ملامح الحداثة في شعر ابن سهل الأندلسي

WhatsApp Image 2024-10-17 at 12.34.48 PM (1)

حسين السلطان

شاعر/ العراق

يبدو أنَّ فهم العربي الفطري لفكرة الزمن كان متفوقًا متقدمًا على فهم غيرهم ، فقد ارتبط الزمن عند العرب بالفعل ارتباطًا حتميًا فلا يتحقق أحدهما بغير تحقق الآخر .

لذا فإنَّ الكلام عن الحداثة بوصفها زمنًا مجردًا لا يعبر عن الواقع بالدقة المطلوبة ، فالحداثة وعاء لفعل خاضع لظروف فنية واجتماعية تقدم بعض الاشتغالات الإبداعية على اشتغالات أخرى .

لا يمكن إنكار أنَّ مصطلح الحداثة مصطلح مرن لا يمكن تحديده بتعريف جامع مانع ، لكن المبدأ العام يشير إلى أنَّ الحداثة في الشعر هي إيجاد زوايا جديدة لم تطلها عين لينظر الشاعر إليها ويعبر عنها ويسقطها أحيانًا على فكرة أسمى أو ينظر إليها مستقلة فتكون رسالته اكتشاف أو ابتكار جمال جديد .

ولأنّ ما قدمناه يسير محفوفًا بظروف ثقافية وفنية متغيرة مع الزمن متطورة أو متدهورة ، فقد تبلورت صورة الحديث بشكل محدد يمثل التصوير الشعري الممتزج مع الرؤى الفنية للفنون المختلفة كالرسم والنحت فضلًا عن السرد ، ثم يتحقق التحديث بالتكثيف وإصابة التعبير قلبَ المعنى الذي يريده الشاعر مرة والقارئ مرة أخرى .

ولا يخفى تأثر الشعر الموزون ذي الشطرين بقواعد الأشكال الشعرية المستحدثة مثل قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر وقد أخذ منهما وأعطى فأُنتج شكلٌ مختلف في أغراضه وتعبيره وصياغته عن الشكل الموروث .

 وهنا يسأل السائل: إذا سلمنا بأن الحداثة تقدم شكلًا شعريًا ينتمي لعصره ويتأثر بالظروف الفنية والثقافية المحيطة به ، فما لابن سهل الأندلسي -وهو الذي عاش في القرن الثالث عشر الميلادي- وعصرنا وحداثتنا ؟

فيكون الجواب بالإشارة إلى ارتباط الزمن بالفعل فإذا قدم الفعل ملامح صورة تنتمي إلى غير زمنه فقد اخترق زمنه وعبر إلى زمن غيره ، وما أسهل أن يقال أن للجواهري قصائد جاهلية ، وفي مثالنا هذا نريد أن نقول أن لابن سهل قصائد أو أبياتًا على الأقل تنتمي إلى العصر الحديث .

 تحنُّ وتصبو كل عينٍ لحسنهِ                كأنَّ عيون الناسِ فيهِ قلوبُ

انظر معي إلى أثر هم من آثار الحداثة في الشطر الأول وهو تحريك الجمادات، إذ جعل العين فاعلًا حقًا لا فاعلا ينوب عن فاعل أو يشري إليه كما في التراث الأدبي كأن يقال رأت عيني أي رأيتُ .

ثم انظر إلى التشبيه في الشطر الثاني تجده تشبيهًا مبتكرًا يشبه به العين بالقلب الذي يحن ويصبو وهو بذلك عاد ليجعل القلب فاعلًا حقًا لا نائبًا عن صاحبه، وما الحداثة غير الابتكار ؟

خدٌّ جرى ماءُ النسيم بجَمْرِه           فاسودَّ مجرى الماء في الجَمَراتِ

كتَبَتْ حروفُ الشعرِ في وَجَناتِه      ما قد جَنَتْ عيناهُ في المُهُجاتِ

فترى ذنوبَ جُفونِه في خدِّه           يَبْدُو عليها رَونقُ الحَسناتِ

  من ملامح الحداثة بناء الوصف على الوصف ومزج المحسوس بالملموس وهو ما نسميه التركيب ، ونرى التراكيب المبتكرة فالوصف في أبياته التائية يصور للقارئ أثر الجهد على الموصوف إذ يسمي عرق الجهد ماءَ النسيم ويشير إلى كثرته وقد جرى على خده الأحمر المتوهج كالجمر فأطفأ من جمره ما أطفأ حتى صار بعض خده أسودًا ، وهو يفتخر بتعب الموصوف واسوداد وجناته ويزينه بشِعره ، ولا يكتفي بعد هذا بل يعود إلى نسبة الجمال لسواد جفونه ووجنتيه فيحمد سوادهما كما يُحمَد سواد الحسنة أو الخال.

دعوهُ يُذِبْ نفسي، ويهجر، ويجتهد           تَرَوْا كيف يعتزُّ الجمالُ ويَعْتَدِي

إذا ما رنا شَزرًا فمِن لحظِ أَحْوَر               وإن يَلْوِ إعراضًا فصفحةُ أَغْيَدِ

وعذَّبَ بالي نعَّمَ الله بالَه                         وسهَّدَنِي  لا ذاقَ بَلْوَى التَّسهُّدِ

يجد القارئ في هذه الأبيات وزنًا سرديًا يقربها إلى الحكاية فنرى ابن سهل يحركنا معه في دورة زمنية مبنية على مقدمة تكون علة نتعلق بها ثم حبكة من أحداث متتالية كلها في البيت الأول إلى أن يخلص إلى ناتج علة وغاية عرضها  ولا ينسى أن يغرس في قلب حكايته بيتًا من الشعر مبني على الشرط والنتيجة أيضًا برسم صورة صدود المحبوب الذي يرى صدوده صورة من صورة الجمال ، ثم يعود بنا إلى حكايته التي يسردها ويقف وقفة المفعول به الذي عُذب وسُهِّد وهو يرى عذابه وسهده نعيم وفضل من المحبوب الذي يدعو له بأن يسلم من العلل التى أصيب بها من فعله.

قد أكتفي بعرض هذه الأبيات التي احتوت ملامح مختلفة تظهر لنا الحداثة في غير عصرها وغير وعائها عند شاعر سبق عصر ونظر بأعين أحفاده وسبق إلى صور قد يكتبها شاعر اليوم ويظن أن لم يُسبق إليها فلا يلام ، ولا بدّض من الإشارة إلى أن ما وجدناه في شعر ابن سهل ليس حكرًا عليه بل قد نجده عند كثير من الشعراء في عصور مختلفة من عصور الأدب وبيئات متنوعة كذلك غير أني اخترت ابن سهل المنسي لنتجول معًا في تجربته الشعرية الفريدة التي استطاع بها اختراق الزمن قبل أن يعلم أنشتاين أن ذلك ممكن.