سياحة في «إشراقة» التجاني يوسف بشير

د. أسامة تاج السر

شاعر وأكاديمي سوداني

في الليلِ عُمقٌ، وفي الدُّجَى نَفَقٌ

لو صُبَّ فيه الزَّمانُ، لابتَلَعَهْ

لو مزَّقَ الرَّعدُ مَسْمَعَي أحَدٍ

في عمقِ ذاك الدُّجى، لَمَا سَمِعَهْ

لو أُفرِغَ الفَجْرُ ذو الجوانبِ في

أدنى إناءٍ من عِنْدَه وسِعَهْ

تظلُّ في صدرِه كواكِبُهْ

غرقى، وأمُّ النجومِ مُضطجِعَةْ

تَضِلُّ فيه الحياةُ عالمَها

كما يَضِلُّ الغريبُ مُرتبَعَهْ

 

         لا يُذكر الشِّعْر السودانيّ إلا وحضر التجاني يوسف بشير (1912م ـ 1937م)، بكامل رونقه، على قِصَر عمره الذي لم يتجاوز خمسةً وعشرين عامًا.

         وإذا كان محمد سعيد العباسي (1880م ـ 1963م)، هو باعث نهضة الشعر السودانيّ، وقد نقله بعيدًا عن التقليد الأعمى، مدحًا وتشطيرًا ومجاراةً، إلى شعرٍ حيٍّ فيه شخصيَّة الشاعر وهويَّته المائزة، بثراها السودانيّ ثقافةً وبيئةً وحضارة. فإنَّ التجاني هو باعث التجديد في هذا الشعر، تجديدًا جعله من المقدَّمين في الشعر السودانيّ خاصَّةً، والعربيّ عامَّةً. ويكفي أنْ نعلم أن ديوانه الذي أسماه (إشراقة)، هو أكثر دواوين الشعر السوداني طباعةً، إذ بلغت طبعاته أربع عشْرة طبعة أو يزيد. وتتناول هذه المقالة أهمّ الملامح الأسلوبيَّة والفكريَّة في هذا الديوان.

 

الملمح العَروضيّ العام للديوان وأثره:

 أبدأ من هذه الزاوية، ذات التأثير الأكبر على مشروع التجاني يوسف بشير، إذْ لم يكن العَروض عنده إطارًا خارجيًّا للشعر، بل هو روحه وجوهره، فهو القالب الذي يضبط المعاني والأخيلة واللغة، فمتى اتَّسَع الإطار تهلهل نسج الشعر ووهَى، ومتى ضاق قصَّر الشاعر عن إداراك معانيه. فهو يحيط فكرة الشاعر إحاطة السِّوار بالمِعْصَم، فإنْ ضاقَ السِّوار تورَّمت اليد، وإن اتَّسَع جال وانتفت قيمته. فالشاعر عندما يفكِّر في المعاني، فإنَّما يفكِّر من خلال الوزن، فتتأثر اللغة تأثُّرًا شديدًا بموسيقاه، فتأتي قِطعًا ذات تناسُق إيقاعيٍّ وموسيقيٍّ.

وإذا كان أكثر الشعر العربيِّ غنائيًّا ذاتيًّا، فإنَّ هذه الغنائيَّة تدفع الشاعر إلى تخيُّر الأوزان الرشيقة واضحة النغم، وأخصُّ من البحور: (الطويل، والبسيط، والكامل، والوافر، والرمل، والمتقارب). فهي أكثر دورانًا في الشعر العربيّ من غيرها، إذا أضفنا لها الخفيف، الذي يجانسها ويباينها في الوقت نفسه، فهو وحده الذي يجمع سباعيَّتَيْن من جنس هذه الأوزان (فاعلاتن ومستفعلن)، لا كما في المنسرح. ونجد بحور دائرة المشتبة: (السريع، والمنسرح، والمجتث، والمضارع، والمقتضب)، أقلّ دورانًا إذا قِيسَتْ بغيرها من البحور، يُدانيها في قِلَّتِها المديد والهزج، والخبب.

وإنَّ التعجُّب ليصيب الناقد عندما يعلم أن ديوان (إشراقة)، الذي ضمَّ إحدى وسبعين قصيدة (71)، في طبعاته المتأخرة، قد ضمَّ قصيدتين من الطويل والوافر، وهما من بحور الشعر المقدَّمة، والتي أسرف في تعاطيها المتنبي، وعِلية الشعراء. بينما هما عند التجاني -مجتمعين- يضمان قصيدتين اثنتين لا ثالثة لهما، واحدة في كلّ بحر! ثم يزداد الناقد تعجُّبًا حين يدرك أن أبحُر البسيط والرمل والمتقارب-مجتمعة- قد ضمَّت أربع عشرة قصيدة (14)، ستًّا من البسيط، إحداها من المخلَّع -وهو فرع من المنسرح، ضممناه إلى البسيط جريًا على ما اشتهر عند العروضيّين- وأربعًا من الرمل، ومثلها من المتقارب. وحتى بحر الكامل، وهو سيّد البحور كثرةً، غير مدافَع، كان حظُّ إشراقة منه تسع قصائد، منها الأحذّ، ومنها المجزوء. وكذلك ضمَّ الديوان قصيدتين من مجزوء الرجز. مع خلو الديوان من (المديد، والهزج، والخبب، والمقتضب، والمضارع).

 استأثرت دائرة المشتبه بالكثرة الغالبة من شعر التجاني، من خلال أربعة أبحرٍ، هي: الخفيف (ثلاثون قصيدة)، والسريع (خمس قصائد)، والمجتث (خمس قصائد)، والمنسرح (أربع قصائد)، وهو ما يربو على نصف عدد قصائد الديوان، إذ تبلغ نسبة هذه الدائرة في شعر التجاني 62% من مجموع القصائد! وهي النّسبة التي تكشف لنا بُعدين جوهريّين من أبعاد شعر التجاني يوسف بشير: اللغة، وطريقة التفكير، وهو ما يتَّضِح عند تناولهما.

 

لغة التجاني وثراء معجمه:

عند إنعام النظر في (إشراقة) نجد لغةَ التجاني دقيقةً وموجزةً، إذا وازنَّاها بطبيعة البحور، فهي تشاكل الأوزان ذوات النغم المنزوي الخفيض، وهو ما يُفسِّر قلَّة القصائد ذات الجرس الداوي، والتي تظهر من خلال أبحر (البسيط، والكامل، والوافر، والمتقارب، والطويل، والرَّمل)، ثمّ من خلال مجزوءات البحور. وإن كان الخفيف يقاربُ أكثر هذه البحور في عذوبة موسيقاه، إلا أنَّ التدوير يُخفي كثيرًا من جلجلة الموسيقى، وهي الثيمة التي اتكأ عليها التجاني كثيرًا في خفيفيّاته. وهو ما يدفعنا إلى القول: إنَّ العروض ذو دلالة فكريَّة لغويَّة، وليس  مجرد وزن وإيقاع وإطار خارجيّ، إذ هو القالبُ الذي تنصَبُّ عليه المعاني عاريةً قبل أن تتدثر بالألفاظ.

لغة التجاني ومعجمه:

 والملمح الآخر الأشدّ وضوحًا، هو معجم التجاني المُشبَع بالمعرفة، من خلال كثير من المفردات التي يتنكَّبها شعراء عصره، حتى يشعِرُك من هذه الناحية أنَّه ينتمي إلى عصر غير عصرنا القريب هذا، ونرجِّح افتتانه بالمتنبي وأبي تمام وأبي العلاء المعري، أكثر من افتتانه بغيرهم من الشعراء. وإن كان لي أن أتخيَّر من معجمه بعض الألفاظ المنقرضة عن معجم عصره، فخذ مثلًا: (اطّبى، ربذ، وعثير، وكنهور، وبدِيء، والرِّعان، وصيهود، وصيخود، ومقفقف، وجيْرِ، وأوفاض)، ولئن كانت هذه المفردات جميعها موجودة في المعجم، فقد جلَّاها وشقَّ عنها أصدافها، وجاء بها لتؤدي معانيها بدقَّة متناهية. ومن الشواهد عليها في شعره:

كلّما لجّ في الذهولِ اطَّبَاهُ المِزهرُ الرطبُ في يديه فشاقَهْ

وهي لفظة كثيرة الدوران في شعر التجاني، يكرِّرُها بلذَّة وخشوع أمام الجمال.

ويقول في قصيدة عنوانها (الله):

فتفلَّتُ من يديَّ، وسبَّحتُ بديئًا لأولِ الأشياءِ

وجمع بين وصفين من أوصاف الصحراء في قوله:

أفرغتها وبرغمي أنّها انحدرت     بيضاءَ كالروحِ في سوداءَ صيخودِ

وكم ألوذُ بمن لاذَ الأنامُ به         وأبتغي الظِّلَّ في تيهاءَ صيخودِ

ويأتي بالأوفاض في وصف النيل في قوله:

ملء أوفاضِك الجلالُ فمرحى        بالجلالِ المُفيض من أنسابِك

وفي وصف سرعة النيل يقول:

ربذًا يدفقُ الحياةَ على الوادي ويستنُّ في الكنانة مجرى

وكأنّه عمد إلى إدخال مؤثرات صوتيَّة كما يفعل أهل المسرح، حينما أراد أن يصف المهدي صاحب الثورة، من خلال توالي الحروف وتكرارها في المفردات، حتى لكأنَّك تسمع صوت الريح في الليالي الشاتية، حين يقول في مطلع القصيدة:

في دُجًى مُطبقٍ، ويومٍ دجوجيٍّ وليلٍ مُقفقفٍ مقرورِ

ولعلَّك انتبهت أنَّ أكثر الشواهد جاءت من قصائد من بحر الخفيف، والتدوير يعمرها جميعها، وهو من أهمّ الملامح الأسلوبيَّة التي تُظهر تمكُّن الشاعر من فكرته. وعندما تستشير المعجم عن هذه المفردات جميعها فسيخبرك أنّها أدّت معانيَ لم تكن لتؤدّى بغيرها من المفردات التي تدانيها في المعنى.

الدلالات الصرفيّة وجرأة الاشتقاق:

ولا تكتمل لغة الشاعر إلا من الناحية الصرفيَّة، ومن أخصّ صورها يأتي الاشتقاق. للتجاني جرأةٌ عجيبةٌ في اشتقاقاته. وهي على غرابتها، وخلوّ دواوين معاصريه منها، إلا أنَّها اشتقاقات صحيحة، جاءت لتؤدي معاني قد لا تؤديها الصيغ الأخرى، فكثيرًا ما نراه يعدل عن الصفة المشبَّهة إلى اسم الفاعل، فتجد في شعره من الاشتقاقات مثل: (مائت، وناجس، وساكر، ونغّام). في قوله:

واستفاقوا يا نيلُ، منكَ على نغَّام شجيّ من آلهيّ ربابك

وقوله:

لوددت أني في الطفولة مائتٌ لو كنتُ أسمع بالشباب العاثر

وكذلك تسمعه يقول:

قالوا: احرقوهُ، بل اصلبوهُ، بل انسفُوا للريحِ ناجسَ عظمِه وإهابه

ونختم كلّ ذلك بقوله:

قمْ لمُوحاكَ في الدُّجى بين صحوانَ نديٍّ وبين سهوانَ ساكرْ

 

ومن اجتراحاته في هذا المنحى النَّسَب إلى (آلهة)، فيقول (آلهيّ)، للتفريق الدقيق بين النسب إلى الإله الواحد، والآلهة المتعدِّدة، لا سيما وقد غلب المنهج الرومانتيكيّ على شعره، وكل (آلهيّ) في شعره ذو خصوصيّة بالجمال. ولكثرة ما أتى بهذه اللفظة في شعره، لتظنّنه يقول لك: هذه لفظتي واجتراحي، فأنا أكثِر منها حتَّى تقَرَّ في الشعر! وقد وردت لفظتا (اطّبى، يطّبي)، و(آلِهٌ، وآلهيّ) في أكثر من عشرة مواضع متفرقات بين القصائد!

 

النزعة الفكريّة: بين الفلسفة والتَّصوُّف

استغرق التجاني يوسف بشير في الفلسفة والتَّصوف، وهما أهمّ ملمَحَيْن فكريّين في الديوان، وكلاهما مما يكدُّ الذهن بالتأمل والتأني، بعيدًا عن الاندفاع والتعجّل. وهو ما يتوافق -أيضًا- مع طبيعة الثيمة الإيقاعيّة العروضيّة في شعره، ويدفعه إلى الأوزان كثيرة النغم، دون أن يكون لهذا النغم دويٌّ وهدير، إلا في مجزوءاته.

وأكثر شِعْر التجاني في تفكُّرِه في سرِّ هذا الوجود، بين الإيمان المحض، وبين الشكِّ الذي يحسو روحه حسو الطير من ماء الثماد! وللاستزادة من هذا الجانب، نُحيل إلى قصائده (الله، ودَّعت أمس يقيني، يؤلمني شكِّي، حيرة، الصوفي المعذَّب).

يقول التجاني:

وراحَ يجمعُ أطمارًا مرفَّأةً

مزيقةً عريَتْ منهُنَّ عطفــاهُ

 

حتى أتى جبلَ الأحقابِ وهو بِهِ

أحفَى وأحدَبَ فاستبكى فآســاهُ

 

وقام بين الرِّعانِ البِيضِ ملتَفِتًا

يصيحُ فى الأرضِ من أعماقِ دُنياهُ:

 

فى مَوضِعِ السِّرِّ مِن دُنياي مُتَّسَعٌ

للحــقِّ، أفتأُ يرعاني وأرعاه

 

هنا الحقيقة في جنبِيْ، هنا قبسٌ

من السمواتِ في قلبي، هنا اللهُ