
د. الضوي محمد الضوي
شاعر وأكاديمي مصري
أول ما يتبادر إلى الأذهان في موضوع شعر الأطفال، هو الأغاني التي درجنا على غنائها للأطفال في مختلف بيئاتنا العربية (بِعَدِّ الأغنية ضربًا من الشعر) فيطربون لها ويأنسون بها، ويطلبونها وإن لم يعرفوا لها معنى، إنما يؤنسهم منها إيقاعها، وهكذا نجد كل ما يطربون له وطربنا له ونحن في أعمارهم، من الأغاني الشعبية، أو الأناشيد التي درسناها في المدارس، ظاهر الإيقاع، مُطرِبًا، حتى يكاد يتفق كل المعنيين بشعر الأطفال، تأليفًا وتنظيرًا، على أن شعر الأطفال لا بد فيه من الانتظام الإيقاعي الجليّ، لكن هل يكون الشعر شعرًا بالإيقاع الصوتي وحده؟ وهل قبول الأطفال في بيئاتنا العربية لتلك الأغاني والأناشيد التي يكون بعضها بلا معنى واضح لهم، يجعلنا نظن أنه يكفي في شعر الأطفال أن ننظم لهم نشيدًا أو مقطعًا مُوَقَّعًا فهموا معناه أو لم يفهموه؟
إجابةً عن هذا السؤال يجب أن نشير إلى أن الشعر يستمد ماهيته –وفقًا للبنيويّ الفرنسي جون كوين- من واقع مغايرته للكلام اليومي، على مستويين: الصوت والمعنى، فمن جهة الصوت يتضمن الشعر نظامًا إيقاعيًا معينًا (هو الأوزان الشعرية) لا يتوفر هذا النظام للمحاورات اليومية (التي تمثل المستوى الأوَّلي أو القياسي من اللغة)، ومن جهة المعنى أو الدلالة يقوم الشعر على الحضور الكثيف للتخييل، وما تعلق به من قيم بلاغية متنوعة، تحضر في الشعر الحضور ذاته. وهي أمور لا تتوفَّر أيضًا للكلام اليومي.
وهذا يجعل الوظيفة الأساسية للغة في الشعر وظيفة جمالية تركِّز أولًا على بنية النص نفسه، لا على مُؤَدَّاه المعرفي، ذلك المُؤَدَّى الذي هو هدف اللغة في مستواها الأولي (المحاورات اليومية).
فإذا انتقلنا إلى شكل خاص من أشكال الشعر، وهو الشعر المقدم للأطفال، فباختلاف المتلقي (الطفل) عن المتلقي (الإنسان البالغ) يجب أن نعيد تعريف ماهية الشعر ودوره.
فمن جهة الماهية: نجد أن الشعر الموجه للأطفال لا ييبقى مرتكزًا إلى رافديّ الصوت والمعنى على النحو نفسه، فلا اختلاف بين شعر الكبار وشعر الأطفال على مستوى الصوت، إذ حبَّذا النص الموزون إيقاعيًا المقفَّى تقفية جلية إذا كان مقدَّمًا للأطفال (مع تواتر استعمال شعراء شعر الأطفال لبعض الأوزان والأنماط الإيقاعية الخفيفة السريعة التي تناسب الأطفال، كالأوزان البسيطة التي تتألف من تفعيلة واحدة تتكرر مثل بحور الكامل والرجز والرمل والمتقارب والمتدارك، ومجزوءات هذه البحور ومشطوراتها خاصة) لما بين الإيقاع ونفسية الطفل من تواؤم فطري واتساق نفسي وجمالي، إذ للطفل بنية جسمية تُؤْثِرُ الحركة والنشاط واللعب وهذا يُعَزِّزُه الإيقاع وترديد النصوص الموقَّعة، لكن على مستوى المعنى: لا يبقى الشعر مستمدًا شعريته من الحضور الكثيف للتخييل والقيم البلاغية المتعلقة به، إذ يجب أن يقل فيه ذلك التكثيف التخييلي، وأن يُهذَّب ما يرد في هذه النصوص منه تهذيبًا يجعله مناسبًا لوعي الطفل، من حيث طبيعة بناء الجملة التخييلية، وتكوينات ما يرد فيها من خيال مُركَّب، بحيث يبقى بسيطًا، ملائمًا لطبيعة المرحلة السِّنيَّة المقدم لها النص.
ومن جهة دور الشعر: ففي الوقت الذي يؤدي فيه الشعر عمومٍا دورًا جماليًا، يكون على شعر الأطفال أن يؤدي دورًا مزدوجًا، جماليًا ومعرفيًا في آن. لأن الشعر الموجّه للكبار شعر موجّه لشخص لا يبتغي المعرفة في النصوص الشعرية، بقدر ما يبتغي منها بناءها الجمالي، لكن الطفل يُتوسّل إلى نقل المعرفة له بوسائط عدّة منها الأدب الذي يندرج الشعر تحت مظلته.
إذ يجب لشعر الأطفال علاوة على البناء الجمالي أن يتوجه من جهة مضمونه صوب غاية معرفية، بل قد يغلب المضمون المعرفي على المؤدَّى الجمالي، مع مراعاة ألا ينحدر الصوغ الشعري إلى المستوى الإخباري للغة الكلام اليومي، ولا يتجرد ليتماهى مع الوظيفة الجمالية تماهيًا كاملًا يغفل البعد المعرفي والتعليمي للشعر الموجَّه للأطفال.
وبذلك يكون المضمون المعرفي أو التعليمي أصلًا في شعر الأطفال، من ذلك التعريف بالعالم بمختلف شؤونه ومكوناته مما يجهله الطفل وتضيف إليه معرفته أبعادًا معلوماتية وإدراكية جديدة، كتعريفه بالطبيعة المحيطة به، والمشاعر، والآخرين، وبتفاصيل الحياة البسيطة والمدهشة، لكن يجب أن يكون كل هذا مصوغًا جماليًّا على نحو يحول كل هذه المضامين المعرفية إلى لوحات تزخر بالجمال محققًا قدرًا من التوازن بين المعرفي والجمالي (هادي نعمان الهيتي: أدب الأطفال- فلسفته، فنونه، وسائطه، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1986م، ص209).
والشاعر إذ يكتب شعرًا للأطفال يجب وفقًا لتلك الغاية المعرفية أن يستحضر مجموعة من الأهداف يرجو أن يحققها نصه –بعضها أو كلها- منها ما يعمق صلة الطفل بمادة تكوين الأدب وهي اللغة، كإثراء حصيلته اللغوية من المفردات والتراكيب وإكسابه مهارات لغوية جديدة، ومن تلك الأهداف ما يعمق قدراته الذهنية والنفسية العامة، كتنمية قدرته على التخيل وعلى الحفظ، بالإضافة إلى تحفيز عواطفه المختلفة، وتخفيف التوترات النفسية، وإمداده بالمعلومات المتنوعة، والقيم النافعة والمقبولة مجتمعيًا من خلال بثها عبر النصوص الشعرية المقدمة له، كذلك توطيد صلة الطفل بالأدب بوصفه منتجًا جماليًّا، مما يرغِّب الطفل نفسيًّا في الجمال وتذوُّقه، فيصبح هذا أصيلًا في تكوينه النفسي والمعرفي (كامل علي: مدى تحقيق أدب الأطفال المتضمن في كتب لغتنا العربية للصفوف الأساسية الثلاثة الأولى في الأردن لأهداف هذا الأدب، بحث منشور بمجلة بحوث التربية النوعية- جامعة المنصورة- مصر، عدد (31) يوليو 2013م، ص80).
وإذا جئنا إلى الحديث عن تاريخ شعر الأطفال في الأدب العربي، فشعر الأطفال حديث نسبيًا في أدبنا، استقاه الشعراء العرب في القرن التاسع عشر من مطالعتهم للآداب الأوروبية خاصة كتاب (حكايات لافوتين) الذي ألفه الشاعر الفرنسي جان دي لافونتين.
فمن الطلائع الأولى لشعراء الأطفال العرب في مصر محمد عثمان جلال (1828-1898) وإبراهيم العرب (1863-1927)، وأحمد شوقي (1868-1932) ومحمد الهراوي (1885 – 1939) وفي الأقطار العربية الأخرى الشاعر العراقي معروف الرصافي (1877– 1945) والشاعر اللبناني جبران النحاس (1882-1954) وغيرهم.
فقد صدر لمحمد عثمان جلال (وهو الأسبق تاريخيًا)(6) كتاب (العيون اليواقظ في الأمثال والمواعظ) وهو ترجمة لمقطوعات شعرية لحكايات لافونتين، وقد قررت نظارة المعارف المصرية كتاب (العيون اليواقظ) على الناشئة في المدارس عام 1894م، كما قررت نظارة المعارف لإبراهيم عرب كتابه (آداب العرب) عام 1911، وهو كتاب يضم مقطوعات وأقاصيص وحكايات ومواعظ من الشعر للأطفال، وقد أصدر شوقي عام 1898 الطبعة الأولى من ديوانه الشوقيات متضمنًا عددًا من المقطوعات الشعرية الموجهة للأطفال متأثرا أيضًا بحكايات لافونتين الشعرية على لسان الحيوانات (أحمد نجيب: من بحث بعنوان “ريادة شعر الأطفال بين شوقي والهراوي” منشور في كتاب لمجموعة من المؤلفين بعنوان “حول شعر الأطفال”، الهيئة المصرية للكتاب، القاهرة 1989م، ص83 وما بعدها).
كما صدر لمحمد الهراوي –وهو أجودهم وأنضجهم شعرًا للأطفال- سلسلة «سمير الطفل» للبنين والبنات من منشورات لجنة التأليف والترجمة والنشر بمصر. والتي منها سمير الطفل للبنين، في ثلاثة أجزاء، وسمير الطفل للبنات في ثلاثة أجزاء، عام 1923. كذلك له كتاب في أغاني الأطفال مزود بالعلامات الموسيقية والصور الملونة بعنوان: «شمس الضحى» – صدر بالقاهرة عام 1938. كما راحت جماعة أبولو الأدبية في مصر تنشر في مجلتها الأدبية (التي صدرت بين عامي 1932 و1934) تحت باب “شعر الأطفال” قصائد لشعراء منهم الصاوي محمد شعلان وبركة محمد وعلي عبد العظيم وكامل كيلاني (هادي نعمان الهيتي: السابق، ص212).
ومن الشعراء العرب الذين كتبوا شعرًا للأطفال الشاعر العراقي معروف الرصافي (1877– 1945) الذي صدر ديوانه عام 1910م متضمنًا عددًا من القصائد الموجَّهة للأطفال، والشاعر اللبناني جبران النحاس (1882 -1954) الذي أصدر ديوان (تطريب العندليب) عام (1940) عن دار البصير بالإسكندرية بمصر، وفيه مختارات من تعريب حكايات لافونتين وغيرها. ومنهم أيضًا الشاعر السوري سليمان العيسى (1921-2013) الذي كتب عددًا كبيرًا من الدواوين الشعرية والمسرحيات الشعرية المقدمة للأطفال منها: ديوان الأطفال، صدر في دمشق عام 1969، والمستقبل (مسرحية شعرية للأطفال) / دمشق عام 1969. والنهر (مسرحية شعرية للأطفال) / دمشق 1969. وأناشيد للصغار / دمشق 1970، والصيف والطلائع (شعر للأطفال) / دمشق 1970، وغيرها.
ومن واقع ما تتبَّعناه من محاولات الرواد، فإن حكايات لافونتين التي كانت عبارة عن مقطوعات من الشعر القصصي على لسان الحيوانات، كان لها أثر بالغ في نشأة شعر الأطفال في الأدب العربي الحديث، إذ بدأت معالجة الشعراء لهذا الشعر ترجمةً لحكايات لافونتين، ومنه انطلق من جاءوا بعدهم في كتابة هذا الشعر، لعلَّ هذا يُفَسِّر لنا غلبة الشعر القصصي على النصوص الشعرية المقدمة للأطفال في أدبنا العربي الحديث، يُضاف إلى هذا السبب ميل الطفل عادةً إلى الاستماع إلى الحكايات وتتبع تناميها وحبكاتها ومفاجآتها، بالإضافة إلى ما يوفره الصوغ الشعري من إيقاع مطرب، وخيال مدهش، كل هذا يجعل الشعر القصصي هو الأقرب إلى وعي الطفل وتفضيله الجمالي، ومن ثم الأكثر شيوعًا فيما يكتبه شعراء شعر الأطفال العرب.
يُضاف إلى هذا أنواع أخرى من الشعر المقدم للأطفال، فشعر الأطفال قد يكون أغنية أو نشيدًا أو أوبريت أو استعراض غنائي أو مسرحية شعرية أو قصة غنائية، وغير ذلك من الأشكال الشعرية المختلفة (أحمد نجيب: أدب الأطفال علم وفن، دار الفكر العربي، القاهرة، 1991م، ص، ص150).
ولم يتوقف شعر الأطفال في أدبنا العربي الحديث عند الرواد، بل تتابعت أجيال كثيرة في مختلف ربوع وطننا العربي من الشعراء الذين يكتبون هذا اللون الشعري، من أمثال أحمد سويلم وأحمد فضل شبلول وأحمد بخيت (مصر) وفاضل جمال علي (فلسطين) وفارق سلّوم (العراق)، وغيرهم، وقد حفَّز استمرار هذه الأجيال في كتابة شعر الأطفال وجود دوريات مخصصة للكتابة للأطفال، مثل “العربي الصغير” تصدر في دولة الكويت، و”قطر الندى” تصدر في مصر، وغيرها، بالإضافة إلى انتشار المسابقات الأدبية المخصصة لهذا اللون في مختلف الدول العربية.
ختامًا؛ يجب لشعر الأطفال أن يكون متَّسِمًا بسماتٍ أساسية، منها: أن يتلاءم شعر الأطفال شكلًا ومضمونًا مع مستويات نمو الأطفال الأدبي والعقلي والعاطفي والاجتماعي، لأن لكل مرحلة من مراحل الطفولة ما يناسبها من الشعر، كذلك أن تكون لغة الشعر لغة عربية فصيحة بسيطة، وأن تتوفر فيه الجاذبية التي تدعو الأطفال إلى التعاطف مع إيقاعاته وأفكاره وما ينطوي عليه من الانفعالات، من خلال الحيوية التي يضيفها الشاعر، والصور الحسيَّة والذهنية التي يرسمها، والصيغ الطلبية كالاستفهام والنداء التي يدخلها، فتجعل الطفل أكثر انجذابًا، وأن تكشف كل مقطوعة شعرية فكرة أو جانبًا من جوانب الجمال في الحياة والطبيعة، وأن يتجنب شعر الأطفال العواطف والانفعالات الحادة كالحزن والقلق واليأس وما إلى ذلك (هادي نعمان الهيتي: السابق، ص216).