الخروج من عباءة جميل بنِ مَعْمَر | نبيل عبدالكريم

نبيل عبدالكريم

كاتب أردني

لو كانت بُثينةُ شاعرةً ماذا تقول؟! أيحقُّ لصوتِها المحبوس في فضاء جميل بنِ مَعْمَرٍ أربعةَ عشرَ قرْنًا أنْ يجْهَرَ؟ صوتها؛ شخصيتها وكينونتها وعاطفتها وإرادتها، الذي ظلَّ مُضافًا، كاسمها، إلى صوت جميل، أما آنَ الأوان لأنْ يُسمحَ له أنْ يُغادِرَ عباءة جميلٍ، ويُحرَّرَ من سردية المُحِبِّ، ويستقلَّ بسرديته الخاصة، سردية المُحِبَّةِ وليس المحبوبة، وأنْ يستوي على عُودِ القصيدة ثمرةً ناضجةً، ناطقةً بذاتها، حلوِها ومُرِّها؟

ينتمي ديوان (بُثينةُ جميل)، الصادر حديثًا عن (دارة الشعر العربي بالفُجيرة)، إلى مشروع شعري خاص بشاعره، الشاعرِ الأردني عبد الله أبو شميس، يقوم على استنهاض المرأة من موقعها الهامشي، أو الثانوي، في التاريخ العربي الإسلامي، الديني والأدبي، ودعوتِها إلى المَتْنِ، أو الصدارة. ويُعَدُّ الديوان الجديد خطوة ثانية في هذا المشروع بعد ديوان (المَنْسِيّات) الصادر عن (دار أزمنة. عمّان. 2021)، ويسترجع فيه سيرة نساء ذكرهنَّ القرآن الكريم في سياق القصص القرآني، مثل حواء، وهاجر، وراحيل، وبلقيس، ومريم، وخديجة، عليهنّ السلام. وينهجُ في استرجاع السير النسائية القرآنية منهج استقراء الشخصية من الداخل، وبنائها من خلال التعبير بصوتها عن نفسها، ويقف منها موقفًا موضوعيًا، محاذرًا أنْ يتَّخذَ من صوتها وسيلة للتعبير عن نفسه، إلَّا بمقدار ما يرى أنَّ السرديات الكبرى، والمُتُون الرئيسة في التاريخ الإنساني، ركَّزت على أدوار الرجال، فأخّرت، أو أهملت، أو نسيت التركيز على أدوار النساء.

يقع الديوان في مئة واثنتي عشرة صفحة، وفيه اثنتا عشرة قصيدة، وتحمل كلها عناوينَ مفردةً، وليس فيها عنوان مركب، وفي العناوين المفردة دلالة على ترابط القصائد وانتظامها وتكاملها في عِقْدٍ يحيطُ بسيرة بثينة وشخصيتها من جوانبها كافة، من حيث إضاءة كلِّ عنوان لملمح من ملامح شخصيتها، وجانب من علاقتها المتشابكة مع شاعرها وحبيبها، وتكاملها كلِّها في إضاءة شاملة عليها. ولا شكَّ أن صاحب الديوان قد استعان في إضاءته شخصيةَ بثينة، إلى جانب صورتها الشعرية في ديوان جميل بنِ معمر، بالمصادر التاريخية التي روت أشياء من سيرتها خارج مرآة جميل، كما اطلع على الدراسات الحديثة التي حلَّلت شخصيتها من الناحية الإنسانية، وأوضحت البيئة الاجتماعية التي أطَّرت حكاية الشاعر معها.

يُفتتح الديوانُ بقصيدة (الناي)، والناي رديف الغناء، والغناء هو الشعر عند العرب. وفي هذه القصيدة تُفصح بثينة عن رغبتها بالقول، والتعبير عن ذاتها، والارتقاء بها إلى منزلة جميلٍ الذي تصفه بـ (سيِّد الشعر). وتُمثِّلُ القصيدة الأولى نوعًا من الخطاب التأسيسي، تُمهِّد فيه بثينة لكلِّ ما سَيَليها من قصائد، إذ انتقلتْ من موقع المُعَبَّرِ عنه إلى موقع المُعَبِّر. تقول مخاطبةً محبوبها:

أعِرْني مِنَ الناي

بعضَ الثقوب

أهرِّبُ فيها

الغرامَ الثقيلا

وثاني قصائد الديوان قصيدة (بثينة)، وهي قصيدة الهوية، وفيها تقدم بثينة نفسَها كما هي، لا كما رسمها جميل، ولا كما اتَّخذها الشعراء بعده صورة نمطية للمرأة المشتهاة الشبيهة تارة بظبية، وتارة بزهرة، وتارة بغيمة ماطرة، فتقول مخاطبة الشعراء:

فاستريحوا

من البحثِ

يا فقهاءَ الكلامِ

آمنوا بي

كما أنا

ليس كمثل بثينة شيءٌ،

وليس كمثلِ اسْمِها

في الأسامي!

وتخصُّ بثينة جميلًا بكلامها في القصيدة الثالثة (الغزالة)، وتخُصُّ بسهام النقد ذاتَه المُتضخِّمة، ونرجسيته التي حالت دون أنْ يحبَّها حبًا طبيعيًا بمعزل عن إخضاعها لخياله الشعري، وجعلها موضوعًا لقصيدته، فكأنَّه اختارها قصدًا لتكون ملهمته، يقدحُ بها زِناد عاطفته لينشئ قصائده البديعة، جاعلًا منها عبدةً لمزاجه الشعري:

أنتَ

لستَ تحبُ بثينةَ

إلَّا بمقدارِ ما تتوهَّجُ فيكَ القصائدُ…

تلمَسُني فتضيءُ

وتَهْربُ نحوَ البراري

والقصيدة الرابعة (النار) تحكي عن الحب الذي وُلِدَ مشوَّهًا بحكم اختلاطه بلوثة الشعر التي قضتْ عليه بأنْ لا يُقرُّه المجتمع البدوي في وادي القُرى. فكانت العلاقة بين الحبيبين محكومة بنهاية سيئة، ولم يُصِبْهما منها غيرُ الحسرة والضياع:

فكِلانا

تغرَّبَ عن نفسه

ومضى في طريقِ السرابِ…

كلانا

إذا ما رأى وجهَهُ

دونَ صاحبِهِ

يتحسَّرْ

القصيدة الخامسة (الشَّام) يتجلَّى فيها صوت بثينة العاشقة، الصريحة في التعبير عن عواطفها المشبوبة، الجريئة في البوح بافتتانها بمعشوقها، المندفعة في الكشف عن أشواقها إليه في رحلته من بادية الحجاز إلى الشام، ليهدمَ صورة بثينة المعشوقة المُتَمنِّعة التي كرَّسها جميل، وكرَّس صورته من خلالها إمامًا للعذريين، ونموذجًا للعاشق المُعَذّب، فإذا ببثينة تقلب الصورة، وتبدِّلُ المواقع، وإذا بعذاباتها تفوق عذاباته أضعافًا:

أنتَ من أشعلتَ نيراني

وأضْرمْتَ ضِرامي

ها أنا أصْهُلُ

كالمُهْرةِ

في ليلِ الهيامِ

القصيدة السادسة (الفَرَس) تنْضَحُ بالمرارة المتولدة من المفارقات التراجيدية في حكاية بثينة وجميل، ويُبْرِزُ صوتُ بثينة، بنبْرة عتاب ساخرة حاذقة، جانبَ الكوميديا السوداء في الحكاية. وتتَّخِذُ القصيدة من موقف لا يحتمله العاشقان مدخلًا للتعبير عن المأساة، هو موقف عُرْسِ بثينة، وفيه تسأل جميلًا عن الهدية التي سيقدمها لها بمناسبة زواجها من رجل غيره. وفي القصيدة تعريض بجميل الشاعر الذي لا يتخلَّى عن الشعر، لكنه يتخلَّى عن حبيبته، وفيها قدْرٌ وافر من رثاء النفس المستضعفة المخذولة من حبيبها، والمُجبرة من أهلها على الزواج من رجل لا تريد الزواج منه:

ستطولُ لياليكَ

بعدَ بثينةَ،

لكنَّما سوفَ تألفُها

يا جميلُ

سوفَ تصنعُ فيها

بثينةً أخرى

تعانقُها في القصائدِ

سوفَ تغنِّي

لها ولنفسكَ

أغنيةَ كنتَ تهذي بها

فوقَ حضني،

سيزهرُ غصن الغناءِ

ويقصُرُ ليلُ المغنِّي…

ولكنْ، تُرى

كم ستُغْنيكَ

تلكَ البثينة عنِّي؟

القصيدة السابعة (الخيمة) تكشف عن وجهٍ من وجوه بثينة، هو وجهُ المُتحلِّلة من أعذار العفة، والمحافطة على دلالها الأنثوي في الوقت نفسه، مُغويةً مُقبلةً على حبيبها غير عابئةٍ بالعواقب. والخفَّة التي تتبدى في شخصية بثينة في هذه القصيدة تُعدُّ ضربًا من التمرُّدِ على شخصيتها المستسلمة لمصيرها التراجيدي في القصيدة السابقة، إذ يبدو من الناحية النفسية أنْ القهر الاجتماعي الذي ألزمها الزواج من رجل غيرِ حبيبها، قد خلق لشخصيتها وجهين، وجهًا يتظاهر بقبول الأمر الواقع في العلن، ووجهًا يبطنُ الرفض في السِّر. والقصيدة تعبِّر عن الجانب السرِّي في هذه الشخصية المزدوجة، الحبيبة التي تدعو حبيبها للقائها في خيمتها.

عجِّلْ.. عجِّلْ

وتعالَ

أريدكَ

بينَ يديَ

هنا

والآنْ

أبعَدْتَ كثيرًا

في الظلِّ

وقدْ آنَ أوانُ العودةِ

للألوانْ

الليلة

سوف نُزوِّجُ

هذا الحبَّ العذريَّ

ونطعنُ صدرَ الحرمانْ

القصيدة الثامنة (طَلَل) هي قصيدة بثينة بعد أن عفا الزمن على حكايتها مع جميل، وقد عاشت بعده سنين، وصارت حكايتها ظلًّا من ظلال الماضي البعيد، وداخلتها الشكوك في أذهان مَنْ لم يُعاصِروا جميلًا، ولم يعرفوا بثينة في صباها. وسؤال ابنتها لها عن صحة الحكاية يكشف مدى التبدُّل الذي أحدثه الزمن في هيئتها مقارنةً بصورتها في قصائد جميل، فيكاد الناظرون إليها في شيخوختها لا يصدقون أنها المرأة الجميلة المعشوقة نفسها في القصائد:

يا جميلُ

كبُرتُ كثيرًا

ولم يبقَ منِّي

سوى طللٍ

في القصائدِ

يبدو لناظرهِ

مقفِرا

القصيدة التاسعة (النَّهر) وفيها تُظهر بثينةُ وجهَها النرجسي مقابل نرجسية جميل وذاتيته المفرطة في أنانيتها، وتقابل أنانيته الذكورية باعتدادها بأنوثتها، وتردُّ على هجره بإثارة غيرته:

والمحِبُّون عندي سواسيةٌ

لا أُفرِّقُ

ما بينَ مَنْ جاءَ أمسِ

ومن سيجيءُ غدا

كنتَ سيِّدَهم عندما كنت

خادمَ نهري الكبيرَ

ولكنْ

بثينةُ

ما كنتَ يومًا لها سيِّدا

في القصيدة العاشرة (الدَّالِيَة)، تفصح بثينة عن وجهها الإنساني المُجرَّدِ من أقنعة الخُيَلاء التي ألبسها جميل لها، وارتضت هي أنْ تلبسها استحسانًا منها لصورة المرأة المُتَعالية القاسية المشاعر. وهي بكشفها عن هشاشتها وضعفها، إنَّما تطلب من حبيبها أنْ يشاركها نزع الأقنعة التي يتقنَّعُ بها، وأنْ يُسْقِطَ من ناحيته الصورة المزيفة التي رسمها لنفسه عاشقًا جوّالًا في البلاد، مستعذِبًا البكاء والشكوى من ظلم حبيبته:

يا جميلُ

إلامَ تسافرُ كالغيمِ

فوقَ حنيني

فتذبلُ دونَ يديكَ سنيني

وتنجرِفُ

في القصيدة الحادية عشرة (جميل)، تكشف عن تشابك الحبيبين وانفصالهما، وائتلافهما واختلافهما، في علاقة مركبة معقدة، يجمعهما الإعجاب، ويفرقهما اختلاف الطباع، تربطهما الحاجة إلى الآخر برباط متين، ويَلَذُّ كلٌّ منهما بصحبة الآخر، وبما يُكنُّهُ من مشاعرَ نحوَهُ تملؤه رضًا، لكنَّ إحساس اليأس كان يعكِّرُ صَفْوَ العلاقة، وطولُ الانتظارِ يفسدُ الأمنيات:

كان يبكي كطفلٍ

ويضحك…

كالماء يرضى

ويغضبُ نارا

وأنا كنتُ

عاصفةً مثلَهُ

وجَرحْنا الغرامَ

شِجارًا

شِجارا

خاتمة القصائد (الأرملة)، رثاء بثينةَ جميلًا، ونهاية الحكاية الإنسانية، وبداية الحكاية الأدبية. لكنَّ بثينة ترثي نفسها مع جميل، وتغلقُ باب قلبها، وتعلنُ نفسها (أرملةَ الحُبّ)، وتنعى الحكاية الإنسانية والأدبية على حَدٍّ سواء:

أهذا هو الحُبُّ

يا صاحبي

لقدْ هَدَّنا

مُقْبِلًا مُدْبِرا

ولمْ يَبْقَ مِنّا

سوى أثَرٍ

وسرعانَ ما نَمَّحي

أثَرا

تستحقُّ النزعة المسرحية الدرامية في مشروع عبد الله أبو شميس الشعري نظرة مستفيضة جامعة، في هذا الديوان، وفي دواوينه السابقة، بأدوات النقد الأدبي التشريحية المتخصصة، وهو ما لا يتَّسِعُ له المقال في هذا المقام. إلَّا أنْ القارئ الحصيف المتذوق يَلْمسُ بوضوح في قصيدة أبي شميس امتزاجًا متوازنًا بين بعدين شعريين رئيسين، البعد الجمالي، والبعد المعرفي، يُؤَهِّل قصيدته لأنْ تمْلكَ حِسَّ القارئ وعقلَهُ معًا، وما كان هذا التَّمكُّنُ من الصنعة ممكنًا لولا تَبَحُّرُ الشاعر في التراث الشعري العربي، والديني الإسلامي، ولولا اطِّلاعه الواسع على الحداثة الشعرية، وأساليبِها في مراحلها المختلفة، وتجاربها المتنوعة، فتبدو قصيدته عميقة الجذور، وطالعة من تُربة خصبة، لكنَّ مُتنَفَّسها جديد، وثمارها طازجة. 

0
    0
    سلة المشتريات
    السلة فارغة