
الواثق يونس
شاعر وناقد سوداني
إنها نيويورك، فتاة الحداثة البارعة في فن الإغراء، ودعوى التقدم المستفزة، وأيقونة النظام العالمي الحديث بشواهقها العاليات وشوارعها التي تصل الأفق بالأفق كما يقول عبد الباري، لمَّا تزل موضوعًا لحوارٍ شعريٍّ ساخنٍ منذ مطلع القرن العشرين وحتى الساعة. يأتيها الشعراء ليوقظوا الدهشةَ في نفوسهم، وسرعان ما يأخذهم الحنين للبداهة والطبيعة، وكأن كل من زارها انفصم بين ذاتين أو زمنين، يطلبون إليها الدخول والقبول ولكن يتغنون بجمال غيرها، يحبونها ويكرهونها في آنٍ معًا، وهل أدْعَى لقول الشعر من هذا النزاع الشعوري المزمن؟! ولهذا لا غرو ولا غرابة في أن تجد مؤلَّفًا من خمسمئة صفحة أو يزيد باسم “أشعار نيويورك” ومجموعات شعرية لعمالقة كبار مثل الإسباني فيدريكو جارسيا لوركا وسعدي يوسف وأدونيس وغيرهم.
يحاول هذا المقال أن يتأمل نيويورك في واحدة من هذه التجارب، تحت ضوء ما سبقها من أعمال شعراء كبار، وهي تجربة “أغنية لعبور النهر مرتين” للشاعر السوداني محمد عبد الباري، القصيدة المطوَّلة التي كتبها في أثناء إقامته في نيويورك. ولأن المدينة كما أسلفنا قد ألهمت مجموعة عظيمة من الشعراء، فلا بد من مقاربة هذه القصيدة كحوار وتَصَادٍ مع ما سبقها من كتابات، خاصةً كتابة شاعر إفريقي مثلما في تجربة ليوبولد سنغور الشاعر السنغالي الكبير، أو شاعر عربي ومسلم مثل الأخضر سعدي يوسف أو أدونيس وكلاهما حاور المدينة وكتبها شعرًا.
افتتح الشاعر محمد عبد الباري قصيدته المطوَّلة بالرحيل والبحث، وكأن القصيدة كلها عبارة عن اكتشاف للضفة الأخرى من ذات الشاعر باعتبار أن الآخر مرآة الأنا، ونيويورك هي المرآة هنا التي يعيد الشاعر فيها اكتشاف ذاته ويكتب سيرته، إنها سيرة من نوع آخر، فعلى غير ما فعل الشعراء الآخرون كان محمد عبد الباري يكتب سيرته كشاعر من الجهة الأخرى في حديثه عن المدينة ومعها، حينما يرسم مشهد الدخول للمدينة وكأنه شعبٌ بأكمله أو سفيرُ أمة وهو يقول:
مرحى نيويورك
الرحيلُ مع المطالعِ قد تناهى بي إليكِ!
هو الخليجُ على جنوبِكِ
يفتحُ البوَّابةَ الزرقاءَ لي
لأَسِيلَ بين القادمينَ بلا وجوهٍ
من هوى الأفقِ الجديدِ إلى هوى الأفقِ الجديدْ.
الروح عيدْ.
وشُعلتي تتقدم الشُعَلَ المضاءةَ باتجاه مدينةِ الدنيا
وتدخل رايتي في سربِ راياتٍ تعالتْ تحت مجدِ الله
يا هذي المدينة
ذوبيني في المزيج الحارِّ منكِ
لكي أُجرِّبَ وحدةَ المعنى
وشُقِّي بي مدارَ الطاقةِ الناريةِ البيضاءِ فيكِ
لكي أفيضَ عن الرمادْ!
هنا يدخل الشاعر كجزءٍ من بانوراما أممية، رايات، وألوان، ونفوس، إلى مدينة الدنيا، ومقر الأمم المتحدة، وعولمة التجارة والاقتصاد الهائل، لكنه يجعل دخوله تحت رايات تعالت تحت مجد الله، في مدينة الدنيا والبهرج المعدني الغارق في دنويوته وماديته، غير أنه سرعان ما يلتقي بسلفه الإفريقي سنغور وهو يقول: ذوِّبيني في المزيج الحار منكِ. وكأنه يعيد مناشدة سنغور للمدينة -التي وصفها بالبرودة- بأن تدَعَ دماءَه السوداء تتدفَّق في دمائها في قصيدته المشهورة “إلى نيويورك”،هو الزنجي الداخل على مدينة يرى أنها تحتاجه، تحتاج أن تحتضن عنصره ودماءه الحارة كي تُكمِلَ بها النموذج الإنساني الذي عجزت عن تمثُّله الحضارة الغربية التي أنتجته. ولكن عبد الباري يمعن في الطلب على نحو لا يخلو من تناقض وهو يقول:
فيا مدينتي الجريئة
حرِّريني من قديمِ وجوهيَ الموروثةِ الأولى
ولو بجديد أقنعةِ السَّرابْ
*******
أريد من الغواية أن تزيحَ ستارةَ الصوفي عن جسدي
وفي المرآة من مِللي التي لا يمكن التحديق فيها مرتين:
أريد أن تتفجَّر الآن المسامُ من الإثارة في عروقي.
وهكذا ككثير ممن كتبوا عن نيويورك، وأصابتهم بوجهها الآلي العملاق وحداثتها المفرطة، يتحرك نص عبد الباري مراوَحَةً بين الهجاء والمدح، بين الرغبة والرهبة، فالشاعر يريد منها أن تخلع عنه جبة الصوفي أن يغرق في عالمها الدنيوي أن يتفجَّر إثارةً، وأن تُلبسه وجوهًا جديدةً ولو كانت سرابًا! وهنا يبرز التناقض من جديد فهو يطلبها ولكنه يرى فيها تطابقًا مع الجهة السالبة من أناه الممزقة، فكل ملامح المدينة تنقلب فجأةً تمثيلًا لبؤسه: مشاةٌ كأسباب خوفي/لافتاتٌ دعائيةٌ كملامِحِ وجهي أراها أماميَ تكذِبُ /تَكَاسٍ وصفراء صفراء مثل احتمالات موتي أراها خلال المكان تجوسُ.
إنها نيويورك.. بوابة الحيرة إنها الذهاب إلى الأقاصي من الجسد والأرض .
- هارلم
مثلما كانت نيويورك مثالًا للعولمة الصادمة، وما يصاحب هذا المصطلح من معاني انهيار الخصوصية الثقافية، حتى قبل أن تتجلى هذه المعالم والمصطلحات في واقعنا الحديث، ومثلما بهرت لوركا قبل تسعة عقود وكتب مجموعته الشهيرة “شاعر في نيويورك” التي استعرنا عنوانها للحديث عن تجربة عبد الباري، فإنها أيضًا فتحت نافذةَ “هارلم” أمام عينيه، هذا الحي الذي احتضن الاختلاف والزنوجة، وصارت مشهدًا أصيلًا في أعين الشعراء من بعده مثل سنغور في القصيدة المذكورة آنفًا:
رأيت هارلم تعجُّ بالأصوات والألوان الطقوسية
ورائِحة الفضوح —
في ساعة شرب الشاي المسائي، في منزلِ عامل توصيل الأدوية، رأيت مهرجان الليل يبدأ بانحسار النهار.
وأنا أعلن أن الليل أصدقُ من النهار.
إنه الساعة الطاهرة، إذ يبعث الله الحياة الأزلية في الشوارع،
******
هارلم، هارلم! ها قد رأيت هارلم، هارلم!
نسمة خضراء من الذرة تتصاعد من الأرصفة
بذَرَتْها أقدام راقصي “الدان” الحافية،
أردافٌ تتموج كالحرير، وصُدور شامخة كأعالي الرماح،
باليهات النيلوفر،
والأقنعة الخيالية الرائعة،
وثمار مانجو الحب وهي تتساقط مُتَدَحْرِجةً من المنازل المنخفضة.
كان سنغور يرى في “هارلم” إمكانات كامنة لفكرة الحداثة المشرقة التي تعج بالحياة والتي يتساوى فيها الناس، عالمًا ينصف الزنجي الأسود ويغسل عنه تاريخ الاستعباد، وهو يقرر أن الليل الأسود أصدق من النهار وأنه لحظة مقدسة يبذر فيها الله الحياة في االشوارع.
- لوركا
وقف لوركا ينادي:
أواه يا هارلم..
ليس هناك من أسىً يعادل عينيك المسحوقتين!
غير أن لوركا في فتنته السريالية كان يغني بمرارة وسخرية معًا، وبأمل يشتبك مع العجز بأسلوب الصورة المركبة التي تعول على السحر والأثر النفسي، كان يغني لأيقونة النهضة الزنجية “هارلم”، بارقة التحرر وفرصة الضمير الأبيض لاحتضان السواد واحترامه. ربما لم يقف عبد الباري طويلًا عند هارلم، ولكنه وقف وما كان له أن يتجاوزها أبدًا، يقول محمد عبد الباري:
هارلم
هلالٌ من الذهب المستحيل
أنا كالهلال أُصَلِّي
وأُمْسِكُ وحدي السموات
كي لا تميل!
كعادته أعادها إلى أفقه العربي الإسلامي هلالًا يقيم ميل السموات فهو منذ البداية دخل المدينة تحت مجد الله لم ينس أنه يمثِّل أفقًا آخر، وإن طلب إلى المدينة أن تخلع على مائه سرابَها، لم ينس محمد عبد الباري أن يحاكم المدينة ويكذِّبها ويكذِّب تاريخها الحضاري وهو يقول:
أنا في المدينة يكذب التاريخ
يكذب في المحيط الأطلسي غيابُ ماء الأبيض المتوسط
الآثارُ تكذبُ في المتاحف..
حتى يقول: ….. وتكذب في المسيح عيونه الزرقاء!
المسيح الآتي من الشرق وقد تحول في صور الكنائس إلى أوروبي بعيون زرقاء، لم يبتعد كثيرًا محمد عبد الباري في محاكمته المدينة عمَّن سبقه من الشعراء لكنه أبدع في تذكره للجذور، في عودته وفي سيرته التي عادت به من مدينة الدنيا كما سمَّاها إلى مدينة المناقل في السودان، حيث وُلِدَ: في النصف من أعمال برج الجدي جئتُ لوحشَةِ البشريّ فيمن جاؤوا/ ذاق الترابُ الماءَ شعَّتْ في المناقِلِ فكرتي الشفَّافةُ السمراءُ…! وإلى حواري الرياض حيث شبَّ وكبر، وكأنَّه يجر نيويورك من شَعْرِها إلى عالَمِه الشرقيّ ليقرأَ على مسامعها سيرةَ الشاعر وبحثِه القديم وحيرته في مواجهة العالم.