شي صعب ممحاه: عن الزمن والحنين في ديوان “منادمات” لعائشة الكندي

أحمد أبو دياب

كاتب مصري

تُعدُّ الشاعرة عائشة الكندي واحدة من الأصوات الشابة البارزة في الشعر النبطي الإماراتي، ورمزًا من رموز القصيدة التي استطاعت أن تجمع بين الأصالة والمعاصرة، بين التجربة الذاتية والوجدان الجمعي، في لغةٍ تنبض بالمشاعر والذاكرة والحنين. وإذا كانت عائشة الكندي قد عُرفت بصدقها العاطفي وعمق تجربتها الإنسانية، فإنَّ ما يميِّز ديوانها “منادمات” هو هذا الحضور الطاغي للزمن بوصفه ذاكرةً وشوقًا واستعادةً لما مضى، حتى يصبح الشعر عندها وسيلة للحفاظ على لحظات الفقد والوصال، على تفاصيل الحياة التي تذوب مع مرور الوقت، وعلى الذات التي تبحث عن معناها في تقاطع الماضي بالحاضر.

في قصائد الديوان، يتجلّى الزمن ليس كخلفية للأحداث، بل ككائن شعري ينبض بالحضور والوجع، فهي لا تتعامل مع الماضي كمشهد منتهٍ، بل كجزء من كيانها الداخلي. إنها تستعيد الزمن لا لتندب فواته، بل لتعيد بناءه في صور شعرية تمزج بين الحنين والتأمل، بين حضور الذاكرة وغيابها، فالأماكن القديمة، والأصدقاء، والوجوه الراحلة، تتحول جميعها إلى رموز للزمن الذي لا يعود، لكنها تستحضرها بكلمات يملؤها الدفء والعاطفة.

 

تقول عوشة في قصيدة “مفاتيحه”:

من غَلاك أحَبِّبْ تْرابِك

وانتظِرْ وَرْدِك وتَفتِيحَه

يا رِبيع العِمْر وِش صابِك

فَسِّر وعَطْني تِشَارِيحَه

كَنْ عَنَي غِلْقَت أبْوابِك

والقِفِلْ غابَتْ مِفاتيحَه

 

هنا تُحوّل الشاعرة العلاقة العاطفية إلى رمز للزمن الجميل الذي انقضى. فهي لا تكتفي بإظهار التعلُّق بالمحبوب، بل تعبِّر عن عمق الانتماء حين تقول «من غَلاك أحبِّب ترابك»، فيتحول الحب إلى امتداد روحي للأرض والذاكرة. أما انتظار “وردك وتفتيحه” فهو انتظار للربيع الداخلي، للعودة إلى زمن الصفاء والعاطفة الأولى. وحين تقول «كَنْ عني غلقت أبوابك، والقفل غابت مفاتيحه»، يظهر وعيها بالفقد، كأنها تلامس استحالة استعادة الماضي.

ويمثِّل الحنين في شعر عوشة الكندي طاقة داخلية تحرِّك النص، وهو لا يقتصر على حنينٍ إلى الحبيب أو الوطن فقط، بل يمتد إلى حنينٍ إلى الذات الأولى، إلى البراءة والبدايات والأيام البسيطة.

في بعض قصائدها نجد عوشة تخاطب الماضي كما لو كان شخصًا قريبًا؛ تعاتبه أحيانًا، وتبتسم له أحيانًا أخرى، لكنها لا تتخلى عن ارتباطها الوجداني به، ذلك الارتباط يخلق حالةً شعرية فريدة، إذ يتحول الحنين إلى أداة للتعبير عن الهوية، وإلى وسيلة لحفظ ما يندثر من العادات واللغة والمشاعر.

تقول الشاعرة في قصيدة “روض ورياض”:

الوَقْت لِي دُونَه غِمِيضِي

و ويّاه فَاقَات وبَرَاضَه

تَيّار مُويَاتَه عِرِيضِي

يْزِيد ويْرِدْ انخِفاضَه

تُبرز عوشة الكندي رؤيتها الفلسفية العميقة للزمن، فهي لا تنظر إليه كتعاقب للأيام بل كحالة وجدانية متقلبة، إذ تقول «الوقت لي دونه غميضي وويّاه فاقات وبراضه»، لتشير إلى أن الحياة بلا زمنٍ تحبه مظلمة، ومعه تتأرجح بين الشدة والرضا. ثم تأتي استعارتها اللافتة «تيّار موياته عريضي يزيد ويرد انخفاضه» لتجعل من الزمن نهرًا متغير الجريان، لا يمكن التنبؤ بحركته، في لحظة يفيض بالعطاء وفي أخرى ينحسر. من خلال هذا التصوير المائي، تعبِّر الشاعرة عن تجربة إنسانية عميقة في مواجهة تقلُّب الحياة، حيث يصبح الزمن شريكًا في الوجدان، له مدٌّ وجزرٌ، فرحٌ وانكسار، لكنه يظلّ هو الإطار الذي تحتضن فيه الذاتُ حنينَها وأملها معًا.

لغة عوشة الكندي النبطية تمتاز بعفويتها وصدقها، لكنها في الوقت نفسه تحمل وعيًا فنيًا دقيقًا يجعلها قادرة على تحويل اللهجة إلى لغة شعرية رفيعة، فهي تستخدم المفردة التراثية بحذر وذكاء، وتستحضر الأمثال والرموز الشعبية عبر الديوان لتجعلها جسرًا بين الأجيال، وكأنها تُعيد عبر لغتها بناء الماضي في الحاضر، ولذلك، تبدو قصائدها مثل وثائق وجدانية تحفظ ملامح البيئة الإماراتية القديمة، وتربط بين تجربة الفرد وجماعة تنتمي إلى أرض وتاريخ مشتركين.

في كثير من نصوصها، تواجه الشاعرة ذاتها في مرآة الزمن، فتبدو القصيدة ساحة حوار داخلي بين “أنا” ماضية و”أنا” حاضرة، هذه الثنائية تُنتج وعيًا عميقًا بالفقد، لكنها في الوقت نفسه تمنح الشاعرة قدرة على التصالح مع التغيُّر، كأنها تدرك أن مرور الزمن لا يمحو الذكريات، بل يعيد تشكيلها داخل القلب، من هنا يأتي الهدوء التأملي في نبرتها، ذلك الهدوء الذي لا يخلو من الأسى، لكنه أيضًا لا يغرق في الحزن، بل يحمل حكمة ناضجة تُعبِّر عن تجربة حياة طويلة.

تقول الكندي في قصيدة “السّحاب“:

ليت لا يِمْكِنْ عَلى البِعدْ تتعَوَد

وليت قربك قِرْب عِنقِي للقَلايد

وليتِني مِنْ فكرةْ غيابِكْ أعَوّد

كان بَنعِي مِن كِثر فَقدِك وِسايِد

خَلْ سَحَّاب الحِزِن هَطْلَه يِرَوِّد

كُوُد يِحيَا الشَوق و تْرِدو تِعايِد

 

تبوح الشاعرة بأقصى درجات الحنين والرفض للفقد، إذ تعبِّر عن عجزها عن التكيُّف مع البعد بقولها «ليت لا يمكن على البعد تتعود»، وهي أمنية تحمل في طياتها احتجاجًا على قسوة الزمن. ثم تربط القرب بالمحسوس والعاطفي معًا حين تقول «وليت قربك قرب عنقي للقلايد»، لتجعل من الحبيب زينة الروح، ومن اللقاء امتدادًا طبيعيًا لوجودها. في الأبيات التالية يتصاعد صوت الحنين حتى يتحول إلى وجعٍ شعريٍ شفيف، إذ تقول «كان بنعي من كثر فقدك وسايد»، فتجعل من الفقد موتًا مجازيًا ومن الذكرى حياة بديلة. أما ختام المقطع «خل سحاب الحزن هطل يروِّد كود يحيا الشوق وتردو تعايد» فيحمل ومضة أمل وسط العتمة، كأنها ترى في البكاء مطرًا يُخصب الذاكرة ويُنعش الشوق، لتغدو القصيدة دعاءً لاستعادة زمنٍ مفقود، ولو في الحلم.

ولا يمكن فصل الحنين في شعر عوشة الكندي عن الإحساس بالهوية الوطنية والإنسانية، فهي حين تتحدث عن ماضٍ جميل أو عن بيوتٍ رحلت أو عن أزمنة الطفولة، فإنها في الحقيقة ترسم صورةً لهوية مجتمعها بكل تفاصيله: البحر، الرمل، العلاقات الاجتماعية، القيم القديمة، والأصوات التي كانت تملأ المكان دفئًا.

ففي قصيدة “أقفيت” تقول:

أقفِيت ما عِدت النّظَر فيِّ

وأمْسَت مَرابِعنا خِلِيَّات

لَوَّلْ أحِيدِك دُوم تَوْفِيّ

والصَّعب عِنْدِكْ لَهْ مَرامَات

أصبِحْ عَلي لِقياك وأمْسِيْ

وأبَات في إنْس وشَراغَات

ترسم عوشة لوحة وجدانية عن الغياب واستحالة الرجوع إلى الماضي، حيث تقول «أقفيت ما عدت النظر فيّ وأمست مرابعنا خليات»، فتجعل من الفقد مشهدًا بصريًا للمكان الذي خلا من الوجود والدفء. هنا يتحول الحبيب إلى رمزٍ لزمنٍ رحل، والمكان إلى ذاكرةٍ فارغة لا يسكنها سوى الصدى. ومع ذلك، يظلُّ في وجدانها بريق من الوفاء، فهي تتذكره بشعرها لتؤكد أن الماضي رغم رحيله، ما زال يحتفظ بصفائه الأخلاقي وجماله الإنساني. أما ختام المقطع «أصبح على لقياك وأمسي وأبات في إنس وشراغات» فيجسد الإقامة في الحلم والذاكرة، إذ تصحو وتمسي على طيف اللقاء الغائب، ليغدو الزمن عندها دائرة مغلقة من الانتظار والحنين، لا تُقاس بالأيام بل بعمق الشعور.

قصائد عوشة الكندي ليست مجرد تسجيل للماضي، بل هي احتفاء به، وإصرار على أن يبقى حيًّا في وجدان الحاضر، وأن يظل جزءًا من ملامح الشعر النبطي في الإمارات، وتتسم صورها الشعرية بالبساطة والعذوبة، فهي لا تلجأ إلى الغموض أو التعقيد، بل إلى الصدق العاطفي الذي يمنح الصورة بريقها، وتستخدم الطبيعة –من رياحٍ ونجومٍ وصحارى– لتجسيد مشاعرها الداخلية، فتغدو البيئة انعكاسًا لروحها، إنها تُعيد تشكيل العالم من منظورٍ وجداني أنثوي يرى في التفاصيل الصغيرة رموزًا للزمن الكبير، وفي اللحظات العابرة إشارات إلى الأبدية.

عوشة تحتفظ بنقاء العاطفة ودفء اللهجة وصدق التجربة، وهي بهذا تمثل نموذجًا للشاعرة النبطية التي استطاعت أن تُعبِّر عن وجدانها الشخصي بلغةٍ تحفظ روح التراث وتجدِّد حضوره في الزمن المعاصر، ولعل هذا ما يجعل شعرها باقيًا في الذاكرة، ليس لأنه يستعيد الماضي فحسب، بل لأنه يمنحه حياة جديدة في قلب القارئ، ويذكِّره بأن الشعر هو وحده القادر على جعل الزمن ينبض من جديد.

0
    0
    سلة المشتريات
    السلة فارغة