
عماد بابكر
شاعر وكاتب سوداني
نظّمت دارة الشعر العربي بالفجيرة جلسةً أدبيةً بعنوان “قيم وشيم في أشعار العرب”، في مقر بيت الفلسفة بالإمارة.
واستضافت الجلسة الدكتور فيصل الشهراني باحث وأكاديمي من المملكة العربية السعودية، والدكتورة مريم الهاشمي ناقدة وأكاديمية من دولة الإمارات، حيث سلطت الجلسة الضوء على القيم ومكارم الأخلاق التي عُرف بها العرب وتجسّدت في أجمل قصائد الشعراء عبر العصور.
واستعرضت الجلسة القصص التي وردت في التراث العربي ودواوين العرب عن القيم الأصيلة والأخلاق الكريمة التي شكّلت مظهرًا هامًّا من مظاهر الحياة الاجتماعية اليومية وارتبطت بقصائد الشعراء وحكايات العرب.
حضر الجلسة جمع من الشعراء والأدباء والمهتمين.
“لك مئة ألف درهم”.. لك أن تتصوَّر كم مجلسًا لأمير أو خليفة انفَضَّ بأُعطيات للشعراء، لكن هذا المشهد سبقته تجارب كثيرة عجمت عود الشاعر وصقلت موهبته، وقد يُخالطه عرضُ شِعْرِه على أهل اللغة والذائقة، ثم يُصلِح من شأن عباءته مثلما يُصْلِح الآن شاعرٌ ربطةَ عنقِهِ وبدلته في انتظار أن يدعوه المذيع لمسرح التتويج في ختام سباق طويل.
الجائزة
شكَّلت الجوائز الأدبية ملمحًا لافتًا من ملامح هذا العصر، فما من مدينة من الحواضر المهتمة بالفعل الثقافي إلا ولها جائزة أو جوائز، تختلف آليات عملها وضروب اهتمامها، كما تختلف قيمها المالية والأدبية، وتستحوذ الجوائز الشعرية في العالم العربي على اهتمام ورعاية ومتابعة لأخبارها ولمجريات التسابق والمُتَوَّجين بها نهاية الأمر. وهذا أمرٌ مفهومٌ ومتوقعٌ للعارف بأثر هذه الجوائز على الشعر والشعراء، ولمكانة الشعر في الثقافة العربية.
يقول ابن منظور في «لسان العرب» في باب الجيم:” الجائزة: العطية” مُورِدًا عددًا من الأقوال، ورادًّا الكلمة لأكثر من أصل، وهي في حاضرنا لا تبعد عن الأصل المعجمي وإنْ تطورت الدلالة تطورَ الحياة وتَغَيُّرَها. ويذهب الكثير من أهل الأدب إلى كون الجوائز تطورًا طبيعيًا اقتضته حركة الأيام للأعطيات التي يبذلها الممدوح للشاعر في الماضي، ولئن كان المشهد الختامي عطاءً تتحدث به الناس؛ فلقد جاز الشاعر المادح مراحل سابقة من منافسة بين الشعراء، ومحاولات متكررة لصناعة اسمه، ذلك الاسم الذي سيرفع اسمًا آخر بمدحه، فيبقى الاسمُ وصاحِبُه قد فارق. ومن مشهور ما يدلُّ على ذلك ما كان بين سيدنا عُمَر بن الخطاب وابنة هَرِم بن سِنان وقد وفدت عليه في خلافته، فقال لها: “ما الذي أعطى أبوكِ زهيرًا حتى قابلَهُ من المديح بما قد سار فيه؟”، فقالت: ما أعطى هرِمُ زهيرًا قد نُسي!”، فقال: “ولكنَّ ما أعطاكم زهير لا يُنْسَى”.
زهرات مختلفات
أعلى سيدنا عمر في مقالته لابنة هرِم بن سِنان من دور الكلمة وقدر الشاعر، وكان رضي الله عنه مقدِّمًا لزهير في الشعراء، ولقد مدح زهير هرِمَ بن سنان فأجاد، وأعطى هَرِم لزهير فأغدق، وكان كل واحد منهما للآخر معينًا، وكان كلاهما بصاحبه جديرًا، ثم ها هو صاحب “البُرْدَة” الإمام شرف الدين البوصيري يجمعهما في شطرٍ واحدٍ:
وَلَمْ أُرِدْ زَهْرَةَ الدُّنْيَا الَّتيِ اقْتَطَفَتْ
يَدَا زُهَيْرٍ بِمَا أَثْنَى عَلَى هَرِمِ
إن البوصيري يريد مثوبةَ قصيدته في آخرته، كما صرَّح في البيت ذاكرًا ما نالَهُ زهير من أعطيات هَرِم (زهرة الدنيا)، البوصيري يرى زهيرًا قد نال نظيرَ قصيدِه، وسيدنا عمر يقول: “ولكن ما أعطاكم زهير لا يُنسَى”، ولقد أخذ هذا وأخذ ذاك، وأعطى هذا وأعطى ذاك، في علاقةٍ تبادليةٍ الشاهدُ فيها هاهنا خبر معين، وفي أخبار العرب الكثير مما يصلح الاستشهاد به فيما كان من تبادل الفائدة بين المادحين والممدوحين، وهي كذلك سارية اليوم فيما تقوم به الجوائز.
وليست زهرات الدنيا (الجوائز) مالًا يأخذه الحاصل عليها فحسب، وإنما فيها الإضافة الأدبية والقوة الدافعة للشاعر في سماء الشهرة والنجوميةـ فالفوز بجائزة ذات قيمة يسلط الضوء على الشاعر ويفتح الباب أمامه للمشاركة في كبير المهرجانات، وسرعان ما تجعله مطلوبًا في أمسيات الشعر، وتلفت نظر النقاد والمهتمين إليه، وجمهور الشعر ومحبيه في الوقت ذاته، وعلى الضفة الأخرى تمنح الجائزة مانحَها سمعةً حسنةً، وقوةً ناعمةً يُعْتَدُّ بها في موازين الدول الحديثة، خاصةً إنْ هو أخذ الأمرَ بحقِّه، وأحسن إدارته ولم يُفَرِّط فيما هو فنيّ، واستطاع أن يجمع بين القيمة المالية والثقل الفني.
صكُّ الدخول
لعل من أهم شروط الثِّقَل الفني أن يكون الناظر في القصيدة (لجان التحكيم) من أهل المعرفة والتخصص والنظر الثاقب، ولا ترتفع قيمة الجائزة الفنية إلا بمثل هؤلاء، وحسب الشاعر في زمانٍ مضى أن يستحسن شِعرَه المُقَدَّمون في الشعر والمعتدُّ برأيهم فيه، مثلما كان الشعراء يأملون في الخروج من خيمة النابغة الذبياني بقولٍ منه يُعلي من شأنهم. ولقد كان إنشاد الشعر في مجالس العِليَة الممدوحة شهادةً في حدِّ ذاتِه على قدرة الشاعر وعلو مكانته، فالمورِد العَذْب كثيرُ الزحام، كما أن هؤلاء ذاتهم إن لم يكونوا شعراء فهم بالشعر عارفون، ومن ذلك خبرُ حسَّان بن ثابت الذي يرويه عندما أتى جبلةَ بن الْأَيْهَم الغسّاني وجلس بَين يديْه، وعن يمينه رجلٌ لَهُ ضفيرتان وَعَن يسَاره رجلٌ لا يعرفه حسان، فقال جبلة: أتعرف هذَيْن؟ -وكانا النَّابغة الذبيانيّ وعلقمة بن عبدة- فإِن شِئْت استنشدتَهُما وسمعتَ منهما ثمَّ إن شِئت أن تُنْشِد بعدهمَا أنشدْتَ، وإِن شئْتَ أن تسكتَ سكتَّ!
فأنشد النَّابِغَة:
كِليني لِهَمٍّ يا أُمَيْمَةُ ناصِبِ … وليلٍ أُقاسِيهِ بَطيء الْكَوَاكِبِ
قال حسان: فَذهب نصفي.
ثمَّ قَالَ جبلة لعلقمة: أنْشِد.. فَأَنْشدَ
طحا بك قلبٌ فِي الحسان طروب … بُعَيْد الشّبابِ عَصْرَ حَانَ مشيبُ
فَيقول حسان فذهب نصفي الآخر، فَقَالَ لي: أَنْت أعلم الْآن إِنْ شِئْتَ سَكَتَّ وَإِنْ شِئْتَ أنشدتَ.
فتشدَّد حسانُ وأنشد، وأُعطيَ ثلاثمئة دينار، وكُسيَ… والخبرُ طويل.
ولكم كانت مجالس الأمراء والخلفاء مجالسًا لأهل اللغة والعلم والشعراء، لا يُنْشِدُ فيها إلا من اختُبِرَ، ولا يجلس فيها من الشعراء إلا مَنْ لانَ له الشِّعْرُ وأذْعَنَ.
بوصلة
مع طبيعة المجالس المعمورة بالعلماء وأهل اللغة، بدأت تتحدَّد مسارات العبور لكسب الأعطيات (الجوائز) والتي تمرُّ عبر بوابة أهل اللغة والأدب وما صاغوه من ذائقة جمعية تشمل الممدوح فيمن تشمل، الأمر الذي شكَّل ضغطًا جديدًا على الشاعر، فإمَّا أن تكون متجاوِزًا كالمتنبي الذي يجعل الآخرين في ركابه، أو أن تكون قصيدتك موائِمَةً لصانعي هذه الذائقة. في كتابه «تاريخ الأدب العربي» يتحدث العلّامة شوقي ضيف عن العصر العباسي وما شكَّل من ذائقة: “أصبح اللغويون سدنةَ الشعر فى هذا العصر وحُرَّاسَه، فمن نوَّهوا به طار اسمه، ومن لوَّحوا فى وجهه خمل وغدا نسيًا منسيًّا. ويلقانا كثيرٌ من الشعراء يَعرضون عليهم أشعارهم قبل إنشادها فى المحافل العظام، فإنْ استحسنوها مضوا فأنشدوها، وإنْ لم يستحسِنوها ذهبوا يُعاودون الكَرَّة بصُنع قصائد جديدة آمِلين أن تظفر باستحسانهم”، ثم يُورِدُ شواهدَ وبعضَ أخبارِ مَنْ عرَضَ قصيدَهُ من الشعراء على أهل اللغة. وبذا تكون الأعطيات قد حدَّدَتْ ذائقةً معينةً، وقبلها أغراضًا بعينها من قبيل: (المدح، الهجاء، الرثاء) ويكون فَلَكُها الممدوح، وهذا ما جعل شاعرًا مثل ذي الرِّمَة لا يُؤبَهُ له رغم استحسان معاصريه لشِعْرِه، وقد سأل ذي الرِّمَة الفرزدق: “كيف تسمع يا أبا فراس؟!”، قال: “أسمع حسنًا”. قال: “فما لي لا أعَدُّ في الفحول من الشعراء؟!”. قال: “يمْنَعُكَ من ذلك ويُباعِدُكَ ذِكْرُكَ الأبعار وبكاؤك الديار”.
ثم لما استعجم الأمراء وجهِلوا الشعر، بارت تجارة الشعراء، فترك الشعرَ بعضُهم، وانصرف بعضٌ إلى أغراض أخرى، يقول العلّامة عبد الله الطيب في كتابه البديع «المرشد» في حديثه عن قصيدة المدح “لما كسدت أخذ الشعراء في مسالك من النظم كالمقامات والألغاز والأوصاف البديعية الزخارف، حتى نهضت قصيدة المدح النبوي فكانت هي سيدة مجال الشعر”.
أخذٌ وعطاء
لئن تكن الجوائز حدَّدت بوصلة الاتجاه الغالب للشعر في غالب الأوقات، وجعلت من تياره مارًّا بقنوات معينة، المتماهون معها أكثر من المتمردين عليها، فلقد جعلت الشعر مطلوبًا، والشعراء وأخبارهم محلَّ اهتمام، حتى ارتبطت القيمة الفنية للشعر -بدرجة ملحوظة- بما يناله الشعراء، وكذا تفعل الجوائز الآن.