واقع الشعر العربي في مالي | عبد المنعم حسن

عبد المنعم حسن محمد

شاعر وكاتب من مالي

يوجد الشعر حيث توجد العربية، هذه اللغة التي تصافح القلوب وتدس في نبضها قصائد خالدة، تَحِلُّ معها حيث حلَّت، وتنمو تلقائيًا في وجدان كل من بدأ يتغنى بالألفاظ الأولى من كلامها المحيط، فهي تستريح على الألسنة موقَّعةً، وتبذر في الأرواح تميمةَ الشعر، فلا يخلو كل سبعة متحدثين بلسانها –أنَّى كانوا– من شاعر واحد على الأقل.

جمهورية مالي ليست مستثناة من القاعدة أعلاه، بل إنني لن أبتعد عن الصواب إذا زعمت أن أكثر الشعراء بالعربية في إفريقيا السمراء –باستثناء السودان– هم الماليّون. وعلى سبيل البداهة، يمكننا الزعم بأن أفضل شعراء إفريقيا غير الناطقة بالعربية من مالي، مع الاعتراف بوجاهة التجارب الشعرية في الأقطار الأخرى من القارة، وليس هذا ادِّعاءً يفتقر إلى البيِّنة، لأن تاريخ مالي وموقعها الاستراتيجي زماناً ومكاناً، شاهد على مدونة ضخمة لشعر عربي رصين أنتجه ماليون عبر أجيال تمتد إلى قرون في الماضي ولا تزال الأجيال الحاضرة تضيف وتُطوّر وتُواكب الصيرورة الطبيعية لنمو الشعر كما في العالم العربي.

قبل أن أفتح نافذة للإطلالة على بستان الشعر العربي الراهن في مالي، لا بد من عرض سريع لتاريخ العربية وشعرها في المنطقة، وهو عرض لن يكلفنا أكثر من العودة إلى ما قبل الاستعمار الفرنسي، حيث تعاقبت على حكم مالي إمبراطوريات وممالك إسلامية، أبرزها إمبراطورية السونغاي، التي امتد حكمها من 1464م إلى 1591م. وقد بلغت أوج ازدهارها في عهد الملك أسكيا محمد، سنة 898 للهجرة، 1493م. والذي حافظ على الإرث الإسلامي الذي غرسه ورعاه الملوك السابقون، وأعاد الوهج لمدينة تمبكتو وآثارها المادية والمعنوية، وهيَّأ المناخ للمثقفين وعلماء العربية، بل أرسل في طلب العالم والفقيه عبد الكريم المغيلي، داعيًا إيَّاه إلى القدوم من تلمسان والانضمام إلى حاشيته في تمبكتو، كما فعل الملك منسى موسى منذ قرون لدى عودته من رحلة الحج الشهيرة، حين اصطحب معه إلى مالي الشاعر أبي إسحاق الساحلي، وهذا من العلماء الذين هاجروا من الأندلس نحو المشرق، وبعد مغادرته الأندلس راح يطوف ويجول في البلدان إلى أن ألقى به التجوال إلى ملاقاة ملك مملكة مالي.

يروي صاحب “الإحاطة” بقوله: «واعلم أن منسى موسى الذي ذكرناه، كان من كبار الملوك كما قلنا، وهو الذي صحبه أبو إسحاق الساحلي، المعروف بالطويجي من شعراء الأندلس، كان قد لقيه في الموسم بعرفة، فحلى بعينه، وحظيت منزلته عنده فصحبه إلى بلاده، وأقام عنده مصحوبًا بالبر والكرامة… وكانت وفاة أبي إسحاق بتمبكتو، يوم الاثنين السابع والعشرين من جمادى الآخرة، سنة سبع وأربعين وسبعمائة»[1]. وعنه يقول: «كان رحمه الله نسيج وحده في الأدب نظمًا ونثرًا، لا يُشَقُّ فيهما غباره، كلام صافي الأديم غزير المائية، أنيق الديباجة موفور المادة، كثير الحلاوة، جامع بين الجزالة والرقة»[2].

تشهد له دالية قرضها في مملكة مالي وأرسلها إلى صديق له في الأندلس، من قصيدة تتقاطر رِقَّةً وتنضج على نار الحنين:

لِمَنِ الرَّكَائِبُ، خُضْنَ رَمْلَ زَرُودِ؟

وَسَرَيْنَ، بَيْنَ تَهَائِمٍ وَنُجُودِ

تَرَكُوكَ، تَسْتَقْرِي الْمَنَازِلَ بَعْدَهُمْ

وَسَرَوْا بِشِلْوِ فُؤَادِكَ الْمَفْؤُودِ

فَبِكُلِّ وَادٍ، أَنْتَ رَائِدُ مَرْبَعٍ

وَبِكُلِّ نَادٍ، أَنْتَ نَاشِدُ غِيدِ 

أوِي إِلَى أَجَمَاتِهِ مُسْتَسْلِمًا

وَأَهَابُ، مَأْوَى شَامِتٍ وحَسُودِ

أَخْشَى الْمَقِيلَ بِظِلّهِ مُسْتَوْفِرًا

وَأَضلُّ، بَيْنَ أَسَاوِدٍ وَأُسُودِ

فالساحلي كما شيَّد صرح تمبكتو الأبرز، وهو الجامع الكبير القائم إلى اليوم، فإنه أثَّر في نفوس معاصريه الماليين وانتشرت بينهم طريقته في قول الشعر، وتوارثوها عبر أجيال، ولعل نشأة كتابة الشعر العربي في غرب إفريقيا كلها تعود جذورها إلى حقبة الساحلي في تمبكتو.

ورغم أن الطابع العام للمنجز الشعري في مالي لا يمتاز عن النمط الكلاسيكي السائد، بل يعد غالبه تقليدًا للشعر العربي القديم، إلا أن جيل اليوم بدأ يلفت النظر بسلوك طرق جديدة وابتكار مضامين متنوعة تعكس خصوصيةً ما، وتترجم الآمال والأشواق والمكونات الثقافية النابعة من إفريقيا عمومًا ومن مالي بصفة خاصة. هذا الاتجاه بالذات يستحق التريث عند الحديث حوله، واستدعاء مقطوعات لشعراء بدأوا في تأثيثه.

الرِّياحُ السّكرى طَغَتْ بالجهاتْ

رنَّ ظِلّي ليوقظَ الطُّرُقاتْ

مثلما…

تنجبُ البحارُ شراعًا

ذاكَ حرفي تسيلُ منهُ الحياةْ

كلَّما…

أربكَ الكلامُ المعاني

مسرحُ الضوءِ يُرضِعَ  الظلماتْ  

وأنا قصَّةٌ ترواغُ سرديّاتها إذ تتيه فيها الرواةْ!

أبيات للشاعر بكري سيسي، من قصيدة بعنوان: «ضوء يجثو على كهف الحدس»، تبرهن على حساسية شعورية ذات تنويعات معاصرة، يلتمس الشاعر مجازاته واستعاراته من الواقع الجديد، وينقل أثرها إلى وجدانه، ليصدره في جمل شعرية تحترم القارئ الحديث، كأنها تقول وبهمس غير مباشر: إن مالي أيضًا حاضرة في العصر الراهن.

ومن شمال مالي، يأتي غناء جارح، يرسله نيابةً عن المكلومين والمعذبين في أتون الحرب العبثية الطاحنة والعمياء، شاعرٌ هادئ النبر، لكنه يصُبُّ في القلوب لغةً كاويةً:

لأن المسا حينَ يأخذُ قبْلِي الـ

ـمدَى آخذُ الأُفقِ للأبدِ

يؤدّي إلى كلِّ شيءٍ ولكنـ

ـنه لا يُؤدِّي إلى المَوعِدِ

لأنِّي القتيلُ الأخيرُ أُلَوِّ..

..حُ للعابرين وما مِن يدِ

نسيتُ.. ولم أدَّخِر غيمةً للطـ

ـطريقِ ولا دمْعةً للغَدِ

فمَن سيُعيدُ لنا الحُلمَ مَن سـ

ـيصُبُّ السرابَ على المَوقِدِ؟

ومن بي يعودُ-إذا انحدر الدر..

..بُ بي في النهاية- للمَولِدِ؟

عسى أن تعودَ الحيَاةُ إلى المهـ

ـدِ أو فكرةٍ بعدُ لم تُولَدِ

فالشاعر محمد خيري، لا يريد أن يتصنَّع غير الألم، كأنه وقَّع ميثاقًا مع الصحراء، سيغرس فيها واحات مواساة، دون ضعف أو ابتزاز للعواطف، رغم أن قصائد الدموع تلك تضع الشاعر الشاب في موضع المؤاخذة، فالعالم يعج بالملهيات وعناصر الإغراء، والطريق إلى الملهى يستدعي إيقاعًا آخر! لكن قصائد خيري تجيء ومعها لافتة تبرق من بعيد: «إنك لا تجني من الشوك العنب».

وها هي واحة تلمع في بيداء مالي، لقصيدة تفعيلة، أبدعها إبراهيم الفهري، وكأنه آلَى على قصائده أن تشعل نجمة في الأفق، يقول:

وعوَّدتُها -كلما لاح لي نهْرُ نسيانها

وجاءت تلوِّح لي-

أن أعودَ إلى نقطةِ البدءِ

حيث أجدِّدُ تجربتي في طقوسِ العذابْ

ولكنني

سوف ألتحفُ اللامبالاةَ هذا المساءَ

وأمضي

لأني تعبتُ من السعيِ خلف السرابْ!

كان الشعر المالي منذ قرون -على غزارته– محدودَ الموضوعات والأغراض، جُلُّه من نظم الفقهاء، أو قصائد معارضة، أو تشطير وتخميس، وكثير منها قصائد تساق للمديح النبوي، لكنه خلال السنوات الأخيرة، وعلى أيدي شباب هذا الجيل حقَّقَ قفزات هائلة، وخرج من ضيق التقليد إلى رحابة الرؤى والتجريب، وصار يعكس صورة الإنسان المالي وبيئته وأساطيره ونسيجه المتنوع، بل مرشحاً أن يمدَّ اللغة العربية بمحتوى فني جديد يحقق لها التمدد والسعة، هذا إذا كان البحر يزيد حين يصبُّ فيه النهر.

وإنه في كل مرة تقام فيها أمسية شعرية في باماكو، تمتلئ القاعة بجمهور متذوق، ومتعطش للقصيدة، وطروب غير ملول، بل منفتح وقابل للتواصل مع القصيدة الحديثة واستنطاق رموزها وغموضها، والإحساس بالطاقة العاطفية الكامنة في صورها وتراكيبها.

كذلك اهتمام عديد من نقاد الأدب في مالي -أمثال البروفيسور هارون المهدي ميغا، والدكتور مامادو دمبيلي– بالشعر الراهن، وتناولهم إيَّاه في الدراسات الأكاديمية، ومناقشتها في جامعات مالي، خير دليل على المكانة المميزة التي يحتلُّها الشعر العربي في مالي.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] الإحاطة في أخبار غرناطة، لسان الدين بن الخطيب، دار الكتب العلمية، جز١، ص ١٧٠.

[2] المصدر نفسه

0
    0
    سلة المشتريات
    السلة فارغة