الذكاء الاصطناعي على مجهر قيس بن الملوّح | محمد ناصر الدين

د. محمد ناصر الدين

شاعر وأكاديمي لبناني

في عصر الذكاء الاصطناعي، يتسلل إلى حياتنا اليومية الكثير من المفاهيم المرتبطة بهذه الثورة الهائلة في عالم الرقمنة والمعلوماتية والأتمتة، ومنها مفهوم «الأفاتار» Avatar -هذا التمثيل الرقمي للذات أو للآخر- حتى صار الواجهة التي نتعامل عبرها مع العالم، ومع أنفسنا أحيانًا في كثير من منصات التواصل الاجتماعي، فهي تتيح لمستخدم الفيسبوك إنشاء شخصية كرتونية تشبهه، تُستخدم في التعليقات، والستوري (story)، والمحادثات، ويتحول الأفاتار في ميتافيرس إلى تمثيل ثلاثي الأبعاد يُستخدم للتجوال داخل العوالم الافتراضية، وحضور الاجتماعات أو الفعاليات الافتراضية عبر هوية رقمية “خفيفة” ومرحة، وفي 2022، أطلق تيك توك ميزة تتيح إنشاء أفاتار يحاكي تعابير وجه المستخدم بشكل مباشر من خلال الكاميرا. لكن، وبعيدًا عن غرابة التقنية، تبدو فكرة الأفاتار قديمة، بل موغلة في المخيلة الإنسانية، وقد صاغها الشعر العربي في صور بديعة قبل أن تولد الخوارزميات بزمن طويل.

في الأساطير الإغريقية، أحبَّ بيغماليون تمثالًا نحته بيديه، وناجى الآلهة أن تبعث فيه الحياة. تدور القصة التي ترِد في كتاب “التحوُّلات” لأوفيد حول نحَّات قبرصي بارع يُدعى بيغماليون، كان مهووسًا بالعثور على المقاييس المتناسقة بلا شائبة تشوبها في الجسد الأنثوي، وفي خضم البحث عن هذا الجسد المكتمل، فقد الإيمان بفكرة المرأة الحقيقية. هرب بيغماليون من الواقع نحو فنِّه، وشرع في نحت تمثال للمرأة التي في خياله، حتى فاقت جمال النساء الحقيقيات في نظره. وبمرور الوقت، وقع في حب التمثال العاجي الذي نحته، وقد سُمِّيَت المرأة “غالاتيا” في روايات لاحقة.

وفي زمننا، يصنع المستخدم تماثيل من بيانات وصور افتراضية، يبرمجها لتشبهه أو لتجسِّد حلمًا لا يجده في واقعه. لكن في الشعر العربي، وقبل أن تعرف البشرية الثورة الرقمية والكاميرا أو الحاسوب أو الواقع الافتراضي، اخترع قيس بن الملوّح نموذجًا فريدًا من الأفاتار: ليلى التي في قلبه، لا التي تمشي على الأرض.

ترد في الجزء العاشر من كتاب “الأغاني” لأبي الفرج الأصفهاني رواية غريبة عن أخبار قيس، مُلَخَّصها أن بعض أصدقائه أرادوا علاجه من جنونه، فأتوا له بليلى خُفيَةً، فلما رأى وجهها قال: «ما لي بها حاجة، إن ليلى التي في قلبي غير هذه«، وترد الرواية ذاتها بصيغة تختلف قليلًا في “نهاية الأرب” للنويري، إذ «سُئِلَ قيس عن ليلى، فقيل له: هذه هي، فقلب ينظر إليها ويقول: اللهم إني أعوذ بك من شرِّ هذه! فقيل له: هذه ليلى! فقال: بل ليلى في قلبي غير هذه!«.

لم تكن هذه قسوة، بل إعلانًا شعريًّا مذهلًا عن موت الجسد أمام خلود الصورة. لم يهِمْ قيس بليلى لأنها كانت امرأة بعينيْ ظبية وبشرة بسواد المسك، بل لأنه نسج منها كيانًا متوهِّجًا في خياله، أفاتارًا شعريًا يتجاوز اللحم والدم نحو الجمال المطلق.

بهذه الجملة العبقرية الفريدة، اخترق قيس بن الملوّح حدود التصور التقليدي للعشق، وأسس لفكرة أنَّ الذات قد لا تتصل بالآخر مباشرة، بل عبر وسيط رمزي يصنعه الخيال، وكأن قيس كان يقول، قبل وقت طويل من ظهور الواقع المعزز أو تقنيات الـواقع الافتراضي (Virtual reality)، إن الإنسان لا يحب الآخر كما هو، بل كما يتخيله ويريده أن يكون.

إنَّ ما فعله قيس، وما دأب عليه الكثير بعده وقبله من شعراء العرب (نتذكر هنا قصة وادي عبقر وشياطين الشعراء، والقدرة على مقارنة هذه الفكرة بالواقع الافتراضي)، لم يكن سوى صياغة متقدمة لما نسميه اليوم بالأفاتار. لكن الفرق الجوهري أن الشعر العربي حرَّر الأفاتار من بُعده التقني البارد، وجعل منه كيانًا مشبعًا بالشعر في قدرته على الابتكار والخلق. فالشاعر لم يصنع الأفاتار ليهرب من العالم، بل ليخلق عالماً أوسع. وفي هذا يكمن التفوق الجمالي والروحي للخيال العربي، إذ حوَّل الصورة إلى مفهوم للتجاوز (Transcendence)، لا إلى مفهوم مبتذل أو مقيد، وفتح من خلالها أفقًا للتأمل على ما لا نهاية له من احتمالات.

وفي المقابل، تبدو الأفاتارات الرقمية اليوم، مهما بدت مبهرة بصريًا، صورة باهتة عن ليلى العامرية في خيال المجنون. فهي مشروطة بالبيانات، محدودة بالإعدادات، وتدور في فلك المستخدم بدل أن تفتح له كونًا من الاحتمالات. أما ليلى قيس، فكانت لا تنتهي، تتجدد كلما سكنت الذاكرة، وتتسع كلما غابت، وتحضر حتى في الأسماء التي تشبه اسمها، ومنها ذلك الليل العربي العميق المفتوح على الصحراء في تعداد الليالي اللامتناهي: «أحبُ من الأسماءِ ما شابه أسمها/ ووافقهُ أو كانَ منهُ مُدانيا

 أَعدُ الليالي ليلةً بعد ليلةٍ/ وقد عشتُ دهراً لا أعدُ اللياليَ».

اليوم، ونحن نصنع “تماثيل ذكية” نكلمها وتكلمنا، ونلبس وجوهًا رقمية تتفاعل بالرموز والإيموجي، يجدر بنا أن نتأمل تجربة قيس. فقد سبقنا هذا الشاعر المجنون إلى اختراع الأفاتار، في لفتة عبقرية قبل ألف سنة من زمن “الذكاء الاصطناعي” من روح ترنو إلى حقيقة أسمى لا تُرى بالعين ولا تُقاس بالخوارزميات.

ولو أمعنَّا النظر أكثر في التراث الشعري العربي، سنعثر على التقاطة مذهلة أخرى لا تقل في مغزاها عن قصة قيس، وهي قصة القصيدة اليتيمة، التي سنوجزها كما وردت لدى القاضي علي بن محسن التنوخي ونشرتها مجلة الهلال المصرية (ج3 السنة 14، 1 ديسمبر 1905، ص174)، إذ ذكروا في سبب نظمها «أن فتاة من بنات أمير من أمراء نجد بارعة الجمال اسمها دعد، كانت شاعرة بليغة، وفيها أنفة. فخطبها من أبيها جماعة كبيرة من كبار الأمراء وهي تأبى الزواج إلا برجل أشعر منها، فاستحث الشعراء قرائحهم ونظموا القصائد فلم یعجبها شيء مما نظموه. وشاع خبرها في أنحاء جزيرة العرب وتحدثوا بها. وکان في تهامة شاعر بلیغ حدثته نفسه أن ينظم قصيدة في سبيل تلك الشاعرة. فنظم تلك القصيدة… وركب ناقته وشخص إلى نجد، فالتقى في طريقه بشاعر شاخص إليها لنفس السبب وقد نظم قصيدة في دعد. فلما اجتمعا باح التهامي لصاحبه بغرضه، وقرأ له قصيدته. فرأى أن قصيدة التهامي أعلى طبقة من قصيدته، وأنه إذا جاء بها إلى دعد أجابته إلى خطبتها. فوسوس له الشيطان أن يقتل صاحبه وينتحل قصيدته فقتله. وحمل القصيدة حتى أتى نجد كذا، ونزل على ذلك الأمير، وأخبره بما حمله على المجيء. فدعا الأمير ابنته فجلست بحيث تسمع وترى. وأخذ الشاعر ينشد القصيدة بصوت عال على جاري عادتهم. فأدركت دعد من لهجته أنه ليس تهامياً، ولكنها سمعت في أثناء إنشاده أبياتاً تدل على أن ناظمها من تهامة. فعلمت بنباهتها وفراستها أن الرجل قتل صاحب القصيدة وانتحل قصيدته. فصاحت بأبيها “اقتلوا هذا، إنه قاتل بعلي”. فقبضوا عليه، واستنطقوه فاعترف»…! قد تبدو القصة عزيزي القارئ من نسيج الحكايات الشعبية، لكن فيها لمحة فكرية عميقة تُعيدنا إلى منتصف القرن العشرين، حين صاغ عالم الرياضيات البريطاني آلان تورينغ ما يُعرف اليوم بـ »اختبار تورينغ«، وهو من أكثر المفاهيم شهرة في الذكاء الاصطناعي.

في اختبار تورينغ، يُطلب من حَكَم بشري أن يتحدث مع طرفين دون أن يراهما: أحدهما إنسان، والآخر آلة. فإذا لم يستطع الحكم تمييز الآلة من الإنسان من خلال الحوار وحده، فإن الآلة “تجتاز” الاختبار وتُعد قادرة على محاكاة الذكاء البشري.

وهنا تظهر عبقرية الالتقاطة: في قصة دعد، نجد شاعرًا قاتلًا منتحلًا يتقمص صوتًا شعريًا ليس له. يقدِّم نفسه على أنه التهامي الشاعر الحقيقي، يقف أمام حَكَم فريد:  دعد، الشاعرة، القارئة، الحاذقة، العارفة بالبيئة والذوق واللسان: تستنطق للقصيدة، وتنصت لِلَّهجة بأدق خفاياها، وتلاحظ المفارقة الدقيقة بين من نظم القصيدة (مفهوم الأصالة) ومن ينسبها لنفسه (مفهوم التقليد والمحاكاة). فتفشل الآلة البشرية (القاتل) في اختبارها وتصرخ الأميرة في وجه الشاعر المزيَّف: “أنت قاتل بَعلي”، لا لأن القصيدة ضعيفة، بل لأنها تفشل في التجسُّد الحقيقي لصاحبها، كما تفشل الآلة المتمثلة بالذكاء الاصطناعي اليوم في كتابة نص واحد يقترب من روح المتنبي الشعرية، أو في رسم لوحة تلامس بألوانها الزرقاء والصفراء عالم فان غوغ في أصالته وابتكاره.

كأن دعد أدَّت نسخة بدائية وفطرية من اختبار تورينغ، دون أن تحتاج إلى برمجة أو خوارزميات، بل اعتمدت على الحدس، والذائقة، والمعرفة الدقيقة بالسياق، وهي أدوات الحُكم الحقيقية حتى في عالم الذكاء الاصطناعي اليوم.

المفارقة الجميلة في قصة دعد، هو أن الآلة ليست مصنوعة من السيليكون، بل من الكذب والحسد، آلة تقمصت صوتًا، ولكنها لم تُحسن أداء الدور حتى النهاية. في زمن تتزايد فيه قدرة الآلات على الكتابة والرسم والمحاورة، تذكّرنا دعد بأن الإنسان، حين يمتلك الذائقة والعقل النقدي، يظل قادرًا على التفريق بين الأصيل والمقلّد، بين الذات والصوت المستعار هي لحظة تورينغ، لكن بنكهة عربية خالصة، كما تذكرنا قصة قيس بجنوح ملكة الخيال لصنع أفاتار أنثوي في قلب الصحراء المرصعة بالنجوم. مستندًا إلى هذا التراث العربي المذهل، يسائل كاتب هذه السطور الروبوتات في سيناريو متخيل في القرن الثلاثين عن الأصالة والروح والتجربة الداخلية التي ينطوي فيها “العالم الأكبر” في الجِرم الصغير، يستنطقها حين تنتصر على صانعيها بما تحدث عنه الباحث الأمريكي نيك بوستروم في كتابه: “الذكاء الفائق” (Superintelligence): «الرجال الآليون/ حين تخلو منّا الأرض/ يقدحون جماجمنا العتيقة/ أيها الحمقى/ كيف اخترعتم الحب/ وكيف وصفتم الوردة؟/ يا بودلير/ ويا هوميروس/ ويا أيها الشاعر المجنون في صحراء العرب/ خذوا الأرض إذا شئتم/ ولكن/ أعيدوا لنا البكاء».

0
    0
    سلة المشتريات
    السلة فارغة