي الاعتيادي بطريقة ما في لحظة ما، بقصد إحداث تنوع أسلوبي وإضفاء بُعْد درامي في بنية النص الكلية، وتاركًا أثرها في القارئ، حيث تأتي تلك التقنية بمثابة نقطة توقف أو صدمة مفاجأة تُحدث خلخلة في الذهن والإدراك البشري، وتستمر الحركة الثنائية بين الداخل والخارج والماضي والحاضر والشاعر والآخر بما يحول عملية التلقي إلى مجاهدة مستمرة لالتقاط مراكز التشابه والاختلاف، بما يقدم من رؤية جديدة تفسيرية وشعرية لماضٍ ما، وهو ما يدفع المتلقي دفعًا إلى اتخاذ موقف بعينه مع أو ضد، في ظل عملية الخلخلة التي يُحدثها التقنُّع.

   كان لأحادية الضمير السارد في نص عارف الساعدي، وهو ضمير المتكلم، دورٌ في إبراز الغنائية الذاتية، بجانب تحقيقه الفاعل لإيهام وجود آخر غير الشاعر، يوجه إليه الحديث، في حين أسهم التماهي الصوتي بين أنا الشاعر السارد في قصيدة أمل دنقل، وأنا القناع وتنوع معطيات السرد في إحداث التوازن الدرامي المطلوب.

   كذلك نلحظ  أن التطابق بين ذات الشاعر والذات الإنسانية واضحٌ في قصيدة الساعدي، حيث ينفتح النص على أزمة الإنسان المعاصر ووقوعه فيما وقع فيه سابقوه، مما يستدعي طوفانًا آخر، فيما تبرز النزعة الإنسانية في قصيدة دنقل دون تخليها عن البعد الوطني، في إطار مفهوم المواطنة الذي يتشكل بمعزل عن المرجعية الدينية، ليأخذ موقف ابن نوح طابعًا سياسيًّا ويتشكل موقفه في إطار رفض التنازل عنه أو بيعه، فيما تآزرت الشخصيات الأخرى في تأكيد الاختلاف قيام العلاقة بين ابن نوح القصيدة الذي يتحول إلى صوت جمعي، ووعي بضرورة المقاومة؛ وابن نوح الديني على التباديل والتوازي بصورة تبرز تنوعهما:

ها هم الحكماءُ يفِرُّون نحو السفينة

المغنون – سائس خيل الأمير- المرابون- قاضي القضاةِ.. ومملوكُه

حاملُ السيف- راقصةُ المعبد (ابتهجت عندما انتشلت شعرها المستعار) جباة الضرائب- مستوردو شاحنات السلاك – عشيق الأميرة في سمتِه الأنثويِّ الصَّبوح – جاء طوفانُ نوحْ

هاهم الجبناءُ يفِرُّون نحو السفينةْ

بينما كنتُ

كانَ شبابُ المدينةْ

يُلْجِمونَ جوادَ المياهِ الجَموحْ[3].

تلعب المفارقة دورها في المقطع السابق، حيث يتداخل صوتان متضادان من خلال كلمة الحكماء التي تحمل وجهة نظر الفارين إلى السفينة لتبرير خضوعهم وفرارهم بالحكمة، فيما يتبدَّل المنظور في نهاية المقطع ومن خلال تبئير “ابن نوح” ذاته حين يصفهم بحقيقتهم الجبناء، كما إنَّ تنوع صنوفهم يلعب دوره في كسر التقاطع بين النص والمتناص الديني، حيث جاء اختيارهم بعناية فائقة لتكشف فساد المجتمع الأخلاقي والمالي في طبقاته العليا، والانتهازيين في كل زمان، كما إنهم مستلهمون من سياقات تاريخية متنوعة عبر التاريخي العربي لكسر عنصر المشابهة، وإبراز خصوصية شخصيات النص، وهذا التنوع يشد من جهة أخرى المتلقي ليضعه بين طرفي معادلة أو أمام مرآتين يعاود النظر بينهما، لإدراك الاختلافات المستمرة، وذلك في إطار عمليات الاستبدال والإحلال.

الزمن السردي

   من حيث الزمن السردي نجد أن الترتيب الزمني يقوم على الاسترجاع، حيث زمن الحكاية سابق على زمن الخطاب، ومع تصاعد صوت الذات في حوارها يشد الزمن إلى الحاضر المأزوم الذي يستدعي طوفانًا جديدًا، وهي النقطة التي يتحول فيها السرد من الغنائية إلى الدرامية. في نص الساعدي يتسع القناع زمنيًا، ويتحول الزمن السردي من لحظة يعكسها الشاعر ببراعة ليؤكد عنصر الاختلاف والمفارقة للمرجعية الدينية، فيستبدل (ونادى نوحٌ ابنه…) بقوله “ناديته”، في إطار عملية قلب مقصودة وفاصلة في تحريك الدلالة في اتجاه النص لا النص المرجعي، وهي تحول طرفي الاتصال مساحة لحركية النص وتفجير الطاقة الدلالية لموضوعاته، مع مخاتلة مستمرة للنص المرجعي.

ناديتُه وخيوطُ الصوتِ ترتفعُ        هل في السفينة يا مولاي متَّسَعُ

ناديتُهم كلَّهم هل في سفينتكم…؟      كأنَّهم سمِعوا، صوتي وما سمِعوا

ورحتُ أسألُه ياشيخ قسمةُ مَنْ         نجوتَ وحدَكَ، والباقون قد وقعوا؟

  ومن خلال الحوار المقلوب نجد أن الصوت يخلُصُ للابن، في تأكيد لفردية المنظور وأحادية الرؤية الغنائية، فيما  يظل الطرف الآخر صامتًا لكن تضافر عناصر الوصف  تعطي لنا صورة لهذا الشيخ، كذا يتم القلب على مستوى العلاقة، فالطوفان في النص لم يكن فيه خلاصهم، بل كان بدءًا لفساد أشد:

وهل سترتاحُ؟ هل في العُمْرِ طعْمُ ندى؟        وأنت وحدَكَ والصحراءُ تجتمِعُ

وكيف تبدأُ هذا الكون ثانيةً                              وقد تركتَ الفتى والموجُ يصطرعُ؟!

  تبرز الذات حيرتها من كثرة الأسئلة وتتابعها، وهي وإن كانت مجافيةً للسرد بحكم إنشائيتها إلا إن التتابع يجعل القصيدة تمور بالحركة المتسقة مع فورة الذات وبحثها عن الخلاص، وإذ كانت الحوارية تأخذ اتجاهًا واحدًا، فإنَّ الإحالة الضمائرية والتناص تضفيان على القصيدة بُعدًا دراميًّا، دون التخلي عن الغنائية خاصةً في الأبيات التي يجتر فيها الابن ذكرياته مع أبيه، في صورة تقترب من الاسترجاع السردي، لكنه يظل مرتبطًا باللحظة الآنية التي هي لحظة الصراع وذروته وتتأكد الغنائية من أحادية المنظور من جهة والحدة الانفعالية في التعبير عن الحيرة والإحساس بالضياع من جهة أخرى:

وهل ستذكرُ؟ قبل الموت كيف دنا         عيني تضيقُ، وعينُ الموتِ تتَّسِعُ

وهل تنامُ؟ وفي عينيكَ نابتةً                     عيونُ طفلِك والألعابُ والمُتَعُ

………………………………………………

كل التفاصيل مرَّتْ في مخيِّلَتي               البيتُ والأهلُ والأشجارُ تجتمِعُ[4]

  إنَّ قصيدة القناع ذات طبيعة جدلية تتأسس على حضور أنا الشاعر وغياب أنا القناع والعكس، في حركة تبادلية متزنة، مع إمكانية التباس في إحالة الصوت والضمير داخل القصيدة، يترتب عليها تراجع الغنائية الذاتية التي تحتفظ لنفسها بالمقومات التقليدية كالنسق الموسيقي والتكرار والمجاز، والتشكيل البصري، وفي القصيدة  يتنازع الصوت أنا الشاعر، وأنا القناع مع اختلاف طبيعة كل منهما وزمانه، فالصوت الأول للابن يعود بالزمن إلى الوراء في لحظة إقلاع السفينة، أما الصوت الثاني فينسب إلى صوت الذات الشاعرة،  وكلامها يتصلان وينفصلان، ولكن نقطة الاتصال هي انضوائهما تحت مظلة إنسانية واحدة تدين الفساد وتطلب طوفانًا آخر، وحضور الثاني تغييب للأول، لكن دون أن يلغي حضوره في أعماقه، فالقناع يصل لدرجة من الشفافية بصورة يكون ظاهره كباطنه.

   ما نؤكده هنا هو أن القناع لدى الساعدي لم يحُل نسقه الخليلي دون بروز سمة سردية تفجره بالدلالة وتخفف من غنائيته دون أن تمحوها، كما كان للثنائية الصوتية من خلال التقنع دور في التحول من التعبير اللامباشر إلى التعبير المباشر، أو التعبير باللامباشر عن المباشر، والمعنى الصريح علامة على المعنى الضمني، فالقناع والمعنى الصريح على السطح، في حين تتركَّز ذاتية الشاعر بحاضره في العمق.

   بيْدَ أن التشكيل البصري وتفعيل علامات الترقيم في نص دنقل كان أكثر ثراءً وفاعليةً وارتباطًا بتصاعد النسق الدرامي للقصيدة، بل إن وجود علامات ترقيم بعينها كالأقواس والشرطة الاعتراضية ومساحات البياض؛ أضاف صوتًا آخر للأصوات داخل النص هو صوت التعليق على أقوال الشخصيات[5]، ولا شك أن التشكيل البصري آلية سردية حين يفلح الشاعر في توظيفها، فيما لم يفعِّل الساعدي الفضاء البصري مما جعلها -خاصةً في المونولوج الاسترجاعي لتحرك عاطفة الأب- يغلب عليها الغنائية.

    

[1]  سعيد بنكراد، السردية والتجريد المفهومي، علامات ع12، المغرب 2012، ص31: 37

[2] حاتم الصكر، الحدثي والحداثي، الحدثي والحداثي، الطبيعة الالتهامية للموضوع والضرورة الفنية للقصيدة، مجلة الكرمل، ع79/ 2004، ص 23:56

[3]  أمل دنقل، الأعمال الكاملة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة 1998، ص408

[4] عارف الساعدي، الطوفان، موقع القصيدة دوت كوم.

[5]  انظر تفصيل ذلك في دراسة سيد البحراوي، البحث عن لؤلؤة المستحيل،  دار شرقيات القاهرة 1996ص50

0
    0
    سلة المشتريات
    السلة فارغة