المكان في شعر ميسون صقر | مريم الزرعوني

مريم الزرعوني

كاتبة وشاعرة من الإمارات

رافق الأدب الحراك الثقافي الطليعي في دولة الإمارات منذ بدايته، وتميّز بالتنوع داخل الجنس ذاته، ومنه الشعر. فإلى جانب القصيدة العمودية ظهر الشعر الحر وقصيدة النثر، التي كتبها مجموعة من المثقفين الإماراتيين، شكّلوا الديباجة الأولى للشعر الحداثي الإماراتي، ونَحَوا حينها المنحى الأصعب، وهو التغيير والتجدد، ورغم التحدّيات التي واجهها هذا الفنّ خاصة من الكلاسيكيين، ومحبي الشعر العربي في صورته العمودية الموزونة، إلّا أن الأصوات الشابة حينها، استطاعت أن ترسم مسارها المختلف، لا سيما النسائية منها، وصار لها خصوصيتها في التجربة الشعرية العربية، والإماراتية على وجه الخصوص.

الشاعرة الإماراتية ميسون صقر، كتبت السرد كما كتب الشعر، وهي ذات تجربة متقدمة، في مجتمع مدني حديث نسبيًّا، لم يتجاوز النصف قرن، تغيرت ملامحه بسرعة، مع قيام الاتحاد ونهضة الدولة في مختلف الأصعدة، ما جعل الشاعرة هي وجيلها، رغم ريادتهم، لكن إبداعهم لم ينل حظّه الوافي من الدراسة والتقصي. فدراسات الشعر الإماراتي الحديث والمعاصر مازالت في بدايتها، ونعلم صعوبة أن تلج ساحة البحث، وهي تعاني من عجز أو قلة في المصادر.

 قدّمت الشاعرة في دواوينها كلّها قصيدة النثر، وشكّلت على مدى مسيرتها الأدبية التي جاوزت الأربعة عقود، نموذجًا خالصًا لهذا الجنس الأدبي، ساورته لغتها الحداثية بالسلاسة والجزالة في آن، ولتجربتها خصوصية وفرادة، كونها شاعرة إماراتية اختارت أن تستقرّ في القاهرة، وقد رافقت عائلتها للعيش فيها منذ طفولتها.

ما نتحدث عنه في هذا المقام، الشعر عند ميسون صقر، فقد أظهرت قصيدة النثر لديها، نموذجا جيدًا للتجريد والتخلي عن منظومة الأحمال التقليدية في الشعر، مقتربة من التجريد في معناه التشكيلي، ولا أدلّ على هذا المعنى من شروط سوزان برنار لقصيدة النثر، وهي الكثافة والتخلي عن الحشو والإطالة، وإشراق المفردة، بحيث ينطفئ المعنى باستبدالها، وانطلاقها من الذات في التجربة الخاصة.

إنّ التجريد الشعري ممثلًا في قصيدة النثر، يتطلب آليات مختلفة في تعاطي النقد مع النص، خارج إطار المجاز والعروض، فلم تعد القصيدة النثر مجموعة صور بيانية، في قالب شكلاني معروف، إنها في شكلها ومقاطعها أقرب ما تكون إلى الرؤية الإخراجية، القائمة على القطع والحذف، ثم إعادة التركيب واللصق، أو ما يعرف بالمونتاج في المشاهد السينمائية، لذا تتطلب بحثا و تجديدا في تعاطي النقد مع النص، بعيدا عن محدودية المعالجة، خاصة وأنّ أيلولة الشعر إلى قصيدة النثر، باتت الاحتمال الأكبر في ضوء تسارعات العصر، والحاجة إلى وعي مستدام يحفظه التفكير الناقد، والتعرض المستمر لكسر الوتائر.

للشاعرة بالإضافة إلى الدواوين الفصحى، أخرى بالعامية المصرية، لقد شكلت مصر محطّة مهمة في حياة الشاعرة، ولا شكّ أنّها أثرت في وجدانها، وجاء عملها الأخير “ريش عين على مصر” تجسيدًا لذلك الأثر، فقد أرخت للمقهى الثقافي القاهري الأشهر، وكتبت سيرته بعين الإماراتية، المحبّة لمصر، وفازت عن الإصدار بجائزة الشيخ زايد للكتاب 2022 فرع الآداب، وكان للمكان أثر عميق في وجدانها، نلحظ ذلك في تصريحها بعد حصولها على الجائزة الأكبر في تاريخها الأدبي، عندما أهدت الجائزة إلى الأماكن: “أهدت الشاعرة والروائية والفنانة التشكيلية الإماراتية ميسون صقر جائزة الشيخ زايد للكتاب فرع الآداب المتوجة بها عن كتابها “مقهى ريش”، الصادر عن دار نهضة مصر، إلى الإمارات الوطن الأم ولمصر أم الدنيا حبيبة القلب، وللشارقة الذاكرة الأولى ولأبوظبي الاكتشاف والوعي والتعلم”

المكان، ذلك الماديّ بأبعاده الفيزيائية المعروفة، يحمل تأويلاتٍ شتى في الذهن، تجعل من الحيّز فضاءً معنويًا أرحب، لا يتقيّد بتلك المساحة المحدودة مهما اتسعت. ألا نقول ” لك مكانٌ في القلب”؟ والآية الكريمة “وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَٰرِغًا”، ذلك الفراغ المجازي في قلب الأم، قد حلّ محلّ المكان المجازي الذي كان يشغله حضور ولدها المادي. المكان ذلك الشيء الذي يشغلنا، في حين أننا نشغله، ونحمله معنا، على هيئة أفكار، تثار لها مشاعر تتشكل تجاهه، وتشغل الوجدان.

 

نستل للشاعرة قصيدة من ديوانها “رغوة القلب الفائضة” بقصيدة شقوق الجدار:

هذه الشروخ في الجدار، تهمني// تزحزح الضيق// تتسرب منها الغرف والأجساد والأحلام. // هذه الفضاءات ثقوب في الأوهام // أو ربما خدش في قميصي الليلي الذي// أخبئ فيه حبيبي // وأنام

تستخدم الشاعرة المفردات المكانية الدالة على البيت بالضرورة: (الشروخ – الجدار – الغرف – الفضاءات -ثقوب – خدش- أنام) ثمة علاقة قديمة ووطيدة بين الشاعرة والمكان، هذا البيت الذي مضى عليه ردحٌ من الزمن بالتأكيد، حتى أنّ الشروخ بدت في جدرانه، و رغم ذلك العطب -وإن كان بسيطًا- إلا إنّه ملحوظ لدى الشاعرة على الأقل، والملاحظة قد تجاوزت الرؤية إلى الأثر الخاص في النفس، هذا الأثر دليل صلة وثيقة بالمكان، صلة إيجابية، تحتفي الشاعرة به، رغم غلالة غلالة الحزن الذي تلفّه، ممثلة بعبارة (تزحزح الضيق) و(تتسرب منها).

لا تصرح الشاعرة بمفردة البيت، لكنها تذكر العديد من مكوناته، فيظهر بشكل جزئي صريح، ثم تكتمل الصورة في مخيلة المتلقي، ما هو ذلك المكان الذي يتألف من جدران وغرف، ويصلح للنوم، المكان الذي ترتدي فيه سيدته قميصها الليلي، وتهتم للشروخ في جدرانه. إنه البيت – الملاذ، والذي يكاد يتكافأ مع العمر، بسبب العشرة الطويلة له من جهة، وقد ظهر في مفردات سبقت في النص، ومن جهة ثانية حين تتسرب من الغرف الأجساد والأحلام، كمن يفقد في حياته ومع مرور العمر، أشخاصًا يغادرون، وأحلامًا تتبدّد. ومن جهة أخيرة حين يصير كالعمر المنذور للحبيب، هذا البيت مخبأٌ آمنٌ له.