تهمة «ازدراء أدونيس»! | الطيب الحصني

الطيب الحصني

كاتب ومترجم سوري

منذ فترة، انتقد صديق شاعرٌ تجربةَ أدونيس على منبرٍ ثقافيٍّ انتقادًا شاملًا، بما يمليه عليه توجهه التراثي التقليدي. فانبرى في الأيام التالية شاعرٌ آخر بالردِّ عليه، فابتدأ بتوضيح مفاسد قوله، وخطورة معتقده وفكره على المجتمع، ثم أكمل ينتقدُ طريقة اكتسابه رزقَه، ولم يتوقف للأسف عند أهله وأولاده. كَبُرَ الأمرُ… قلتُ يومها للأول مازحًا: “إذا أدخلتك هذه المشكلة السجن فستكون أول من يسجنُ بتهمة ازدراء أدونيس”.

إن التعصب الغاضب الذي يبدر من مُحبِّي أدونيس شعرًا والمتفقين معه فكرًا -فلنسمِّهم الأدونيسيين- حين يعارض أحد من الناس شيئًا من آرائه أو شعره، ظاهرةٌ تستحق التأمل، وهي ظاهرةٌ يمكننا أن نجد أساسَها على لسان أدونيس نفسه في غير موضع، لعلَّ أوضحها إجابته عام 2021 على سؤالٍ حول قيمة شعره في العالم العربي: “…فهذه الثقافة [العربية] لا تزال في جوهرها كما أرى دينية (فقهية – شرعية، على الأخص)، نظرةً وممارسةً. وهذا […] يجعلها كذلك ضد المعرفة، وضد الإنسان، وضد الحياة ذاتها. وهكذا أشقُّ العرب إلى قسمين، فبعضهم إلى جانبي في هذه النظرة، وهم القلَّة. وانطلاقًا منها يرون أن شعري وفكري يمثلان ذروة الشعر والفكر في اللغة العربية، ولا مثيل لها في تاريخ الإبداع العربي وبخاصة الحديث. أقول هؤلاء قلة، ولكنهم القلة الخلَّاقة الرائية”.

 

وهكذا، وفقَ رؤية أدونيس والأدونيسيين، نجدُ أنفسنا أمام ثياب الملك القديمة/الجديدة: فإنْ استطاعت ذائقة المرء استيعاب أن “ذروة الشعر والفكر” هي عند أدونيس، تلك الذروة التي “لا مثيل لها“، فقد حُقَّ للمرء الانتماءُ إلى “القلّة الخلاقة الرائية” والدخولُ في عهدها؛ وأما منْ عجِزتْ ذائقته عن إدراكِ تلك “الذروة” فهو إذن من الأكثرية الدهماء آنفة الذكر، أي: تلك التي هي “ضد المعرفة، وضد الإنسان، وضد الحياة ذاتها“.

 

لا حاجة بنا إلى التنبيه إلى سوء هذا التحزُّب، فضلًا عن طرافة أن يجعل أيُّ إنسانٍ الإعجاب بأعماله شخصيًّا هو المعيار في الرؤية الخلَّاقة.

من المؤكد أنني لن أحاول في هذا المقال القصير الاشتباك مع فكر أدونيس كله، بل أريد أن أشير فيه إلى بضعة أمثلة بارزة من أفكاره، أمثلةٍ جعلتني أضعُ الكتاب جانبًا وأسأل: لِمَ أقرأ هذا الكلام؟ أي فائدة تُجنَى منه؟ وهدفي من المقال توضيحُ أنه من الوارد، ضمن عالم الممكنات، أن يزدري الإنسان أفكار أدونيس من دون أن يكون “ضد المعرفة، وضد الإنسان، وضد الحياة ذاتها”.

 

أولُ الإشكالات، ولعلَّه جوهريُّ فيها، هو إحالةُ أدونيس ظواهر شعرية معقدة برمَّتِها إلى التنوع الثقافي-التاريخي، متجاهلًا كونَ جزء منها يرجع إلى طبيعة الإنسان. تأمَّل قوله –في سياق تقليله من أهمية الأوزان الخليليّة- إنَّ: “الوزن/القافية عملٌ تنظيري لاحقٌ لتشكيل شعريٍّ سابق“.

في الواقع، الوزن/القافية ليس عملًا تنظيريًّا من الأصل، حتى يكون لاحقًا لـ”شكلٍ شعري” يسبقه. بل العكس صحيح: إنَّ التزام الوزنِ سبَّاقٌ على العمل التنظيري من جهتين مختلفتين، مهمّتين بالقدر ذاته:

 

الأولى تاريخيةٌ: لقد سبقَ الالتزامُ الدقيق بأوزان البحور وقوافيها كلَّ الجهود التنظيرية التي جاءت بعده، والتزاماتُ الجاهليين بالوزن والقافية بالغة الصرامة، مثلَ التزامهم سلامة عَروض البسيط، وتفعيلته الثالثة من كل شطر، من الزحاف. ولو بحثتَ عن الأبيات التي خرجوا فيها عن هذه (القاعدة) لوجدت أن نسبتها أقل من 1%؛ إنَّ مثل هذه الالتزامات الصارمة –وأمثالها كثير- ليست “تشكيلًا شعريًّا”، بل هي التزامٌ بالوزن/القافية سبقَ التنظير بقرنين على الأقل.

 

الثانية طبيعية: إن جزءًا ما من الوزن سبّاقٌ لا على التنظير وحسب، بل على الثقافة ككل، لأن المزامنة الإيقاعية (“Entrainment”) ثابتٌ بيولوجيٌّ كونيٌّ في الإنسان؛ وتقطيعُ الأصوات إلى أقسام متساوية متكررة –في الموسيقى والشعر على حد سواء- ليس اختراعًا ثقافيًّا اخترعه أحد الشعوب القديمة ثم انتشر في القارات مثل السلعة (أو بتعبير أدونيس هو “عملٌ بارعٌ […] ربما يزول، وذلك بحسب التطور ومقتضياته”)، بل هو غريزة ثابتة لا تزول، يمارسها حتى الأطفال الذين لم يبلغوا سن الدراسة. وهو حقيقيٌّ على نحوٍ خاص في الشعر الخليليّ لأنه مبنيٌّ على الزمن الإيقاعي، لا على النَّبْر. حريٌّ بنا، إذن، ونحن ننظر إلى بِنْيَة بيت الشعر الخليليّ، ونقرُّ بأن جزءًا كبيرًا من التزامات هذه البنية تاريخيٌّ متعلق بالثقافة التي نشأت فيها، أن ننتبه إلى أن في بنيَتِه أيضًا ما يتسامى فوق الثقافيَّ نحو الكونيّ والفطري.

 

إذا ما وضعنا جانبًا كل العنفوان والإجلال الذي نحمله في داخلنا نحو الشعر العربي (كي لا نُتهم بأننا ذوو “عقلية دينية-فقهية-شرعية مضادة للحياة والإنسان)، ووضعنا جانبًا، أيضًا، الاعتراضات التي أوردتها توًّا، فلنا على الأقل أن نسأل: أي فائدة نجنيها من إحالة الطبيعة والثقافة إلى “عملٍ تنظيري”؟ وأي قيمةٍ نجنيها من إعلاء أدونيس شأنَ “الحالة” و”التخييل” و”المجاز التعبيري”؟ وجعلها أشياء أكثر شاعريَّة من “الواقع” و”المفهوم”؟ فإن الإنسان لا يلقى جوابًا، أو يجد جوابًا يسوؤه. يقول:

“اللسانُ، لا الواقع، هو المادة المباشرة في عمل الشاعر. باللسان وفيه، يرى العالم وشكله. هذه الممارسة المادية للسان تفرض عليه أن يكون عارفًا المعرفة العليا به، ومتقنًا الإتقان الأكبر لتاريخية الكلام الشعري، ولكيفية الكتابة شعريًّا. فإذا كان الإنسانُ حيوانًا ناطقًا، فإن الأكثر معرفةً باللسان هو الأكثر إنسانية…”.

يمثِّلُ هذا المقطع خيرَ تمثيل لما هو منفِّرٌ في فكر أدونيس، إن أدونيس يفرضُ على الشاعر أن يكون عارفًا المعرفة العليا باللسان الذي يكتب به، لكنَّ عالمنا العربي –والعالم الغربي أيضًا!- يضجُّ بالشعراء (الفصيحين والعاميين) الذين ينبغون في بيئات لا تقدم لهم إمكانية تلك “المعرفة العليا” ولا “الإتقان الأكبر لتاريخية الكلام الشعري“، لكنهم يقولون من الشعر أعذبه وأنقاه.

يَظهرُ بؤس هذه الفكرة في المنطق التقريري الأخير الذي يجعل الأكثر معرفة باللسان هو الأكثر إنسانية، بحجة تعريف الإنسان بأنه حيوان ناطق.

لو نظرت في هذا القول من حيثُ شكله المنطقي، أقصدُ من دون النظر في معناه، لوجدته فاسدًا منطقيًّا، لأنه: إذا كان النبيذ شرابًا كحوليًّا، فإن النبيذ الأكثر كحولًا ليس أكثر “نبيذيَّةً” من غيره، بل يتحول إلى مطهِّرٍ للأيدي في أفضل الأحوال. فإن تجاوزتَ عن فسادِ حجة المنطق ونظرتَ في النتيجة التي يصل إليها الكلام في حد ذاتها، وَجَدْتها أكثر فسادًا.

إن القول بأن “الأكثر معرفة باللسان هو الأكثر إنسانية” يقتضي، مثلًا، أن أهلنا في سوريا الذين قضوا عقدًا في المخيمات (بلا مدارس أو أي ظاهرة من ظواهر العيش الآدمي) هم أقلُّ إنسانية من نظرائهم الأسعد حظًّا الذين نهلوا “المعرفة العليا” وأتقنوا “تاريخية الكلام الشعري“. كما يقتضي ذلك أيضًا أن العبيد الأفارقة في الولايات كانوا أقل إنسانيًّة من مستعبديهم، كيف لا وأجيال العبيد فقدت سريعًا معظم صلتها بلسانها الأصلي –لأن مستعبيدهم كانوا لا يتركون من ينطقون بلغة إفريقية واحدة يجتمعون في مجموعة عمل واحدة، خوفًا من تمردهم- ثم همُ لمّا يتعلموا من الإنجليزية شيئًا كافيًا بعد، أقصدُ لم يحصلوا على “المعرفة العليا” باللسان.

 

من البديهي أن هذا كله فاسد، وأن الشاعر (أدونيس أو غيره) لا يزيد إنسانيةً مقدار شعرة على أم تُغَنِّي لابنها تهويدةً كي ينام في الخيمة، بل الأرجح أن ينقُص؛ هذه الفكرة لا يُقِرُّها مؤدِّبٌ أصلًا، فضلًا عن أديب، ولا أظنها جاءت على قلم أدونيس إلا كما يحصل مع كافة أهل الفنون من النرجسية، حيثُ يحدِّثُك الرسام عن أن الأحذقَ بصرًا هو الأعمق بصيرةً، ويرى العازف أن الأدرى بقفلات مقام الصبا هو الأكثر رومنسية، إلى آخر مثل هذا الكلام الذي يمدح به أهل المهن أنفسهم.

 

هذه الفكرة وما يشابهها عند أدونيس مثل ازدرائه للقرَّاء (غير الخلَّاقين والرائين منهم) حين يعتبر أن “الجمهور أكبر أكذوبة فنية” وأنه “ليس له معنى”… هذا الأفكار كلها نهايات منطقية لإقصاء الشعر تمامًا عن فطرته وإحالته إلى “التاريخي” و”الثقافي”، أي: إحالة تقييم الشاعر إلى الآليات المؤسساتية، شرقية كانت أم غربية. وينتهي الأمر بنا هنا إلى سؤال نتمنى أن يكون عادلًا ومشروعًا ومؤدَّبًا: ألا يحقُّ لهذا الجمهور الذي يراهُ أدونيس “أكبر أكذوبة فنية في التاريخ” و”لا معنى له” أن يرى هو أيضًا أنَّ أدونيس “أكذوبة” و”لا معنى له”… من دون أنْ يُحاكَمَ بتهمة «ازدراء أدونيس»؟!